عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
618 photos
51 videos
270 files
1.09K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الأول - نسيان الذات:

https://www.hindawi.org/books/30847268/1/
المنهج الهرمنيوطيقي في التفسير عند عبد الجبار الرفاعي
يدعو عبد الجبار الرفاعي إلى ضرورة الانتقال إلى المنهج الهرمنيوطيقي في تفسير النصوص الدينية، لأن هذا المنهجفي التفسير يمثّل عنده تحولًا معرفيًا في فهم القرآن، يقوم على إدراك شروط إنتاج المعنى، واحترام تاريخية النص، والاهتمام بأفق انتظار المتلقي، وأحكامه السابقة، وفهمه، والانفتاح على التجربة الإنسانية، بدلًا من التفسير التقليدي الذي غالبا ما يغلق المعنى، ويجمّد النص في قوالب حرفية موروثة.
يستند الرفاعي في دعوته للانتقال إلى الهرمنيوطيقا إلى قناعة راسخة بأن الدين لا يكتمل إلا بالمعنى، ولا يُفهم إلا بالتأويل، ولا يُستعاد إلا بروح إنسانية روحانية أخلاقية. والمنهج الهرمنيوطيقي عنده ليس تأملا فلسفيًا لا ضرورة له، بل هذا المنهج في ضوء تعريف الرفاعي للدين، الذي ينص على أنه: "حياة في أفق المعنى تفرضها حاجة وجودية لانتاج معنى روحي وأخلاقي لحياة الإنسان الفردية والمجتمعية"، يعبر المنهج الهرمنيوطيقي في التفسير عن ضرورة روحية وأخلاقية ومعرفية لاستعادة إنسانية الدين، وتجديد العلاقة مع النص، وتحرير الفهم الديني من أسر سياقات التاريخ واكراهات السلطة.
أولًا: الانتقال إلى الهرمنيوطيقا في التفسير لدى الرفاعي يرتكز على:
1. نقد التفسير التقليدي الموروث
يرى الرفاعي أن التفسير الموروث للنصوص الدينية أسير أدوات لغوية وتاريخية ومنطقية تراثية، وأنه يغفل الشروط الإنسانية والمعرفية التي تتغير بتغير الزمان والمكان. وهو تفسير يخضع لمقولات المتكلمين والفقهاء الذين خلطوا بين الوحي وقراءاتهم له، فجعلوا من قراءتهم دينًا.
2. تاريخية الفهم الإنساني
يشدد الرفاعي على أن المعنى لا يُنتج من داخل النص وحده، بل هو نتاج تفاعل القارئ مع النص في ضوء خلفيته الثقافية والمعرفية، أي أن التفسير هو دومًا فعل إنساني مشروط، وهذا ما تبرزه الهرمنيوطيقا في مقابل النزعة التقديسية للتفاسير الموروثة.
3. تغير رؤية العصر وأفق التلقي
يرى الرفاعي أن النص لا يتكلم وحده، بل يُقرأ في أفق انتظار المتلقي، وأحكامه السابقة، والواقع. التفسير الهرمنيوطيقي هو التفسير المواكب الذي يصغي للمفسر ويستجيب لأسئلته، وهو ما لا يقدر عليه التفسير الموروث أو البياني وحده، وإنما يتطلب أداة منهجية تُعنى بـ "فهم الفهم"، أي الهرمنيوطيقا.
4. التحرر من هيمنة علم الكلام التقليدي
يشير الرفاعي إلى أن التفاسير التراثية كثيرًا ما اشتغلت بوصفها دفاعًا عن العقيدة، فصارت مقولات دفاعية لا معرفية، تصنع لاهوتًا قشريًا يعيد إنتاج الخوف والكراهية والجمود، بينما يحتاج عصرنا إلى تفسير يوقظ الأبعاد الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين.

ثانيًا: ضرورات الانتقال إلى الهرمنيوطيقا 1. استيعاب تعقيد الإنسان المعاصر الذي لا تقنعه التفسيرات الفقهية أو البلاغية القديمة، بل يبحث عن المعنى والكرامة والرحمة والمحبة.
2. إعادة اكتشاف البُعد الجمالي والروحي والأخلاقي للنص، وهو ما يغيب في التفاسير التي تحوّل النص إلى أداة تشريع فقط.
3.فهم النص بوصفه "حدثًا حيًّا" لا "جمادًا ساكنًا"، أي أن النص يتجدد مع كل قارئ وزمن وظرف، لا يُختزَل في فهم واحد مغلق.
4. إنتاج تفسير تواصلي لا إقصائي، ينفتح على التعدد والتأويل، لا يحتكر المعنى في مذهب أو جماعة أو سلطة.
ثالثًا: تطبيقات في كتاب: "الهرمنيوطيقا بوصفها منهجًا للتفسير عند أمين الخولي"
في كتابه "الهرمنيوطيقا بوصفها منهجًا للتفسير عند أمين الخولي" (المنشور على منصة هنداوي)، لا يكتفي عبد الجبار الرفاعي بتناول تجربة الخولي بوصفها محطة في تطور الفكر التأويلي العربي الحديث، بل يتخذ من هذا الكتاب مناسبةً لمساءلة المناهج التفسيرية التقليدية، واقتراح الهرمنيوطيقا بوصفها مخرجًا من الجمود التفسيري، ووسيلة لتجديد فهم النصوص الدينية. في هذا السياق، تتجلّى تطبيقات الرفاعي للمنهج الهرمنيوطيقي في عدّة مواضع من الكتاب، يمكن تلخيصها كما يلي:
1. قراءة الخولي من منظور هرمنيوطيقي
الرفاعي لا يقدّم عرضًا تقريريًا لتجربة أمين الخولي، بل يُعيد قراءتها من خلال عدسة هرمنيوطيقية، أي: ينظر إلى مشروع الخولي في التفسير الأدبي على أنه بداية لتأويل غير حرفي للنص القرآني، وإن كان لم يرقَ بعدُ إلى الهرمنيوطيقا الغربية الحديثة. يُفكّك محاولات الخولي لتحرير التفسير من الفقه والتراث الكلامي، ويرى فيها إرهاصًا لوعي تأويلي لا يكتمل إلا بالتحوّل إلى فهم النص بوصفه خطابًا مفتوحًا لا حزمة أحكام. "منهج الخولي تجاوز التفسير التراثي، لكنه بقي في أفق منهج بلاغي لغوي لا يصل إلى عمق الهرمنيوطيقا التي تقرأ النص في ضوء شروط الفهم وتاريخية المعنى." (ص: 41-43 من نسخة هنداوي الإلكترونية).
2. نقد التفسير البياني
يُبيّن الرفاعي أن قراءة النصوص الدينية من داخل القاموس البياني البلاغي، أو من زاوية الإعجاز، تُنتج تفسيرًا مغلقًا يعيد إنتاج السلطة. من هنا، فإن الرفاعي يطبق المنهج الهرمنيوطيقي في نقد هذه المناهج، مثل: التفسير البياني: الذي ينشغل بجماليات النصوص، ولا يقرأ التجربة الإنسانية في ضوء النص، ولا يصغي إلى سؤال الوجود في ضوء النص، بل يغلق النص داخل بنيته اللغوية.
3. إبراز مركزية المتلقي في إنتاج المعنى
من تطبيقات المنهج الهرمنيوطيقي عند الرفاعي في هذا الكتاب: التأكيد أن النص لا يملك معنًى جاهزًا يُستخرج كما تُستخرج الأحكام من المسائل الفقهية، بل إن المعنى يتشكل في لحظة التفاعل بين النص والقارئ. يدعو الرفاعي إلى تفسير يأخذ بالحسبان أفق انتظار القارئ الحديث، وأحكامه السابقة، ويصغي إلى معاناته وأسئلته، وهي مبادئ مركزية في الهرمنيوطيقا الحديثة (غادامير تحديدًا). "لا معنى للنص خارج شروط فهمه. وكل معنى ينعقد في لحظة زمانية ومكانية مخصوصة."(ص: 53)

4. الدعوة إلى وعي تأويلي جديد
يتجاوز الرفاعي في هذا الكتاب حدود التحليل الأكاديمي البحت، ويدعو إلى تأسيس علم تأويل قرآني جديد، يتفاعل مع: الفلسفة التأويلية الحديثة، ومناهج التأويل الغربي (غادامير، ريكور)، وذلك في مقابل علوم القرآن التقليدية التي ظلت حبيسة منطق الأصول، والبلاغة، والجدل الكلامي.
5. نقد مشروع الخولي من الداخل
من أهم تطبيقات الرفاعي في الكتاب: تفكيك الموانع المعرفية والمنهجية التي حالت دون تطور تأويل الخولي إلى هرمنيوطيقا، منها: انحصار التفسير الأدبي في الأدوات البلاغية القديمة، وغياب الوعي بتاريخية اللغة والمعنى، وعدم تجاوز الثنائية بين "النص" و"الحقيقة"، وعدم وعي النص كخطاب لا كحاوية لمضمون جاهز. "كان مشروع الخولي تأسيسًا تأويليًا جنينيًا، غير أن غيابه عن فلسفة اللغة، وعن أسئلة الوجود الإنساني العميق، حدَّ من تطوره إلى هرمنيوطيقا." (ص: 66)
الرفاعي في هذا الكتاب: يُعيد تأويل تجربة أمين الخولي بوصفها إرهاصًا لتأويل حديث. ويُطبّق أدوات المنهج الهرمنيوطيقي (سؤال القارئ، تاريخية المعنى، مركزية الفهم، تعدد القراءات). وينتقد التفسير الموروث، بوصفه يتجاهل أن الفهم فعل إنساني متجدد، يتغير بتغير المتلقي وسياقاته.
ويدعو الرفاعي إلى تأسيس علم تأويلي يوقظ البعد الإنساني في النص. ويمكن القول إن هذا الكتاب لا يكتفي بعرض الخولي، بل يُمثّل نموذجًا تطبيقيًا للهرمنيوطيقا عند عبد الجبار الرفاعي، ويمهد لمشروعه الفلسفي الأكبر في تأويل النص الديني بوصفه خطابًا أخلاقيًا روحيًا متجددًا.
المنهج_الهرمنيوطيقي_في_تفسير_القرآن_عند_عبد_الجبار_الرفاعي.pdf
165.8 KB
المنهج الهرمنيوطيقي في تفسير القرآن عند عبد الجبار الرفاعي
كتاب_الدين_والاغتراب_الميتافيزيقي_مؤسسة_هنداوي_عام_٢٠٢٥.pdf
5.8 MB
كتاب الدين والاغتراب الميتافيزيقي -مؤسسة هنداوي عام ٢٠٢٥
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الثاني - نسيان الإنسان (١) الأقدامُ الحافية لا يرهقها ترابُ الأزقة:

https://www.hindawi.org/books/30847268/2/
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
د. عبد الجبار الرفاعي
المعارك على الماضي لن تبني الحاضر ولا المستقبل، مَن يتسلح بحسٍّ تاريخي لا ينزلق إلى معارك خاسرة على الماضي، فمثل هذه المعارك لا تُنتج إلا وقودًا للهويات الطائفية والأيديولوجيات والمعتقدات المغلقة. الحسّ التاريخي النقدي مشغول بالواقع بكلِّ تفاصيله، ومتطلّع دومًا إلى مستقبلٍ يبحث فيه عن خلاص الإنسان.كلُّ قراءة للتاريخ تمليها التعصّبات القومية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية هي قراءة غير علمية. بسبب غزارة ما يُعاد استحضارُ التراث بمختلف الوسائل والأساليب، والاحتماءُ به، اعتاد المجتمعُ على العيش في الماضي، حتى غدا هذا النمطُ من العيش إدمانًا لا يُطيق الخلاصَ منه. وصارت كلُّ محاولةٍ لترحيل المجتمع إلى الواقع الذي يعيشه، والتطلّع إلى المستقبل، كأنها اعتداءٌ صارخٌ على أسلافه، يقوده إلى المجهول، من دون أن يُدرك أن الهروبَ إلى الماضي ليس سوى متاهاتٍ يضيع فيها حاضرُه ومستقبلُه. وحين تُختزل الهويةُ في استحضارٍ مكرّرٍ للماضي، تنغلق على نفسها، وتكفّ عن الحوار مع العالم، وتتحول إلى هويةٍ تشعر بأنها مكتفية بذاتها، لا تتفاعل مع غيرها، ولا تطيق التعدد.
الاحتماء بالتراث حاجة نفسية واجتماعية توفر للإنسان أمانًا يشتاق إليه، فيعتقد أن تراثه الخاص يمدّه بكل ما يحتاجه في حاضره ومستقبله. هذا الاعتقاد يدفعه إلى مقاومة أي محاولة علمية لمساءلة التراث، والخوف من توظيف المناهج العلمية الحديثة في تفسيره، وتحليله، ونقده، أو تجاوزه. القراءة النقدية العلمية للتراث لا تقف عند سطح النصوص، ولا تكتفي بتقديس الموروث، بل تتعمق في تحليل كيفية إنتاج التراث، وتكشف عن العوامل المتنوعة التي شكّلته، من سياقات تاريخية، وتحوّلات اجتماعية، وصراعات سياسية، ومؤثرات ثقافية، وأنساق معرفية راكمها العقل منذ عصر التدوين.
القراءة النقدية العلمية للتراث لا تعني الانفصال عنه أو مناهضته، بل تعني تحرير الوعي الديني من الارتهان لنماذج معرفية استنفدت وظيفتها، وعجزت عن الاستمرارية ومواكبة احتياجات الإنسان في عالَم متغير، ولم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة الإنسان المتوالية. فعند دراسة علم من علوم الدين، كعلم الكلام مثلًا، نراه لم يتشكل في فراغ، بل تبلور في أجواء مشحونة بالأسئلة اللاهوتية والصراعات المذهبية، فصاغ رؤية تجيب عن هموم عصره، على الرغم من أنه أغفل أسئلة العواطف، والمشاعر، والوجدان، وهمّش الحاجات الروحية، والأخلاقية، والجمالية في الدين ذلك العصر. وفي دراسة علم أصول الفقه، ينبغي التركيز على بواعث تأسيسه، وكيفية تشكّل مفاهيمه ومقولاته، والرؤية للعالم التي صاغها، والمنهج الذي فرضه على تفسير القرآن الكريم والسُّنة. علينا أن نتبيّن كيفية ولادة هذا العلم، والظروف التي أنتجته، وكيف أسهم في تشكيل المدونة الفقهية وصياغة نمط التلقي للنصوص الدينية. وهكذا يكون منهجُ القراءة النقدية العلمية في كلِّ حقل من حقول التراث.
لكن أصبحت كلُّ محاولةٍ لمساءلة التاريخ أو نزع القناع عنه تُوصَمُ بالعدوان على أمجاد الأمة وماضيها المشرق. ويُمارَس التشهير بحقّ كلّ باحثٍ يشرع في فضحِ ما طال النصوص والمقولات والوقائع من تزوير، أو يكشف محاولاتِ الحذف والإقصاء التي تعرّضت لها معتقداتٌ ومفاهيمُ لا تنسجم مع الأيديولوجيا التبجيلية التسلطية المهيمنة.كما تُلاحَقُ الأصواتُ التي تسعى لإشهار المهمَّش والمسكوت عنه، أو تفضحُ سطوةَ السائدِ والمتغلِّبِ في التراث، وما مارسه من قمعٍ واستبعادٍ بحقّ المختلفين.
تُعاني مجتمعاتنا من إرث ثقيل يُكبّل وعيها ويقيّد حركتها نحو المستقبل، فالتاريخ لم يعد مجرد سردٍ للأحداث أو محاولةٍ لفهم الماضي وتحليله ونقده وغربلته وتمحيصه، بل تحوّل في الوعي الجمعي إلى ما يشبه المقدّس الذي لا يُمَس، والمرجعية التي لا تُساءَل، مما عطّل إمكانية فهمه النقدي، وشلّ أدوات تفسيره العلمي، وكرّس الأوهام عن الذات والآخر. التحرّر من أوهام التاريخ لا يعني إنكار الماضي، بل يعني مقاربته بعين فاحصة وحسٍّ نقدي يستلهم العبرة ولا يكرّس الوهم. فقط حين نكفّ عن تحويل الماضي إلى صنم، ونمتلك الجرأة على مساءلته، يمكننا أن نخطو نحو حاضرٍ مُنتِج، ومستقبلٍ يتّسع للكرامة والحرية والمساواة والاختلاف. الوعي العلمي التاريخي لا يُقيم في كهوف الماضي، بل يسعى لاكتشاف خارطة طريق الخلاص.
منذ عصر الاستعمار، تحوّل العداءُ للآخر إلى أيديولوجيا سياسية تتبنّاها الحركاتُ اليساريةُ والقوميةُ والأصولية، وتُربّي أتباعها عليها، حتى صار العيشُ المزمنُ في محيطٍ عدائي عقيدةً سياسيةً يتلقّنها الأتباعُ، جنبًا إلى جنبٍ مع ما يُلقَّن لهم من أفكارٍ ومواقف. نتيجة لذلك، صار يصعب على معظمهم التحرّر من هذه العقيدة، حتى مع تقدُّمهم في العمر، أو تغيّر مواقعهم الفكرية. عرفتُ ماركسيين انتقلوا إلى الإسلام السياسي في مراحل متأخرة من حياتهم، لكن مواقفهم لم تتغيّر. تغيّرَ الإطارُ أو القالبُ الذي يُعبّرون من خلاله عن مواقفهم، إلا أن المضمونَ ظلّ على حاله؛ لبثوا تأسرهم النظرةُ التآمرية للعالم، والعداءُ للآخر المختلِف. المحتوى الأيديولوجيُّ النفسيُّ العميقُ للإنسان لا يتغيّر بسهولة، حتى لو بدّل شعاراته ومواقعه التنظيمية. العداءُ للآخر ليس دائمًا موقفًا عقلانيًا، بل كثيرًا ما يكون حالةً نفسيةً تتغذّى على الخوف، والرفض.
هويّةُ الجماعة تتجلّى في معتقداتها وسرديّاتها ومرويّاتها عن نفسها والآخر، في الماضي والحاضر، كما تتشكّل من أحلامها وتطلّعاتها للمستقبل.كلُّ هويّةٍ مغلقةٍ تزهو بوهم أنها مركزُ العالم، وأن ما يصحّ عليها لا يصحّ على غيرها، وأنها مرجعيّةُ الحقيقة الوحيدة. هذا التمركز يولّد نزعةً تبشيريّة تسعى إلى فرض قيم الجماعة، ورؤيتها للعالم، ومعارفها، وآدابها، وفنونها، وثقافتها على كلّ مَن يقع خارج محيطها العقائدي والثقافي. ويستند هذا النزوع إلى قناعةٍ راسخة بأن عقيدتها وثقافتها ورؤيتها للعالم خَلّاقةٌ دائمًا؛ أي أنها تملك القدرة المستمرة على إنتاج ما تحتاجه البشريّة من قيمٍ ومعارف وآداب وفنون وثقافة في العصور المختلفة.
لكلِّ جماعةٍ بشرية شغف بإنتاج #هوية خاصة مصطفاة، على وفق رهانات ترسمها أحلامها وآفاق انتظارها، وما تتعرض له من إكراهات، وأنماط الرهانات والتحديات، وما تنشده من احتياجات متنوعة في الزمان والمكان.كلُّ ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدِها، ويحدّد ألوانَ رسمِها لصوره المتنوعة وتعبيراتِه في العصور المختلفة. وتُدمج أيّ صورة من صور المعتقد بوصفه عنصرًا رئيسًا في مكونات هذه الهوية، إلى جانب العناصر الإثنية والثقافية واللغوية وغيرها، بالشكل الذي يجعل المعتقد مكونًا أساسيًا فاعلًا ومنفعلًا داخل الهوية، إذ تتغذى منه الهوية باستمرار ويتغذى منها. بل إن كلَّ هوية تنشد إنتاج الحقيقة على وفق رهاناتها ومطامحها ومعاييرها، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو دنيوية. وهذه ظاهرة بشرية عامة لا تتخلف ولا تختلف، يخضع لها كلُّ معتقد في ولادته وصيرورته داخل فضاء الهوية الجمعية.
لكي يكون البحثُ علميًا في نشأة المعتقد وتطوره، ينبغي أن يكون منهجه وفيًا لكلِّ ذلك، فلا يقفز على حقائق الواقع، ولا يتجاهل أثر السلطة والإكراهات واللغة والثقافة والمتخيّل والميثيولوجيا والمحيط، وكلَّ ما يضجّ به التاريخُ في تحولات وصيرورة ذلك المعتقَد. بمعنى أن يكونَ منهجًا يتبصر تاريخية المعتقَد، ويكشف سياقات تشكّله في المتخيّل، ويزيل الغبارَ عن صوره المتنوعة عبر محطاته المختلفة في الزمان والمكان.
‏ تعيد المخيِّلةُ ابتكارَ الصور في فضائها، وهو فضاءٌ رحب يتضخم باستمرار، فتولِّد #المخيِّلةُ الأحلامَ والأماني والرغباتِ المختلفة وحتى الأوهام، وما يصدر عن نرجسيات الهوية المتجذّرة في البنى اللاشعورية، وما تختزنه من أوهام تفوّق هذه الهوية واصطفائها وقدراتها الاستثنائية الفذّة، وإن كانت تعيش واقعًا بائسًا يضجّ بالأمية والفقر والمرض، غير أنها تلجأ للذاكرة العتيقة والأمجاد الإمبراطورية لأسلافها. تكرّر هذه الهوية بلا جدوى، لسنواتٍ طويلة تجنيدَ الإنسان، وما يمكن توظيفُه من طاقات في المجتمع، لإيقاد رمادِ نرجسية إمبراطورية مندثرة، من دون أن تكترثَ هذه الهويةُ بهزائمها، ولا تقف عندها وتدرس أسبابَها وتكتشف ثغراتها، ولا تسعى لأن تجرّب طريقةً بديلة في توكيد حضورها في الواقع وصناعة حاضرها ومستقبلها.
الهويات الأيديولوجية مغلقة تجهض أية محاولة للتعددية العقائدية والثقافية والسياسية. في هذه الهوية المغلقة، يعيد متخيَّلُ الجماعة كتابةَ تاريخها في أفقٍ يتحول فيه الماضي إلى سرديةٍ رومانسيةٍ فاتنة، ويصبح العجزُ عن بناء الحاضر استعادةً مهووسةً بالأمجاد العتيقة. ويجري ضخّ الذاكرة الجمعية بتاريخٍ متخيَّلٍ يضمحلُّ فيه حضورُ التاريخ الأرضي، وتُخلع على الحوادث والشخصيات والرموز والأفكار والمعتقدات والتراث هالةٌ أسطوريةٌ، تتحدّث عنها وكأنها خارجَ الزمان والمكان والواقع الذي ظهرتْ وتكوّنتْ وعاشتْ فيه.
تشتدّ حالةُ اصطفاءِ الهوية ووضعِها فوق التاريخ في مراحلِ الإخفاق الحضاري، وعجزِ المجتمعات عن الإسهام في صناعة العالم الذي تعيش فيه. لذلك تسعى هذه الهوية للاستيلاءِ على المكاسب الكبرى للآخر، وإيداعِها في خزانتها الموروثة، من خلال القيام بعمليات تلفيقٍ متنوعةٍ تتسع لكلِّ ما هو خلاقٌ مما ابتكره وصنعه غيرُها. وذلك أبرزُ مأزقٍ اختنقتْ فيه هويتُنا في العصر الحديث.

https://alsabaah.iq/115331-.html
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الثاني - نسيان الإنسان (2) مرايا الذات:
https://www.hindawi.org/books/30847268/3/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الرابع/ التجرِبة الدينية والظمأ الأُنطولوجي للمقدس

https://www.hindawi.org/books/30847268/4/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الخامس: المثقَّف الرسوليُّ علي شريعتي .. ترحيل الدين من الأُنطولوجيا إلى الأيديولوجيا

https://www.hindawi.org/books/30847268/5/
‏التجديد في الفكر الديني المعاصر: علم الكلام عند عبد الجبار الرفاعي نموذجا

د. زهرة الثابت، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، القيروان تونس.

‏مجلة دراسات فلسفية، بيت الحكمة، بغداد، العدد 55، سنة 2025.

‏رابط تحميل البحث:
https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2025/06/01/f545e4b18350e89708bd13c42be0809f.pdf
ثناء على الجيل الجديد
كتابٌ للتربية
د. أحمد يعقوب
لاشكّ في أنّ القارئ لمتن نصوص وكتابات د. عبدالجبار الرفاعي  يسترعيانتباهه رأساً الطّابع التّعليمي، أو إن شئنا الدّقة البُعد التربوي الذي يسم محاوراته، ويمكن إعتبار كتاب " ثناء على الجيل الجديد" من أهم الكتب التي تناولت قضايا جيل الآباء والأبناء في الخمسين سنة الماضية، بالاضافةلمناقشتها قضايا التربية والتعليم ، وهي قضايا تهم مجتمعاتنا أكثر من غيرها بمقتضى ما حصل من تطورات وتحولات في العالم الذي نعيشه اليوم.
يقوم د. عبدالجبار، غير هيّابٍ بتفكيك نُظم التربية في عصر الآباء، الذي إنهمكفي نظام أحادي لرؤيته للعالم والقيم والمعايير، فاذا به يصطدم بتطورات ضخمة ومتسارعة في عصر الأبناء؛ حيث تبدلت الموضوعات نفسها، واتخذت المفاهيم أشكالاً جديدة تتمظهر وتتجلى من خلالها، مما يعني أن  جيل الأبناء تحكمه نظم متعددة محايثة لواقعه وتشبه أفقه العقلي ( أفق العصر)،  وقد تجاوز النظرة الأحادية التي سادت في عصر الآباء وأحدث قطيعة كبرى معها؛ مما أحدث فجوة وهوة عميقة بين الآباء والأبناء، وهو معطى القطيعة بمعناها الفلسفي.
يدافع الرفاعي عن جيل الأبناء ضد أؤلئك (الآباء)،  الذين  يرون في هذا الجيل أنه بلا مسؤولية، ونبع ذلك من عدم قدرة الكثيرين من جيل الآباء لرؤية التوسعات الرقمية والذكاء الاصطناعي، وايقاع التغيير الذي طال كل شيء، وبالتالي اتساع الفجوة  في كل شئ تقريباً من حيث نمط الحياة والرؤية للعالم،والتّعاطي مع التعقيدات ونُظم تلقي المعرفة بالنسبة لجيل الأبناء؛ ولا نفهم من هذه السياقات أن عبدالجبار الرفاعي يمارس التحريض، بل هو يمارس  التفكير المواكب لمتطلبات هذا العصر ومتطلبات الأبناء. إذ لا ينسى المؤلف عرض كيفية تلقي المعرفة ونُظمها عند جيل الآباء، وما شكلته هذه النّظم والتي أحياناً شبه أحادية أو أحادية في نظرتها وتعاطيعها مع العالم وموضوعاته.
يشير د. الرفاعي الى عنصر مهم وفاعل في حياة جيل الأبناء، وهو تخلّصهم من الاستعباد لشخصية الأب وشخصية العالم، والتي هي رؤية  الأب بالتحديد؛ وربّما تخلّصهم من القيود التي تعيق تواصلهم أو اكتسابهم لنظم جديدة تواكب التحولات التي يعيشونها؛ وهو ما أدى الى بروز ظاهرة الاغتراب في العلاقة ما بين الآباء والأبناء؛ حيث نعيش اليوم وفق نظام لا يمكن مواكبته دون التعامل مع تسارعه التقني، وقدرة الشخص على الانتقال شبه الدائم لمعالجة موضوعات شتى في فترات زمنية قصيرة؛ ضمن هذا الاطار يفكك د. الرفاعي أشكال العلاقة بين الآباء والأبناء؛ حيث يطلب جيل الآباء الطاعة والانقياد وأحياناً الرضوخ الكامل؛ وهو مايواجه بتمرد عنيف من الأبناء، ولحل الاشكال هذا يطالب المؤلف جيل الآباء بالسماح للأبناء بالانخراط في مواقع السلطة السياسية والحياة الاجتماعية والثقافية، باعتبار أن جيل الأبناء هو أثمن رأسمال للحاضر والمستقبل.
ينحاز د. عبدالجبار الرفاعي بشكل لا مواربة فيه لجيل الأبناء، ويقول أنه تعلم منهم أكثر مما تعلم من جيل الآباء؛ وهذه روح توضح حجم التحولات والتغيرات التي حدثت في عالمنا المعاصر، وخاصة في العشرين عاماً الماضية، وتبيّن ضرورة المواكبة، والا عاش الانسان في كهف ذاكرته أو كما يقول  جيل الأياء في السودان: "زمننا أفضل ونتمنى أن يعود ذاك الزمان"،  وقد خبرنا نحن جيل الأبناء  بالاخص هذه البكائيات من جيل الآباء.
ويعتبر حقل أو علم التربية من الحقول الرئيسة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، إذ إنه يقدم إسهامات منهجية وعلمية وتطبيقية كبيرة، خلال مسيرة طويلة من العمل الرصين والإنجازات اللافتة. ومن ذلك كون كليات التربية في العالَم مصدر التموين الأساسي لوزارات التعليم والتربية، عبر الإسهام في تطوير سياسات التعليم وفلسفته، وتأمين خطوط كافية لإنتاج: المعلمين الأكفاء، وصنّاع المناهج والمقررات، وخبراء التعليم والتعلم والتقويم، وهذا ما يفسر سر الاهتمام الكبير بكليات التربية في مختلف دول العالم[1].  وتشكل نُظم التربية  والتعليم وطرق اكتساب وتلقي المعرفة  والتي بنيت على أساسها تاريخاً طويلاً من سلطة الآباء في بلداننا وسيطرتهم على كل شئ؛ أحد الموضوعات المهمة في فكر الرفاعي؛ وفي عالمٍ يشهد تحولات كبيرة في فضاءاته لاتزال هذه النظم تمسك بتلابيب مجتمعاتنا المتخلفة  وتمنعها من الاستفادة من النظم الحديثة،لأن العقل التربوي لا يزال ماضوياً.
وحيث إن المشهد التربوي ضمن سياق التحديات والتشوهات التي يعيشها،بحاجة ماسة لمراجعة نقدية صارمة عامة للحقل التربوي ذاته. ولكي تكون هذه المراجعة مثمرة، فإنه يتوجب أن يقوم بها مفكرو التربية أنفسُهم، والذين هم بحاجة ماسة في مجتمعاتنا على وجه الخصوص بمواكبة التطورات التقنية والتحديثات التكنولوجية، وعلى أن يكون أس هذه المراجعة النقدية إبستمولوجياً، وذلك راجع إلى أن النقد الإبستمولوجي قادر على تشخيص أصل الداء في حقل التربية.
يمكن للمرء أن يلاحظ حالة الخطاب التربوي المدرسي في شعوبنا؛ والذي يكاد يبدو للناظر من الخارج أنه خطاب يجتر التاريخ ولا يبدع الحديث، بل هو بعيد من الابداع لدرجة انه غير مواكب للتطورات التي يشهدها عالمنا اليوم؛ وحيث إن نُظمنا التّعليمية تعمّق حتى الفوارق ( الطّبقية)* في المجتمع، صانعة  بذلك هوة عميقة سوسيولوجياً يعاني منها غالبية الذي تعرضوا لهذا الخطاب؛ أمّا أؤلئك الذين تلقّوا تعليمهم في الخارج فأول ما يدركونه هو النظام المعرفي الذي من خلاله يتلقون تعليمهم؛ حيث يتبدى النظام المعرفي في جملة مفاهيم وقضايا معاصرة، وتحديث مستمر للمناهج وطرق التدريس نفسها، وكيفية استهلاك المعرفة...الخ. ولتوضيح هذه النقطة المتعلقة بتحديث النظم المعرفية لتواكب متطلبات العصر الراهن  كتب مارك تايلور  مقالا في  Nature عنونه "Reform the PhD System or Close It Down” يقول فيه: " تتبع معظم برامج الدكتوراه هيكلاً يعود تاريخه إلى جامعات العصور الوسطى في أوروبا. الهدف؛ إنتاج نسخ مكررة من الأساتذة المختصين عبر استنساخهم. ولا يزال هذا النموذج الصارم قائماً حتى اليوم، رغم تغيّر سوق العمل الأكاديمي تغيّراً جذرياً. " ويواصل بالقول: " نظام الدكتوراه عند مفترق طرق حاسم: إما أن يتجدد لمواكبة متطلبات العصر الحديث، أو يُصبح بلا قيمة. بتبني التعلم متعدد التخصصات، وشراكات الصناعة، والتطورات التكنولوجية، يمكن لبرامج الدكتوراه استعادة قيمتها. أما إذا رفضت الجامعات التكيف، فستستمر في تخريج طلاب غير مؤهلين لسوق العمل الحالي" .  ولنا أن نتخيّل ان هذا ما يتداوله الغرب حالياً في قضايا تحديث النظم المعرفية؛ ونتساءل في اي طريق نحن؟
في مناظرة شهيرة حول موضوعات شتى بين نعوم تشومسكي وميشيل فوكو في العام 1971 يطرح فوكة خطر مؤسسة ( الجامعة) بقوله: " أعتقد ان ممارسة السلطة السياسية تتم كذلك عبر عدد آخر من المؤسسات التي تتظاهر بأنها لا تملك شيئا مشتركا مع السلطة السياسية وباستقلاليتها عن الدولة,غير انها ليست كذلك.. يعلم المرء بأن الجامعة – وبصورة عامة كل الانظمة التعليمية التي تبدو وكانها ببساطة تنشر المعرفة فقط. صُنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة في موضع القوة، ولحصر امتلاكها لأدوات القوة دون الطبقات الاجتماعية الأخرى" وهي صورة أخرى لكيفية سيطرة النظم التربوية والتعليمية على حيوات الناس، عبر تدجينهم واكسابهم صفة الاستنساخ للتجارب القديمة ( جيل الآباء)، أو كما يريد ذاك الجيل ان تبقي الامور كما هي .
هل نحن في حاجة لاعادة تعريف مفهوم التربية؟
من أهم الموضوعات التي تتفرد بها التربيةُ دون غيرها؛ ما يتعلق بـ المناهج والمقررات تصميماً وتعليماً وتطبيقاً وتقويماً وتطويراً، باستخدام كافة الأساليب التربوية التقليدية والحديثة في التخصصات المختلفة. إذن، هذا حقل أصيل، بل لعله من أكثرها أصالة، بحيث لا تُنازَعُ فيه التربيُة، إذ هي الحقل الذي يمتلك “حق التشريع” إزاء هذا الموضوع المبحوث منهجياً وبحثياً وتطبيقياً، ويعد هذا أسمى أنواع الملكية للموضوعات المبحوثة.
تحتاج المؤسسات التربوية عندنا لاعادة تعريف هذا المفهوم ؛ ولوضع أسس سوسيولوجية جديدة لمهامها وأهدافها. ويشير د. الرفاعي بطريقة ما في خطاطته عن الفروقات بين جيل الآباء وجيل الأبناء إلى ما يسميه بيار بورديو بالعنف الرمزي، الذي يمارس من خلال المؤسسات التعليمية وبالاخص المدرسة، والتي تسعى بطريقة أو أخرى للمحافظة على الوضعية القائمة، ( يفهم في سياق جيل الآباء) الذين يودون أن تبقى الأمور على ماهي عليه؛ وحيث  يتميز العنف الرمزي في المدرسة بقدرته الكبيرة على المخادعة الأيديولوجية وبناء الأوهام التربوية على نحو طبقي، وضمن هذه الممارسة الرمزية تبدو المدرسة على أنها مؤسسة محايدة طبقيا.(2) لكن المدرسة في جوهرها ليست محايدة أبدا، وهي تمارس التطبيع الفكري والأيديولوجي للطلاب، وتقوم في الوقت نفسه بإضفاء الشرعية على الأوضاع الاجتماعية السائدة في المجتمع في اتجاه المحافظة على النظام السياسي الاجتماعي القائم. وهي بفعالياتها الرمزية تقوم بتمتين وترسيخ العلاقات الطبقية القائمة في المجتمع، تحت ستار استقلال نظام التعليم وحياديته الظاهرة. ومن الطبيعي أن يعزز المجتمع هذه الاستقلالية النسبية للمدرسة،حيث يتم إنشاء هيئة من المتخصصين والمهنيين في مجال العمل التربوي والمدرسي لتقوم بتسيير النظام المدرسي وفقا للاعتبارات الوظيفية والأيديولوجية المحددة في المجتمع.
حوى الكتاب مجموعة من المفاهيم القيمية والاخلاقية ضمن تربية الانسان؛كالحب، والصمت، وقضايا الدين، ومفهوم التراث والتجديد، وهي في صلب عملية بناء الانسان . هذا كتاب للمؤسسات التعليمية والسياسية، ويمثل رؤية لأفق العصر وما ينبغي أن يكون عليه الانسان وكيف تتم تربيته؛ آمل أن يقرأ هذا الكتاب، وان يكون ضمن مناهجنا، وقبله يجب ان يتم تدريسه للتربويين والمهتمين بمسائلها والمسائل التعليمية.
هوامش:
1- عبدالله البريدي - نداء ابستمولوجي إلى مفكري التربية : تفحصوا حقلكم – مجلة حكمة 17-10-. .2021. 
2- بيداغوجيا الرمز والعنف الرمزي في منظور بيير بورديو – علي أسعد وطفة – مدونته الشخصية على الانترنت
*لا نستخدم الطبقة هنا بمفهومها الماركسي وانما في سياقها الاجتماعي المرتبط بالتفاوتات الطبيعية بين البشر.

https://altanweeri.net/16214/ثناء-على-الجيل-الجديد-كتابٌ-للتربية/?amp
يصدر قريبا عن دار الشؤون الثقافية في بغداد كتاب: "مشروع ⁧ #عبدالجبار_الرفاعي ⁩ الديني: قراءة نقدية"، بقلم: د. ⁧ #ضياء_خضير ⁩.
الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا
د. عبد الجبار الرفاعي
الهوية الوطنية بمعنى، والهوية الأيديولوجية العقائدية بمعنى آخر. نصابُ الهوية الوطنية الانتماءُ إلى رقعة جغرافية، ومصير واحد، ومصالح يلتقي فيها الكل، وتاريخ مشترك، وذاكرة جمعية، تتجسد في ثقافة جامعة، ورموز مشتركة، بغض النظر عن الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية. تتمثل ملامح الثقافة المشتركة والرموز الجامعة في ما تراكم في العقل الجمعي من سردية تستحضر منعطفات نشأة الوطن، وتؤرخ لتحولاته، وتعيد وصل حاضره بجذوره الممتدة في الزمن.كما تتجلى في الشخصيات المؤسسة، وكل شخصية استثنائية تركت بصمة مضيئة في مسيرة الوطن، وأسهمت في بناء كيانه السياسي والرمزي والمعنوي. وتنعكس في: اللغة، والآداب، والفنون السمعية والبصرية، والأديان والمعتقدات، والأمثال، والأساطير، والعلَم، والشعار الرسمي للدولة، والنشيد الوطني، والمناسبات والأعياد، والفلكلور، والأماكن الأثرية والمعمارية التي تستفيق فيها الذاكرة، وتمنح ما هو جميل في الماضي حضورًا مستأنفًا. وتظهر كذلك في المطبخ وأنواع الأطعمة، واللباس والأزياء، والأذواق، والرياضات الجماعية، مثل كرة القدم اليوم، وكل ما يسهم في توليد الشعور بالاستمرارية التاريخية. ويغذّي الإحساس بالارتباط الوجداني العميق بالوطن، ويُعيد ترميم أواصر الألفة والتضامن، في إطار كيان سياسي، يلتقي فيه المواطنون على أنهم جزء حيّ من نسيجه، وأمناء على ذاكرته، ومشاركون في مصيره، ومسؤولون عن حمايته وتنميته.
الهوية الوطنية هوية جامعة، لا تقبل الانغلاق على مكوّن واحد، ولا تسمح باحتكار الوطن لجماعة دون سواها. هوية تتسع لمختلف المواطنين، بتنوع أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ولغاتهم، وترى بأن العيش المشترك لا ينهض إلا على الاعتراف بالاختلاف في إطار كيان سياسي واحد، وشراكة الجميع في بناء الوطن وحمايته. تبتني هذه الهوية على المواطنة الدستورية، التي تُعلي من قيمة الإنسان بما هو إنسان، وتكرس المساواة في الحقوق، والمساواة في الفرص، على أساس "العدالة بإنصاف"، وفقًا لما عبر عنه جون رولز (1921 ــ 2002): في كتابه: "نظرية في العدالة". وتُخضع الجميع للقانون، وترفض التمييز بكل أشكاله، مهما كان تبريره. إنها هوية تُصغي إلى صوت العقل، وتحتكم إلى عقد وطني يضمن التعدد، ويحمي السلم الأهلي، ويعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين على أسس تُعيد بناء الانتماء، وتُحرّر الولاء من أسر الانتماءات الفرعية الضيقة، التي تعزل الإنسان في مضايق القومية أو الطائفة، وتعيدُ توجيه بوصلته نحو الوطن بوصفه الإطار الأوسع الذي ينتظم فيه التنوع، وتتكامل فيه الخصوصيات، من دون أن تتنكر للانتماءات للدين أو المذهب أو القومية، وتُرسخه في الهوية الوطنية الجامعة، ليغدو الانتماء للوطن أصلًا، وما عداه من انتماءات فرعًا.
أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي انتماء إلى معتقد ما، بعد أن يتحوّل هذا المعتقد إلى أيديولوجيا مغلقة، سواء أكان دينيًا أم دنيويًا. تتسم هذه الهوية بالانغلاق، إذ تقسم العالم إلى: مَن ينتمي إليها، ومَن لا ينتمي إليها. وهي تتوهم الاصطفاء، وتكرّس شعورًا بالتفوّق الزائف، وتبني هويتها الجمعية على نفي الآخر وإقصائه. في ظل هذه الهوية، يُلغى الوطن لصالح الجماعة، وتُختزل الدولة في كيان هشّ، وتُستبعد المصلحة الوطنية لحساب الولاءات الضيقة. تنتج هذه الهوية خطابًا تعبويًا، لا يقبل التنوع، ولا يطيق الاختلاف، ولا يقرّ بحقّ الآخر في العيش المشترك. الهوية الوطنية مشروع بناء كيان سياسي، يتسع للجميع، ويقوم على العيش معًا بكرامة في ظل دولة القانون. أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي مشروع احتكار، يختزل الحقيقة في تفسير واحد، ويختطف الوطن لحساب جماعة، ويهدد وحدة المجتمع، ويقوّض أسس الدولة.
حين يتحوّل الدين إلى أيديولوجيا، يُنتَزع من مجاله الروحي والأخلاقي والجمالي، ويُزج به في صراعات السلطة والثروة، كما هو حال الأيديولوجيات القومية واليسارية والأصولية. في سياق هذا التحوّل، يفتقد الدين رسالته السامية، ويتحوّل إلى وسيلة للاستحواذ، ويُختزل في صراع النفوذ والسيطرة، ويُستخدم لتعبئة الأتباع وتجييش مشاعرهم، باسم الدفاع عن العقيدة. وذلك ما نراه ماثلًا في تجارب الأصوليات في سائر الأديان، سواء أكانت هذه الأديان سماوية أم أرضية. الأصوليات تهبط برسالة الدين من معناه السامي وغايته في إرواء الظمأ الأنطولوجي وتحرير الإنسان من الاغتراب الميتافيزيقي، وإيقاظ الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، وتصيّره أداة أيديولوجية، لا تكترث بالهوية الوطنية، ولا تعترف بشرعية الدولة المؤسسة على هذه الهوية، وما تكفله من استيعاب للتنوع والاختلاف في فضاء العيش المشترك، بل تنزع إلى تجاوز حدود الوطن، وتقصي كل مَن لا ينتمي إلى حدودها الأيديولوجية.
حدود دولة المواطنة الحديثة ترسمها خرائط الأرض التي يعيش عليها أبناؤها، وتنهض على المصالح المشتركة، والمصائر الوحدة، والشعور بالانتماء لهذا الوطن بوصفه الملاذ الذي يأوي إليه الجميع. وتتجلى دولة المواطنة في مساواة المواطنين في الحقوق وأمام القانون، وتكافؤ الفرص لكل منهم، وإناطة المسؤوليات بكل مواطن بحسب طاقاته وإمكاناته. أما حدود الدولة الأيديولوجية فيرسمها الانتماء للعقيدة والولاء لها، ووحدة المصير مع مَن ينتمي إليها، بغض النظر عن انتمائه لوطن آخر، حتى إن كان في أقصى أطراف الكرة الأرضية. الحدود الوطنية تحمي الدول من أيّ شكل من أشكال النفوذ لدولة أخرى مهما كانت، ولا تسمح باستغلال موارد الوطن وثرواته لغير أبنائه، تحت أيّة ذريعة. أما الحدود الأيديولوجية، فلا تحمي الأوطان، بل تجعلها كيانًا عامًا، لا يختص بمواطنيها، بل يتسع لكل مَن يعتنق أيديولوجيا حكّامها، كما حدث في الأنظمة اليسارية والقومية والأصولية، وكما يحدث اليوم في دولٍ متعدّدة. الحدود الأيديولوجية تعدّ الأجنبي الذي يتبنى الأيديولوجيا ذاتها شريكًا شرعيًا، يتمتع بالحقوق الكاملة في السلطة والحكم وإدارة الدولة، وربما تمادى هذا الشريك، فاستغل شراكته، وأضحى سيّدًا على الحاكم والمواطن.
السياق الوطني لتشكّل الهوية ينبغي أن يتسلسل في ضمير كلّ مواطن في بلدنا على أساس أنه: عراقي أولًا، وعربي أو كردي أو تركماني ثانيًا، ومسلم أو مسيحي أو مندائي أو إيزيدي ثالثًا، وشيعي أو سنّي أو كاثوليكي أو بروتستانتي أو أرثوذكسي رابعًا، وهكذا. هذا هو التسلسل الذي يمكّننا من بناء مفهوم للوطن بمعناه الحديث، والمواطنة الدستورية بوصفها أساسًا لبناء دولة حديثة، تتوحّد فيها الأديان والمذاهب والقوميات في كيان سياسي، ينتمي فيه الجميع لأرض واحدة، وتاريخ ومصائر مشتركة، ويتضامن على مصالح جامعة. أما حين تنقلب معادلة الهوية، فتصبح الطائفة أو القومية أولًا، والدين ثانيًا، والوطن ثالثًا، فإننا نفشل في بناء دولة المواطنة بمعناها السياسي، ونخفق في إقامة الدولة الحديثة، مهما فعلنا.
اختلال سُلّم الهويات ينتج وعيًا زائفًا بالانتماء، يُقصي الوطن لحساب الجماعة، ويحوّل المواطنة من انتماء جامع إلى ولاء خاص، محكوم بالعصبية، ومسكون بهاجس الدفاع عن الهوية الفرعية، لا الهوية الوطنية الأصلية. حين تغدو القومية أو الطائفة هي الهوية الأصلية، وتتفرّع عنها سائر الانتماءات، لا يعود للوطن معنى ينطبق على المواطنين كلهم، وليس للمصالح والمصائر والتاريخ المشترك أثرٌ في بناء الدولة. تختفي عندئذ المواطنة خلف الانتماء القومي أو الطائفي، وتتحوّل إلى استماتة في الذود عن مصالح الجماعة، لا عن مصالح الوطن. ويغدو حضور الدولة هشًّا، لأن الولاء لها مشروط بولاء موازٍ أو سابق للجماعة، لا يسمح ببناء عقد اجتماعي يجتمع عليه المواطنون. حين تتسيّد الهوية القومية أو الطائفية، وتختزل الهوية الوطنية فيها، تتفشى اضطرابات الهوية السياسية، ويتعذّر على المواطن أن يحقق ذاته السياسية في الوطن، أو يعثر على ما يوحّده بأبناء بلده. ويغدو الوطن ساحة صراع هويات فرعية، يتقدم فيها الانتماء للجماعة على حساب الانتماء للأرض والمصالح والمصائر المشتركة.
تفشّت في جيلنا، والجيل الذي سبقنا، اضطرابات الهوية السياسية، فكان الشيوعي قبل أن ينتمي لوطنه ينتمي إلى الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية المنضوية في محوره، أو إلى الصين والدول الاشتراكية التي تدور في فلكها. وكان القومي العربي، قبل أن ينتمي لوطنه، ينتمي إلى القومية العربية بصيغتها الأيديولوجية، وزعيمها جمال عبد الناصر، الذي كان أكثر الحكّام العرب براعةً في تجييش الجماهير، وأمهرهم في ابتكار الشعارات الصاخبة. وأخيرًا، صار مَن ينتمي إلى الإسلام السياسي ينتمي إلى الدول الدينية، كلٌّ على وفق مرجعيته المذهبية، لا على وفق انتمائه الوطني.
اضطرابات الهوية السياسية عشتها بمرارة في مراهقتي، كما عاشها كثير من أبناء جيلي، بعدما كنا نتخيّل أن الانتماء إلى الأيديولوجيا العقائدية هو الهوية الأصلية، وبأن العقيدة لا أرضَ لها كما تعلمنا في أدبياتها. لم نكن ننتمي إلى الأوطان بما هي أرضٌ وثقافة وتاريخ ومصالح ومصائر مشتركة توحّدنا مع أبناء بلدنا الذين نتقاسم العيش معهم.كان انتماؤنا يتجه إلى أيديولوجيا سياسية عابرة للجغرافيا والتاريخ والذاكرة والثقافة واللغة والمصير والمصالح المشتركة مع أبناء الوطن، حتى صار مَن يعتقد بهذه الأيديولوجيا، وإن كان في أقصى الأرض، أقربَ إلينا من ابن البلد الذي نشترك معه في الأرض والتاريخ والثقافة والمصالح والمصير الواحد. لم أكتشف هويتي الوطنية العراقية، ولم يتكرّس انتمائي الحقيقي إلى وطني، إلا بعد تشردي في المنافي، وعيشي سنوات طويلة في أكثر من دولة،كنت أعاني فيها كلها من نظرة الآخر إليّ كأجنبي. استفاقت هويتي الوطنية، حين تذوقت متعةَ الخلاص من الغربة تحت سماء وطني، وألهمني الشعور بالانتماء إلى أرض ولدت عليها ونشأت فيها.