عبدالجبار الرفاعي
3.8K subscribers
588 photos
50 videos
270 files
1.06K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الرابع/ التجرِبة الدينية والظمأ الأُنطولوجي للمقدس

https://www.hindawi.org/books/30847268/4/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الخامس: المثقَّف الرسوليُّ علي شريعتي .. ترحيل الدين من الأُنطولوجيا إلى الأيديولوجيا

https://www.hindawi.org/books/30847268/5/
‏التجديد في الفكر الديني المعاصر: علم الكلام عند عبد الجبار الرفاعي نموذجا

د. زهرة الثابت، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، القيروان تونس.

‏مجلة دراسات فلسفية، بيت الحكمة، بغداد، العدد 55، سنة 2025.

‏رابط تحميل البحث:
https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2025/06/01/f545e4b18350e89708bd13c42be0809f.pdf
ثناء على الجيل الجديد
كتابٌ للتربية
د. أحمد يعقوب
لاشكّ في أنّ القارئ لمتن نصوص وكتابات د. عبدالجبار الرفاعي  يسترعيانتباهه رأساً الطّابع التّعليمي، أو إن شئنا الدّقة البُعد التربوي الذي يسم محاوراته، ويمكن إعتبار كتاب " ثناء على الجيل الجديد" من أهم الكتب التي تناولت قضايا جيل الآباء والأبناء في الخمسين سنة الماضية، بالاضافةلمناقشتها قضايا التربية والتعليم ، وهي قضايا تهم مجتمعاتنا أكثر من غيرها بمقتضى ما حصل من تطورات وتحولات في العالم الذي نعيشه اليوم.
يقوم د. عبدالجبار، غير هيّابٍ بتفكيك نُظم التربية في عصر الآباء، الذي إنهمكفي نظام أحادي لرؤيته للعالم والقيم والمعايير، فاذا به يصطدم بتطورات ضخمة ومتسارعة في عصر الأبناء؛ حيث تبدلت الموضوعات نفسها، واتخذت المفاهيم أشكالاً جديدة تتمظهر وتتجلى من خلالها، مما يعني أن  جيل الأبناء تحكمه نظم متعددة محايثة لواقعه وتشبه أفقه العقلي ( أفق العصر)،  وقد تجاوز النظرة الأحادية التي سادت في عصر الآباء وأحدث قطيعة كبرى معها؛ مما أحدث فجوة وهوة عميقة بين الآباء والأبناء، وهو معطى القطيعة بمعناها الفلسفي.
يدافع الرفاعي عن جيل الأبناء ضد أؤلئك (الآباء)،  الذين  يرون في هذا الجيل أنه بلا مسؤولية، ونبع ذلك من عدم قدرة الكثيرين من جيل الآباء لرؤية التوسعات الرقمية والذكاء الاصطناعي، وايقاع التغيير الذي طال كل شيء، وبالتالي اتساع الفجوة  في كل شئ تقريباً من حيث نمط الحياة والرؤية للعالم،والتّعاطي مع التعقيدات ونُظم تلقي المعرفة بالنسبة لجيل الأبناء؛ ولا نفهم من هذه السياقات أن عبدالجبار الرفاعي يمارس التحريض، بل هو يمارس  التفكير المواكب لمتطلبات هذا العصر ومتطلبات الأبناء. إذ لا ينسى المؤلف عرض كيفية تلقي المعرفة ونُظمها عند جيل الآباء، وما شكلته هذه النّظم والتي أحياناً شبه أحادية أو أحادية في نظرتها وتعاطيعها مع العالم وموضوعاته.
يشير د. الرفاعي الى عنصر مهم وفاعل في حياة جيل الأبناء، وهو تخلّصهم من الاستعباد لشخصية الأب وشخصية العالم، والتي هي رؤية  الأب بالتحديد؛ وربّما تخلّصهم من القيود التي تعيق تواصلهم أو اكتسابهم لنظم جديدة تواكب التحولات التي يعيشونها؛ وهو ما أدى الى بروز ظاهرة الاغتراب في العلاقة ما بين الآباء والأبناء؛ حيث نعيش اليوم وفق نظام لا يمكن مواكبته دون التعامل مع تسارعه التقني، وقدرة الشخص على الانتقال شبه الدائم لمعالجة موضوعات شتى في فترات زمنية قصيرة؛ ضمن هذا الاطار يفكك د. الرفاعي أشكال العلاقة بين الآباء والأبناء؛ حيث يطلب جيل الآباء الطاعة والانقياد وأحياناً الرضوخ الكامل؛ وهو مايواجه بتمرد عنيف من الأبناء، ولحل الاشكال هذا يطالب المؤلف جيل الآباء بالسماح للأبناء بالانخراط في مواقع السلطة السياسية والحياة الاجتماعية والثقافية، باعتبار أن جيل الأبناء هو أثمن رأسمال للحاضر والمستقبل.
ينحاز د. عبدالجبار الرفاعي بشكل لا مواربة فيه لجيل الأبناء، ويقول أنه تعلم منهم أكثر مما تعلم من جيل الآباء؛ وهذه روح توضح حجم التحولات والتغيرات التي حدثت في عالمنا المعاصر، وخاصة في العشرين عاماً الماضية، وتبيّن ضرورة المواكبة، والا عاش الانسان في كهف ذاكرته أو كما يقول  جيل الأياء في السودان: "زمننا أفضل ونتمنى أن يعود ذاك الزمان"،  وقد خبرنا نحن جيل الأبناء  بالاخص هذه البكائيات من جيل الآباء.
ويعتبر حقل أو علم التربية من الحقول الرئيسة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، إذ إنه يقدم إسهامات منهجية وعلمية وتطبيقية كبيرة، خلال مسيرة طويلة من العمل الرصين والإنجازات اللافتة. ومن ذلك كون كليات التربية في العالَم مصدر التموين الأساسي لوزارات التعليم والتربية، عبر الإسهام في تطوير سياسات التعليم وفلسفته، وتأمين خطوط كافية لإنتاج: المعلمين الأكفاء، وصنّاع المناهج والمقررات، وخبراء التعليم والتعلم والتقويم، وهذا ما يفسر سر الاهتمام الكبير بكليات التربية في مختلف دول العالم[1].  وتشكل نُظم التربية  والتعليم وطرق اكتساب وتلقي المعرفة  والتي بنيت على أساسها تاريخاً طويلاً من سلطة الآباء في بلداننا وسيطرتهم على كل شئ؛ أحد الموضوعات المهمة في فكر الرفاعي؛ وفي عالمٍ يشهد تحولات كبيرة في فضاءاته لاتزال هذه النظم تمسك بتلابيب مجتمعاتنا المتخلفة  وتمنعها من الاستفادة من النظم الحديثة،لأن العقل التربوي لا يزال ماضوياً.
وحيث إن المشهد التربوي ضمن سياق التحديات والتشوهات التي يعيشها،بحاجة ماسة لمراجعة نقدية صارمة عامة للحقل التربوي ذاته. ولكي تكون هذه المراجعة مثمرة، فإنه يتوجب أن يقوم بها مفكرو التربية أنفسُهم، والذين هم بحاجة ماسة في مجتمعاتنا على وجه الخصوص بمواكبة التطورات التقنية والتحديثات التكنولوجية، وعلى أن يكون أس هذه المراجعة النقدية إبستمولوجياً، وذلك راجع إلى أن النقد الإبستمولوجي قادر على تشخيص أصل الداء في حقل التربية.
يمكن للمرء أن يلاحظ حالة الخطاب التربوي المدرسي في شعوبنا؛ والذي يكاد يبدو للناظر من الخارج أنه خطاب يجتر التاريخ ولا يبدع الحديث، بل هو بعيد من الابداع لدرجة انه غير مواكب للتطورات التي يشهدها عالمنا اليوم؛ وحيث إن نُظمنا التّعليمية تعمّق حتى الفوارق ( الطّبقية)* في المجتمع، صانعة  بذلك هوة عميقة سوسيولوجياً يعاني منها غالبية الذي تعرضوا لهذا الخطاب؛ أمّا أؤلئك الذين تلقّوا تعليمهم في الخارج فأول ما يدركونه هو النظام المعرفي الذي من خلاله يتلقون تعليمهم؛ حيث يتبدى النظام المعرفي في جملة مفاهيم وقضايا معاصرة، وتحديث مستمر للمناهج وطرق التدريس نفسها، وكيفية استهلاك المعرفة...الخ. ولتوضيح هذه النقطة المتعلقة بتحديث النظم المعرفية لتواكب متطلبات العصر الراهن  كتب مارك تايلور  مقالا في  Nature عنونه "Reform the PhD System or Close It Down” يقول فيه: " تتبع معظم برامج الدكتوراه هيكلاً يعود تاريخه إلى جامعات العصور الوسطى في أوروبا. الهدف؛ إنتاج نسخ مكررة من الأساتذة المختصين عبر استنساخهم. ولا يزال هذا النموذج الصارم قائماً حتى اليوم، رغم تغيّر سوق العمل الأكاديمي تغيّراً جذرياً. " ويواصل بالقول: " نظام الدكتوراه عند مفترق طرق حاسم: إما أن يتجدد لمواكبة متطلبات العصر الحديث، أو يُصبح بلا قيمة. بتبني التعلم متعدد التخصصات، وشراكات الصناعة، والتطورات التكنولوجية، يمكن لبرامج الدكتوراه استعادة قيمتها. أما إذا رفضت الجامعات التكيف، فستستمر في تخريج طلاب غير مؤهلين لسوق العمل الحالي" .  ولنا أن نتخيّل ان هذا ما يتداوله الغرب حالياً في قضايا تحديث النظم المعرفية؛ ونتساءل في اي طريق نحن؟
في مناظرة شهيرة حول موضوعات شتى بين نعوم تشومسكي وميشيل فوكو في العام 1971 يطرح فوكة خطر مؤسسة ( الجامعة) بقوله: " أعتقد ان ممارسة السلطة السياسية تتم كذلك عبر عدد آخر من المؤسسات التي تتظاهر بأنها لا تملك شيئا مشتركا مع السلطة السياسية وباستقلاليتها عن الدولة,غير انها ليست كذلك.. يعلم المرء بأن الجامعة – وبصورة عامة كل الانظمة التعليمية التي تبدو وكانها ببساطة تنشر المعرفة فقط. صُنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة في موضع القوة، ولحصر امتلاكها لأدوات القوة دون الطبقات الاجتماعية الأخرى" وهي صورة أخرى لكيفية سيطرة النظم التربوية والتعليمية على حيوات الناس، عبر تدجينهم واكسابهم صفة الاستنساخ للتجارب القديمة ( جيل الآباء)، أو كما يريد ذاك الجيل ان تبقي الامور كما هي .
هل نحن في حاجة لاعادة تعريف مفهوم التربية؟
من أهم الموضوعات التي تتفرد بها التربيةُ دون غيرها؛ ما يتعلق بـ المناهج والمقررات تصميماً وتعليماً وتطبيقاً وتقويماً وتطويراً، باستخدام كافة الأساليب التربوية التقليدية والحديثة في التخصصات المختلفة. إذن، هذا حقل أصيل، بل لعله من أكثرها أصالة، بحيث لا تُنازَعُ فيه التربيُة، إذ هي الحقل الذي يمتلك “حق التشريع” إزاء هذا الموضوع المبحوث منهجياً وبحثياً وتطبيقياً، ويعد هذا أسمى أنواع الملكية للموضوعات المبحوثة.
تحتاج المؤسسات التربوية عندنا لاعادة تعريف هذا المفهوم ؛ ولوضع أسس سوسيولوجية جديدة لمهامها وأهدافها. ويشير د. الرفاعي بطريقة ما في خطاطته عن الفروقات بين جيل الآباء وجيل الأبناء إلى ما يسميه بيار بورديو بالعنف الرمزي، الذي يمارس من خلال المؤسسات التعليمية وبالاخص المدرسة، والتي تسعى بطريقة أو أخرى للمحافظة على الوضعية القائمة، ( يفهم في سياق جيل الآباء) الذين يودون أن تبقى الأمور على ماهي عليه؛ وحيث  يتميز العنف الرمزي في المدرسة بقدرته الكبيرة على المخادعة الأيديولوجية وبناء الأوهام التربوية على نحو طبقي، وضمن هذه الممارسة الرمزية تبدو المدرسة على أنها مؤسسة محايدة طبقيا.(2) لكن المدرسة في جوهرها ليست محايدة أبدا، وهي تمارس التطبيع الفكري والأيديولوجي للطلاب، وتقوم في الوقت نفسه بإضفاء الشرعية على الأوضاع الاجتماعية السائدة في المجتمع في اتجاه المحافظة على النظام السياسي الاجتماعي القائم. وهي بفعالياتها الرمزية تقوم بتمتين وترسيخ العلاقات الطبقية القائمة في المجتمع، تحت ستار استقلال نظام التعليم وحياديته الظاهرة. ومن الطبيعي أن يعزز المجتمع هذه الاستقلالية النسبية للمدرسة،حيث يتم إنشاء هيئة من المتخصصين والمهنيين في مجال العمل التربوي والمدرسي لتقوم بتسيير النظام المدرسي وفقا للاعتبارات الوظيفية والأيديولوجية المحددة في المجتمع.
حوى الكتاب مجموعة من المفاهيم القيمية والاخلاقية ضمن تربية الانسان؛كالحب، والصمت، وقضايا الدين، ومفهوم التراث والتجديد، وهي في صلب عملية بناء الانسان . هذا كتاب للمؤسسات التعليمية والسياسية، ويمثل رؤية لأفق العصر وما ينبغي أن يكون عليه الانسان وكيف تتم تربيته؛ آمل أن يقرأ هذا الكتاب، وان يكون ضمن مناهجنا، وقبله يجب ان يتم تدريسه للتربويين والمهتمين بمسائلها والمسائل التعليمية.
هوامش:
1- عبدالله البريدي - نداء ابستمولوجي إلى مفكري التربية : تفحصوا حقلكم – مجلة حكمة 17-10-. .2021. 
2- بيداغوجيا الرمز والعنف الرمزي في منظور بيير بورديو – علي أسعد وطفة – مدونته الشخصية على الانترنت
*لا نستخدم الطبقة هنا بمفهومها الماركسي وانما في سياقها الاجتماعي المرتبط بالتفاوتات الطبيعية بين البشر.

https://altanweeri.net/16214/ثناء-على-الجيل-الجديد-كتابٌ-للتربية/?amp
يصدر قريبا عن دار الشؤون الثقافية في بغداد كتاب: "مشروع ⁧ #عبدالجبار_الرفاعي ⁩ الديني: قراءة نقدية"، بقلم: د. ⁧ #ضياء_خضير ⁩.
الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا
د. عبد الجبار الرفاعي
الهوية الوطنية بمعنى، والهوية الأيديولوجية العقائدية بمعنى آخر. نصابُ الهوية الوطنية الانتماءُ إلى رقعة جغرافية، ومصير واحد، ومصالح يلتقي فيها الكل، وتاريخ مشترك، وذاكرة جمعية، تتجسد في ثقافة جامعة، ورموز مشتركة، بغض النظر عن الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية. تتمثل ملامح الثقافة المشتركة والرموز الجامعة في ما تراكم في العقل الجمعي من سردية تستحضر منعطفات نشأة الوطن، وتؤرخ لتحولاته، وتعيد وصل حاضره بجذوره الممتدة في الزمن.كما تتجلى في الشخصيات المؤسسة، وكل شخصية استثنائية تركت بصمة مضيئة في مسيرة الوطن، وأسهمت في بناء كيانه السياسي والرمزي والمعنوي. وتنعكس في: اللغة، والآداب، والفنون السمعية والبصرية، والأديان والمعتقدات، والأمثال، والأساطير، والعلَم، والشعار الرسمي للدولة، والنشيد الوطني، والمناسبات والأعياد، والفلكلور، والأماكن الأثرية والمعمارية التي تستفيق فيها الذاكرة، وتمنح ما هو جميل في الماضي حضورًا مستأنفًا. وتظهر كذلك في المطبخ وأنواع الأطعمة، واللباس والأزياء، والأذواق، والرياضات الجماعية، مثل كرة القدم اليوم، وكل ما يسهم في توليد الشعور بالاستمرارية التاريخية. ويغذّي الإحساس بالارتباط الوجداني العميق بالوطن، ويُعيد ترميم أواصر الألفة والتضامن، في إطار كيان سياسي، يلتقي فيه المواطنون على أنهم جزء حيّ من نسيجه، وأمناء على ذاكرته، ومشاركون في مصيره، ومسؤولون عن حمايته وتنميته.
الهوية الوطنية هوية جامعة، لا تقبل الانغلاق على مكوّن واحد، ولا تسمح باحتكار الوطن لجماعة دون سواها. هوية تتسع لمختلف المواطنين، بتنوع أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ولغاتهم، وترى بأن العيش المشترك لا ينهض إلا على الاعتراف بالاختلاف في إطار كيان سياسي واحد، وشراكة الجميع في بناء الوطن وحمايته. تبتني هذه الهوية على المواطنة الدستورية، التي تُعلي من قيمة الإنسان بما هو إنسان، وتكرس المساواة في الحقوق، والمساواة في الفرص، على أساس "العدالة بإنصاف"، وفقًا لما عبر عنه جون رولز (1921 ــ 2002): في كتابه: "نظرية في العدالة". وتُخضع الجميع للقانون، وترفض التمييز بكل أشكاله، مهما كان تبريره. إنها هوية تُصغي إلى صوت العقل، وتحتكم إلى عقد وطني يضمن التعدد، ويحمي السلم الأهلي، ويعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين على أسس تُعيد بناء الانتماء، وتُحرّر الولاء من أسر الانتماءات الفرعية الضيقة، التي تعزل الإنسان في مضايق القومية أو الطائفة، وتعيدُ توجيه بوصلته نحو الوطن بوصفه الإطار الأوسع الذي ينتظم فيه التنوع، وتتكامل فيه الخصوصيات، من دون أن تتنكر للانتماءات للدين أو المذهب أو القومية، وتُرسخه في الهوية الوطنية الجامعة، ليغدو الانتماء للوطن أصلًا، وما عداه من انتماءات فرعًا.
أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي انتماء إلى معتقد ما، بعد أن يتحوّل هذا المعتقد إلى أيديولوجيا مغلقة، سواء أكان دينيًا أم دنيويًا. تتسم هذه الهوية بالانغلاق، إذ تقسم العالم إلى: مَن ينتمي إليها، ومَن لا ينتمي إليها. وهي تتوهم الاصطفاء، وتكرّس شعورًا بالتفوّق الزائف، وتبني هويتها الجمعية على نفي الآخر وإقصائه. في ظل هذه الهوية، يُلغى الوطن لصالح الجماعة، وتُختزل الدولة في كيان هشّ، وتُستبعد المصلحة الوطنية لحساب الولاءات الضيقة. تنتج هذه الهوية خطابًا تعبويًا، لا يقبل التنوع، ولا يطيق الاختلاف، ولا يقرّ بحقّ الآخر في العيش المشترك. الهوية الوطنية مشروع بناء كيان سياسي، يتسع للجميع، ويقوم على العيش معًا بكرامة في ظل دولة القانون. أما الهوية الأيديولوجية العقائدية، فهي مشروع احتكار، يختزل الحقيقة في تفسير واحد، ويختطف الوطن لحساب جماعة، ويهدد وحدة المجتمع، ويقوّض أسس الدولة.
حين يتحوّل الدين إلى أيديولوجيا، يُنتَزع من مجاله الروحي والأخلاقي والجمالي، ويُزج به في صراعات السلطة والثروة، كما هو حال الأيديولوجيات القومية واليسارية والأصولية. في سياق هذا التحوّل، يفتقد الدين رسالته السامية، ويتحوّل إلى وسيلة للاستحواذ، ويُختزل في صراع النفوذ والسيطرة، ويُستخدم لتعبئة الأتباع وتجييش مشاعرهم، باسم الدفاع عن العقيدة. وذلك ما نراه ماثلًا في تجارب الأصوليات في سائر الأديان، سواء أكانت هذه الأديان سماوية أم أرضية. الأصوليات تهبط برسالة الدين من معناه السامي وغايته في إرواء الظمأ الأنطولوجي وتحرير الإنسان من الاغتراب الميتافيزيقي، وإيقاظ الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، وتصيّره أداة أيديولوجية، لا تكترث بالهوية الوطنية، ولا تعترف بشرعية الدولة المؤسسة على هذه الهوية، وما تكفله من استيعاب للتنوع والاختلاف في فضاء العيش المشترك، بل تنزع إلى تجاوز حدود الوطن، وتقصي كل مَن لا ينتمي إلى حدودها الأيديولوجية.
حدود دولة المواطنة الحديثة ترسمها خرائط الأرض التي يعيش عليها أبناؤها، وتنهض على المصالح المشتركة، والمصائر الوحدة، والشعور بالانتماء لهذا الوطن بوصفه الملاذ الذي يأوي إليه الجميع. وتتجلى دولة المواطنة في مساواة المواطنين في الحقوق وأمام القانون، وتكافؤ الفرص لكل منهم، وإناطة المسؤوليات بكل مواطن بحسب طاقاته وإمكاناته. أما حدود الدولة الأيديولوجية فيرسمها الانتماء للعقيدة والولاء لها، ووحدة المصير مع مَن ينتمي إليها، بغض النظر عن انتمائه لوطن آخر، حتى إن كان في أقصى أطراف الكرة الأرضية. الحدود الوطنية تحمي الدول من أيّ شكل من أشكال النفوذ لدولة أخرى مهما كانت، ولا تسمح باستغلال موارد الوطن وثرواته لغير أبنائه، تحت أيّة ذريعة. أما الحدود الأيديولوجية، فلا تحمي الأوطان، بل تجعلها كيانًا عامًا، لا يختص بمواطنيها، بل يتسع لكل مَن يعتنق أيديولوجيا حكّامها، كما حدث في الأنظمة اليسارية والقومية والأصولية، وكما يحدث اليوم في دولٍ متعدّدة. الحدود الأيديولوجية تعدّ الأجنبي الذي يتبنى الأيديولوجيا ذاتها شريكًا شرعيًا، يتمتع بالحقوق الكاملة في السلطة والحكم وإدارة الدولة، وربما تمادى هذا الشريك، فاستغل شراكته، وأضحى سيّدًا على الحاكم والمواطن.
السياق الوطني لتشكّل الهوية ينبغي أن يتسلسل في ضمير كلّ مواطن في بلدنا على أساس أنه: عراقي أولًا، وعربي أو كردي أو تركماني ثانيًا، ومسلم أو مسيحي أو مندائي أو إيزيدي ثالثًا، وشيعي أو سنّي أو كاثوليكي أو بروتستانتي أو أرثوذكسي رابعًا، وهكذا. هذا هو التسلسل الذي يمكّننا من بناء مفهوم للوطن بمعناه الحديث، والمواطنة الدستورية بوصفها أساسًا لبناء دولة حديثة، تتوحّد فيها الأديان والمذاهب والقوميات في كيان سياسي، ينتمي فيه الجميع لأرض واحدة، وتاريخ ومصائر مشتركة، ويتضامن على مصالح جامعة. أما حين تنقلب معادلة الهوية، فتصبح الطائفة أو القومية أولًا، والدين ثانيًا، والوطن ثالثًا، فإننا نفشل في بناء دولة المواطنة بمعناها السياسي، ونخفق في إقامة الدولة الحديثة، مهما فعلنا.
اختلال سُلّم الهويات ينتج وعيًا زائفًا بالانتماء، يُقصي الوطن لحساب الجماعة، ويحوّل المواطنة من انتماء جامع إلى ولاء خاص، محكوم بالعصبية، ومسكون بهاجس الدفاع عن الهوية الفرعية، لا الهوية الوطنية الأصلية. حين تغدو القومية أو الطائفة هي الهوية الأصلية، وتتفرّع عنها سائر الانتماءات، لا يعود للوطن معنى ينطبق على المواطنين كلهم، وليس للمصالح والمصائر والتاريخ المشترك أثرٌ في بناء الدولة. تختفي عندئذ المواطنة خلف الانتماء القومي أو الطائفي، وتتحوّل إلى استماتة في الذود عن مصالح الجماعة، لا عن مصالح الوطن. ويغدو حضور الدولة هشًّا، لأن الولاء لها مشروط بولاء موازٍ أو سابق للجماعة، لا يسمح ببناء عقد اجتماعي يجتمع عليه المواطنون. حين تتسيّد الهوية القومية أو الطائفية، وتختزل الهوية الوطنية فيها، تتفشى اضطرابات الهوية السياسية، ويتعذّر على المواطن أن يحقق ذاته السياسية في الوطن، أو يعثر على ما يوحّده بأبناء بلده. ويغدو الوطن ساحة صراع هويات فرعية، يتقدم فيها الانتماء للجماعة على حساب الانتماء للأرض والمصالح والمصائر المشتركة.
تفشّت في جيلنا، والجيل الذي سبقنا، اضطرابات الهوية السياسية، فكان الشيوعي قبل أن ينتمي لوطنه ينتمي إلى الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية المنضوية في محوره، أو إلى الصين والدول الاشتراكية التي تدور في فلكها. وكان القومي العربي، قبل أن ينتمي لوطنه، ينتمي إلى القومية العربية بصيغتها الأيديولوجية، وزعيمها جمال عبد الناصر، الذي كان أكثر الحكّام العرب براعةً في تجييش الجماهير، وأمهرهم في ابتكار الشعارات الصاخبة. وأخيرًا، صار مَن ينتمي إلى الإسلام السياسي ينتمي إلى الدول الدينية، كلٌّ على وفق مرجعيته المذهبية، لا على وفق انتمائه الوطني.
اضطرابات الهوية السياسية عشتها بمرارة في مراهقتي، كما عاشها كثير من أبناء جيلي، بعدما كنا نتخيّل أن الانتماء إلى الأيديولوجيا العقائدية هو الهوية الأصلية، وبأن العقيدة لا أرضَ لها كما تعلمنا في أدبياتها. لم نكن ننتمي إلى الأوطان بما هي أرضٌ وثقافة وتاريخ ومصالح ومصائر مشتركة توحّدنا مع أبناء بلدنا الذين نتقاسم العيش معهم.كان انتماؤنا يتجه إلى أيديولوجيا سياسية عابرة للجغرافيا والتاريخ والذاكرة والثقافة واللغة والمصير والمصالح المشتركة مع أبناء الوطن، حتى صار مَن يعتقد بهذه الأيديولوجيا، وإن كان في أقصى الأرض، أقربَ إلينا من ابن البلد الذي نشترك معه في الأرض والتاريخ والثقافة والمصالح والمصير الواحد. لم أكتشف هويتي الوطنية العراقية، ولم يتكرّس انتمائي الحقيقي إلى وطني، إلا بعد تشردي في المنافي، وعيشي سنوات طويلة في أكثر من دولة،كنت أعاني فيها كلها من نظرة الآخر إليّ كأجنبي. استفاقت هويتي الوطنية، حين تذوقت متعةَ الخلاص من الغربة تحت سماء وطني، وألهمني الشعور بالانتماء إلى أرض ولدت عليها ونشأت فيها.
ليس بوسعنا بناءُ تفسيرٍ علمي لنشأة الهوية السياسية في مجتمعنا، من دون العودة إلى تجربة الخلافة، الممتدة عبر مراحل تاريخ الإسلام المختلفة، منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر، والكشف عن الكيفية التي جرى فيها استثمار الميراث الرمزي للخلافة في صناعة الهوية السياسية، بوصفها استمرارية عميقة لذلك الميراث العريق في الذاكرة، وتجسيدًا لهوية متخيلة، تتغذى على سلطة الماضي، وتستأنف حضورها عبر مقولاته ورموزه وتمثلاته، وما نتج عنه من مشاعر وأحلام ربما تتوارى في أزمنة لكنها لا تموت. تشكّلت الهوية السياسية في سياق دولة الخلافة، لا بوصفها مؤسسةً للسلطة فحسب، بل بما هي منبع للمتخيَّل الذي تشكّل وتضخم في فضائها، وصاغ مقولاتها حول المشروعية السياسية وغيرها، وولد فيه وتجذّر وعي الإنسان المسلم السياسي ولاوعيه الفردي والجمعي، وتوالد داخله تعريفه لهويته السياسية، والسلطة، والحكومة، وشكل الدولة.
الخلافة، في ضمير أكثر المسلمين، تنبثق مشروعيتها من السماء، وهي وحدها ما يتخيّلون أنها تعبّر عن هويتهم السياسية، وقد تكرّست صورتها في المتخيّل الجمعي بوصفها الهوية الجامعة للأمة المسلمة، عبر رمزية الخليفة الواحد. وإن كانت خلافة الخليفة متصدعة متآكلة، يظل رمزًا، ما دامت تُلقى خطبة الجمعة على المنابر بعنوانه كخليفة، والدعاء يُرفع له، والنقود تسكّ باسمه، مما أسهم في تجذّر هوية الخلافة وترسيخها في الذاكرة السياسية. يتجلى حضور الخلافة في اللاشعور الجمعي بوصاية الماضي على الحاضر، وامتدادها بوصفها سلطة رمزية لا تزال تنتج تأثيرها عبر نظامٍ رمزي وشبكة متشعبة من المفاهيم، تستمدّ قوتها وفاعليتها من صور رومانسية للخلافة، بوصفها مرجعية متخيّلة، تعيد إنتاج عناصر حياتها في الوعي واللاوعي، وتؤطر تصورات الإنسان المسلم عن السلطة، والحكومة، والدولة، والهوية السياسية.
في دولة الخلافة، كان بإمكان المسلم أن يتنقّل من بلد إلى بلد بحرية، ويقيم في أقاليمها المختلفة، الممتدّة من الأندلس إلى الهند، من دون أن يشعر بالغربة، مادام انتماؤه إلى دار الإسلام، وهويته السياسية هي عقيدته. هذا الانتماء الرمزي رسّخ في اللاشعور الجمعي عدم التمييز سياسيًا بين أرض وأخرى، ما دامت في إطار دولة الخلافة، وما دام الإسلام هو العقيدة السائدة لأهلها. هذه العوامل لا تزال تمارس ممانعة صلبة في تقبّل مفهوم الوطن، والمواطنة، والمشروعية السياسية، والسلطة، والحكومة، والدولة، بمعانيها المعروفة في الفكر السياسي الحديث.
الذاكرة السياسية المشبعة بالصور الرومانسية المتخيّلة لدولة الخلافة مازالت تشكّل أرضية خصبة، ذات تأثير فعّال في التمهيد، لولادة أحلام الدولة الدينية في المتخيّل السياسي لعدد غير قليل من المسلمين. لم تسقط الدولة العثمانية، آخر تجليات الخلافة في عالم الإسلام، إلا عام 1924، وهذا يعني أن المسلم لم يمضِ عليه قرن واحد في التعايش مع المفاهيم الحديثة للدولة، ولم يدخل المفهوم الحديث للوطن والمواطنة كمكون أساسي للهوية السياسية. معنى "الوطن" في تراثنا يختلف عن معناه في الفكر السياسي والدساتير الحديثة، التي تؤسّس للمواطنة بوصفها علاقة قانونية وحقوقية، تربط الفرد بالدولة على أساس الانتماء لأرض وتاريخ وثقافة ومصالح ومصائر مشتركة.
ما زال سقوط دولة الخلافة العثمانية يمثّل جرحًا نرجسيًا غائرًا للهوية السياسية لعدد غير قليل من المسلمين، ممن كانت الخلافة تمثّل لهم شعورًا بالتماهي مع كلّ مسلم يقطن أرضها، وتغذّي خيالهم بوحدة رمزية وعقائدية تتجاوز الحدود الجغرافية. ظلّ المتخيّل الجمعي، الذي تراكم واتسع عبر قرون، يعمل على ترسيخ صورة الخلافة بوصفها مكوّنًا أصيلًا في هوية المسلم السياسية، وبعد انهيارها استمر حضورها الرمزي في الذاكرة السياسية الجمعية. الخلافة لم تكن مجرّد نظام سياسي، بل غدت رمزًا مشحونًا بالدلالة، يتوارى فيه التاريخ خلف الأسطورة، وتتداخل فيه الوظائف السياسية بالدلالات الدينية. المتخيّل السياسي أسهم في بناء صورة مثالية مضيئة للخلافة، لا تعكس واقع المظالم التي وقعت في زمانها، ولا تكشف عن جور السلاطين وبطشهم، وما كان يعيشه رعاياهم من تمييز واضطهاد. جعلها هذا المتخيّل تمثّل ذروة اندماج السياسة بالدين، وملاذًا آمنًا لهوية سياسية مأزومة، تلجأ للماضي حين تعجز عن بناء الحاضر.
بعد انهيار آخر دولة خلافة، لم تتبدد صورتها، بل ظلّ ميراثها الرمزي وشبكة مفاهيمها حيّة في اللاشعور الجمعي، تتجدد حضورًا في الذاكرة، وتعيد إنتاج نفسها في وجدان لم يتحرّر من قبضة الماضي، ولم يغادر الحنين إلى سلطة يتخيّلها ضامنًا لوحدة شاملة على أساس الدين الواحد. ظلّ المتخيَّل الديني يعمل على مدى قرونٍ على ترسيخ صورة الخلافة بوصفها عنصرًا أساسيًا من مكوّنات هوية المسلم السياسية، فتتشبع بها اللاشعور الجمعي، وأمست ملاذًا يستحضره المسلم، كلّما عجز عن تحقيق أحلامه في الواقع السياسي، وصار المتخيَّل وسيلة يعيد بها الإنسان إنتاج ما فشل في إنجازه في الواقع. وما يزال عدد غير قليل من المسلمين، إلى اليوم، عاجزين عن الانفصال عن الصورة المثالية للخلافة، والتحرر من سلطتها الرمزية، وهيمنتها على الذاكرة السياسية. ذلك ما جعلهم يقرأون المستقبل بعيون الماضي، ويقيسون الدولة الحديثة بمقاييس الدولة السلطانية، ويحاكمون السياسة والدولة الحديثة بأحكام دولة الخلافة.
من أبرز آثار الجرح النرجسي للهوية السياسية، الذي نتج عن سقوط آخر دولة للخلافة، انبعاث أول حركة للإسلام السياسي في العصر الحديث، إذ لم تمضِ سوى أربع سنوات على نهاية الخلافة العثمانية، حتى بادر حسن البنا، في مدينة الإسماعيلية، إلى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، بوصفها مشروعًا يطمح إلى استعادة مجد المسلمين السياسي، عبر إعادة بعث دولة الخلافة. وصارت الخلافة ركنًا من أركان الإسلام، كما يصرح حسن البناء في رسالة المؤتمر الخامس: (الإسلام يجعل الحكومة ركناً من أركانه… فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف… أما الخلافة فهي رمز الوحدة الإسلامية، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في دفن النبي صلى الله عليه وسلم. والأحاديث الواردة في وجوب نصب الإمام كثيرة. لذلك فالإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها في رأس منهاجهم، وهم – مع ذلك – يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات الضرورية) . لم أجد فقيهًا أو متكلمًا في تاريخ الإسلام، قبل حسن البنا، يقول: إن "الحكومة ركن من أركان الإسلام"، أو إن الدولة ركن في الإسلام. أركان الإسلام معروفة لدى المذاهب والفرق. الماوردي "ت. 450هـ" يرى أن الإمامة، أو الخلافة، أو الحكم، واجب شرعي من واجبات الدين، لا من أركانه. ويذهب الجويني "ت. 478هـ" إلى أن الإمامة ضرورة لحفظ الشريعة، لا ركنًا من أركان الدين. لكن في العصر الحديث، جعل أكثر من منظّر من منظّري الإسلام السياسي، الحكم من أركان الدين.
وفي سياق أدبيات هذه الجماعة، وشعاراتها، وأهدافها، تشكّلت رؤية تمجّد الماضي السياسي، وتدعو للعودة إلى نموذج الحكم الذي ساد عدة قرون في دول الخلافة. في فضاء هذا المتخيّل السياسي، توالدت سلسلة من الحركات الإسلامية في شتى أنحاء العالم الإسلامي، استلهمت نموذجها من الإخوان، وواصلت الأحلام السياسية ذاتها ببعث الخلافة، كلٌّ منها على شاكلتها، بوصف دولة الخلافة رمزًا لوحدة المسلمين، ومصدرًا للهوية السياسية، وأفقًا لاستعادة السيادة والكرامة المهدورتين. غير أن ما لم يُدركه الوعي المؤدلج أن الخلافة، بوصفها مشروعًأ سياسيًا تاريخيًا، لا يمكن استعادتها إلا في المتخيّل السياسي، وأن إحياءها لا يعني سوى إعادة انتاج ماضٍ لم يعد صالحًا لبناء دولة قائمة على المواطنة الدستورية، والقانون، والعدالة، وحقوق الإنسان وحرياته. حين يتحوّل الحنين للماضي السياسي إلى مشروع للخلاص، يفقد الحاضر قدرته على توليد معنى سياسي، ويُختزل المستقبل في صورة مثالية لماضٍ متخيّل، لا حضور له خارج الذاكرة.
https://alsabaah.iq/115728-.html
#الهرمنيوطيقا بوصفها منهجا للتفسير عند #أمين_الخولي. يصدر هذا الكتاب قريبا عن دار الشؤون الثقافية في بغداد.
السؤالُ الميتافيزيقي سؤالٌ فلسفي

د. عبدالجبار الرفاعي
مَنْ لا يعرفُ الإنسانَ لا يعرفُ الله، ‏معرفةُ الطبيعة لا تكفي لمعرفة الله. مَنْ يعرفُ شيئًا عن غرابة ‏الإنسان وغربته الوجودية وفقره وهشاشته، ويعرفُ شيئًا من الطبيعة الإنسانية ‏بوصفها ملتقى الأضداد، يمكنه أن يصلَ إلى الله.
يتنكرُ بعضُ المثقفين للميتافيزيقا وما وراء الطبيعة، على الرغم من أنه لا يعرف عنها شيئًا، وينفي وجودَ الله، لأنه لم يصل إليه بأدوات العلم التجريبي التي يثق بها فقط، ولا يثق بسواها. يجزم بالنفي من دون أن يتواضعَ ويكشفَ عن إخفاق عقله في إدراك ما لم يتمكن هو من إدراكه. لا يدري هؤلاء بأن البحثَ في الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة خارجَ أدوات العلم، وخارجَ وسائل اكتشاف العالَم الفيزيقي وقوانينه.
يُعلِن بعضُهم بصرامة بأنه لا يؤمن بوجود الله، ويقطع بعدم وجود ما وراء الطبيعة، بلا تأمّل وتدبّر وتبصّر، وينسى بأن الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة هو الموضوع الأثير للفلسفة منذ بدايات التفلسف حتى اليوم، وأن سؤالَ الايمان والإلحاد ليس سؤالًا علميًا، وأن أسئلةَ الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة أسئلةٌ فلسفية.كلُّ سؤال وجواب خارج عالَم الطبيعة سؤالٌ وجوابٌ فلسفي. إعلانُ الإلحاد ضربٌ من الجواب الميتافيزيقي، الإلحادُ يعكسُ ضراوةَ القلق الوجودي، وأقصى مديات ‏حيرة الجواب الميتافيزيقي. لحظةَ يعلن أحدٌ عن إلحادِه ينتقل من التفكير العلمي إلى التفكير الفلسفي، من دون أن يتنبه لذلك. نفيُ عالَم ماوراء الطبيعة كإثباته، الإثباتُ حكمٌ فلسفي، والنفيُ حكمٌ فلسفي. التفكيرُ في ماهية العلوم الطبيعية وماهية أيّ علمٍ هو تفكيرٌ فلسفي، العلمُ لا يُفكّر في ماهيته، التفكيرُ في ماهية العلوم خارجَ مجال العلوم، كلُّ تفكيرٍ من هذا النوع تفكيرٌ فلسفي. في مقابلةٍ تلفزيونية على إحدى الفضائيات العربية مع معماري عراقي مثقف واسع الاطلاع، تحدّث فيها عن إلحاده بصراحة. يقول رفعت الجادرجي: "أنا ملحد بكل ما للكلمة من معنى". ويضيف: "أن لديه وصية مكتوبة بأن تحرق جثته بعد موته ولا يُدفَن ولا يُصلَى عليه" .
ولد ونشأ المهندس المعماري رفعت الجادرجي في محيطٍ تقليدي ببغداد، أبوه كامل الجادرجي كان سياسيًا ومثقفًا غير تقليدي، وهو من أبرز رواد الديمقراطية ودعاتها في العراق. سمعتُ الحوارَ كلَّه بتأمل أكثر من مرة، رأيته يفسِّر الدينَ والمقدّسَ، وحاجةَ الإنسان للصلة بوجودٍ الله تفسيرًا سيكولوجيًا وسوسيولوجيًا وأنثربولوجيًا. لا يغور رفعت الجادرجي فلسفيًا ليرى الأبعادَ العميقةَ للحاجة الى الدين في وجود الإنسان، ولا يذهب تفكيره بعيدًا ليطلّ على الميتافيزيقا وعالَم ما وراء المادة. حاجةُ الإنسان للصلة بوجودٍ مطلق يفرضها نوعُ وجوده، ونتيجةً لها يفرض الدينُ حضورَه الأبدي، وينتقم لنفسه كلّ مرة تجري إزاحتُه فيها ليعود عاصفًا، مهما كانت محاولاتُ بعض الفلاسفة والمفكرين لرفضِه، والكشفِ عن بؤس تمثلاته وتطبيقاته العملية. الحاجةُ الوجودية لله أسعدتْ كبارَ ملهمي الروح المعلمين في إطار الأديان المعروفة وغيرَهم ممن عاشوا مُتيّمين بحب الله، وأشقت بعضَ البشر، عندما زجّتهم في صراعٍ مع أنفسهم والناس والعالَم من حولهم.
لا أريد أن أحكم على تفسيرِ رفعت الجادرجي وشعورِه وتعبيرِه الصريح عن موقفه، لأن كلَّ تفسيرٍ لا يمكن أن يتحرّر كليًا من بصمةِ الذات، وكيفيةِ نشأتها وتربيتها، وتكوينِها المعرفي، والبنى اللاشعوريّة الغاطسة فيها، واحتياجاتِها المتنوعة.
‏ الظواهرُ الدينية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ‏وكلُّ تمثلات الدين المجتمعية، تدرسها علومُ الإنسان والمجتمع الحديثة، ‏مثل: سوسيولوجيا الدين، انثربولوجيا الدين، سيكولوجيا الدين، وغير ذلك. التفسيرُ السيكولوجي والسوسيولوجي والأنثربولوجي والاقتصادي والسياسي والتاريخي للظواهر الدينية شديدُ الأهمية، لأننا لا يمكن أن ندرس تمثلاتِ الدين وتعبيراته في حياة الفرد والجماعة من دونه، غير أن هذا التفسيرَ لا نستطيع أن نرى بأدواته منشأَ الحاجة الوجودية لله، ولا يسعفنا في اكتشاف الجذرِ العميق لهذه الحاجة، لأنه يقف خارجَ فضاء الميتافيزيقا.
جذرُ هذه الحاجة وأصلُها لا تتمكن من الغوص في مدياته إلا الرؤيةُ الفلسفية، لأنها يمكن أن تطلّ على الميتافيزيقا. التفكيرُ في حقيقة الأشياء وماهياتِها تفكيرٌ فلسفي. ماهيةُ الدين لا يمكن التفكيرُ فيها خارجَ السؤال الفلسفي، أعمقُ سؤال فلسفي السؤالُ ميتافيزيقي، لا يستطيع العقلُ أن يفكِّر في العالَم الميتافيزيقي بلا منظارٍ فلسفي. ولا يحضر جوهرُ الدين الروحي إلا باستبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المضيئة الآسرة.
اللهُ، الوحيُ، النبوةُ، الآخرةُ، وغيرُ ذلك من عوالم الغيب، تبحثها فلسفةُ الدين، لأنها تحاول أن تغوص في ما هو ميتافيزيقي.كما تبحث فلسفةُ الدين كيفيةَ تجلي الإلهي في البشري،‏ وكيفيةَ شهود البشري للإلهي، ونمط ‏الحالة الروحية والعاطفية لحظة شهود البشري للإلهي.
العلومُ الطبيعية والبحتة والتطبيقية وعلومُ الإنسان والمجتمع لها مدياتٌ قصوى تقف عند تخومها ولا تتخطاها، إنها تظلّ مقيمةً في آفاق الزمان والمكان والحركة والمادة وأبعادها وخصائصها وشؤونها. يقول علي عزت بيغوفيتش: "إن علمَ الحفريات، وعلمَ هيئة الإنسان، وعلمَ النفس، كلَّها علومٌ تصفُ من الإنسان فقط الجانبَ الخارجي الآلي الذي لا معنى لهُ... إننا لا نستطيعُ تفسيرَ الحياةِ بالوسائل العلمية فقط، لأن الحياةَ معجزةٌ وظاهرة معًا. الإعحابُ والدهشةُ هما أعظمُ شكلٍ من أشكال فهمنا للحياة".
مادامت مناهجُ وأدواتُ ووسائل العلم تجريبيةً فهناك قصورٌ ذاتي في هذه المناهج والأدوات والوسائل عن أن تطلّ على عوالم الميتافيزيقا، لذلك يعجز العلمُ عن عبور فضاء المادة وأحوالها وما يتصل بها، ولا يمكنه الكشفُ عن ماهية الأشياء وجوهرها، كما لا يمكنه الجواب عن السؤال الميتافيزيقي. ما يتناوله العلمُ يلبث في حدود المادة، بخلاف الفلسفة واللاهوت التي بوسعها إدراكُ شيء من أبعاد الميتافيزيقا وعوالمها وشؤونها. وفي العرفان تنكشف مواطنُ أشواق الروح البشرية وأحوالها واحتياجاتها العميقة، لحظة يعلن جوهرُ الدين عن حضوره المُضِيء باستبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المبهجة.
علّق هايدغر على عبارته المشهورة: "العلم لا يفكّر"، (بقوله: "إن هذه العبارة التي خلّفت كثيرًا من الضجيج إثر نطقي بها، تعني أن العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلا أنه، ومن غير أن يعلم، ينْشدّ إلى ذلك الإطار. فعلى سبيل المثال: إن الفيزياء تشتغل على المكان والزمان والحركة. إلا أن العلم، بما هو كذلك، لا يمكنه أن يحدّد ما الحركة، وما المكان، وما الزمان". العلمُ إذًا لا يفكّر، بل إنه لا يمكن أن يفكّر في هذا الاتجاه باستخدام وسائله. لا يمكنني على سبيل المثال أن أقول ما الفيزياء باتّباع مناهج الفيزياء. ماهية الفيزياء لا يمكنني أن أفكّر فيها إلا عن طريق سؤال فلسفي) . وكما يقول فتحي المسكيني: "الفلسفةُ شيء لا علاقةَ له بالعلم. وبعبارة واحدة لهيدغر: العلم لا يفكّر. والقصد هو لا يفكّر بشكل كوني في الكينونة، رغم أنّه ينتج معرفةً كلية بالكائن".
تتوقف التفسيراتُ العلميةُ للدينِ عند معاينةِ حضورهِ الفردي والمجتمعي، ودراسةِ وتحليل آثاره المتنوعة في حياة الإنسان ومختلف تعبيراته، لكنها تخفقُ في البحث عن المديات الأعمق لأصل الحاجةِ للصلة بالله في الكينونة الوجودية العميقة للكائن البشري. تقودُ هذه التفسيراتُ بعضَ الناس أحيانًا إلى نفي الحاجةِ للدين، ويتمادى بعضُ مَنْ يتبناها ليقولَ بنفي وجود الله، من دونِ أن يسوقَ أيَّ برهانٍ على هذا النفي. ويزعمُ أناسٌ آخرون إن الإيمانَ مجردُ شعورٍ نفساني، تفرضُه على الإنسان سيكولوجيتُه وبيئتُه وتربيتُه وثقافتُه، وهي محاولةٌ أخرى لنفي وجودِ الله بلا دليلٍ.
الإنسانُ ليس عقلًا محضًا، الإنسانُ كائنٌ تتحكم فيه المشاعرُ والإنفعالاتُ والمصالحُ أكثرَ من العقل، الإنسانُ كائنٌ عاطفي قبل أن يكون كائنًا عقلانيًا. أسرف التنويرُ الغربي في الاعلاء من مكانة العقل والعلم، وتجاهلِ العواطف والمشاعر والأحاسيس والانفعالات، والمتخيل والأسطورة والذاكرة، بنحو تسيّد العقلُ والعلمُ واستبدّا، فصادرا كلَّ شيء خارج حدودهما، وصار كلُّ شيء لا يصدق عليه عقل وعلم منسيًا. قراراتُ ووقائعُ حياة الإنسان تكذِّب ذلك، لأن الشعرَ والفنَ، والمتخيل والأسطورة والذاكرة، ومكاشفاتِ الروح وإشراقاتها، لا يصدر كثيرٌ منها عن العقل. القرارات المصيرية في حياة الإنسان تصدر أحيانًا لحظةَ انفعال عاطفي، وطالما اتخذ الإنسانُ فردًا وجماعةً مواقفَ تغيب فيها حساباتُ العقل والعلم تمامًا.

https://alsabaah.iq/46711/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D9%82%D9%8A?fbclid=IwAR3ExfvtwpzGG9vKpNTIAt-DpfC9xdKfdn7s8DgJhsk_sOb9e3E8WqAq58A
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
‏عرض الاستاذ محمد بحر العلوم لكتاب: "ثناء على الجيل الجديد".
"الإنسان ومشكلة المعرفة عند عبد الجبار الرفاعي"، رسالة ماجستير قدمتها: منال عوني عبدالخالق غنيم، إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة طنطا في مصر، تمت مناقشتها هذا اليوم 14-6-2025، وأجيزت بتقدير امتياز.
عبدالجبار الرفاعي
"الإنسان ومشكلة المعرفة عند عبد الجبار الرفاعي"، رسالة ماجستير قدمتها: منال عوني عبدالخالق غنيم، إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة طنطا في مصر، تمت مناقشتها هذا اليوم 14-6-2025، وأجيزت بتقدير امتياز.
هذه الرسالة 25 في تسلسل اطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير المناقشة حول مشروعي في تجديد الفكر الديني حتى اليوم. وهناك 10 اطروحات دكتوراه ورسائل ماجستير قيد الكتابة، في عدة جامعات عراقية وعربية وأجنبية.