اليمن_تاريخ_وثقافة
11.6K subscribers
144K photos
352 videos
2.21K files
24.7K links
#اليمن_تاريخ_وثقافة ننشر ملخصات عن تاريخ وثقافة اليمن الواحد الموحد @taye5
@mao777 للتواصل
Download Telegram
1⃣

الحرب الإدريسية الإمامية (1912 – 1926م)

#بـلال_الطيـب

”فصول من التوسع والتوسع المُضاد..“
أثناء صراعهما المَرير مع الدولة العثمانية، تحالف حاكم صبيا محمد بن علي الإدريسي والإمام يحيى حميد الدين، وهو التحالف الذي سعى إليه الأخير، واستمر قُرابة العام، وتجسد بمُحاصرة الأول لمدينة أبها، ومُحاصرة الآخر لمدينة صنعاء، وانتهى بعد كسر الحصارين، وعقد صلح دعان ذائع الصيت 8 أكتوبر 1911م.

توسع إدريسي
وعن طبيعة ذلك التحالف وانفصام عُراه، قال محمد الإدريسي مُخاطبًا الرحالة أمين الريحاني الذي زاره في بداية عشرينيات ذات القرن: «عَقْدنا مُحالفة لمُحاربة الأتراك وطردهم من اليمن، ولما جاءوا يمرون من بلادنا ليضربوه من جهة الشمال أوقفناهم، وقلنا لهم: كيف نقبل وبيننا وبينه عهد الله، وصل الأتراك بعدئذ إلى صنعاء، فهموا بضربنا من وراء، من الجبال، فلم يمنعهم ابن حميد حليفنا، صنو عهدنا، كأنَّ العهد عنده قصاصة ورق».
وكان محمد الإدريسي قد خاطب قبل ذلك قاسم بن حسين أبو طالب أحد رسل الإمام يحيى إليه قائلًا: «وإنَّ هذا الرجل – يقصد الإمام يحيى – كفرني في رسائله ومكاتيبه، وعندي منها، وصالح الأتراك، وتركني، واستعان بالترك علي».
الإمام يحيى من جهته قام بعد توقيعه صلح دعان بمُراسلة محمد بن علي الإدريسي، داعيًا إياه للدخول – مثله – في بَوتقة مُصالحة العثمانيين، إلا أنَّ حاكم صبيا استمر في حروبه التوسعية، وحقق بدعم كبير من قبل الإيطاليين انتصارات مُتسارعة على حساب الدولة العلية، وسيطر بُمساندة أسطولهم البحري على مدينة جيزان، ثم أبو عريش، ثم ميدي مارس 1912م، ثم حرض، ثم جزيرة فرسان، وفشل خلال ذات الفترة في السيطرة على اللحية.
وكان – أي محمد الإدريسي – قد حقق منتصف العام الفائت انتصارًا لافتًا على القوات العثمانية في منطقة الحفائر القريبة من جيزان، وهي المعركة التي رفعت شأنه، وقوت جانبه، وكثَّفت أسلحته، وجعلت الإيطاليين يميلون إليه كل الميل، وما أنْ اشتعلت حرب الأخيرين مع الدولة العلية – سنأتي على ذكر جانبًا منها – حتى تضاعف دعم الإيطاليين له، وتوجه – كما سبق أنْ ذكرنا – جنوبًا.
وعلى حساب البلاد الإمامية سيطر محمد الإدريسي على جبل العرو، ثم جبل شدا، ثم بني جُماعة، ثم جبل رَازح أبريل 1912م، وتجاوزت قواته المَسنودة بأبناء تلك المناطق،  وتحت قيادة عرار بن ناصر، تجاوزت خولان الشام، وصولًا إلى فللة عذر، ومنطقة سحار الرابضة على مَشارف مدينة صعدة من جهة الغرب، وعن ذلك قال المُؤرخ عبدالكريم مُطهر: «سولت له – يقصد الإدريسي – نفسه الاستيلاء على صعدة، وبلادها، فأفسد جميع قبائل خولان بن عامر، ومكنهم من سلاح الكفار، فأعلنوا الخلاف على الإمام، ولم يبق بيد عُمال الإمام غير الحصون».
تمكن عامل الإمام يحيى على تلك الجهة محمد بن الهادي محمد من كبح هجوم القوات الإدريسية مُؤقتًا، وذلك بعد أنْ تَوالي وصول الدعم العثماني من أسلحة وخلافه إلى سيده (الإمام يحيى)، وكانت غنائمه – كما أفاد عدد من المُؤرخين الإماميين – من أنصار الإدريسي كثيرة.
وعلى ذكر الدعم العثماني، أفاد عصمت أينون في مُذكراته أنَّ عزت باشا أرسل بعد توقيع صلح دعان للإمام يحيى بعدة طوابير عسكرية، و3,000 بندقة، و1,000 صندوق ذخيرة بنادق، ومجموعة كبيرة من طلقات المدافع، وأنَّه – أي عزت باشا – تعهد بدفع ديات قتلى القوات الإمامية في معاركها مع قوات الإدريسي.
ولتوضيح تفاصيل المشهد الميداني، أترككم مع ما قاله المُؤرخ المُتوكلي سعد بن محمد الشرقي: «وصدق على المُخالفين البوار، ولبسوا ثياب المذلة والفرار، وصار الصغار لهم دثارًا، وولوا الأدبار، وانتُهبت قرى كثيرة، وغنم المجاهدون الحقير والخطير.. ولقد كان حينئذ يدخل النفر القرية من قُرى خولان، ويقول: هاتوا بنادق الإدريسي، فما يخرج إلا بجملة منها، وانتهبت العساكر من فرَّ، ومن تأمن وقر».
ويعود عداء أبناء خولان الشام للإمام يحيى إلى ما قبل هذه الأحداث بثمان سنوات، فهم لم يعترفوا أصلًا بعد وفاة والده بإمامته يونيو 1904م؛ بل ناصروا إمامًا آخر يُدعى الهادي الحسن بن يحيى الضحياني، والأخير كان ذا طموح سياسي محدود، اكتفى بحكم المناطق التي تحت يديه، وتسمى بـ (إمام الشام)، وسمى مُنافسه بـ (إمام اليمن)، وقد عمد بعض مُؤرخي العهد المُتوكلي على تسميته بـ (المشاقق).
لم يعادِ الضحياني العثمانيين، بل وقف بجانبهم، وساندهم في العام التالي أثناء حصار عساكر الإمام يحيى (كان مُعظمهم من أبناء قبيلتي حاشد وبكيل) لصنعاء، وتحفظ الذاكرة الشفهية زامل شعبي شهير فيه توضيح لوقوفهم مع الوالي العثماني المشير أحمد فيضي باشا أثناء فكه لذلك الحصار، نقتطف منه:
خيــــلـت بـارق قــد لـمــــع
مــــن فــــوق صــنـــــــعاء
حـــن رعـده وســـــيــــــله
وشــــل حـاشـــد والبــكــيل
يا طير يا عـازم بالــــريش
بلغ سـلامي للمشير بن فيضي
ذي عســــكره قــوم النـفـيــــر
وحـنــا طلبـنا الله لفــك العسار
المقاطرة.. صُمود قلعة.. وعودة فَقيِه ( 1 )

#بـلال الطيـب

كانوا 1,000 أسير، اقتيدوا صوب مدينة صنعاء، وبين أيديهم 1,000 رأس دامي، أجبروا على فصلها عن أجسادها، ولكي يغيض الإمام المـُتوكل يحيى شرف الدين أعداءه الطاهريين، أمر بإلحاقهم بزملائهم، بعد أنْ ألقى عليهم من شرفة قصره العتيق نظرة التشفي الأخيرة، ولأنَّ تاريخ الإجرام الإمامي موصولًا غير مقطوع، قام الإمام المُتوكل يحيى حميد الدين بتكرار ذات المشهد بعد ثلاثة قرون من حدوثه، والضحايا هنا أبطال المقاطرة الأشاوس، الذين هزوا عَرشه ذات ثورة.
نضال بلا مُساومة

كانت قَلعة المقاطرة أسبق من حصن شهارة في مُقاومة الأتراك؛ لأنَّ قائد شهارة  الإمام يحيى حميد الدين كان يتراوح بين المُفاوضة والمُقاومة، وكان يقبل الاحتلال إذا أتاح له المـُحتل التولي على الزكوات والأوقاف بدون فرض زيادات في الضرائب السنوية المتفق عليها، أما قلعة المقاطرة بزعامة آل علي سعد، فقد انتهجت – حسب توصيف عبد الله البردوني – النضال بلا مُساومة، وعُرف رجالها منذ ذلك الحين بِصلابة الموقف، والشراسة في القتال.
وغير بعيد دوخت المقاطرة بالوالي العثماني مصطفى عاصم الذي حكم اليمن نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، ويُقال أنَّ القائد التركي سعيد باشا أقسم حينها أنَّه سيطأ بقدميه أرض قلعتها الشهيرة، وحين عجز بعد خمس سنوات من الحصار عن ذلك، أنزلوا له ترابًا منها، فداسه بقدميه، وبرَّ يمينة، وكانت تلك الحادثة محط فخر واعتزاز أبناء المنطقة، حتى النساء كُنّ يُغنين:
تُــــــركي نـــزل رأس النقيــل مســــرول
يشتي البـــــــلاد وأن البــــــــــلاد مـــدول
كما قاومت المقاطرة الأتراك أثناء تواجدهم الأول في اليمن، واستعصت على القائد سنان باشا، ولم يدخلها الأخير أواخر القرن العاشر الميلادي إلا بعد عناء 995هـ / 1587م، ومعه 12,000 مُقاتل، وعن ذلك قال المُؤرخ عبدالصمد الموزعي: «ثم دخل – يقصد القائد سنان – بلاد المقاطرة العاصية المكابرة، وهي بلدة عسرة المسلك، كثيرة المهلك، فدخلها بجيوش لا تحد ولا توصف».
ولأنَّ مُقاومة أبناء المقاطرة كانت شديدة، وخوفًا من أنْ يُعاودوا التمرد على الدولة العلية، كانت عقوبة القائد التركي لهم شنيعة، وعنها قال ذات المُؤرخ: «فلما صفاها – يقصد القائد سنان – وأصلحها، وجلاها، وانقاد لطاعته أسفلها وأعلاها، قبض الرهائن من كل مطيع وخائن، وحتم بأنْ تكون الرهينة مثلثة العدد، زوجة، وبنتًا، وذكرًا من الولد، لا ينقص منهم أحد، وأودع الرهائن المذكورة في دار الحجرية المشهورة.. فبلغت الرهائن المذكورة في العدد خمسمائة نفر أو أزيد».

وبالعودة إلى تَاريخ المقاطرة غير البعيد، فهناك من يَقول أنَّ عداء آل علي سعد للعثمانيين يَرجع لتقريب الأخيرين لآل نُعمان مُقبل، مُنافسيهم التقليديين في المنطقة، وكان الفقيه المُتصوف المنتصر المسعودي البنا، جد آل نُعمان الثامن، قد قدم من وادي بنا في نادرة إب، وبدأت من عهده زعامة تلك الأسرة الروحية، أما آل علي سعد فقد قَدِم جدهم أيضًا من إب، ويسمون أيضًا بـ (بني الأصيلع)، ويعود أصلهم إلى بني الجماعي، وهي أسرة مشيخية عَريقة لها حضور في كُتب التاريخ ومَراجعه الموثوقة.
ما إنْ آلت أعمال الحجرية إلى بني علي سعد؛ حتى انصاعوا للعثمانيين، لينتهي ذلك الانصياع بمجرد أنْ قَرَّب الأخيرون الشيخ أحمد نعمان مُقبل البنا منهم، وجعلوه عضوًا في الوفد الذي توجه لـمُقابلة السلطان عبدالحميد، وعينوه قائم مقام لذلك القضاء، مُؤسسين لمجد تلك الأسرة السياسي الذي ما يزال فارضًا حضوره حتى اللحظة.
لقي بعد ذلك الشيخ أحمد نعمان مَصرعه * في قرية الزميلة – عزلة الزعازع – ناحية المقاطرة بخنجر مَسموم، وهو يُجهز جنودًا لإرسالهم إلى لحج، لينضموا إلى جيش اللواء على سعيد باشا، وذلك بعد عِدة أشهر من نشوب الحرب العالمية الأولى 20 مايو 1915م، وآل الأمر من بعده لأخيه عبدالوهاب، ولأنَّ أصابع الاتهام طالت آل علي سعد، فقد ارتفعت وتيرة العداء والتنافس بينهم وآل نعمان البنا من جهة، وبينهم والعثمانيين من جِهة أخرى.
غادر العثمانيون اليمن، واجتاح الإماميون الحجرية أواخر عام 1919م، وقد استفاد الأخيرون من التنافس القائم بين مشايخها أيما استفادة، وأعادوا نبش الأحقاد والثارات القديمة، وضربوا تبعًا لذلك هذه المنطقة بتلك، وولدوا أحقادًا وثارات جديدة، وكان استغلالهم الأكبر لحادثة مقتل الشيخ أحمد نعمان مُقبل السابق ذكرها، وهي الحادثة التي كان لها ما بعدها [1].
الجولة الأولى
المقاطرة من أوسع نواحي قضاء الحجرية، وأشدها تشعبًا، يحدها غَربًا الوازعية، وشرقًا القبيطة، وجنوبًا الصبيحة، وشمالًا بقية قضاء الحجرية، وبها – كما أفاد المُؤرخ أحمد الوزير – القلعة الحصينة، والجبال الأربعة (الليم)، وحدودها واسعة الاتصال بالجنوب، ويقع بالجنوب الشرقي منها جُمرك معبق.
2⃣

#المَقاطرة..
صُمود قلعة.. وعودة فَقيِه


#بـلال_الطيـب

وسقطت القلعة
وحَدها قَلعة المقاطرة بقيت صَامدة في وجه القوات الإمامية، ومعها 12 عُزلة مُجاورة، ليُقَرر الأمير علي الوزير – أمام تلك الاستماتة في الدفاع والمقاومة – أنْ يتوجه إلى تلك النَاحية بنفسه 28 أغسطس 1921م، ومعه مِئات العساكر، وأحد المدافع السريعة، واجتمع له – حد توصيف المُؤرخ مُطهر – «جيشٌ عظيم، رؤساؤه أبطال القتال، وفرسان ميدان النزال» *، وأناب بدلًا عنه القاضي أحمد بن محمد الآنسي، وكان عبر طريق يَفرس مُروره، وبعد ثلاثة أيام كان إلى مدينة التربة وصوله.
وإلى مَدينة التربة وصل أيضًا الشيخ شمسان بن عبدالله المكابري للتفاوض، وبعد أخذ ورد بينه وبين أمير تعز علي الوزير، أرسل الأخير معه لقادة المُقاومة عدة رسائل، وأكمل المُؤرخ مُطهر ذلك المشهد بالقول: «ودارت المُراجعة بين الأمير وبينهم، فانكشف من نهايتها أنَّهم على العصيان مُصرون، وبقلعتهم وما حولها من الحصون مُمتنعون».
نظم الأمير علي بن الوزير بعد ذلك قواته المُتحفزة، التي تجاوز عددها الـ 5,000 مُقاتل، وقسمها لأربعة فرق، ثم وجهها لحصار قلعة المقاطرة، ومن الجهة الغربية أرسل قوات جمة تحت قيادة الشيخ عبدالوهاب نُعمان، وعبدالجليل بن أحمد باشا المتوكل، ومن الجهة الشرقية أرسل قِوات أخرى تحت قيادة حسن بن قاسم الوزير، ومن الجهة الجنوبية أرسل قوات قبلية تحت قيادة يحيى بن محمد الوادعي، وكان مع كل فرقة أحد المدافع، وكانت القيادة العامة من نصيبة.
كشف المُؤرخ حمود الدولة – أثناء نقله لتلك الأحداث – عن وجود طَريق سِري يَقع شمال قَلعة المقاطرة، ووصفه بقوله: «وكان للبغاة من الجهة القبلية طريق ومادة مكتومة مخفية، يسترزقون منها بكرة وعشية، ويجلبون منها ما تدعو إليه حاجتهم الضرورية»، وهو الطريق المجهول الذي لم يكتشفه إلا بعض خواص الأمير، وجعل الأخير يُرسل بفرقة رابعة إلى تلك الجهة، تحت قيادة حاكم العدين حمود بن محمد الدولة، وعززها بالمدفع السريع الذي قدم به.
في تعليقه على جزئية ذلك الطريق السري، لم يستبعد الباحث زيد بن علي الوزير مُعاضدة الشيخ عبدالوهاب نعمان وغيره لثوار المقاطرة، وتساءل: «من العجيب حقًا أنْ تظل هذه الطريق غير معروفة للقادة، وكلهم من أبناء المنطقة، ثم لا يكشـف عنها أحد إلا بعض خواص الأمير نفسه!».
وأكد زيد الوزير امتعاض الشيخ عبدالوهاب نُعمان من الحالة كلها، واستشهد بحادثة أخرى أوردها قريبه المُؤرخ أحمد الوزير، مضمونها أنَّ القوات الإمامية أثناء اجتياحها لقلعة المقاطرة وجدت رسائل من الشيخ عبدالوهاب للثوار، حثهم فيها على الصمود، وبعض من أدواته الخاصة سبق أنْ هربها إليهم، منها مداعته (النرجيلة)، كما لم ينس الاستدلال بما نقلته الوثائق البريطانية حول ذلك.
وأضاف: «كل الوقائع تثبت وجُود تَعاون سري بين المُهاجِم والمُهاجَم، وأن عدم كشـــف الطريق جزء من ذلك التعاون الصـــامت، والحق أنَّ هذا الموقف لا ينطبق فقط على عبد الوهاب، وإنما يشمل بعض مشايخ الحجرية».
وهكذا اكتمل حصار قلعة المقاطرة المنيعة من الجهات الأربع، ليقرر القائد العام الأمير علي الوزير أمام ذلك الاكتشاف الجديد (الطريق السري) البدء بالهجوم الكبير 4 سبتمبر 1921م، وقد تولت الفِرقة الشمالية مهمة اقتحام حصن الجاهلي، والاقتراب من حصون الليم، التي قال عنها المُؤرخ مُطهر: «وهي أربعة حُصون شواهق، لا يمكن الوصول إلى القلعة وحصنها المسمى بالتميدني بدون الاستيلاء عليها، وقد كان الأعداء حصنوها تحصنا باهرًا، وعمروا المتاريس في جوانبها، وأوقفوا فيها رجال القتال، وجميع هذه الحصون يحمي بعضها البعض الآخر».
الفرقة الغربية سيطرت في تلك الأثناء على قريتي الخزفار والقاعدة، ثم التحمت مع الفرقة الشمالية التي كانت قد أتمت قبل أنْ ينتهي ذلك اليوم سَيطرتها على حصون الليم، أما الفرقتان الشرقية والجنوبية فقد نالها – كما أفاد المُؤرخ حمود الدولة – توبيخ الأمير؛ وهو الأمر الذي حفزهما على الجدة في الهجوم، ولم يبزغ فجر صباح اليوم التالي إلا وقد بدأت تلك القوات مجتمعة بهجومها الحاسم، الذي أشرف الأمير علي الوزير على قيادته عن قُرب.
بوصفه أحد قادتها، توسع المُؤرخ حمود الدولة في نقل معارك هذه الجولة، وأفاد أنَّ الأمير علي الوزير انتقل بمن معه من أفراد إلى حصون الليم، تعزيزًا للفرقة الشمالية، في حين تقدمت الفرقة الغربية صوب حصن التميدني، وتقدمت الفرقة الشرقية من جهتها، وكذلك فعلت الفرقة الجنوبية، وأضاف: «وتحرك للهجوم كل متحرك، وتيقنه كل متشكك.. ودارت للحرب الطواحن، واضطرب لحركتها كل ساكن.. وعلت الأصوات، وارتجت لهولها الجهات، وتحركت بالرمي المدافع، فرمى بها الرمي المتتابع، وقهقهت البنادق مبتسمة بثغورها البوارق.. وما ارتفع النهار، حتى ضرب القتام قبابه، وراكم العثير سحابه، وتجلجل من خلاله رعوده، وحان الوعد وموعوده».
الإمام يحيى والانفجار الكبير
(2)


#بـلال_الطيـب
#حكمة_يمانية

الـــبَـــزغــــــة
لم تكن الـ 14 عامًا الأخيرة من حُكم الإمام الطاغية يحيى حميد الدين – التي تطرقنا إليها في المقال السَّابق –  هَادئة عليه أو مُستقرة؛ بل تخللتها أحداثٌ عظام، وتحولات حاسمة، وبهزيمة جيشه الحافي أمام القوات السعودية بدأ العد التنازلي لنهايته محرم 1353هـ / مايو 1934م؛ وهي الكارثة التي أدت لارتخاء قبضته، وتَبَدُد هيبته، وضعف شعبيته، ليبدأ الأحرار (الدرادعة) – كما كان يُسميهم، وهي تسمية خاصة بطائفة من اليهود – يُفكرون جديًا في كيفية التخلص منه، وهو ما حدث بعد مخاضات عسيرة يطول شرحها، سَنُوجزها اختزالًا في السطور التالية.
كانت حرب الانسحاب المُذلة تلك، وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بداية العام ذاته مع الإنجليز، كانتا – كما ذهب عدد من المُؤرخين – حدًّا فاصلًا بين مرحلتين زمنيتين، وهذا لا يعني قطعًا أنَّ حركة المُعارضة اليمنية كانت مُتوقفة قبل ذلك التاريخ؛ فقد ظهرت أصوات فردية محدودة، اكتفت بتقديم النصح شعرًا، ونثرًا، ولم يعرها الإمام الطاغية أي اهتمام؛ بل وراسل بعضهم مُعاتبًا: «ما كان أغناكم عمَّا ساقكم الشيطان إليه من إنكار نعمتنا على اليمن، التي لا يوجد مثلها تحت أديم السَّماء، فاليمن لم تعرف حكمًا كحكمنا من عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»!
كما وُجِدت – وهو الأهم – حركات فلاحية مُسلحة في حاشد، وحبيش، والعدين، وجبل صبر، والمقاطرة، والقبيطة، والصبيحة، والحواشب، والضالع، والحواشب، ويافع، وردفان، وريمة، وبُرع، ووصاب، وزبيد، وحيس، وصعفان، وملحان، والبيضاء، والعواذل، ودثينة، والجوف، ومأرب، وبرط، وباجل، والزيدية، والزرانيق، وتصدرت في لحظة مُقاومة المشهد، وتصدت للزحوفات الإمامية، وأصلتها كأس المنون. واستمرت إحداها (أقصد هنا مُقاومة قبيلة الزرانيق) حتى أواخر عام 1929م، وهي – أي تلك الحركات – على كثرتها لم تحظَ بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر (سنتحدث عنها تفصيلًا في كتاب “الكماشة.. حروب يحيى حميد الدين ضد اليمنيين”).
ومن هذا المُنطلق، ومن أجل إزالة الالتباس الذي عمل البعض على تكريسه، سَنُسمي هذه الفترة بـ (مرحلة المُعارضة الفلاحية غير المُنظمة)، وفترة ما بعد الحرب الإمامية – السعودية بـ (مرحلة المُعارضة النُخبوية المُنظمة)، استلهامًا مما ذكره الباحث عبدالعزيز قائد المسعودي في إحدى قراءته.
أحدثت هزيمة القوات الإمامية أمام القوات السعودية هزة عنيفة في حياة اليمنيين، وكشفت – كما أفاد القاضي الزبيري – عن مساوئ الحُكم الإمامي، وأزاحت الستار عن حقيقة موقف الشعب منه، وانطلقت الصحف العربية تُهاجم الإمام يحيى وسياسته، وتُسلط على حُكمه أضواء النقد اللاذع.
والأكثر أهمية أنَّها – أي تلك الحرب – كانت العامل الأكثر حسمًا في بلورة وعي الأحرار بقضيتهم الوطنية، وصاروا – تبعًا لذلك – أكثر إيمانًا بعدالتها، وأكثر رغبةً في تغيير حال بلدهم إلى الأفضل، وأصبح بعضهم أكثر جدية في تخليص اليمن من براثن حكم الإمامة الكهنوتية وإلى الأبد.
جاءت بعد ذلك حادثة استفراد الإمام يحيى بالحكم، وتوزيعه ألوية اليمن كإقطاعيات بين أولاده 1938م؛ وأخذه البيعة لولده أحمد ليكون وليًا للعهد، وإمامًا من بعده؛ وهو الأمر الذي أحدث شرخًا بين أسرته وباقي الأسر العلوية الطامحة، وبمعنى أصح وسع ذلك الشرخ أكثر فأكثر. وضاعف – في المُقابل – الكراهية في نُفوس الرعايا المُتذمرين من ذلك الوضع أصلًا؛ خاصة وأنَّ أولئك الأبناء – سيوف الإسلام كما هي تسميتهم الشائعة، أو السيوف الأثرية حد توصيف الشاعر الفلسطيني أبو سلمى الكرمي – كانوا أسوأ من أسلافهم، وروي عن والدهم حينها قوله: «لقد كرهني الناس من حين كبروا عيالي»!
مجاعة عامي 1942 – 1943م تُضاف هي الأخرى إلى جُملة الأسباب التي أدت لارتفاع وتيرة مُناهضة حكم الإمام يحيى وبنيه، وكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ومثلت نقطة تحول فارقة في انتهاج أبطال ذلك النضال لسياسة المُصادمة بَدلًا من سياسة المُهادنة، والتمرد على قداسة الإمام وحقه الإلهي.
وحينَ ذهبَ إليه بعض المسؤولين أثناء تلك المجاعة، وقدموا له مُقترحًا بزيادة إنتاج فرن الكُدم، صعَّر لهم خدَّه، ورد على ظهر ذات الورقة: «أحسنتم بالرأي، ما يكفي الخلق إلا الخالق، دعوهم من مات فهو شهيد، ومن عاش فهو عتيق»، فعلق القاضي العيزري – حينها – ساخرًا: «إذا كان الإمام مُصدق بيوم القيامة فاقطعوا رقبتي بحذاء»!
وهكذا، وبعد استراحة مُحارب، لم ينتصف العام 1944م إلا وأصوات أولئك الأحرار القوية تقضُّ مضاجع الطغيان؛ الأمر أصابه بالجنون، فأخذ يُفتش عن بقايا منشور هنا، وعن رسالة مُحفزة هناك، وأتبع ذلك بأنْ زجَّ بالعشرات منهم في سُجونه المتباعدة.
#ثورة_26سبتمبر_المجيدة

دولة الإمام يحيى

#بـلال الطيـب

”قال إنَّ اليمن لم تعرف حُكمًا كحكمه منذ عهد علي بن أبي طالب!“

بخروج الأتراك من اليمن – مُنتصف القرن الحادي عشر الهجري – صار اليمن مِيراثًا سهلًا للدولة القاسمية، لتدخل الزّيدِيّة – دولةً ومذهبًا – مَرحلة اختبار حقيقي في كيفية تعاملها مع الآخر، ظلت فتاوى الفقهاء (فقهاء الهادوية) حول ذلك تُراوح مَكانها، حتى تولى الإمامة الفقيه المُتعصب المُتوكل إسماعيل بن القاسم، الذي صنع بفتاويه أعداء وهميين، احتوى أقاربه الطامحين، وجيَّشَ القبائل الشمالية جنوبًا، وغربًا، وشرقًا، مُؤسسًا بذلك أسوأ احتلال عرفته تلك المناطق على مدى تاريخها.
صقل الخلافة!
كافئ المُتوكل إسماعيل ومن أتى بعده من أئمة أولئك المـُحاربين بالأرض والثروة، وقد مضى على نهجه – وإنْ بصورة جزئية – المُتوكل يحيى بن المنصور محمد حميد الدين، تولى الأخير الإمامة بعد يوم واحد من وفاة والده 5 يونيو 1904م، حدث بادئ الأمر لغط كبير حول تنصيبه، اجتمع فقهاء الزّيدِيّة في حصن نواش (وشحة)، فدفع يحيى بصاحبه شيخ حاشد ناصر بن مبخوت الأحمر للضغط عليهم، ولم يدعهم الأخير يخرجون من مجلسهم إلا بعد أخذ بيعتهم. كان حصن شهارة المنيع مقرًا لحكمه، وقد بدأ عهده كأبيه بمحاربة الأتراك، ووعد مُقاتليه بالغنائم الكثيرة، وأفتى بـ «أن من قتل تركيًا دخل الجنة»، وسيطر بــ 20,000 مُقاتل على أغلب المناطق الشمالية.
حاصرت قوات الإمام صنعاء لستة أشهر مُتتالية، ليدخلها بعد جلاء الأتراك إلى حراز، بمُوجب اتفاق صلح مدته عام كامل، وقَّعه الطرفان 27 أبريل 1905م، وقد أشرف هو بنفسه عليه، كما أشرف من قبل على سيْر المعارك، وسيطرت قواته على مُعظم مناطق اليمن الخاضعة للأتراك، عدا تعز، وإب، وحراز، وتهامة، وقفل شمر، وكان دخوله صنعاء بعد شهر واحد من توقيع ذلك الصلح، وسمح باستمرار الدعاء للسلطان العثماني، واستبقى الراية العثمانية ترفرف في ذات المدينة؛ مُبررًا ذلك بأنَّه يصب في مصلحة المسلمين!
كشفت في المُقابل وثائق بريطانية أرَّخت لحوادث تلك الفترة أنَّه – أي الإمام يحيى – تواصل في العام ذاته مع الإنجليز في عدن، بواسطة سلطان لحج أحمد بن فضل العبدلي، وأرسل مبعوث خاص للغرض ذاته، وطالبهم صراحة بدعمه بالمال والسلاح، وقدَّمَ لهم قائمة بذلك، وشدد على ضرورة أنْ يبقى موضوع ذلك التواصل طي السرية والكتمان!
كثرت في ذلك عام أعمال النهب من قبل قوات الإمام يحيى، خاصة حينما توجهت بأوامر منه جنوبًا، وما إن حطت رحالها في يريم، حتى عاثت فيها نهبًا وخرابًا، وقتلت 30 شخصًا أكثرهم من الأطفال والنساء، وقيل أكثر، رغم أنَّها – أي يريم – منطقة زيدية توالي الإمامة، وعن ذلك قال المُؤرخ الواسعي: «كان العرب حولها ذو محمد وذو حسين، قبيلة معروفة مُتوغلة في الجهل، والقسوة، والشدة، والفجور.. هجموا على هذه المدينة، وحصل منهم الأفعال الشنيعة من النهب والقتل، ثم الخراب».

وقد أورد القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكراته تفاصيل ذلك نقلًا عن أبيه، حيث قال: «ولكن الجيش المؤلف من قبائل همجية قد هالهم ما رأوا في بيوت المواطنين الذين فتحوها لاستضافتهم، فأقدموا على نهب كل ما وصلت إليه أيديهم، حتى بلغ بهم الأمر أنْ يقطعوا آذان النساء ليأخذوا الأقراط التي عليها». والغريب في الأمر أنَّ الإمام يحيى وبعد عدة مناشدات رفض تعويض أبناء يريم، فيما عوضهم الأتراك – فيما بعد – بـ 600 ليرة ذهبية.
كما تعرض الإسماعيليون في حراز للقتل والتنكيل الشديد، وعن ذلك قال المُؤرخ سعد الشرقي: «قتلى الباطنية إلى تاريخ ثامن وعشرين صفر – يوافق 27 فبراير 1911م – من كبارهم وأعيانهم نحو ستين قتيلًا، ولولا إعانة عجم مناخة – يقصد الأتراك – لهم في الحرب وبالمونة والبنادق أن قد سقطوا، ولا بد بحولِ الله أنَّ الإمام حفظه الله يستأصل شأفة العجم والباطنية»!
جهز الأتراك حملة عسكرية قوامها 50,000 مُقاتل، بقيادة المشير الثمانيني أحمد فيضي باشا، وما أنْ علم الإمام يحيى بمقدمه، حتى خرج بقواته من صنعاء، وذلك بعد شهرين من دخولها، مُتذرعًا هذه المرة بخوفه على سكانها، فيما لاحقته القوات العثمانية إلى مشارف شهارة، وتعرضت هناك لهزيمة قاسية.
استعاد الإمام يحيى بعد معركة شهارة أنفاسه، وأفتى بعدم جواز صلاة الجمعة مع الأتراك، وأشرف بنفسه على حرب عصابات كلفت الأخيرين وأعوانهم الكثير، وقام بقتل القاضي إسماعيل الردمي، والشيخ أحمد كحيل، والشيخ سعيد دوده، والشيخ مُصلح مطير، وثلاثة أخوة من أسرة أبي الدنيا، وخادم لهم، وذكر العميد محمد الأكوع أنَّه – أي الإمام يحيى – قتل 11 شخصًا (ربما يكونوا أنفسهم الأشخاص المذكورين أنفًا) خنقًا في إحدى مساجد القفلة؛ والسبب مُناصرة غالبيتهم للأتراك.
دولة #الإمام #يحيى
2
#بـلال_الطيـب

الـــبَـــزغــــــة
لم تكن الـ 14 عامًا الأخيرة من حُكم الإمام الطاغية يحيى حميد الدين – التي تطرقنا إليها في المقال السَّابق –  هَادئة عليه أو مُستقرة؛ بل تخللتها أحداثٌ عظام، وتحولات حاسمة، وبهزيمة جيشه الحافي أمام القوات السعودية بدأ العد التنازلي لنهايته محرم 1353هـ / مايو 1934م؛ وهي الكارثة التي أدت لارتخاء قبضته، وتَبَدُد هيبته، وضعف شعبيته، ليبدأ الأحرار (الدرادعة) – كما كان يُسميهم، وهي تسمية خاصة بطائفة من اليهود – يُفكرون جديًا في كيفية التخلص منه، وهو ما حدث بعد مخاضات عسيرة يطول شرحها، سَنُوجزها اختزالًا في السطور التالية.
كانت حرب الانسحاب المُذلة تلك، وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بداية العام ذاته مع الإنجليز، كانتا – كما ذهب عدد من المُؤرخين – حدًّا فاصلًا بين مرحلتين زمنيتين، وهذا لا يعني قطعًا أنَّ حركة المُعارضة اليمنية كانت مُتوقفة قبل ذلك التاريخ؛ فقد ظهرت أصوات فردية محدودة، اكتفت بتقديم النصح شعرًا، ونثرًا، ولم يعرها الإمام الطاغية أي اهتمام؛ بل وراسل بعضهم مُعاتبًا: «ما كان أغناكم عمَّا ساقكم الشيطان إليه من إنكار نعمتنا على اليمن، التي لا يوجد مثلها تحت أديم السَّماء، فاليمن لم تعرف حكمًا كحكمنا من عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»!
كما وُجِدت – وهو الأهم – حركات فلاحية مُسلحة في حاشد، وحبيش، والعدين، وجبل صبر، والمقاطرة، والقبيطة، والصبيحة، والحواشب، والضالع، والحواشب، ويافع، وردفان، وريمة، وبُرع، ووصاب، وزبيد، وحيس، وصعفان، وملحان، والبيضاء، والعواذل، ودثينة، والجوف، ومأرب، وبرط، وباجل، والزيدية، والزرانيق، وتصدرت في لحظة مُقاومة المشهد، وتصدت للزحوفات الإمامية، وأصلتها كأس المنون. واستمرت إحداها (أقصد هنا مُقاومة قبيلة الزرانيق) حتى أواخر عام 1929م، وهي – أي تلك الحركات – على كثرتها لم تحظَ بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر (سنتحدث عنها تفصيلًا في كتاب “الكماشة.. حروب يحيى حميد الدين ضد اليمنيين”).
ومن هذا المُنطلق، ومن أجل إزالة الالتباس الذي عمل البعض على تكريسه، سَنُسمي هذه الفترة بـ (مرحلة المُعارضة الفلاحية غير المُنظمة)، وفترة ما بعد الحرب الإمامية – السعودية بـ (مرحلة المُعارضة النُخبوية المُنظمة)، استلهامًا مما ذكره الباحث عبدالعزيز قائد المسعودي في إحدى قراءته.
أحدثت هزيمة القوات الإمامية أمام القوات السعودية هزة عنيفة في حياة اليمنيين، وكشفت – كما أفاد القاضي الزبيري – عن مساوئ الحُكم الإمامي، وأزاحت الستار عن حقيقة موقف الشعب منه، وانطلقت الصحف العربية تُهاجم الإمام يحيى وسياسته، وتُسلط على حُكمه أضواء النقد اللاذع.
والأكثر أهمية أنَّها – أي تلك الحرب – كانت العامل الأكثر حسمًا في بلورة وعي الأحرار بقضيتهم الوطنية، وصاروا – تبعًا لذلك – أكثر إيمانًا بعدالتها، وأكثر رغبةً في تغيير حال بلدهم إلى الأفضل، وأصبح بعضهم أكثر جدية في تخليص اليمن من براثن حكم الإمامة الكهنوتية وإلى الأبد.
جاءت بعد ذلك حادثة استفراد الإمام يحيى بالحكم، وتوزيعه ألوية اليمن كإقطاعيات بين أولاده 1938م؛ وأخذه البيعة لولده أحمد ليكون وليًا للعهد، وإمامًا من بعده؛ وهو الأمر الذي أحدث شرخًا بين أسرته وباقي الأسر العلوية الطامحة، وبمعنى أصح وسع ذلك الشرخ أكثر فأكثر. وضاعف – في المُقابل – الكراهية في نُفوس الرعايا المُتذمرين من ذلك الوضع أصلًا؛ خاصة وأنَّ أولئك الأبناء – سيوف الإسلام كما هي تسميتهم الشائعة، أو السيوف الأثرية حد توصيف الشاعر الفلسطيني أبو سلمى الكرمي – كانوا أسوأ من أسلافهم، وروي عن والدهم حينها قوله: «لقد كرهني الناس من حين كبروا عيالي»!
مجاعة عامي 1942 – 1943م تُضاف هي الأخرى إلى جُملة الأسباب التي أدت لارتفاع وتيرة مُناهضة حكم الإمام يحيى وبنيه، وكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ومثلت نقطة تحول فارقة في انتهاج أبطال ذلك النضال لسياسة المُصادمة بَدلًا من سياسة المُهادنة، والتمرد على قداسة الإمام وحقه الإلهي.
وحينَ ذهبَ إليه بعض المسؤولين أثناء تلك المجاعة، وقدموا له مُقترحًا بزيادة إنتاج فرن الكُدم، صعَّر لهم خدَّه، ورد على ظهر ذات الورقة: «أحسنتم بالرأي، ما يكفي الخلق إلا الخالق، دعوهم من مات فهو شهيد، ومن عاش فهو عتيق»، فعلق القاضي العيزري – حينها – ساخرًا: «إذا كان الإمام مُصدق بيوم القيامة فاقطعوا رقبتي بحذاء»!
وهكذا، وبعد استراحة مُحارب، لم ينتصف العام 1944م إلا وأصوات أولئك الأحرار القوية تقضُّ مضاجع الطغيان؛ الأمر أصابه بالجنون، فأخذ يُفتش عن بقايا منشور هنا، وعن رسالة مُحفزة هناك، وأتبع ذلك بأنْ زجَّ بالعشرات منهم في سُجونه المتباعدة.
الحرب الإدريسية الإمامية (1912 – 1926م)
#بـلال_الطيـب

”فصول من التوسع والتوسع المُضاد..“
أثناء صراعهما المَرير مع الدولة العثمانية، تحالف حاكم صبيا محمد بن علي الإدريسي والإمام يحيى حميد الدين، وهو التحالف الذي سعى إليه الأخير، واستمر قُرابة العام، وتجسد بمُحاصرة الأول لمدينة أبها، ومُحاصرة الآخر لمدينة صنعاء، وانتهى بعد كسر الحصارين، وعقد صلح دعان ذائع الصيت 8 أكتوبر 1911م.

توسع إدريسي
وعن طبيعة ذلك التحالف وانفصام عُراه، قال محمد الإدريسي مُخاطبًا الرحالة أمين الريحاني الذي زاره في بداية عشرينيات ذات القرن: «عَقْدنا مُحالفة لمُحاربة الأتراك وطردهم من اليمن، ولما جاءوا يمرون من بلادنا ليضربوه من جهة الشمال أوقفناهم، وقلنا لهم: كيف نقبل وبيننا وبينه عهد الله، وصل الأتراك بعدئذ إلى صنعاء، فهموا بضربنا من وراء، من الجبال، فلم يمنعهم ابن حميد حليفنا، صنو عهدنا، كأنَّ العهد عنده قصاصة ورق».
وكان محمد الإدريسي قد خاطب قبل ذلك قاسم بن حسين أبو طالب أحد رسل الإمام يحيى إليه قائلًا: «وإنَّ هذا الرجل – يقصد الإمام يحيى – كفرني في رسائله ومكاتيبه، وعندي منها، وصالح الأتراك، وتركني، واستعان بالترك علي».
الإمام يحيى من جهته قام بعد توقيعه صلح دعان بمُراسلة محمد بن علي الإدريسي، داعيًا إياه للدخول – مثله – في بَوتقة مُصالحة العثمانيين، إلا أنَّ حاكم صبيا استمر في حروبه التوسعية، وحقق بدعم كبير من قبل الإيطاليين انتصارات مُتسارعة على حساب الدولة العلية، وسيطر بُمساندة أسطولهم البحري على مدينة جيزان، ثم أبو عريش، ثم ميدي مارس 1912م، ثم حرض، ثم جزيرة فرسان، وفشل خلال ذات الفترة في السيطرة على اللحية.
وكان – أي محمد الإدريسي – قد حقق منتصف العام الفائت انتصارًا لافتًا على القوات العثمانية في منطقة الحفائر القريبة من جيزان، وهي المعركة التي رفعت شأنه، وقوت جانبه، وكثَّفت أسلحته، وجعلت الإيطاليين يميلون إليه كل الميل، وما أنْ اشتعلت حرب الأخيرين مع الدولة العلية – سنأتي على ذكر جانبًا منها – حتى تضاعف دعم الإيطاليين له، وتوجه – كما سبق أنْ ذكرنا – جنوبًا.
وعلى حساب البلاد الإمامية سيطر محمد الإدريسي على جبل العرو، ثم جبل شدا، ثم بني جُماعة، ثم جبل رَازح أبريل 1912م، وتجاوزت قواته المَسنودة بأبناء تلك المناطق،  وتحت قيادة عرار بن ناصر، تجاوزت خولان الشام، وصولًا إلى فللة عذر، ومنطقة سحار الرابضة على مَشارف مدينة صعدة من جهة الغرب، وعن ذلك قال المُؤرخ عبدالكريم مُطهر: «سولت له – يقصد الإدريسي – نفسه الاستيلاء على صعدة، وبلادها، فأفسد جميع قبائل خولان بن عامر، ومكنهم من سلاح الكفار، فأعلنوا الخلاف على الإمام، ولم يبق بيد عُمال الإمام غير الحصون».
تمكن عامل الإمام يحيى على تلك الجهة محمد بن الهادي محمد من كبح هجوم القوات الإدريسية مُؤقتًا، وذلك بعد أنْ تَوالي وصول الدعم العثماني من أسلحة وخلافه إلى سيده (الإمام يحيى)، وكانت غنائمه – كما أفاد عدد من المُؤرخين الإماميين – من أنصار الإدريسي كثيرة.
وعلى ذكر الدعم العثماني، أفاد عصمت أينون في مُذكراته أنَّ عزت باشا أرسل بعد توقيع صلح دعان للإمام يحيى بعدة طوابير عسكرية، و3,000 بندقة، و1,000 صندوق ذخيرة بنادق، ومجموعة كبيرة من طلقات المدافع، وأنَّه – أي عزت باشا – تعهد بدفع ديات قتلى القوات الإمامية في معاركها مع قوات الإدريسي.
ولتوضيح تفاصيل المشهد الميداني، أترككم مع ما قاله المُؤرخ المُتوكلي سعد بن محمد الشرقي: «وصدق على المُخالفين البوار، ولبسوا ثياب المذلة والفرار، وصار الصغار لهم دثارًا، وولوا الأدبار، وانتُهبت قرى كثيرة، وغنم المجاهدون الحقير والخطير.. ولقد كان حينئذ يدخل النفر القرية من قُرى خولان، ويقول: هاتوا بنادق الإدريسي، فما يخرج إلا بجملة منها، وانتهبت العساكر من فرَّ، ومن تأمن وقر».
ويعود عداء أبناء خولان الشام للإمام يحيى إلى ما قبل هذه الأحداث بثمان سنوات، فهم لم يعترفوا أصلًا بعد وفاة والده بإمامته يونيو 1904م؛ بل ناصروا إمامًا آخر يُدعى الهادي الحسن بن يحيى الضحياني، والأخير كان ذا طموح سياسي محدود، اكتفى بحكم المناطق التي تحت يديه، وتسمى بـ (إمام الشام)، وسمى مُنافسه بـ (إمام اليمن)، وقد عمد بعض مُؤرخي العهد المُتوكلي على تسميته بـ (المشاقق).
لم يعادِ الضحياني العثمانيين، بل وقف بجانبهم، وساندهم في العام التالي أثناء حصار عساكر الإمام يحيى (كان مُعظمهم من أبناء قبيلتي حاشد وبكيل) لصنعاء، وتحفظ الذاكرة الشفهية زامل شعبي شهير فيه توضيح لوقوفهم مع الوالي العثماني المشير أحمد فيضي باشا أثناء فكه لذلك الحصار، نقتطف منه: