عبدالجبار الرفاعي
3.78K subscribers
616 photos
50 videos
270 files
1.08K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الأول: (٥) منشأ الحاجة للدين، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/5/
لغة الغيب لغة رمزية
د. عبد الجبار الرفاعي
كأننا في لغة الغيب أمام أستاذ فيزياء يشرح نظرية أينشتاين لتلميذ في الصف الأول الابتدائي، أو يحاول أن يفسر له أعقد المسائل الرياضية. في حالة كهذه، لا بد أن يتحدث الأستاذ بلغة تحاكي استعداد ذهن الطفل وإمكاناته في الفهم، فيلجأ إلى التعبير بكلمات مبسطة تعبّر عن رؤية الطفل المحدودة للعالم من حوله، كي تكون هذه الكلمات قادرة على إنتاج معنى يتناسب واستعداد ذهنه للتفكير والاستيعاب. هكذا تتنزل كلمة الله في أفق اللغة البشرية، لا لتنقل الحقيقة الغيبية كما هي في ذاتها، بل لتشير إلى شيء منها يمكن للإنسان أن يلتقطه. وما لغة الدين الحاكية عن الغيب إلا رموز وإشارات ومجازات وتشبيهلت، تنقل المعنى لا بصورته، بل بصيغة تمثيلية تفتح باب التذوق، وتحفز القلب على الحضور، وتستنهض البصيرة لتلمح ما وراء ظاهر العبارة. لأن هذه اللغة ليست مطابقة للغيب، فإن كل ما يُفهم من نصوصها يظل نسبيًا، مشروطًا بحدود اللغة، واستعداد المتلقي، وسعة مرايا قلبه. لا يُفهم النص الإلهي إلا بقدر ما تنفتح له الروح، وتتحرر القلوب من مضايق الرؤية الكلامية للغيب، وتتهيأ لالتقاط ما تشي به الكلمة من نور. إذا جمدت هذه اللغة في الحرف، وانغلقت على ظاهرها، وانطفأت رمزيتها، نضب فيها المعنى، وفقد النص قدرته على ملامسة المشاعر، وتحول البعد الغيبي في الدين إلى كلمات مفرغة من قدرتها على إرواء الروح، ومقولات مغلقة، وأوامر لا تترك مجالًا للمحبة، ولا توقظ ضميرًا، ولا تفتح أفقًا على الجمال. الدين لا يُعاش بعمق إلا حين تكون لغته نداءً للقلب، تمنحه المعنى الذي يبحث عنه في غربة الوجود، وتعيد إليه صلته بما وراء العالم المرئي، بما لا يُقال، لكنه يُذاق، ولا يُشرح، لكنه يُشهد في لحظة صفاء عميق.
يمكن التعرّف على شيء من ملامح الغيب وصفاته ومظاهره وتجلياته بما تتحدث به آيات القرآن والكتب المقدسة. الآيات القرآنية تتحدث عن الغيبيات بلغة رمزية، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغية تقريب ما لا صورة له بصورة المحسوس وخصائصه وصفاته. الصور المحسوسة يدركها الإنسان بالحواس، لكنه لا يعرف حقائق الغيبيات وذواتها لأنها لا صورة لها، وإن كان يمكن تشبيهها للذهن بالتمثيل بالأشياء المادية، وتقريب فهمها بالمحسوسات. وما هذا التمثيل إلا محاولة للشعور بالغيب بغية إيقاظ البصيرة، لا لعرض صورة لما لا صورة له. المجاز، والتمثيل، والتشبيه، والإشارة، ليست تفسيرات علمية، بل أدوات رمزية تستنفر الخيال، وتستحث القلب، وتدعو الإنسان إلى تأمل ما وراء الظاهر. الغيب لا يُحاط به، بل يُلمح، لا يُدرك بوصفه شيئًا ذا هيئة، بل يُذاق بوصفه حضورًا ينعكس على مرآة القلب، ويضيء البصيرة، ويبعث في الإنسان شعورًا تعجز الكلمات عن وصفه بدقة.
لغة الغيب حين تستعمل صورًا مادية للتعبير عنه، فإنها لا تهدف إلى تقديم صورة حقيقية لماهيته، بل تشير إليه في إطار ما يفهمه الإنسان، وتفتح له بابًا للتأويل والتذوق، وتمنحه لغة تؤنسه، وتقرب إليه المعنى، وإن لم تطابقه. الغيب لا يُقال كما هو، بل يُشار إليه، ويشهد الإنسان آثاره في حياته الروحية، ويشعر بحضوره في لحظات الصفاء والسكينة. كل قراءة حرفية لآيات الغيب تُغلق باب التأويل، وتُطفئ جذوة التذوق، وتختزل الغيب في صورة حسية، تفقده إيحائه ورؤيويته. الغيب، كما تقدمه الكتب المقدسة، أفق مفتوح، يعبر عن سعة وجودية، لا تستوعب شيئًا من تجلياته إلا حالات الروح. يظل الغيب دائمًا في حدود المعرفة الذوقية، حاضرًا في النداء، قريبًا بالروح، بعيدًا عن الإدراك العقلي.
كلمة الله حين تتجسد في لغة بشرية تلتبس بما هو بشري، فلا تنقل هذه اللغة كلمة الله كما هي، بل تشير إليها بما يتناسب مع وعاء اللغة وخصائصها المحدودة. إن كلمة الله لا يمكن أن تستوعبها اللغة البشرية ما لم تتنزل إلى عالم الإنسان المحسوس، فتتشكل معانيها بهيئة يمكن للغة البشرية أن تشير إليها بما يتلاءم وكيفيتها، حتى لو كانت تعجز عن البوح بحقيقتها. العجز ناتج عن ضيق ظرف الكلمات، وقصور الوعاء اللغوي البشري عن احتواء ما هو إلهي لا تحده حدود.
الرمز يتكفل بتزويد الإنسان بمعانٍ تضيق بها اللغة، فهو يغذي المتخيل ويتغذى منه. لغة الأديان، والآداب، والفنون، والأساطير، منجم الرموز، لذلك غدت لغتها من أثرى منابع توليد المعنى في حياة الإنسان. الحقائق الغيبية أسرار الوجود، والأسرار لا تنكشف كما هي، بل تعلن عن ذاتها بالرموز. الله لا يعلن عن نفسه إلا بالرموز، الله "غيب الغيوب". لأن الغيب لا يُدرك، فإن كل ما يُقال عن الله لا يمكن أن يكون إلا تمثلًا بشريًا، يحاول الاقتراب من صورته، من غير أن يدعي الإحاطة أو التطابق. لغة الغيب ليست مجرد أداة للتعبير عن الله من خلال إحالات رمزية، بل هي الوعاء الحي الذي يحتضن تنوع تصورات الإنسان عن الله، والأفق الرحب الذي تتشكل فيه التعددية الدينية بألوانها وأشكالها. إنها النسيج الذي ينسج منه البشر صورهم عن الذات الإلهية، متأثرين بتنوع الأديان، والثقافات، واختلاف العصور، وتباين السياقات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والنفسية، والروحية، فضلًا عن تطور المعارف والعلوم، وتنامي الوعي الإنساني. هذه التصورات عن الله، وإن كانت من صياغة العقل البشري، فإنها لا تطابق الذات الإلهية، بل تظل رموزًا، وصورًا، ومجازات، وتشبيهات، تشير إلى المطلق من دون أن تحيط به.كل تصور عن الله هو محاولة بشرية لتمثل الغيب، لكنه يبقى قاصرًا عن استيعاب ذات الله، فالله كما تشير الآية: "ليس كمثله شيء". تتنوع أسماء الله في مختلف اللغات والتعبيرات والكلمات، لكنها جميعًا تشير إلى الواحد الأحد.
هذه التعددية تعكس غنى اللغة البشرية في محاولتها للاقتراب من الغيب. لكن لغة الغيب ليست مجرد تعبير عن التنوع، بل هي أيضًا جسر يربط بين البشر في سعيهم المشترك نحو المعنى الأسمى. إنها تدعو إلى التأمل في حدود اللغة ذاتها، فكل كلمة أو رمز عن الله هو إشارة غير حصرية إليه. الدين، بوصف كتابه يتضمن لغة غيب، يتسع لتنوع وتعدد التصورات الإلهية في سياق هذه اللغة. لغة الغيب، في منظور فلسفة الدين، لا تعبّر عن الحقيقة المطلقة من خلال تعابير حرفية مغلقة، بل تلمح إليها بإشارات رمزية، وتفتح أفق التأويل لتعدد المعاني والصور والتجليات. تلك هي اللغة التي تستبطن الإيمان بوحدة المقصد الإلهي، رغم اختلاف الطرق وتنوع التعبيرات. وقد عبر جلال الدين الرومي عن هذا المعنى بلغة شعرية رمزية، حين قال: "المصابيح متنوعة، لكن النور واحد". المعتقدات ليست سوى مصابيح متعددة الأشكال، بينما نور الحقيقة الذي تستقي منه جميعها واحد. وقال ابن الفارض: "عباراتنا شتى وحسنك واحد، وكل إلى ذاك الجمال يشير"، مشيرًا إلى أن الجمال الإلهي يتجلى في صور متنوعة. لغة الغيب، بناء على رمزيتها، تصبح فضاء للتعددية، إذ لا تختزل الإله في صورة واحدة، ولا تزعم احتكار الحقيقة المطلقة، بل تدعونا إلى رؤيته في تجليات متعددة، بحسب استعداد المتلقي وقابليته الروحية والمعرفية، والسياقات الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية والزمانية.
في ضوء ذلك ينبثق الأصل المعرفي للتعددية الدينية؛ فطالما أن الله لا يُحاط به، ولا يُستنفد في صورة أو عقيدة أو تصور أو مذهب، فإن كل دين أو مذهب أو تجربة روحية إنما تشير إليه، وإن لم يكن بوسعها، في ضوء هذا الفهم، أن تحتكره. التعددية ليست نفيًا للحقيقة، بل إقرار بأن الحقيقة أوسع من أن تُحتكر، وأغنى من أن تُختزل، وأعمق من أن تُستنفد في قراءة واحدة أو صيغة واحدة، أو أن يؤدي إليها طريق واحد دون سواه من الطرق. في هذا السياق، تتولد التعددية الدينية لا من نزاع عقلي بين الأديان، بل من طبيعة اللغة الدينية الحاكية عن الغيب، ومن كون الحقيقة تنكشف فيها عبر المجاز والرمز والإشارة والتشبيه والتمثيل.
الحقيقة الإلهية، كما نبّه فلاسفة الدين والمتصوفة، لا تتسع لها عبارة، بل تتجلى في تنوع الصور، وانعكاسات المعنى في مرايا القلوب. من هنا، تكون التعددية في الرؤية إلى الله، وفي التعبير عنه، ثمرة أصيلة للغة الغيب، لا انحرافًا عنها. لا تُفهم لغة الغيب بوصفها خطابًا يقدم معاني حرفية مغلقة، بل هي نسيج رمزي، يعتمد الإشارة لا التقرير، والتلميح لا التصريح. وحين يدرك الإنسان أن الحديث عن الغيب ليس وصفًا مباشرًا، بل ترجمة رمزية لتجارب روحية وحالات شعورية وتأويلات بشرية، يتبين له أن هذه اللغة لا تنتج تصورًا واحدًا لله، بل تنفتح على تعددية الصور والتجليات والتجارب. إن تنوع التصورات الإلهية في التراث الديني ليس خروجًا عن الحقيقة، بل هو شاهد على ثراء لغة الغيب، وقدرتها على احتضان الاختلاف التأويلي المشروع، وفقًا لما يتيحه النص من إمكانات رمزية، وما تستجيب له الروح من معانٍ.
الدين حين ينفتح على الرمز، ويتحرر من وهم التعيين الصارم لمعاني الغيب، ويعي أن خطابه لا يتجاوز الإشارة ولا يملك تمثيل المطلق، يخرج من ضيق العبارة إلى سعة التجربة الروحية، ومن ادعاء الامتلاك الحصري للحقيقة إلى تواضع البحث عنها. يتخذ الإيمان آنذاك مضمونه الحقيقي، ليكون نداءً للروح، يروي القلب بالطمأنينة، والروح بالسكينة، لا مقولة مغلقة يُلقَّنها الإنسان، ولا عقيدة تُفرض بالقوة، ولا سلاحًا يُشهر في وجه المختلف. في هذا الأفق، لا تعود لغة الغيب أداة تطابق لفظي بين الدال والمدلول، بل تصير جسرًا رمزيًا إلى الغيب، يحيل إلى ما لا صورة له، ويوقظ ما خفي في أعماق الإنسان من أشواق الروح.
يتكلم الغيب بلسان المجاز، لا بعبارة صريحة، ويفصح بالرؤيا لا بالنظر، وبالبصيرة لا بالبصر. القرآن، في حديثه عن الغيب، يتحدث بلغة التقريب الرمزي، لأن الغيب ليس معطى مدركًا بالحواس، بل حضورًا يتذوقه القلب، وتشهده الروح ببصيرتها. ومثلما لا يستطيع الإنسان أن يرى ذاته إلا إذا انعكست في مرآة، لا يمكنه أن يبصر الغيب إلا إذا شعّ من الرمز إلى وجدانه. حينئذ، يتحول الدين من وسيلة قهر إلى نداء محبة، ويصير رسالة رحمة لا منصة قضاء، ويكون دعوة إلى التزكية لا إلى الهيمنة، وحقلًا للتعدد في الفهم، لا ساحة لإقصاء كل من لا يطابق الإنسان في صورة معتقده والألفاظ المعبرة عنه. وحين يصغي الإنسان إلى دلالة الغيب بوصفها رمزًا، يصير أكثر رحمة، وأقل شعورًا بالاستعلاء على المختلف في المعتقد، وأكثر إنسانية، وأبعد عن التوحش باسم الله.
نبّه بول تيليش، وغيره من فلاسفة الدين، إلى رمزية لغة الدين، وأن الرمز الديني لا يشرح الحقيقة، بل يشير إليها، ولا يملكها، بل يحيل عليها. وذهب بول ريكور إلى أن الرمز الديني لا يقدم وصفًا مباشرًا للحقيقة الإلهية، بل يفتح أفقًا للتأويل، ويحيل إلى الحقيقة عبر تأويل مستمر، لا عبر امتلاكها، ويشير إلى المعنى العميق دون أن يستنفده. ويرى جون هيك أن الرموز الدينية تعبيرات بشرية تشير إلى الحقيقة المطلقة، لكنها لا تتسع لها. وسار على هذا المنهج الرمزي عدد من فلاسفة الدين في الغرب. فتغنشتاين، خاصة في أعماله المتأخرة، يؤكد أن المعنى لا يوجد خارج اللغة، بل يتولد من "ألعاب اللغة" وسياقات استعمالها. ويرى أن اللغة الدينية لا تُستخدم لتقرير حقائق علمية، بل لتوجيه الحياة وتكوين رؤية للعالم، أي أنها رمزية تتجاوز الدلالة المباشرة. أما كارل ياسبرز، فيرى أن الحقيقة الإلهية لا تُدرك إلا بالتلميح والرمز، ويؤكد أن لغة الدين تتحقق من خلال الرموز التي تشير إلى ما لا يمكن الإمساك به مباشرة. ويُنبّه إلى أن هذه اللغة لا تُحيط بالحقيقة، بل تضيء أفقها، وتكشف حدود العقل الإنساني أمامها.
في التصوف المسيحي، كتب مايستر إيكهارت أن كل حديث عن الله هو حديث بالرمز، وكل صورة له ينبغي تجاوزها، لأن الحقيقة الإلهية لا تُقال، بل تُذاق، وهي ليست معلومة تُكتسب، بل حضور يتجلى في الصمت والذوق. وفي الإسلام تحدث المتصوفة وبعض الفلاسفة عن رمزية لغة الغيب، فشيخ الاشراق السهروردي تحدث عن الرمز النوري في التعبير عن الحقائق الغيبية، الأنوار في فلسفته ليست مجرد استعارات بل وسائط رمزية لتقريب الحقيقة الغيبية من الذهن والحدس. الرمز النوري مفهوم مركزي في فلسفته الإشراقية، التي تجمع بين الفلسفة والعرفان والرمزية. يستخدم السهروردي النور كرمز أساسي للتعبير عن الحقائق الغيبية، مستنداً إلى أن النور هو جوهر الوجود والحقيقة الإلهية. النور هو أصل الوجود، وأكثر المفاهيم وضوحاً وتجلياً. النور لا يحتاج إلى تعريف لأنه ظاهر بذاته، وكل شيء يُعرف من خلاله. الحقيقة الإلهية، التي يسميها "نور الأنوار"، هي المصدر الأعلى لكل وجود ومعرفة. السهروردي يقسم الأنوار إلى مراتب: النور الأعلى (الإلهي)، ثم الأنوار العقلية (الملائكية)، والأنوار النفسية، وصولاً إلى الأنوار المادية (كالشمس والنجوم). أما النفّري فيرى أن العبارة عاجزة عن استيعاب سعة الرؤية، وهذا ما يتكشف لنا من حياته الروحية ومواقفه في شهود الأنوار الإلهية، وتعبيراته عنها بلغة شذرية، في كتابه: "المواقف والمخاطبات". شذراته تلمح أكثر مما تصرح، وأن ما لا يُقال فيها أكثر مما يُقال، وبكون الصمت أصدق في التعبير عن الغيب من البيان. ويذهب جلال الدين الرومي إلى أن الكلمات لا تُدرك إلا بمقدار ما تهب الإنسان من ذوق داخلي، إذ يقول: "كل صورة رمز إلى معنى، وكل لفظ ظل لنور لا يُرى"، الرمز لا يشرح أو يطابق، بل يحيل إلى شيء أعمق لا يُدرك بالحس أو العقل وحده،كما النور لا يُدرك مباشرة بل يُستدل عليه بآثاره وظلاله، وفي ضوء ذلك يكون الرمز هو السبيل الوحيد للعبور في لغة الغيب من ظاهر العبارات إلى أفقها الغيبي.
في مؤلفات محيي الدين بن عربي نعثر على منجم واسع يتحدث عن رمزية لغة الغيب بتعبيرات ثمينة، فهو يرى أن اللغة التي تتحدث عن الله إنما هي رموز وإشارات إلى الحقيقة الإلهية، لا يمكن أن تتسع للتعبير عن الذات الإلهية إلا بحدودها كلغة بشرية، لأن الذات تتجاوز كل تصور بشري. ويذهب ابن عربي إلى أن الأسماء الإلهية مراتب للتجلي، فيقول: "فإن الأسماء كلها ليست إلا مراتب التجلي، والحق متعالٍ عنها في ذاته، فما يُعرف منه إلا ما تجلى به، وما تجلى به ليس هو في ذاته، بل هو صورته في مرايا القلوب". ويؤكد على أن: "كل ما يُقال في الحقّ من وصف أو اسم، فإنما هو إشارة إلى ما يتجلى منه، لا إلى ذاته، فإن الذات لا تُحاط، والعبارات عنها ظلال تُشير إلى النور". ويرى أن "الإنسان خُلق على صورة الحقّ، فهو مرآة لتجلياته، والأسماء التي يُعرف بها الحقّ ليست هي الحقّ في ذاته، بل هي مظاهر تجليه في العالم". وهنا يشرح ضيق اللغة والصورة عن أن تتسع للحق، لذلك ليست الصورة أو الكلمة إلا إشارة إليه: "والحق متجلٍّ في كل صورة، وكل صورة رمز له، لكن لا صورة تملكه، فإن اللغة حدود العقول، والحق بلا حدود". https://alsabaah.iq/116950-.html
ثناء على الثناء

عبدالهادي مهودر
صعبة كانت أسئلة الإمتحانات الوزارية هذا العام ، أسئلة اللغة العربية للسادس الإبتدائي صعبة جداً أليس كذلك ؟ لا أبداً كانت سهلة،لكنّ أسئلة الفيزياء واللغة الإنگليزية كانت صعبة ، أليس كذلك؟ لا أبداً بالعكس وسأحصل على درجة كاملة فيهما ، كانت هذه أمثلة على متابعتي لإبني وإبنتي في السادس الابتدائي والثالث المتوسط اللذين أدّيا إمتحانات البكلوريا هذا العام بتفوّق ، وقد راودني بعض الخجل من تقييمي لمستوى الأسئلة وتذكّرت جيلنا الذي كان يفرح بشهادة النجاح ولو كان بقرار وبين الجيل الجديد الذي تجاوز حلم النجاح إلى التفكير بالحصول على أعلى المعدلات والتنافس بين الأوائل وهو جيل يستحق الثناء ، كما يقول المفكّر الدكتور عبدالجبار الرفاعي في كتابه المهم ثناء على الجيل الجديد ، تداركت نفسي فنحن ضحايا طرائق التدريس التي لاتعلم حمَلة الشهادات العليا اللغة الإنگليزية على الرغم من نجاحهم في إمتحان الكفاءة بإعجوبة ، بيد أن هذا الجيل تعلّمها بسهولة في بدايات حياته الدراسية إلى جانب الفرنسية في بعض المدارس ، وبعض شباب اليوم تعلّموها عبر الدردشة في جهاز الموبايل ، مختلفون حتى أنهم بدؤوا بالمقلوب وتجاوزوا التدرج المنطقي في الكتابة واقتحموا كتابة الرواية،التي تهاب الأجيال السابقة الإقتراب من أسوارها، بعضهم يتواصل مع أصدقاء إفتراضيين ومجاميع في مختلف أنحاء العالم قرّبتهم اللغات الأجنبية والألعاب الألكترونية والإهتمامات المشتركة وأشياء لانفهمها في الرقميات والإتصالات التي حوّلت العالم إلى شاشة بحجم الكف، وأصبحنا نحن على مخارج العصر ، الفجوة بين جيلنا وجيل آباءنا ضيقة لكنها واسعة بين جيلنا وجيل أبناءنا بسعة العصر الرقمي والذكاء الإصطناعي وإيقاع التغيير المتسارع..مختلفون عنّا في الرؤية إلى العالم وتفسير القيم وفي كيفية تلقي المعارف والعلوم و في كل شيء تقريباً،كما يقول الرفاعي ، فما الذي يفرضه الواقع الجديد على الآباء ؟ يجيب الدكتور الرفاعي بحزم : عليهم الكف عن إنتاج نسخ متشابهة وألّا يورطوهم في الحياة أكثر مما ورطوهم ، التساؤلات مهمة وكثيرة،وقطعاً لاتكفي هذه العجالة لعرضها ولا تكفي للثناء على ثناء الرفاعي الذي بات يفضّل الشباب كأصدقاء على المحاربين القدامى ويرى أجمل صورة للغد في أحلام الشباب من أصدقائه وأن أجمل أصدقائه من تتفاعل كيمياء روحيهما معاً ، جعلنا الله من إحدى الروحين،مع أن كتاب الثناء يلطّف المؤاخذات على الجيل الجديد إنحيازاً من الكاتب فيبريء ساحتهم ويلقي بالمسؤولية على التشدد وفقه التكفير الذي دفعهم عن الدين والتديّن،لأن مايجذبهم الصورة المضيئة لله غير تلك الصورة التي صنعتها الفرق المتفرقة،والمؤكد أن هذا الجيل أكثر حظاً من سابقه الذي جانبه الحظ ولازمه البؤس ، فهو جيل يستطيع أن يشتري ويأكل ويلبس ويسافر ويوجه أسئلة صعبة ويرفض ويتمرد ولايقتنع ولايُملى عليه ويناقش ولاينفّذ.
https://alsabaah.iq/117019-.html
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الثاني: (١) الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقَى الأضدادِ، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/7/
تمت مناقشة رسالة ماجستير بعنوان: "آفاق فلسفة الدين عربيا: عبد الجبار الرفاعي انموذجا"، في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، بجامعة ابن خلدون، في مدينة تيارت، غربي الجزائر، يوم 16-6-2025، المقدمة من الطالبة: بلبية فريحة.
هذه الرسالة تسلسل 25 من اطروحات الدكتوراه والماجستير المناقشة حول مشرع #عبدالجبار_الرفاعي لتجديد الفكر الديني، وهناك 10 قيد الكتابة في عدة جامعات عربية واجنبية.
اللغة بوصفها أفقًا لرؤية العالم
د. عبد الجبار الرفاعي
اللغة ليست قوالب فارغة، ولا وعاءً محايدًا يُملأ بأي معنى، إنها طاقة خلاقة، ترسم خارطة الذهن، وتوجه مسارات التفكير، وتعيد تشكيل الوعي. ليست اللغة أداةً محايدة لنقل الأفكار، بل هي بوصلة الفهم، ومِرآة الإدراك، ومَعبر لرؤية الذات والعالم. تسهم اللغة في صوغ هويتنا، وتشكيل علاقتنا بالعالم، وتحديد موقعنا فيه.كلّ تحول في اللغة يواكبه تحوّل في التفكير، اللغة لا تنقل المعنى فحسب، بل تساهم في خلقه. إنها ليست ظلًا للواقع، وإنما شريك في تشييده، وتلوين ملامحه، وإنتاج صورته في أذهاننا. الرؤية التي تشكّلها اللغة ليست مغلقة أو نهائية، بل تتسع وتضيق تبعًا لتحولات الوعي، وتجدد المفاهيم، وتنوع الألسنة، وثراء الحياة الروحية والأخلاقية والمعرفية والعاطفية والجمالية. حدود اللغة حدود الفكر، الفكر لا يتخطّى ما لا تعبّر عنه اللغة. الواقع لا ينعكس تلقائيًا في اللغة، كما أن اللغة لا تنشأ من فراغ. العلاقة بينهما جدلية تفاعلية، كلٌّ منهما يُعيد إنتاج وتشكيل الآخر. تتغذى اللغة من التجربة، وتغذي الوعي، وتعيد رسم صورة العالم في ذهن الإنسان. ليست اللغة أداةً ثانوية نلجأ إليها بعد تبلور الفكرة، بل هي المعمل الذي يعمل على المساهمة بتشكيل المفاهيم والرؤى والأفكار، إنها مهد المعنى، ومسرح تشكّل الرؤية. ليست اللغة انعكاسًا خالصًا للعالم، بل هي شريك في صناعة رؤيتنا له.
تصوّراتنا عن الزمان والماضي والحاضر والمستقبل، والمكان، ومختلف المعطيات في الواقع المعيش وما نتطلع أن يكون عليه غدًا، ليست مرآة تعكس صورة محايدة عنها، بل هي مشروطة بلغة الدين والاسطورة والعلم والمعرفة والثقافة التي ننتمي إليها. مثلًا مفهوم الزمن الدائري يعكس رؤية للكون متكررة، تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ. الزمن في بعض الثقافات القديمة لم يكن يُرى بوصفه خطًّا يمتد من ماضٍ إلى حاضر ثم مستقبل، بل كان يُتصوَّر دائرةً مغلقة، تعود فيها الأحداث وتتكرر في نسقٍ أبدي. في هذا الفهم، لا تتجه الحياة نحو غاية نهائية، بل تسلك مسارًا دائريًا، تبدأ من حيث انتهت، وتنتهي من حيث بدأت. ينبع هذا التصور من معاينة الطبيعة، فالفصول تتعاقب، والنهار يعقبه الليل، والموت يتبعه ميلاد، والكون كله يُرى بوصفه مسرحًا لدورات أبدية من التجدد والانبعاث. هذا التكرار المنتظم أوحى للإنسان القديم أن الزمن لا يتحرك إلى الأمام، بل يدور حول نفسه. لذلك تشكّل وعيه الزمني في إطار هذه الدورات، لا في أفق التقدم أو التطور. وكان للغة أثر عميق في انتاج هذا التصور الذي يرسم تفسير الحياة والمصير، حيث تُفهم الكوارث والخلاص، والموت والمصير، لا كمراحل منفصلة، بل كمحطات في دورة كونية كبرى، يتجلى فيها معنى الوجود بوصفه عودةً أبدية، لا سيرًا إلى مستقبل مغاير.
بينما يؤسس تصور الزمن الخطي في العصر الحديث لفهمٍ تطوّري للأحداث، ونظرة متسلسلة للتاريخ. إذ تشكَّل تصور الزمن الخطي في العصر الحديث بوصفه وعيًا جديدًا بالزمن، يرى الأحداث تتتابع في خط متصاعد لا يعود إلى نقطة البدء، بل يمضي إلى الأمام على نحو متواصل، ما أفضى إلى نشوء فهم تطوّري للتاريخ، يقوم على التراكم، والتقدم، والتحول المستمر. هذا التصور انبثق من تحوّل جذري في رؤية الإنسان للعالم، حين لم يعد الواقع يُقرأ من خلال الأسطورة أو الميتافيزيقا، بل من خلال العقل والعلم والتجربة. ولّد هذا التحوّل إحساسًا بأن الحياة قابلة للتغيير، وأن المستقبل ليس تكرارًا للماضي، بل أفقًا مفتوحًا للإنجاز. في هذا الفهم، لم يعد الزمن دورانًا يعيد إنتاج ذاته، بل صار مسارًا يُبنى بالتجربة، ويتشكّل بالوعي، ويتجه نحو غاية قابلة للتحقيق. وهكذا نشأ وعي حديث بالتاريخ بوصفه سيرةً للتقدم البشري، لا سلسلة من التكرارات، وصار الزمن الخطي خلفيةً لفكرة الإنسان الفاعل، القادر على تجاوز ما كان، وصناعة ما سيكون. هذا الاختلاف في تصور الزمان والماضي والحاضر والمستقبل، والمكان، ومختلف المعطيات في الواقع المعيش، وما نتطلع أن يكون عليه غدًا، ليس مجرّد اختلاف لغوي، بل هو اختلاف في الوعي بالذات، وتفسير الحياة، وتأويل المصير الإنساني.
مثلما تسهم اللغة في صياغة تصوراتنا عن الزمان والمكان، وما كان وما سيكون، فإنها تتجلى في الذكاء الاصطناعي بكيفية أخرى مغايرة لما مضى. هذا الذكاء لا يعيد تشكيل أدوات التعبير فحسب، بل يُعيد تكوين بنية الوعي، ويستولد أنماطًا جديدة من التفكير، ويغيّر شروط إنتاج اللغة والمعنى. لم تعد اللغة محصورة في التفاعل الإنساني المباشر، بل باتت تُنتَج في بيئة رقمية هجينة، تتداخل فيها النصوص والصور والرموز والإشارات، وتتدخل فيها الخوارزميات بوصفها وسيطًا جديدًا لصياغة المعنى. يفرض العصر الرقمي على اللغة إيقاعًا مختلفًا، يتناغم مع منطق السرعة، واختزال الزمن، وتكثيف التعبير، ويؤسس لوعي لغوي يتلاءم مع لحظة لم تعد تتسع فيها اللغة الغارقة بالفائض اللفظي، ولا تحتمل غزارة المرادفات والمحسنات البديعية. في هذا السياق، تُعاد صياغة لغة الإنسان على نحو مستمر، بنحو تتناغم مع منطق السرعة، وتكثيف المعنى، واختزال الزمن، وتواكب التحول العميق في أنماط الإدراك والتفكير والتواصل، وتحاكي متطلبات العيش في عالم لا يكفّ عن التبدل. وما دامت اللغة كائنًا حيًا يتفاعل مع الواقع، فإنها تغدو مرآةً لتجارب الإنسان في كل تحولاته، وعدسةً تتكشف من خلالها رؤيته المتجددة للعالم، بوصفها امتدادًا لوعيه، وتجسيدًا لصورته عن ذاته في أفق تكنولوجي جديد. في هذا السياق، تُعاد صياغة لغة الإنسان باستمرار، لتواكب الإيقاع المتغيّر للعالم، وتحاكي تحوّلاته العميقة. وفي ضوء هذا التفاعل المستمر بين اللغة والواقع، تغدو اللغة مرآةً تنعكس فيها التجارب الوجودية والروحية والأخلاقية والعاطفية والجمالية للإنسان، وعدسةً تتكشف من خلالها رؤيته للعالم، بما هي رؤية نابعة من صميم وعيه، ومجسدة لصورة ذاته في مرآة اللغة.
لم يَعُد اختزالُ اللغة بوصفها أداةً تواصليةً محضة مقبولًا في نظر جماعة من الفلاسفة، منذ أن أدركوا أن اللغة ليست مجرد قناة تمرّر المعاني، بل هي حقلٌ خلاق ينتج المعنى، ويعيد تشكيل الوعي، ويؤسس لرؤية الإنسان للعالم.كان الفيلسوف والشاعر واللاهوتي الألماني يوهان غوتفريد #هردر (Johann Gottfried Herder)، "1744–803"، أول من نبّه إلى أن اللغة ليست أداةً محايدةً لنقل المعنى، بل هي أفقُ الرؤية.كلُّ أمة، كما يرى، تُبصر العالم بلغتها، وتنشأ رؤيتُها للعالم من داخل نسيج لغوي يعكس روحها، ويعبّر عن ذاكرتها وهويتها. في رسالته عن أصل اللغة سنة 1772، بيّن أن اللغة لا تعكس الواقع، بل تبتكر صورته، وتصوغ رؤية الإنسان للعالم، وتحدّد ما يمكن أن يُقال.
ثم جاء الفيلسوف، واللساني، والدبلوماسي الألماني، فيلهلم فون #همبولت (Wilhelm von Humboldt)، "1767 – 1835"، فاستلهم من هردر هذا الوعي، ووسعه في إطار فلسفة لغوية شاملة، ذهب فيها إلى أن كل لغة تحمل رؤيةً خاصةً للعالم، مؤكدًا أن اللغة ليست مرآةً، بل عنصر مبدع للفكر، وقوة تكوّن الإنسان من داخله. اللغة في نظر همبولت ليست وسيلة لنقل الفكر فحسب، بل هي قوة خالقة للفكر ذاته، وأن الإنسان لا يُدرك العالم إلا من خلال اللغة التي يتكلمها، لأنها تصوغ رؤيته وتُنتج تجربته للوجود. همبولت من أوائل من وعى أن اللغة لا تعكس الفكر فقط، بل تصوغه وتنتجه، وأن الإنسان لا يُبصر العالم إلا من خلال اللغة التي يتكلمها، إذ ترسم كل لغة أفقًا خاصًا للوجود، وتخط خارطة الرؤية، وتكوّن الصورة الذهنية للعالم. لا تمثل اللغة عند همبولت أداةً محايدة تنقل ما سبق تكوينه في الذهن، بل هي الفضاء الذي تُصاغ فيه الأفكار ذاتها، والمجال الذي تتشكل فيه خبرة الإنسان بالواقع. ليست اللغة وعاءً جامدًا للفكر، بل هي كيانٌ حيّ، يتغذى من التجربة، ويعيد إنتاجها بصيغة رمزية تفتح الوعي على معنى العالم ومكان الإنسان فيه. ومن هنا، فإن اختلاف اللغات لا يعود إلى تنوع الكلمات أو القواعد فقط، بل إلى اختلاف الرؤى التي تُنتجها كل لغة للعالم.كل لغة تتضمن رؤية ضمنية للعالم، وتُنتج تصورًا خاصًا بها للوجود والإنسان والله. وهذا ما يجعل للغة وظيفة تكوينية لا مجرد تواصلية. يتكلم الإنسان بلغته، لكن لغته في الوقت نفسه تتكلم فيه، تشكله، وتبني صورته عن نفسه وعن محيطه.
هذه الرؤية تتردد أصداؤها في مقولات لاحقة لفلاسفة، مثل الفيلسوف النمساوي لودفيغ #فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein)، "1889 – 1951"، الذي شكّلت أعماله منعطفًا حاسمًا في فلسفة المعنى، إذ بدأت رؤيته من تصور منطقي صارم للغة في عمله المبكر "رسالة منطقية فلسفية"، حيث رأى أن اللغة تكتسب معناها من قابليتها لتصوير الواقع، وأن الجملة ذات المعنى هي التي تماثل حالة واقعية ممكنة. لكن هذه الرؤية تغيّرت بعمق في كتاباته المتأخرة، وخصوصًا في "تحقيقات فلسفية"، حيث تخلى عن فكرة المعنى بوصفه تطابقًا بين اللغة والعالم، وذهب إلى أن المعنى لا يسكن الكلمات بذاتها، بل ينبثق من طريقة استعمالها في الحياة اليومية. في هذا الإطار، صاغ عبارته الشهيرة: "حدود لغتي هي حدود عالمي"، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يُدرك العالم إلا من خلال اللغة التي يفكر ويتكلم بها، وأن ما لا يمكن التعبير عنه بوضوح لا يمكن التفكير فيه أو تشكيل وعي حيّ به. المعنى لا يُفهم خارج سياق الاستعمال، ولا يستقر في الكلمات بوصفها رموزًا ثابتة، بل يُنتَج داخل ما سمّاه "ألعاب اللغة" (Sprachspiele)، أي الأنشطة المختلفة التي تُمارَس فيها اللغة، مثل الوعد، والسؤال، والاعتذار، والتعليم، والدعاء، وغيرها. كل "لعبة لغوية" تمثّل نظامًا خاصًا من المعاني، محكومًا بقواعد ضمنية يتشاركها المتكلمون. وهكذا، يتحوّل المعنى من كونه علاقة ثابتة بين الكلمة والشيء، إلى كونه فعلًا بشريًا حيًا، لا يُفهم إلا في ضوء الممارسة والسياق والتفاعل. وبذلك تتحول اللغة من أداة لنقل الفكر إلى أفق لتكوّن الفكر ذاته، ومجال تتشكل فيه رؤية الإنسان للعالم.
أما مارتن #هايدغر (Martin Heidegger)، "1889 – 1976"، فقد أعاد التفكير في معنى الكينونة من منظور أنطولوجي جذري، إذ جعل فيه اللغة ليست أداةً للتعبير أو وسيلةً للتواصل فحسب، بل شرطًا أساسيًا لانكشاف الوجود وظهور المعنى. يرى هايدغر أن الفهم الإنساني لا يُختزل في نشاط ذهني مجرد أو عملية تمثيل معرفي داخلي، بل هو نمط من الوجود في العالم، حيث لا يكون الإنسان كائنًا مفصولًا عن العالم، بل مندمجًا فيه منذ البداية، في علاقة حية ومباشرة مع ما حوله. نحن لا نفهم العالم من خارجه، بل من داخل اندماجنا العملي به، بوصفنا كائنات منخرطة في شؤون الحياة، نتعامل مع الأدوات، وننشغل بالآخرين، ونتحرك ضمن أفق من التوقعات والغايات والماضي الشخصي. هذا الانخراط العملي هو ما يتيح للفهم أن يحدث بوصفه انكشافًا للوجود؛ فالكائنات لا تُفهم بوصفها موضوعات منفصلة، بل تتجلى لنا في ضوء علاقاتنا بها، وفي سياق استخدامنا لها، ومعانيها بالنسبة لنا. الفهم، بهذا المعنى، ليس تصورًا نظريًا لما هو موجود، بل هو طريقة في ظهور الموجود من داخل علاقة وجودية بين الإنسان والعالم. ما يجعل الفهم ممكنًا ليس قدرة الإنسان على التفكير الذهني فحسب، بل كونه كائنًا مهمومًا، منشغلًا بوجوده، قلقًا على مصيره، لا يعيش على هامش العالم بل في صلبه. الفهم عند هايدغر هو شكل من أشكال انكشاف الوجود، حيث ينكشف الوجود للكائن الإنساني بوصفه منفتحًا عليه ومشاركًا فيه، لا بوصفه مراقبًا خارجيًا. في هذا السياق، قال عبارته الشهيرة: "اللغة بيت الكينونة" (Die Sprache ist das Haus des Seins). لا تعني هذه العبارة أن اللغة تحيط بالكائنات أو تصفها وحسب، بل إن الإنسان لا يسكن العالم إلا باللغة، وأن الكلمة، في نظره، ليست مجرد إشارة لشيء خارجي، بل حدث وجودي يوقظ الكينونة، ويضيء المعنى، ويفتح أفقًا لفهم الذات والعالم. في تصور هايدغر، ما لا يُقال لا يُفهم، وما لا يظهر في اللغة يظل محجوبًا عن الحضور. ليست اللغة إضافة على الفكر، بل هي التي تمنحه إمكانية الظهور، وتُهيئ للكينونة أن تُقال. الإنسان لا يملك اللغة، بل تسكنه اللغة، ويقترب من الوجود بقدر ما تُنير له اللغة طريق الرؤية. وهكذا، تتحوّل اللغة إلى بيت يؤوي فيه الإنسان وجوده، ومجال تتجلى فيه الحقيقة، ومرآة ينعكس فيها المعنى. بهذه الرؤية، تتجاوز اللغة وظيفتها الأداتية إلى أن تغدو أفقًا للكينونة، ومجالًا لانكشاف الوجود، ومرآةً لتجليات المعنى، حيث لا يدرك الإنسان نفسه والعالم إلا بقدر ما تتجلى له اللغة بوصفها بيتًا للوجود.
وعمل أحد أبرز فلاسفة التأويل في القرن العشرين، وأقصد هانز غيورغ #غادامير (Hans-Georg Gadamer) "1900–2002"، في عمله الأهم "الحقيقة والمنهج"، على إعادة بناء مفهوم الفهم، منتقدًا التصورات التي اختزلت المعرفة في قواعد علمية صارمة. إذ يرى غادامير أن الفهم لا يتم خارج التاريخ، بل هو دائمًا مشروط بتاريخية الوعي، بما ينطوي عليه من تحيزات ومسبقات تشكل أفق المتلقي وتوجّه تأويله. الفهم، بحسب غادامير، لا يحدث من خلال استنطاق المعنى بمعزل عن الذات، بل يتولد من تفاعل "أفق القارئ" مع "أفق النص"، وهذا التفاعل يولد ما يسميه "تلاقي الآفاق"، حيث ينبثق المعنى من الحوار بين الماضي والحاضر، بين النص والتجربة، بين اللغة والحياة. اللغة عند غادامير ليست أداة محايدة تنقل المعنى، بل هي الحقل الذي يتكشف فيه المعنى ويتجلى من خلاله الوجود. الإنسان لا يقف خارج اللغة، بل يسكنها، وكل فهم للواقع مشروط باللغة التي نتكلم بها. التأويل إذن لا يتم من موقع حيادي، بل هو انخراط كلي في حوار حيّ مع النص، ومع التقليد الذي ننتمي إليه. من هنا لا تكون الحقيقة شيئًا يُمتلك، بل شيئًا يتجلى في الحوار، بوصفه فعلًا وجوديًا لا معرفيًا فقط. تلتقي رؤية غادامير مع تصورات فيلهلم فون همبولت، الذي رأى أن كل لغة ترسم تصورًا خاصًا للعالم، وأن الإنسان لا يبصر الوجود إلا من داخل لغته، كما تتلاقى مع تأويلية أستاذه هايدغر في اعتبار اللغة بيت الكينونة، ومع فلسفة فيتغنشتاين المتأخرة التي تؤكد أن المعنى لا يوجد خارج الاستعمال، بل يُولد في ألعاب اللغة وسياقاتها. بهذه الرؤية، تتحول اللغة من أداة وصف إلى أفق للفهم، ويتحوّل التأويل من تقنية إلى حدث وجودي، يتخلق فيه المعنى في كل لحظة لقاء حيّ بين النص والقارئ.
تتردد أصداء هذه الرؤية أيضًا في أعمال لاحقة لفلاسفة مثل، الفيلسوف الفرنسي بول #ريكور (Paul Ricoeur)، "1913 – 2005"، الذي يذهب إلى أن الرمز والاستعارة في اللغة ليسا زينة، بل أدوات توليد المعنى، مما يجعل اللغة مصدرًا للفكر لا مجرد ناقل له. ولدى عالم اللسانيات الأميركي، #بنيامين_لي_وورف (Benjamin Lee Whorf)، "1897 – 1941"، الذي يرى أن بنية اللغة تؤثر في بنية الفكر والإدراك، وهي صيغة حديثة لفكرة همبولت عن "رؤية العالم من خلال اللغة". وكذلك نقرأ هذه الرؤية في مؤلفات فلاسفة لغة آخرين.
تلتقي هذه الرؤية للغة مع ما تنهض به فلسفة الدين التأويلية، في سعيها الدؤوب إلى تحرير لغة الدين من أسر المعجم التراثي، وتخليصها من القوالب التي عطلت رؤيا لغة الغيب، وتعطلت معها منابع الذوق والحدس والمشاهدة. لا تنظر فلسفة الدين إلى لغة الغيب بوصفها مجرد ناقل للحقيقة، بل ترى فيها أفقًا ييتشكل فيه المعنى، ومسارًا تتجلى فيه تجارب القلب، وتشفّ من خلالها تجليات الحضور الإلهي. في ضوء هذه الرؤية، لا تُختزل اللغة الدينية في الوظيفة التقريرية أو الإخبارية، بل تُبعث فيها الحياة الروحية بوصفها حقلًا من الرمز، ومجالًا للتعبير عن مكاشفات الروح، وتجليات الغيب، وتذوق نكهة المحبة في مقام الحضرة الإلهية، وتجليات الجمال الإلهي في الوجود. لا تعود اللغة سلطة تُلقِّن، بل تتحول إلى رؤية تُلهِم، وتوقظ القلب، وتفتح بصيرة المتلقي على عوالم تتجاوز حدود العبارة، وتتسع لما لا يُقال، وما لا يُختصر في المنطق الجدلي. بذلك تخرج اللغة من ضيق المعنى الحرفي إلى سعة التأويل، ومن التصور المغلق إلى الانفتاح على التجربة الروحية الحية، فتصير اللغة أفقًا يتخلّق فيه المعنى، لا حجابًا يحجبه، وتغدو علاقة الإنسان بالله علاقة إشراق نورانية، لا إملاءً وتلقينًا، ومجالًا لتذوق المحبة والرحمة والسلام والجمال.

https://jabbaralrefae.com/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a8%d9%88%d8%b5%d9%81%d9%87%d8%a7-%d8%a3%d9%81%d9%82%d9%8b%d8%a7-%d9%84%d8%b1%d8%a4%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85/
الدين لا يُقاس بكثرة الممنوعات، بل بعمق المحبة والرحمة والسكينة

الدكتورة نور الزيدي

في حياتنا نمرّ بلحظات تغيّرنا من الأعماق، وتعيد تشكيل علاقتنا مع الله، لا بالخوف والرهبة، بل بالمحبة والانس والسكينة...
ومن أجمل نعم الله عليّ، أنني عثرت على فكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، فكان كالنور الذي بدّد ضباب الحيرة، كان سببًا في إشعال النور في داخلي...
إلى المفكر الكبير الدكتور عبد الجبار الرفاعي، مع المحبة والامتنان...
أكتب لك لا لأجماملك، بل لأعترف لك بجميلٍ لا يُنسى، وفضلٍ لا يُقّدر بثمن.
كنت أبحث عن الله.. لكنني كثيرًا ماوقعتُ في فخّ الخوف، والرهبة، والدين الملوث بالقلق والذنوب، حتى جاءتني
كتاباتك فتحت لي بابًا مختلفًا، بابًا فيه الله محبة، فيه الدين سكينة، فيه التقوى ليست خوفًا مَرَضيا، بل شوقًا وسلامًا داخليًا.
بكلماتك أدركت أن الإيمان ليس سلاسل تُقيد الروح، بل محبة تحرّر القلب.
تعلمت منك أن الدين لا يُقاس بكثرة الممنوعات، بل بعمق المحبة والرحمة والطمأنينة والسكينة،
وأن الطريق إلى الله ل ايُعبّد بالخوف، بل بالشوق والحبّ والسلام الداخلي.
تعلمت منك يادكتور أن أحبّ الله لا أن ارتعب منه، أن اشتاق له لا أهرب منه، أن اراه في الجمال، في الرحمة، في التسامح، لا في العنف والتكفير.
تعلمت منك أن الإيمان لايُبنى عبر جلد الذات، بل عبر معرفة الذات، وفهم معنى الوجود.
لكل من يبحث عن الله... لا تكتفِ بالسماع، اقرأ، وتفكر، وأقرأ لعبد الجبار الرفاعي، فستجد الله كما لم تعرفه من قبل... حبيبًا لا جلاّدًا.
شكرًا لأنك كنت مفتاحًا لنقلة روحية في داخلي،
وشكرًا لأنك جعلتني أؤمن أن الدين يمكن أن يكون نورًا لا سيفًا، ورفقًا لا قسوة.
نصيحة من قلب ذاق لذة الطمأنينة :
لكل من أرهقه الدين الموروث القاسي، اقرأ لعبد الجبار الرفاعي...
ستجدون الله كما لم تعرفوه من قبل، حبيبًا قريبًا، لا مخيفًا ولا بعيدًا

الدكتورة نور الزيدي
https://www.facebook.com/100013063454027/posts/pfbid02wSK5AJ5EdBPwEtnhFSvmmYeHosz12HoJ5V1xrWdsrkYDUUeZr5FWjwMjMxpEcD9Fl/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الثاني: (٢) الحاجة للكراهية، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/8/
لغة الغيب في سياق مقولات الخلاص الكلامية
د. عبد الجبار الرفاعي
تسيّدت الحياةَ الدينية في الإسلام، منذ العصور التي تلت عصر البعثة، لغةٌ مشبعة برؤية المتكلمين، وأحكامٌ تستمد مشروعيتها من الفقه المؤسَّس على تلك الرؤية. لذلك يحضر في الذهن، عند التفكير في أي واقعة أو موقف أو فعل، معجمٌ محكوم بمقولات كلامية، ومشحون بدلالات فقهية. حين يواجه المسلم حادثةً ما، أو يريد أن يتخذ موقفًا معينًا، يتبادر إلى ذهنه السؤال: هل هذا حلال أو حرام؟ من دون أن يفكر غالبًا في دلالات الموقف الأخلاقية، أو معطياته الروحية، أو آثاره الجمالية. هكذا يغيب البُعد الأخلاقي في التفكير الديني، ويُقصى البُعد الروحي، ولا يتذوق الإنسان تجليات الله في الوجود. وتختزل العلاقة بالدين إلى منظومة أوامر ونواهٍ، يُختبر فيها الفعل بمعيار الحِلّ والحرمة، لا بأثره في الضمير، أو أثره في بناء الحياة الروحية، أو مساهمته في الحياة الأخلاقية.
تتكرر مفردات هذا المعجم في اللغة الدينية المتداولة في التعليم الديني، وخطب الجمعة، والدروس الدينية، ومنابر المساجد، ووسائل الإعلام والتواصل التي تتحدث في قضايا دينية، حتى غدت لغة الغيب أسيرة لذلك المعجم، مغلقة في حدوده، لا دلالة لها خارج مداراته. ما إن يُذكر الغيب أو أي شأن ديني، حتى يتداعى إلى ذهن المتلقي قاموس مألوف، تشبّع فيه لاوعيه الفردي والجمعي. قلّما يتخطى المتكلم أو الكاتب في الدين هذا المعجم، كذلك تلبث المعاني التي تتبادر إلى وعي المتلقي رهينة للدلالات المشبع فيها ذهنه.
في الحياة اليومية، حين يتحدث المسلم عن مسألة دينية، فإنه يعيد إنتاج المفاهيم ذاتها التي صاغها المعجم الكلامي، ويتحدث بلغته، سواء في أقواله أو في كتاباته، إن لم يمده وعيه الظاهر، تستفيق في وعيه الباطن مفردات ذلك المعجم. وحتى عندما يكتب كاتب يتوخى التعبير عن تجربة إيمانية، أو تأمل روحي، أو قلق وجودي، فإنه غالبًا ما يعيد تدوير مفردات ذلك المعجم، ويستنطق مفاهيمه، ويتكلم بلسانه، من غير أن يتحرر من رؤيته، ولو كانت تجربته الإيمانية تستدعي لغة مغايرة، أكثر إنصاتًا لنداء القلب، وأشد قربًا من
أشواق الروح إلى الأنوار الإلهية، وأرحب انفتاحًا على مكاشفات المعنى.
عند تأمل اللغة المتداولة في الكتابات العربية حول الدين، نلحظ أنها مشبعة بمقولات المتكلمين، ومقيدة بتراث جدلي مشروط بسياقاته التاريخية، ما يجعلها محدودة الدلالة، وأقل قابلية للتعبير عن أعماق التجربة الإيمانية. هذا النمط من الاستعمال يفقر لغة الغيب من طاقتها الرمزية، ويضيّق أفقها في الكشف عما تنطوي عليه آيات الغيب من إشارات وإيحاءات تتجاوز ظاهر المعنى. اللغة التي تشكلت في أفق الرؤية الكلامية غالبًا ما تعيد إنتاج المفاهيم ذاتها، ولا ترى في آيات الغيب إلا ما تسمح به أدوات علم الكلام التقليدي، ويُستعمل المصطلح الديني في الغالب في سياق هذا الأفق، الذي يحجب إمكانات الإيحاء، ويقفل نوافذ التأمل، ويختزل الدين في معايير الجدل وتفصيلات الأحكام.
قلّما تُستمد معاني المفاهيم الدينية من قيم القرآن التي تنير القلب، أو يُنظر إلى الآيات الحاكية عن الغيب بوصفها إشارات إلى أعماق التجربة الروحية، لا مجرد موضوعات للجدل الكلامي. اللغة التي رسّخها المتكلمون، وإن كانت اجتهادًا بشريًا في قراءة النصوص، لكنها ترسّبت في الوعي الفردي والجمعي في الحياة الإسلامية، واستحوذت على الفضاء الديني، حتى غدت تفهم كما لو أنها هي الدين نفسه. بذلك تعطلت دلالات كثير من الآيات الحاكية عن الغيب، وتجمدت في قوالب تلك اللغة، وانحسرت منابع التأمل، وخفَت الشعور بمعنى يتجاوز ظاهر اللفظ، وتراجع الوعي بما يشكّل جوهر التجربة الدينية. وانحسر حضور أسماء الله الحسنى، بوصفها ترسم صورة جميلة لله مشبعة بالرحمة والمحبة والجمال واللطف والعفو والمغفرة والسلام، وتغيّب أثرها في بناء الوعي الروحي. وبدلًا من ذلك غلبت على أسمائه، في التصور العام، دلالات التسلط والعقوبة والعذاب، ولم يتجلَ كما تشير إليه أسماؤه في هذه المعاني، وما تمنحه من طمأنينة للقلب وسكينة للروح.
تحوّلت أسماء الله الحسنى من رموز يتجلى من خلالها الحضور الإلهي، وتضيء بها مسالك القلب، وتنفتح بها نوافذ الوعي الروحي، إلى مفاهيم مغلقة تُشرح بمنطق الجدل، وتضيق دلالاتها في حدود المحاججات الكلامية، فخبت إشراقتها، وتراجعت طاقتها الرمزية في إنعاش الروح، وتنوير الضمير، واستنهاض الإيمان الحي. وبدلًا من أن تُفهم هذه الأسماء بوصفها شواهد على الرحمة والجمال والمحبة والسلام، غلب عليها المعنى السلطوي، وانحسرت صورتها في ضمير المؤمن إلى هيئة قاضٍ يعاقب ويعذب، وغابت عن هذه الأسماء صورة الله بوصفه الملاذ الآمن للمحبين، والملجأ الحميم للمنكسرين، والنور الذي تتضمّد به جراحات القلوب. وعلى الرغم الحضور الكثيف لأسماء الله الحسنى وصفاته، وما يتصل بالغيب في آيات الكتاب الكريم، فإن اللغة الدينية المتداولة، المشبعة برؤية المتكلمين للغيب والقوالب المسبوكة فيها هذه الرؤية، تحجب دلالات هذه الأسماء، وتكفّ إشاراتها عن الإيحاء، وتغلق نوافذها الرمزية، فلا تعود تنبض بالمعنى، ولا تُلهم القلب، ولا تسقي التجربة الروحية. ويتراجع بشكل كبير بعدها التأويلي، ويتآكل أفقها في بناء الإيمان، وتفقد قابليتها على وصل الإنسان بربه، والانعتاق من غربته الوجودية.
مادام مضمون لغة الدين في الإسلام لا يتجاوز علم الكلام، فإن تعريف الدين ومفهومه وحدوده ووظيفته في الحياة، وأدوات تفسير القرآن والسُّنة، ودراسة وتدريس علوم الدين، ودراسة التراث وتفسيره، تظل حبيسة رؤية المتكلم، ولا تتسع لاستيعاب الدلالات العميقة في آيات الغيب وتجلياتها على القلب. اللغة التي يُعاد من خلالها إنتاج صورة الله في وعي المسلم وتترسب في لاوعيه لا تستلهم دلالات نور الله في القرآن، لذلك لا تخاطب القلب، ولا توقظ الإحساس، ولا تهتم بالتذوق، بل تكرّر معجمًا كلاميًا موروثًا، جرّد لغة الغيب من طاقتها الإيحائية، وأضعف أثرها في الحياة الباطنية للإنسان. هذا المعجم، الذي تكرسه المؤسسة الدينية، وتسوده مقولات الكلام التقليدي، ولا تخرج عن اطار فهمه المبسط أدبيات الإسلام السياسي، لا يفسح المجال لتأويل يتجاوز ظاهر اللفظ، ولا يسمح بفهم الدين بوصفه تجربة حيّة تستجيب لما يعانيه الإنسان من ظمأ وجودي، وتخفض غربته الميتافيزيقية، وتعيد إليه شيئًا من الطمأنينة، وتنقذه من القلق الوجودي، واضمحلال المعنى.
مقولات انحصار الخلاص بفرقة واحدة، كما صاغها علم الكلام التقليدي، ترسّبت في اللاوعي الفردي والجمعي، وأعادت تشكيل وعي المسلم بالدين، حتى غدت مرجعيةً ضمنية يُحتكم إليها في تفسير النصوص الدينية، وتأويل الغيب، وإنتاج الأحكام. تلك المقولات عطّلت تبلور التصورات التي لا تتناغم مع منطق "الفرقة الناجية"، وأعاقت القراءة الرمزية والتأويل الروحي للآيات التي تتحدث عن الغيب والمصير والنجاة. بفعل هذا الإرث الكلامي، تشكّل وعيٌ ديني يعجز عن الانفتاح على إمكانات التعدد الديني، ويختزل صور الله في صورة أحادية محتكرة، محجوبة في إطار فرقة واحدة، لا ترى في الدين معنى خارج ما تراه هي، ولا تعترف بالخلاص خارج حدودها. لكن حين تُفسر آيات الغيب في سياقها القرآني، وبعيدًا عن إسقاطات مقولات المتكلمين الانحصارية، تتبدى هذه الآيات مصدرًا حيويًا لإنتاج تصورات رحبة عن الله، تتسع لاحتضان تنوع التجارب الدينية، وتبعث رؤية تحرر الخلاص من الانحصار بالفرقة الناجية، وتعيده إلى رؤية رحمانية، تتسع فيها الرحمة لكل شيء، كما تنص على ذلك الآيات القرآنية. لغة الغيب، كما تجلت في القرآن، لا تنتج تصورًا واحدًا لله، بل تنفتح على تصورات متنوعة، تتلون بأفق المتلقي، وبيئه، ومختلف المعطيات السائدة فيها، وتتجلى بقدر ما يتأهل القلب لاستقبالها. كلُّ قراءة تتذوق هذا البُعد الرؤيوي في لغة الغيب، تكتشف أن النص القرآني نداءٌ للرحمة، ودعوة للاعتراف بإنسانية المختلف، وإقرارٌ بتنوع سبل الهداية إلى الله.
انسداد آفاق التعددية الدينية، واحتكار الخلاص بفرقة واحدة، يفضي إلى تعطيل مختلف أنماط التعددية في المجتمع. انسداد آفاق التعددية الدينية يساهم في تجفيف روافد التعددية السياسية، والثقافية، واحتكار المجال العام، ولا يثري التنوع والتعدد في المجتمع، ولا يبنني أرضية لتوالد حق المواطن في أن يكون مختلفًا. حين تتجذر مقولات الفرقة الناجية في وعي الجماعة، ينغلق مفهوم الحقيقة على تصور أحادي، ويجري استبعاد أية رؤية أو تفسير لا ينسجم مع معتقد الجماعة. التعددية في المجال العام لا يمكن أن تنمو في بيئة يتسلّط فيها فكر ديني إقصائي، يحتكر الحقيقة بفهمه، ويختزل النصوص الدينية في تأويل واحد، ويعجز عن الاعتراف بالمساواة الإنسانية مع المختلف في معتقده. احتكار الخلاص يؤسّس نظامًا لإنتاج المعنى يحتكر الحق في رؤية الجماعة وفهمها، ويمنحها احتكار تمثيل الإرادة الإلهية، وتكليفها ضمنيًا بمحاسبة المخالفين ومصادرة حريتهم. إن تفكيك بنية هذا الاحتكار يبدأ من إعادة تأويل آيات الغيب بوصفها نداءً للرحمة، وشهادة على تنوع سبل الهداية، وإقرارًا بتعدد وجوه الإيمان، وتجليات الحضور الإلهي. لذلك فإن تحرير لغة الغيب من أسر مقولات الخلاص الانحصاري، يُعد شرطًا لتوليد وعي جديد، ينفتح على رحابة الحياة، وكرامة الإنسان وحريته، وحقه في أن يكون ذاته، بلا وصاية، ولا قسر، ولا إكراه.
حين تنغلق اللغة الدينية على مقولات الخلاص الكلامية، يغيب البعد الوجودي في لغة الغيب، ويتلاشى الأفق الذي كانت تنفتح من خلاله لغة الغيب الإلهية على إشارات لا تُدرك بالعبارة، بل تتذوقها الروح، ويتدفق بها ضوء البصيرة. وحين يغلق النص على التفسير الحرفي، وتنحبس دلالاته في قوالب المتكلمين، ينحسر إشعاع لغة الغيب، ويتراجع أثرها في القلب، وتتعطل قابليتها على بث الحياة الروحية في أعماق الإنسان. الكلمات الإلهية لا تنكشف للروح وتتجلى للقلب إلا بمقدار ما تنفتح عليها بصيرة القارئ، ويتأهل لتذوق أنوارها القلب، وتتهيأ لتلقي اشراقاتها الروح.
ما لم تتحرر لغة الغيب من أسر المعجم الكلامي، وتعاد قراءتها بوصفها إشراقات تتكشف فيها الرحمة والمحبة والجمال والسلام، وتستنير بتجربة الإيمان الحي، سيبقى حضور الله باهتًا في وعي الإنسان، ويتحول الدين إلى سلسلة ممنوعات تصادر عليه شيئًا مما تتطلبه طبيعته البشرية من احتياجات، وتعجز عن أن تروي ظمأ قلبه، ولا تضيء ضميره، ولا تنقذه من غربته الوجودية. هناك حاجة ملحّة اليوم تتمثل في استعادة البُعد الرمزي للغة الغيب، وإحياء إشاراتها التي توقظ الشعور بحضور الله، وتبعث على التأمل، وتلهم الروح طمأنينة تستدعي شهود أنوار الله بوصفه الحبيب، والجميل، والرحمن الرحيم، والسلام، والملاذ الذي لا يخذل من لاذ به. الدين الذي لا يداوي جراح قلب الإنسان، وقلقه المرير، ولا يروي عطش المعنى، ولا يمنح الإنسان بصيص أمل في الغربة الموحشة للوجوده، يظل غريبًا عن مقاصد الوحي، وبعيدًا عن أهداف رسالة الأنبياء. https://alsabaah.iq/117510-.html
صدر حديثًا عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة ببغداد كتابي: #الهرمنيوطيقا بوصفها منهجا للتفسير عند #أمين_الخولي.
هذه الفقرات جميعها مقتبسة من كتاب: مسرات القراءة ومخاض الكتابة، د. عبد الجبار الرفاعي. اختارها: د. يحيى جاد.

1- وظيفة الكاتب : كَشْفُ الأزمات والمشكلات التربوية والتعليمية والأخلاقية والروحية والمعرفية في الحياة، والإعلان عنها، ومحاولة اقتراح معالجات لها [..].

2- الكاتب الحقيقي يفكر أكثر مما يقرأ، يقرأ 1000 صفحة، ثم يفكر بتريث، ليكتب صفحة واحدة، وهذا هو الكاتب الذي تَفْرِض كتابَتُهُ حُضورَها الأبدي في المكتبة [..].

3- الكتابة يغذيها التساؤل، والتفكير النقدي، والقراءة المتواصلة، والتأمل العميق، وغربلة وتمحيص الآراء، والشجاعة في إعلانِ أخطاء كتابته وبيانِ ثغراتها وتعريةِ أوهامه.

4- ما يعرفه الكاتب يضمحل بمرور الأيام ما لم يُثْرِهِ على الدوام بما هو جديد.

5- يبقى الكاتب كاتباً ما دام يتساءل ويفكر ويقرأ ويتعلم ويطور تجربته الكتابية، فإذا شعر أنه استغنى بما لديه، وكف عن القراءة والتعلم والتفكير، لم يعد كاتباً [..].

6- بَعْدَ صناعة الاسم، يَكُفُّ بعضُ الكُتاب عن التزود بالمزيد من المعارف، وإثراء وتطوير مهاراته الكتابية !

7- الشهرة تصنع هالةً وسلطةً تَخْضَع لها النفوسُ طوعاً، فتُسَوِّقُ الشهرةُ كتابةَ الكاتب بشكل واسع، وإنْ كانت رديئة !

8- لا أستطيع الحُكْمَ على كتاب قبل أن أقرأه، لا أعتمد ما يقوله خصوم الكاتب، ولا عُشاقه [..].

9- النقد العلمي يتعذر أن يتفهمه مَن تنتقده؛ إذ ليس من السهل إبداءُ أيةِ ملاحظةٍ نقديةٍ مباشِرَةٍ لكتابةِ كاتبٍ في مجتمعاتنا،

10- غالباً ما تكون ضريبة هذه الملاحظةُ فادحةً، تتصدع فيها الصداقات مهما كانت راسخة، وربما تضمحل علاقات تاريخية بشكل متسارع على أثر نقد علمي !
11- لذلك، تقع الكتابات المسماة نقديةً بين حدين :
- فهي إما تصفية حساب مع مَن يريد أحدهم أَنْ يَهْجُوَه ويزدريه، ومثل هذه الكتابة ليست من النقد في شيء، وإن كان كاتبها يسميها نقداً.
- وإما تتضخم وتتراكم وتطغى كلمات المديح المُجَوَّفة كمطر منهمر لِمَن لا يستحق. ويَبْرَعُ في صياغتها بعضُ الشعراء والكُتاب، ووعاظُ السلطات السياسية والدينية، ويُضيف إليها ويسقيها كلَّ مرةٍ بكلماتٍ مثيرة للدهشة ومبالغات مُضْجِرة !

12- تتكرر كثيراً عبارة "الاختلاف لا يفسد للود قضية"، يرددها كثيرون غالباً، ويَسُوقُونها كأنها من البداهات، غيرَ أنَّ معظمَ مَن يُرَددها يَخُونُها !

13- يحتاج "الإنصاتُ إلى النقدِ العلمي والحوارِ" إلى تربيةٍ وتهذيبٍ متواصلَيْن؛ حتى تتقبله الذات،

14- لكي تتجذرَ أخلاقياتُ النقد ينبغي أن تبدأ التربيةُ عليه منذ الطفولة داخل العائلة،

15- وظيفة الأبوين بناءُ وعيِ الطفل على الحق في الاختلاف، والحق في الخطأ، والحق في الاعتراف بالخطأ، والحق في أن له حقوقاً -بوصفه إنساناً حراً- في حرية التفكير وإبداء رأيه الصريح، وإن كان مختلفاً عن رأي أبويه وعائلته،

16- تضاف هذه الحقوق التربوية إلى حقوقه في الاحترام والاهتمام والأمان والعيش الكريم والرعاية،

17- يجب أن تبدأ تربيته على هذه الحقوق منذ طفولته المبكرة، وتترسخ في المراحل الدراسية المختلفة، من الروضة إلى آخر مرحلة في الدراسات العليا [..]، وإلا، فلن نتعلمَ ونعملَ بتقاليد "الإنصات إلى النقد العلمي والحوار" التي تغربل الآراء وتُمَحصها، وتَختبر مصداقيتها في الواقع !

18- مَن يتربى على هذه الحقوق والنقد العلمي : يكون قادراً على نقد ذاته، ومراجعة وثوقياته، في محطات حياته المختلفة، والتحرر منها إن كانت غير مُبَرْهَنة.

19- بَعْدَ الفراغِ من قراءة كتاب استثنائي، يُدَلِّلُ عقلياً بصرامةٍ على ما يسوقه من أفكار وآراء، تتزحزح يقينيات القارئ الذكي، الذي يمتلك شجاعةً عقليةً لنقدِ ذاته وغربلةِ معتقداته وأفكاره ورؤاه، ويَرى يقينياته غير المُبَرْهَنة تنهار، وشيئاً من قناعاته الموروثة تُمحى، وتحل محلها قناعاتٌ مُبَرْهَنة، وعندئذ تتبدل رؤيته للعالَم، ويشعر كأنه وُلد من جديد !

20– أحيانًا نرى إنساناً عبقرياً في "منطقةٍ يَقِظَةٍ" مِن عقله، وعلى الضد مِن ذلك في "منطقةٍ نائمةٍ" مِن عقله، فتُدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لـ "عقله اليَقِظ" للاستدلال بها على أوهام "عقله النائم" !

21- تفسيرُ "المراوغاتِ الذهنية" و"الثغراتِ المنطقية" في تفكير العباقرة يتطلب الانتباهَ لوجود هذه "الحالة الذهنية" المشار إليها أعلاه، وهذا هو الذي يجعل بعضَ الفلاسفة يبدأون بمقدماتٍ عقليةٍ وينتهون إلى نتائج غيرِ معقولة !

https://www.facebook.com/1771381500/posts/pfbid02nDqndZA7jqJ8wPvLNpsnxZ5ht12mErcAD5D7LJPscdT4HS4n9U2CgdsqjKeaAQKCl/