عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
618 photos
51 videos
270 files
1.09K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
‏يصدر قريبا عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة في بغداد في سلسلة الموسوعة الصغيرة.
الهوية المغلقة تتلاعب بالذاكرة
د. عبد الجبار الرفاعي
التقيتُ ببعضِ الأصدقاءِ ممن هاجروا إلى بعضِ الدولِ الغربية، إثرَ اختناقِهم بالانغلاقِ والتشدُّدِ في مجتمعاتِهم، وأقاموا هناك سنواتٍ طويلةً، اكتسبوا فيها جنسيةَ تلك الدول. كان لديهم شغفٌ شديدٌ للعيشِ في دولةٍ غربيةٍ، يترقَّبون أن توفِّرَ لهم ضمانًا للعيشِ والصحةِ، ويَحميَهم فيها القانونُ، الذي يساوي بينهم وبين المواطنين غيرِهم، ويوفِّرَ لهم حريةً فكريةً وسياسيةً وحريةَ تعبيرٍ، ويحرِّرَهم من الإكراهِ على الولاءِ والطاعةِ العمياء. رأيتُ هؤلاء بعد سنواتٍ طويلةٍ من الإقامةِ في تلك البلدان، ينظرون لكلِّ شيءٍ في آفاقِ الحنينِ لهويتهم الموروثة، إلى درجةٍ بدأوا فيها يبجِّلون ما كانوا يعلنون كراهيتَهم له ونفورَهم منه، وصاروا مفتونين بما كان يثير اشمئزازَهم في بلادِهم، حتى أمسَوا أكثرَ تعصُّبًا وانغلاقًا وتشدُّدًا مما هربوا منه.
تساءلتُ عن هذا الانقلابِ كيف حدث بهذه الكيفيةِ المثيرة، على الرغم من معرفتهم بأن لا شيءَ تغيَّر نحو الأفضل مما هربوا منه. أدركتُ أن الإنسانَ عندما يغترب عن وطنه، ويعيش في فضاءِ هويةٍ مختلفةٍ عن هويته، تحذفُ ذاكرته ما كابده في مجتمعه من بؤسٍ وشقاءٍ، ولا تحتفظ إلا بصورٍ فاتنةٍ من طفولته وصباه وذكرياتٍ مريحةٍ من حياته الماضية، يعيد متخيِّلُه إنتاجَها بأبهى أشكالها، ويَبتكِرُ لها صورةً خلّابَةً. ما يستدعي حضورَ الهوية هو شعورُها بالاغتراب، وممانعتُها الاندماجَ بهويةِ المجتمع الذي يعيش فيه المهاجر، إثرَ ما يستفزه ويضاعف آلامَه من تمييزٍ مضمرٍ ضد المهاجرين، وما يشعره بالعزلة والعجزِ عن بناءِ روابطَ اجتماعيةٍ تعيد ما ألفه من روابطَ في مجتمعه ووطنه الأصلي. يستحثُّ ذلك هويتَه الدينيةَ والطائفيةَ والعرقيةَ والثقافيةَ على أن تعلن عن حضورِها بثقةٍ وفاعليةٍ، وتتصلَّبَ وتنغلقَ، ويستبدَّ به الشوقُ والحنينُ للصورةِ الآسرةِ المتخيَّلة للوطن والمجتمع الذي وُلِد وترعرع فيه، كما يستبدُّ به تضخُّمُ الشعور بتهديدِ هويته الدينيةِ والطائفيةِ والعرقيةِ والثقافيةِ وتذويبِها، فتصبح وظيفةُ المغتربِ حمايةَ هويته والاحتماءَ بها، ورفضَ أيةِ محاولةٍ لنقدها أو مسائلتها أو الإعلان عن ثغراتِها وأخطائها وإخفاقاتها وتعصُّباتها وانغلاقها، أو تذكيره بما كان ينهجُها فيه وكان سببًا لهجرته.
وفي ضوء ما يشرحه بيير بورديو في «الهابيتوس» (habitus)، يمكن أن نفسِّر هذا الاغترابَ الذي يعيشه بعضُ المغتربين عن أوطانهم، وكيف يمارس الحنينُ نسيانَ ذاكرةِ ألمِ الماضي، وبناءَ ذاكرةٍ بديلةٍ مبهجةٍ، وتكوينَ معرفةٍ فاتنةٍ متخيَّلةٍ بماضي المغترب وهويته. يرى بورديو أن الإنسانَ ينشأ في إطارِ هابيتوس يتشكَّل من معتقداتٍ وتقاليدَ وعاداتٍ ومفاهيمَ ورموزٍ، فيكون إطارًا عميقًا للهوية والسلوك والذوق، يترسَّخ في البنية اللاواعيةِ العميقة لشخصيته منذ الطفولة. وحين يغترب الإنسانُ ويعيش في فضاءِ هويةٍ مغايرةٍ لهويته، يحدث تنافرٌ بنيويٌّ بين: الجسدِ واللاوعي اللذين يواصلان الاستمرارَ في نمطِ هابيتوس هويةِ وثقافةِ مجتمعه، وهويةِ وثقافةِ مغتربِه، مما يخلق صراعًا حادًّا بين ما هو متجذِّرٌ في شخصيته، ورأسِ المالِ الثقافيِّ المفروض عليه في غربته، فيتسبب في اغترابٍ مريرٍ يشتدُّ ويتفاقم بمرور الأيام، وبموازاته حنينٌ حادٌّ لهوية الأمس. ويعمل العنفُ الرمزيُّ بخفاءٍ على إكراه الإنسانِ في مغتربِه على نسيانِ ماضيه ومحوِ ذاكرته والاندماجِ ببيئتِه اليوم. وهذا ما يُحفِّز المغتربَ على محوِ ما يثير النفورَ والخجلَ والألمَ والرفضَ من ذاكرةِ الأمس، واستبداله بصورٍ تجعل الذاكرةَ مصدرَ إغواءٍ فاتنةٍ، وهويةَ أمسَ مثارَ إعجابٍ واشتياقٍ.
بول ريكور تَحَدَّثَ في كتابه: "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، عن نوعين مختلفين من الذاكرة، النوع الأول: ذاكرةٌ حقيقيةٌ تعمل على استحضار الماضي كما كان بأمانةٍ وصدقٍ قدر ما يتمكن الإنسان، وذلك يرتبط بمفهوم الشهادة عند ريكور، بما يعنيه من وفاءٍ للتجربة الإنسانية والحقيقة التاريخية. وهذه الذاكرة تحرص على الحديث عن الوقائع التاريخية كما وقعت، والتحدث عن الشخصيات كما كانت، بعيدًا عن الإضافات والتحريفات، والتأويلات المتعسفة، وإن كانت عمليةُ الاستذكار ذاتَها تعني إعادةَ بناءٍ، وهذه الإعادة لا تخلو من تأويلٍ، غير أنه ضربٌ من التأويل الذي لا يزيف. والنوع الثاني من الذاكرة: ذاكرةٌ موجَّهة، يجري ابتكارُها وتوجيهُها وفقًا لمطامحَ أيديولوجيةٍ، كما تفعل الهوياتُ المغلقةُ، عندما تعمل على صياغة الماضي لتوظيفه في مطامحَ تنشدها الهويةُ في الحاضر. الهويةُ المغلقةُ لا ترى التنوعَ والتعقيدَ في الهويات، وتكون منحازةً وأسيرةً لصورة تحلم بها وتشدد على خلقها، فتعمد لانتقاء ما يجعل هذه الصورة أجملَ، وإن كان لا تعرفه الهويةُ في ماضيها، وتحرص على تكريس "نحن" مقابل "هم" على الدوام.
الهوياتُ سردياتٌ تصوغ بها المجتمعاتُ صورتَها عن نفسها، فترسمها بالكلمات، في ضوء ما تحلم به ويحلُو لها وتتمناه. وتستبعد ما يخصُّ الآخرَ المختلفَ، بل وتعمل على تهميش روايةِ المختلفِ في داخل الهوية وتتجاهلها، ولا تمتنع عن تسويغ العنف الرمزي والجسدي ضدَّه في بعض الحالات. وحذفُ ذاكرة التنوع والتعايش في إطار الاختلاف داخل المجتمع في الماضي، واستحضارُ صورةٍ واحدةٍ للهوية لا غير. وبذلك تختزل الهويةُ المغلقةُ الماضي في ذاكرةٍ أيديولوجيةٍ، تنتقيها مما تتمناه وترغب فيه، وتستبعد ما لا ترغب فيه. في ضوء ذلك تكون الذاكرةُ الحقيقيةُ مزيجًا من الحقيقة والتأويل، وهو تأويلٌ بمعنى إعادة بناءٍ، لكن الذاكرةَ الأيديولوجية الموجَّهة لا تحرص على اكتشاف الحقيقة، قدر حرصها على توجيه الذاكرة لبناء روايةِ هويةِ جماعةٍ عن ماضيها، بحيث يجري توظيف الروايةِ بالكيفية التي تفرضها الأيديولوجيا.
الإنسانُ المغتربُ يتصرَّفُ بذاكرةِ الألمِ فيعيدُ تشكيلَها، بعد حذفٍ وإضافاتٍ يُمارسُها متخيِّلُه، في ضوءِ رغباتِه وأمانيه، بكيفيةٍ يحدثُ فيها تلاعُبٌ في الذاكرةِ بالخلاصِ من صُوَرِ آلامِ الأمس، وابتكارِ ذاكرةٍ تختزنُ صورًا جميلةً للماضي، إذ يجري إعادةُ خلقِ الذاكرةِ، فبدلًا من كونِها منبعًا للألمِ والإحباطِ تصيرُ منبعًا للثقةِ والأملِ. ويتَصاعدُ الحنينُ حدَّ الشغفِ بالماضي، بنحوٍ يُضيِّعُ الوعيَ النقديَّ، ويُعطِّلُ التساؤلَ، ويُعيدُ خلقَ الذاكرةِ ويستبدلُها بما يتمنَّى أن تكونَ عليه. عندما تنغلقُ الهويةُ تنظرُ لذاتها بوصفِها نهائيةً كاملةً مكتفيةً بنفسِها، وتُعيدُ صياغةَ ماضيها وحاضرِها، بحيثُ ترى ذاتَها على الدوام؛ إما متفوِّقةً على غيرِها أو مظلومةً مضطهَدةً، وكأنْ لا شيء آخرَ في تاريخِها سوى كونِها بطلةً، أو ضحيةً لأعداءَ متربصينَ بها، وتَخترعُ حكاياتٍ متنوِّعةً لكيفيةِ تآمرِ أولئك الأعداءِ عليها. يحرصُ على صناعةِ هذه الحكاياتِ وترويجِها الزعماءُ المستبدُّون وأجهزتُهم الدعائيةُ الفعّالةُ، بغيةَ تبريرِ استبدادِهم وتكريسِه، وخَلعِ المشروعيةِ على قمعِهم. وتَحتجبُ خلفَ ذلك مختلِفُ العواملِ الداخليةِ للإخفاقِ والفشلِ، فلا يُفكَّرُ في أثرِ الاستبدادِ السياسيِّ والدينيِّ، ولا في مصادرةِ حرياتِ وحقوقِ المواطنينَ، ولا في تفشِّي القيمِ والتقاليدِ المتحجِّرةِ، ولا في شيوعِ الأميةِ والتجهيلِ والتخلُّفِ.
ويجري تلاعُبُ الهويةِ المغلقةِ بالذاكرةِ بكيفيةٍ تُعلي من قيمةِ كلِّ شيءٍ ينتمي إليها، وتنتقصُ من قيمةِ كلِّ شيءٍ ينتمي لغيرها، فتعمدُ إلى حذفِ المظالمِ والهزائمِ من تاريخِها، وتضخيمِ الانتصاراتِ والإنجازاتِ وتصويرها بشكلٍ مُبهِر، وإعادةِ إخراجِها بشكلٍ يجعلُها تتنكَّرُ للواقعةِ المدونةِ في المراجعِ التاريخيةِ المتاخمةِ لعصرِها، وكثيرًا ما تنتقلُ الواقعةُ من كونِها حادثةً وقعت في زمانٍ ومكانٍ معينٍ وتلتحقُ بالأساطيرِ، يراها أتباعُ الهويةِ المغلقةِ بوصفِها مفارقةً لعصرِها ومتعاليةً على التاريخِ، وذلك ما يتجلَّى في الوقائعِ التاريخيةِ التي تَقترنُ بطولتَها بشخصياتٍ دينيةٍ في مختلفِ الأديانِ.كلُّ هويةٍ يَخترعُ متخيِّلُها أساطيرَها الخاصةَ، ويتمادى متخيِّلُها في افتعالِ ما يريدُ أن يراه من صورٍ مبهجةٍ لهويتِه المترسِّبةِ في أعماقِه. كل هوية يخترع متخيلها أساطيرها الخاصة، ويتمادى متخيلها في افتعال ما يريد أن يراه من صور مبهجة لهويته المترسبة في أعماقه.
تعملُ الهويةُ المغلقةُ على إعادةِ خلقِ ذاكرةٍ موازيةٍ لها، تَنتقي فيها من كلِّ شيءٍ، في تاريخِها وتراثِها، ما هو الأجملُ والأكملُ، ولا تكتفي بذلك، بل تَسلُبُ ما يمكنُها من الأجملِ والأكملِ في تاريخِ وتراثِ ما حولَها، فتستولي على ما هو مضيءٌ فيه. يَجري كلُّ ذلك في ضوءِ اصطفاءِ الهويةِ لذاتِها، لذلك تَعمَدُ إلى حذفِ كلِّ خساراتِ الماضي وإخفاقاتِه من ذاكرةِ الجماعةِ، ولا تتوقَّفُ عند ذلك، بل تسعى لتشويهِ ماضي جماعاتٍ مجاورةٍ لها، والتكتُّمِ على مكاسبِها ومنجزاتِها عبرَ التاريخِ.

https://alsabaah.iq/114075-.html
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني
د. عبد الجبار الرفاعي
يجري في المقرر المتعارَف دراستُه في معاهد التعليم الديني اختزال الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي المقتول، وغالبًا ما يجري التعرّفُ على بعض أفكارهما عبر ملا صدرا، فيما يغيب بنحوٍ تام أو يشحّ حضورُ تراثٍ فلسفي واسع، أنجزه فلاسفةٌ معروفون. كانت فلسفةُ ملا صدرا وما زالت محورًا للدرس الفلسفي في معاهد التعليم الديني، وتنامت واتسعت دراستُها في نصف القرن الماضي. التقليد المكرّس في هذا الدرس اليوم لا يهتم إلّا بفلسفة ملا صدرا الشيرازي، وتلامذةِ فلسفته. وكأن الفلسفةَ في الاسلام تبدأ وتنتهي بملا صدرا.
يلتقي القارئُ في المجلدات التسعة لكتاب "الأسفار الأربعة" باقتباساتٍ مطولة من آثار الفخر الرازي وغيره، فقد قال بعضُ المحققين إن ملا صدرا نسخ كتابَ: "المباحث المشرقية"، ونصوصًا لابن عربي. ويلتقي القارئُ بكلمات القيصري شارح "فصوص الحكم"، مضافًا إلى نصوص من الكتب الأخرى، وغالبًا لا يشير ملا صدرا إلى ما يقتبسه، حتى اتهمه البعضُ بالانتحال. وذهب آخرون إلى أن ملا صدرا جمع أكثر كتابه الأسفار الأربعة وغيره بنَسْخ مؤلفات غيره، فقد كتب علي أصغر حلبي: "لا تكمن أهمية فيلسوفنا في تأليفه كتابًا ضخمًا بحجم الأسفار، وإنما تكمن أهميته في بيان بضع مسائل بديعة لا يتجاوز بيانها أربعين صفحة، ولو أن هذا الرجل العظيم قد اكتفى بطرح هذه الأفكار في رسالة مختصرة، لكفى نفسه وكفانا مؤونة قراءة موسوعاته" .
وكان الميرزا أبو الحسن جلوه (1238- 1314 ه) أول من نبّه على ذلك. أبو الحسن جلوه فيلسوف مشائي من أتباع ابن سينا، والمعروف عنه أنه كان لا يدرّس كتابًا إلا بعد أن يصحّحَه، ويشرحَ غوامضَه، ويحيل على مصادره ومراجعه.كان جلوه يحتفظ بنسخة مخطوطة من الأسفار الأربعة "موجودةٍ في مكتبة مجلس الشورى في طهران. وهي مملوءةٌ بالتعليقات، التي كتبها بين سطورها" . نبّه أبو الحسن جلوه إلى المراجع التي نقل عنها ملا صدرا، من دون أن يحيل إليها صاحبُ الأسفار، حتى نسب بعضُ الباحثين الى جلوه أنه ألّف كتابًا، بعنوان: "سرقات ملا صدرا، وأشاروا إلى أنه محفوظ في مكتبة مجلس الشورى. حيث تم استخراج الموارد التي أخذها صدر المتألهين من الآخرين" . ولعلها التعليقاتُ المذكورة نفسُها، إذ لم تدرج في آثار جلوه، وهي غير موجودة اليوم في فهارس هذه المكتبة، وربما أخفاها أحدُ عشّاق ملا صدرا.
كما اتهم الآغا ضياء الدين درّي ملا صدرا بانتحال أفكار غيره من دون إشارة. إذ تعرّض إلى هذا الموضوع عند التعريف بملا صدرا في القسم الأخير من ترجمته لكتاب "كنز الحكمة" للشهرزوري، الذي خصَّ به الفلاسفةَ الذين لم يرد ذكرُهم في هذا الكتاب. وهناك صرَّحَ بانتحالات ملا صدرا، وذكر العديدَ من الموارد، فقال بصراحة: "كان صاحب الأسفار يعمد إلى إسقاط بداية النص وخاتمته، وفي أغلب الموارد تكون العبارات منقولة بشكل خاطئ، الأمر الذي كان يوقع الأساتذة المتقدمين في الخطأ في سعيهم إلى توجيه تلك العبارات ... في الكثير من الموارد ينسب مسائل وأجوبة الآخرين إلى نفسه" .
حسن حسن زاده آملي، الذي هو أبرزُ المختصين في عصرنا بآثار ملا صدرا، وأوسعُهم اطلاعًا وتتبعًا، والذي قام بتصحيح الأسفار الأربعة والتعليق عليها ، يقدّم لنا شهادتَه الصريحة بهذا الشأن، بعد 20 عاما من التدقيق والتحقيق والتدريس لكتاب "الأسفار" وكتب ملا صدرا، وكتابَي الفتوحات والفصوص، ففي كتاب زاده آملي: "العرفان والحكمة المتعالية" وهو بالفارسية ، يقول: "إن جميع المباحث الرفيعة والعرشية للأسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقية الصحف القيّمة والكريمة للشيخ الأكبر وتلاميذه، بلا واسطة أو مع الواسطة... إذا اعتبرنا كتاب الأسفار الكبير مدخلًا أو شرحًا للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصواب، ولا سيما عندما يذكر: تحقيق عرشي" ، وأضاف حسن حسن زاده آملي ما نصه: " كل ما لدى ملا صدرا هو من محيي الدين وقد جلس على مائدته" .
وكتب جهانگيري في مقدمة تصحيح رسالة (كسر أصنام الجاهلية) لملا صدرا: "إن جميع المسائل تقريبا، وأكثر العبارات والأحاديث الواردة في هذه الرسالة ــــ إلا في بعض الموارد المعدودة ــــ منقولة عن مؤلفات المتقدمين على عصر صدر المتألهين، وقد نقلها دون الإحالة إلى مصادرها، ويبدو أنه كان يقوم بنقل الأحاديث من ذاكرته ودون الرجوع إلى كتب الحديث. وكان لكتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي الحصة الكبرى من الكتب التي اعتمدها صدر المتألهين، وقام بتلخيص موضوعاتها" .
وأشار رضا أكبريان ــــ الذي تولى تصحيحَ المجلد التاسع من الأسفار ــــ في هوامش متعددة إلى ذلك، إذ يكتب مثلًا: "إن عبارة المصنف في هذا الشأن قد وردت في كتاب (المباحث المشرقية) مع شيء من التغيير" . أو قوله: "إن مسائل هذا الفصل شبيهة بمسائل (المباحث المشرقية)" . ومن ثم ذكر موضعَ المصادر الأصلية لتسهلَ على القارئ عمليةُ المقارنة بين هذه الموارد. وفي الحقيقة، إن صدرَ المتألهين قد أخذ هنا ما يقرب من عشرين صفحةً عن الفخر الرازي، دون أن يشيرَ إلى مصدره، مع قيامِهِ بتغيير بعضِ الكلمات والعبارات .
وكذلك أشار جوادي آملي في شرحه على الأسفار إلى هذه الحقيقة،كما في ذلك قوله: "إن بعض أبحاث هذا الفصل متطابقة مع أبحاث الفخر الرازي في (المباحث المشرقية)" ، وهكذا قوله: "لقد ذكر ابنُ سينا برهانَ الصديقين في الفصل التاسع والعشرين من النمط الرابع من (الإشارات والتنبيهات)، وقام المحقّق الطوسي بشرحه، وإنَّ جانبًا من عبارات هذا الفصل من الأسفار هي ذات عبارات شرح الطوسي على الإشارات" .
كما نبه أحمد خسروجردي إلى كيفية نقل ملا صدرا عن غيره، بقوله: "لم يقتصر على جملة واحدة أو جملتين، وإنما قد يستغرق أحيانًا صفحة كاملة وحتى أربع صفحات، بل وحتى فصلًا كاملًا أو فصلين من كتب الآخرين، دون أدنى تغيير" .
وقال علي رضا ذكاوتي قراگزلو: "هناك فصلٌ كاملٌ في (عشق الظرفاء والفتيان وذوي الأوجه الحسان) منقولٌ بنصِّه عن (رسائل إخوان الصفا) ، فعلى من أراد أن يجري مقارنةً بينهما، أن يقفَ على حقيقة ذلك" .
وكتب مهدي حائري يزدي: "المعروف أن صدر المتألهين قد أخذ أجزاء من كتاب الأسفار الأربعة وبعض كتبه الأخرى عن الآخرين دون ذكر أسمائهم. وهذا ما وجدته بنفسي، حيث رأيت اقتباساته عن (المباحث المشرقية) في كتاب (الأسفار الأربعة)، دون أن يشير إلى ذلك" .
كما صرّحَ غلام حسين إبراهيمي ديناني قائلا: "إن صدر المتألهين في الكثير من الموارد قد نقل نص عبارات الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء الذين سبقوه، دون أن تصدر عنه أدنى إشارة للمصادر التي نقل عنها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تبرير صدور هذا الأمر عن مثل هذا الشخص الحكيم والمتألِّه؟" .
تسيّدت فلسفة ملا صدرا في معاهد التعليم الديني بشكل حجبت فلاسفة عالم الإسلام سواه، وبالغ المعجبون فيه إلى درجة جعلوه يتفوق على فلاسفة المشرق والمغرب في تاريخ الإسلام، وقلما درست آثاره دراسة نقدية في معاهد التعليم الديني، أو جرى التفتيش عن مرجعيات نظرياته والكشف عن منابعها، وغالبًا ما تم التسليم بما يقوله بلا تفحص واختبار وتمحيص.
شدّد ملا صدرا في بعض كتاباته على أنه هو مَن أبدع نظريةً أو قاعدةً ما، وأنه لم يسبقه للقول بها أحد، في حين نعثر عليها نفسها فيما أورده ابنُ عربي أو غيره قبله مثلًا،كما نلحظ ذلك بقوله: "وهذا مطلب شريف لم أجد في وجه الأرض من له علم بذلك" ، وهو يتحدث عن قاعدة: "بسيط الحقيقة كل الأشياء"، التي وردت في آثار ابن عربي، فقد ذكر القيصري في شرحه لفصوص الحكم هذه القاعدة في سياق قوله: "لأن تلك الحقائق أيضاً عين ذاته حقيقة، وإن كانت غيرها تعينًا". والغريب أن ملا صدرا يورد نصًّا لابن عربي تأييدًا لما قرّره في هذه القاعدة، إذ يقول محيي الدين: "العلم التفصيلي في عين الإجمال" .
كما أن القارئ الخبير بكتاب الأسفار لملا صدرا وآثارِ ابنِ عربي يعرِفُ أن نظريةَ الحركة الجوهرية لملا صدرا هي صياغةٌ أخرى لنظرية تجدّد الأمثال عند ابن عربي. وإن كانت نظريةُ تجدد الأمثال تتسع لكل عالَم الإمكان الذي يشمل عوالِمَ العقل والمثال والمادة، لكن ملا صدرا خصَّها بعالَم المادة. ويعني تجدّدُ الأمثال أنَّ وجودَ كلّ شيء في عالم الإمكان يتلوه وجود، من دون أن يتخللَ العدمُ بينهما، أي في كلّ آنٍ يظهر وجود، ثم يليه وجودٌ جديد، وهكذا تتوالى الوجودات كلَّ آن. يرى المتصوفةُ أن لكل وجود باطنًا وظاهرًا، وتجددُ الأمثال هو تجلِّي الوجود الإمكاني وظهورُه من عالم الباطن. أما الحركةُ الجوهرية فهي صيرورةٌ تكاملية لكل شيءٍ موجودٍ في عالم المادة، أي ليس هناك جوهرٌ ماديّ ثابت في الطبيعة، كلُّ وجودٍ لجوهر في حالة صيرورة سيالة مستمرة متواصلة، يتكامل وجودُه معها بالتدريج حتى يتجردَ ليتوقفَ، إذ لا حركةَ في المجرَّد .
وعلى الرغم من الانقسام في المواقف من ملا صدرا، لكن تَسيَّد منذ النصف الثاني من القرن العشرين التيارُ الصدرائي، وحجب الأصواتَ الناقدة لهذه الفلسفة. فمثلًأ تمحورت اهتمامات مرتضى المطهري وغيرُه من تلامذة الطباطبائي بالفلسفة الصدرائية، وأُعجب المطهري في توصيف أثرها بعبارات، هو أقرب لمديح الشعراء من صرامة عقل الفلاسفة، فنراه يقول في سياق حديثه عن الحركة الجوهرية: "إن من جملة الأفكار الثمينة جدًّا لصدر المتألهين، والتي غيرت وجه الفلسفة، وفي الواقع غيرت وجه العالم في نظرنا، هي إثباته للحركة الجوهرية. وهي تعني أن جواهر هذا العالم، وتبعًا لها أعراض العالم، في تغيُّر دائم ومستمر، وأساسًا لا يوجد ثبات في عالم الطبيعة" . والذي نعرف أن ملا صدرا (980هـ-1050هـ / 1572م-1640م) في الشرق كان معاصرًا لديكارت (1596 –1650) في الغرب، ولا ينكر خبيرٌ بتاريخ الفلسفة أن عقلانيةَ ديكارت كانت رائدةً في انبعاثِ العقلانية الحديثة، والتحرّرِ من وصاية العقلانية الأرسطية. ولم نرَ حتى اليوم أثرًا ملموسًا للفلسفة الصدرائية في بناء عقل حديث في عالم الإسلام.
سنة 1991م ترجمتُ من الفارسية كتابَ "شرح المنظومة المبسوط" في 4 أجزاء لمرتضى مطهري، وأردفتُه بترجمة: "محاضرات في الفلسفة الإسلامية" له أيضا، وكلاهما مطبوعٌ بالعربية، ولم قرأ له فيهما كلمةٌ واحدة أو إشارةٌ عابرة في نقد الفلسفة الصدرائية أو دعوة لضرورة مراجعتها ونقدها وتمحيصها. يرى المطهري بأن "ملا صدرا ألّفَ بين المسلك العقلي للفلسفة والمسلك القلبي للعرفان" . ونحن نعلم أن الفلسفة لا تخرج عن مرجعية العقل، فهي تستقي من العقل وتسقيه، والعرفان لا يخرج عن مرجعية القلب، فهو يستضئ بالقلب ويضيؤه.
بسبب سطوة الفلسفة الصدرائية لا يعرف أكثرُ دارسي الفلسفة في المعاهد الدينية شيئًا عن فلسفة أول فيلسوف مسلم، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكِندي المتوفى سنة 252 أو260 هـ، والذي عدَّه كاردان cardan؛ أحدُ فلاسفة عصر النهضة «واحداً من اثني عشر مفكرًا، هم أنفذ المفكرين عقولًا» . وأورد ابنُ النديم في (الفهرست) قائمةً لمؤلفات الكندي تجاوزت (230) عنوانًا ؛ منها ما هو في الفلسفة، ومنها ماهو في المنطق، والموسيقى، والحساب، والطبيعة، وغير ذلك، لكن ما وصلنا منها هو مجموعةُ رسائل، ظلَّت حتى عهد متأخر طيَّ النسيان، حتى اكتشفها في الثلاثينات من هذا القرن المستشرقُ الألماني ريتر H-Ritter، في مكتبة أيا صوفيا بإسطنبول، فعكف عليها محمد عبد الهادي أبو ريدة، ونشر ما يتصل منها برسائل الكندي الفلسفية والعلمية في مجلدين، صدر الأولُ منهما عام 1950م، وصدر الثاني عام 1953م، وقدّم أبو ريدة لهذه الرسائل بدراسةٍ مستفيضة عن الكندي، وفكرِه الفلسفي، وإسهامِه في تأسيس الفلسفة في الإسلام. وكانت بضعُ رسائل أخرى قد نُشرت للكندي في أوروبا قبل هذا التاريخ بكثير، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بترجمات لاتينية، ضاع الأصلُ العربي لبعضها .
كذلك يظل تلميذُ الفلسفة في هذه المعاهد يجهل ما أنجزه الفيلسوفُ أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي المعروف بالمعلم الثاني والمتوفى سنة 339هـ ، والذي وصفه ابنُ خلكان بأنه: "أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه" . ولذا نصَّ غيرُ واحدٍ ممن ترجموا لابن سينا أو درسوا فلسفته، على أنه كان تلميذًا لتصانيف الفارابي، بل ذهب بعضُهم إلى أننا: «نكاد لا نجد في فلسفته شيئًا الا وأصوله عند الفارابي» . وربما لا يتاح لتلميذ الفلسفة سوى معرفة بعض الآراء القليلة للفارابي، المتناثرة في آثار ملا صدرا الشيرازي، والفلاسفة التالين لـه، ممن يتعاطى التلاميذُ دراسةَ مؤلفاتهم في معاهد التعليم الديني، وهي لا تقدّم صورةً واضحة عن الآثار الفلسفية للفارابي، ودورِه التأسيسي للفلسفة في الإسلام. يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في ترجمته لنفسه: «وانتهيت إلى العلم الإلهي ، وقرأت (كتاب ما بعد الطبيعة)، فلم أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرضُ واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا. وأنا ـــ مع ذلك ـــ لا أفهمه، ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، فحضرتُ يومًا، وقت العصر، في سوق الوراقين، فتقدم دلال بيده مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم، معتقدًا أنْ لا فائدة في هذا العلم، فقال: اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه، وهو رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، فاشتريته، فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الطبيعة). فرجعت إلى داري وأسرعتُ قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنه صار محفوظًا على ظهر القلب، ففرحت بذلك، وتصدقت في اليوم التالي بشيء كثير على الفقراء، شكرًا لله تعالى...» .
واحدة من نتائج تقليد فلسفة ملا صدرا تعطيل الاختلاف والتساؤل الفلسفي في معاهد التعليم الديني. الفلسفة فن الاختلاف والتشكيك والتساؤل، تسود تاريخَ الفلسفة سلسلةٌ متوالية من الاختلافات والتساؤلات الكبرى، وتقويض اليقينيات المتصلبة، والخروج على ما كان كثيرون يحسبونها بداهات راسخة. لولا ذلك لم تتعدّد وتتنوع المدارسُ الفلسفية، ولم تختلف الرؤى والمواقفُ والآراء والمفاهيم المتصارعة للفلاسفة. يبدأ موتُ الفلسفة لحظة تتسلط آراء فيلسوف واحد ويقلده دارسو الفلسفة، ويرضخ الكلُّ لما يقوله. ‏لا يتجلى التفلسف ولا يدلّل على حضوره وفاعليته إلا بالأسئلة وإجابات الأسئلة التي تتوالد منها أسئلةٌ واختلافات في الرؤى والآراء. التقليد والاتباع يُفسِد التفلسف.
اختصار الفلسفة بملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني في القرن الأخير يعود إلى كون الفلسفة الصدرائية مزيجًا من الفلسفة والعرفان، وهي تعبير واضح عن الحاجة إلى ما تنشده الحياة الحياة الروحية. فضلًا عن أن الفقهاء الذين قالوا بولاية الفقيه المطلقة يتبنون نظرية الإنسان الكامل في العرفان، وفلسفةُ ملا صدرا الشيرازي أساسٌ لهذه النظرية، لذلك اتسعت دراسةُ وتدريس هذه الفلسفة في قم بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

https://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%85%D9%84%D8%A7-%D8%B5%D8%AF%D8%B1%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A-9843
الهوية المغلقة تتلاعب بالمعرفة
د. عبد الجبار الرفاعي
تعمد الهويةُ المغلقة إلى التلاعب بالمعرفة؛ فبدلًا من أن تكون المعرفةُ سعيًا متواصلًا لاكتشاف الحقيقة، والكشف عن المزيد من طرق الوصول إليها وتجليتها، وتظلَّ أفقًا مفتوحًا للأسئلة والمراجعات النقدية، تصير وظيفتُها الدفاعَ عن الهوية، وتبريرَ أخطائها وإخفاقاتها مهما كانت مفضوحة. ولا تقتصر هذه الهوية على تسخير المعرفة للدفاع، بل تستخدمها أيضًا لغلق منافذ التساؤل والنقد، ومنع أية محاولة لغربلة التراث وتمحيصه خارج رؤيتها، مع تنمية الحنين للماضي وترسيخه عبر التكرار والمبالغة، وتوليد صورٍ فاتنة له في المتخيل الجمعي، تُظهره بصورةٍ مضيئة لا يشوبها ظلام.
حقلُ العلم غيرُ حقل الدين، وحقلُ المعرفة غيرُ حقل الإيمان. وظيفةُ العلم غيرُ وظيفة الدين، ووظيفةُ المعرفة غيرُ وظيفة الإيمان، مهمةُ رجل العلم في الحياة غيرُ مهمة رجل الدين. العلومُ كونيّةٌ لا هويةَ دينية واعتقادية وأيديولوجية لها، وإلّا لو حاول كلُّ مجتمع أن يبتكر العلومَ من جديد، ويشتقّها في سياقات دينه ومعتقده وميراثه، بدعوى أن العلومَ تأسرها بيئاتُ وثقافاتُ ودياناتُ مَن ينتجها، فإن ذلك، فضلًا عن أنه مُتعذَّر، لأن البشريةَ احتاجت لآلاف السنين حتى وصلت العلومُ إلى هذه المرتبة، يفضي أيضًا إلى تعدّد العلوم والمعارف بعدد الأديان والمعتقدات والثقافات في المجتمعات البشرية، وهذا ما يكذِّبه الحضورُ المكثَّف للعلوم والمعارف في العالَم كلّه، إذ نجدها ذاتَها ماثلة في مراكز الأبحاث والتربية والتعليم والتكنولوجيا ومختلف مجالات الحياة، سواء أكانت في الولايات المتّحدة الأمريكية أو أستراليا أو بريطانيا أو روسيا أو فرنسا أو الهند أو الصين أو اليابان أو ماليزيا أو إيران أو تركيا أو مصر، وغيرها في العالم.
منطقُ التاريخ وقوانينه شاملان، لكن هناك شعورًا كامنًا في لاوعي كثيرٍ من الناس في مجتمعِنا بأنهم يشكّلون استثناءً في حضارتِهم وهويتِهم ومعتقدِهم وثقافتِهم وتاريخِهم، وكأن تاريخهم لا يخضع لما تخضع له تواريخُ المجتمعات الأخرى من قوانين، وثقافتهم تتفوق على كلِّ الثقافات، وتراثهم مختلفٌ عن كلِّ تراث، وهويتهم تنفرد بخصوصياتٍ استثنائيةٍ. ظلَّ هذا الشعورُ بالخصوصية والاستثناء يغذي الهويةَ باستمرار، حتى تصلبتْ وانغلقتْ على نفسها، فبلغت حالةً تتخيل فيها أنها مكتفيةٌ بذاتها، إذْ تعتقد أن كلَّ ما تحتاجه في حاضرِها ومستقبلِها يمدها به ماضيها. صار تراثُها بمثابة منجمٍ زاخرٍ بكلِّ ما هو ضروري لأي عمليةِ بناءٍ ونهوضٍ، وباتت تتوهم بأن علومَها ومعارفها الموروثة تغنيها عن كلِّ علمٍ ومعرفةٍ تبتكرها المجتمعاتُ الأخرى، بدعوى أن هذه المعارف منتجاتٌ لمجتمعات أجنبية تنتهك خصوصيتَها، وتهدد هويتَها، وتؤدي إلى تغريبها.
في إطار الهوية المغلقة الساكنة، يخفق الإنسانُ في تحقيق حضورٍ حقيقي في عالمٍ يتغير فيه كلُّ شيء، لأن الحضورَ الفعلي في العالم يفرض عليه أن يتغير هو ذاته مع تغيّر العالم. لم تعد أسوارُ أيةِ هويةٍ تعاند التاريخَ قادرةً على حماية نفسها أو إبقاءِ كلِّ ما كان كما كان، في عالمٍ بات فيه التغييرُ شرطًا لازمًا للبقاء.
حين تنغلق الثقافةُ والهويةُ والحضارة على ذاتها وتتوهم أنها نهائية ومكتفية، تدخل مسارَ انحطاطها واندثارها وتعرضها للنسيان. لا معرفةَ حيّة مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ حيّة مكتفية بذاتها، لا هويةَ حيّة مكتفية بذاتها، ولا حضارةَ حيّة مكتفية بذاتها.كلُّ هوية حيّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الهويات.كلُّ ثقافة حيّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الثقافات، وكلُّ حضارة حيّة مركبة تنصهر فيها مكونات عدة حضارات. الحضارة لا تزدهر إلا من خلال تفاعل خلّاق للخبرات الإنسانية العالمية المشتركة؛ إذ تلتقي هذه الخبرات في مركب أكثف لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالميّ في الوقت الذي هو محلي، ومحلي في الوقت الذي هو عالمي. العلوم الطبيعية والعلوم الصرفة علوم كونية، أما العلوم الإنسانية فالكوني فيها أكبر بكثير من المحلي، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته.
تعيد الهويةُ المغلقة بناءَ نظامٍ معرفي داخلي مغلقٍ يختص بها، تحرص على تميّزه بلغةٍ ومصطلحاتٍ خاصة، وتعمل على شيطنة المصادر الخارجية للمعرفة، خاصةً في الفلسفة والعلوم الإنسانية، من خلال تشويهها وتقويلها ما لا تقول. وأحيانًا تستعير شيئًا من نظرياتها ومفاهيمها وتخلع عليها تسميات تراثية، كما يحدث في محاولات "أسلمة علم النفس"، إذ يجري نسخ ما يقوله علم النفس الحديث، وإطلاق أسماء تعود للتراث الديني عليه، ومثل ذلك يجري في أسلمة غيره من علوم الإنسان والمجتمع.
كما يجري توظيف المقدّس كأداة احتكار معرفي، إذ يُوصَف ما يعود للتراث الديني بأنه مقدّس يلزم تبنّيه واعتباره مرجعيةً لمختلف أنواع المعرفة؛ وفي ضوء ذلك التراث تتحدد مشروعية المعرفة وقبولها، أو عدم مشروعيتها ورفضها. وتُستعمل لغةٌ عاطفيةٌ متوترةٌ مشحونةٌ بمصطلحات ذات إيقاعٍ حربي، مثل مصطلح "الغزو الثقافي" في توصيف أية معرفة يتلقاها الإنسان من خارج تراثه، مع تعبئة مشاعر المجتمع ضد خطرها وآثارها الفتاكة.
عندما تصبح المعرفةُ العلمية موضوعًا للإيمان أو الدين أو العقيدة، فإنها تخرج عن كونها معرفةً بالمعنى الدقيق. ما يُسمى بـ "أسلمة المعرفة" وأمثالها ليست سوى محاولات لإنتاج هوية دينية وعقائدية للمعرفة في مختلف المذاهب الإسلامية. في هذه الحالة، تتحول المعرفة إلى ذاتٍ مغتربة عن ذاتها، إذ ترفض الهوية الدينية والعقائدية للمعرفة التفكيرَ النقدي، وتعاند النقاش، وتنزعج من التساؤل، وتُقلقها المراجعة، ولا تقبل التأمل وإعادة النظر،كما تتنكر للغربلة والتمحيص. المعرفة العلمية تزلزل اليقينيات وتثير الشكوك والأسئلة، والشكوك والأسئلة يُجهضان التسليم المطلق الذي تفرضه الهويات المغلقة. حين تتدخل الهويات الدينية أو العقائدية في المعرفة العلمية، فإنها تفسدها من الداخل. أسوارُ الهوية المغلقة حين تسجن فيها المعرفة العلمية تخنقها وتميت روحها الحيّة. ما يُعرف بـ "الإعجاز العلمي" وأمثاله هو تعبير عن أيديولوجيا أسلمة العلوم والمعارف، وهو نموذج واضح لهذا التداخل الذي يفسد المعرفة العلمية.
كان التنكّرُ للأبعاد الكونية في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع أعقدَ مأزقٍ تورّط فيه العقلُ الدينيُّ والقوميُّ في عصرنا، خاصة في مجتمعاتنا. وقد ظهر ذلك بوضوحٍ في مشاريع استنزفت أموالًا طائلة وأهدرت عقولًا فذّة، وظلَّ وهمُها يلاحق عدةَ أجيال إلى اليوم، تلك المشاريع التي تسعى بلا جدوى منذ عقود لاكتشافِ هويةٍ دينية للعلوم والمعارف، أو التنقيب عن هويةٍ قوميّةٍ ضائعةٍ للعلم والمعرفة. نوستالجيا الهوية وأوهامها عن الذات الحضارية تدعو كثيرين للمطالبة بالكفّ عن استعارة المعرفة العلمية، بدعوى تحقيق الذات الحضارية بعيدًا عن هيمنة الآخر الغربي. لكن ألا يجدر بهؤلاء أن يتساءلوا: أين هي علوم الذات الحديثة؟! كيف يمكننا أن نقطع الصلة بالعلوم الطبيعية والعلوم البحتة والعلوم التطبيقية والذكاء الاصطناعي والعلوم الإنسانية الحديثة، وهي علوم تطورت وتوالدت وازدهرت في مجتمعات أخرى خارج المجتمعات الإسلامية؟
إدمانُ مديح الماضي والحنين إليه في أحاديثنا وكتاباتنا ليس إلا تعبيرًا عن الإخفاق في الحضور الفعلي في عالم اليوم من خلال منجز حقيقي.كلُّ من يعجز عن الحضور عبر منجزه يلجأ إلى تعويض ذلك بفعلٍ يوهمه بالحضور. مديحُ الماضي هو شكلٌ من أشكال استجداء الاعتراف من الآخر الذي يفرض حضوره في عالم اليوم بمنجزه. هذا الحنين يفضي إلى المزيد من الضياع في أنفاقِ التراث، والغرقِ في متاهاته، وتقليدِ القدماءِ في كلِّ شيء، ومع التقليد يكفُّ العقلُ عن أن يكون عقلًا، ويتوقف التفكيرُ عن التساؤل والنقد.

https://alsabaah.iq/114451-.html
لم تعد الحاجة للكتاب اليوم كما كانت

د. عبدالجبار الرفاعي
الاهتمامُ بالكتاب صفةٌ حميدة، يحكي جعفر الخليلي في كتابه "هكذا عرفتهم" عن أحد أصدقائه من تجار النجف الأميين،كان يمتلك مكتبةً واسعة تضمُّ آلافَ الكتب، يشتري كلَّ جديد ويجلّده تجليدًا فاخرًا، ويودعه في مكتبته. لا أستطيع المكوثَ ببيتٍ بلا مكتبة، لم أتذمّر يومًا أو أندم من هذا الشره إلى شراء الكتب، ولا أنزعج من تكرار محاولاتي بإعادة تأسيسِ مكتبةٍ كلّما خسرت واحدة منها. في حوزة قم أنشأتُ مكتبةً في ثمانينيات القرن الماضي. في قم سوقٌ من عدة طوابق يضمُّ مجموعةَ مكتباتٍ لبيع الإصدارات العربية. معظمُ أصحابِ المكتبات من الأصدقاء العراقيين، أتردّد عليهم باستمرار، وأشترى ما أراه جديدًا. أسعار الكتب رخيصة، تنامى رصيدُ المكتبة عاجلًا، بمدة قصيرة تجاوزت مقتنياتها 1000 كتاب. تواصل الشراءُ فضاق البيتُ بالكتب، بعد أن تجاوز عددُها 6000 كتابٍ ومجلة. أمسى مصيرُ المكتبة البيعَ أيام إصدار مجلة قضايا إسلامية معاصرة سنة 1997، وسلسلة الكتاب الرديفة لها. اشترت الكتبَ بمجموعها مكتبةٌ عامة قيدَ الإنشاء تخطّط لأن يكون رصيدُها مليونَ كتاب. اكتأبت العائلةُ واكتأبتُ أنا، وكأن قدرَنا الأبدي رثاءُ مكتباتنا، عندما يتكرّر فقدانُ المكتبة، لأيّ سبب من الأسباب، يغرق الإنسانُ بكابوس خسرانِه كنوزَه النادرة. المكتبةُ مكونٌ جميل لذاكرتنا، ومستودعُ أثمن مقتنياتِنا. زوجتي أم محمد اكتأبت جدًا وعاشت ساعاتٍ مريرة، أجهشت بالبكاء لحظة نزولها للطابق الأسفل، لحظة صدمت بوحشة هذا الطابق؛ وكأنه يرثي رحيلَ المكتبة وهجرانَها للبيت الذي احتضنها وآواها. تصف حالتَها وهي تبكي بكاءً شديدًا، فتقول: شعرتْ كأنَّ روحي انتزعت مني وهرولت بعيدًا عساها تدرك المكتبة.كنتُ أقتّرُ على نفسي بكلِّ شيء غير أساسي، لفرط شغفي حدَ الهوس بالكتب، كنتُ أغفل فأقدّم شراءَ الكتاب على تسوق الفاكهة لأولادي. لا أنسى كلمةً، كلّما تذكّرتها شعرتُ بتأنيب ضميرٍ من تقصيري، قالها ولدي محمد باقر "مواليد 1982" حين كان طفلًا، وهو يراني لحظةَ عودتي للمنزل لا أحمل إلا عدة َكتبٍ، وأنسى شراءَ الفواكه عدةَ أيام، فقال بهدوء ولطف: بابا ليش "لماذا" ما تشتري لنا فواكه!
بعد بيع المكتبة، لم أترك منذ الأسبوع الأول الإدمانَ المزمن على زيارة سوق الكتب، كذلك تكثّفت زياراتي لمعرض الكتاب،كنتُ أذهب مرة أو مرتين، صرتُ أحضر أكثرَ أيام المعرض. أنهمك من الصباح إلى المساء بشراء كمياتٍ من الإصدارات المتنوعة لدور النشر العربية، أسعارُ الكتب مناسبة، أيام وزارة محمد خاتمي لوزارة الإرشاد ثم رئاسته للجمهورية كانت الوزارة تقدّم دعمًا سخيًا لمطبوعات الناشرين المحليين بالورق، وتدعم مختلفَ مبيعات كتب المكتبات من خارج إيران في المعرض. تراكمُ الكتب دعاني لتخصيصِ طابقٍ بتمامه في البيت للمكتبة. استوعبت المكتبةُ المجموعاتِ الكاملة لدورياتٍ عربية وفارسية معروفة، تصلني باستمرار عبر البريد دورياتُ دراساتٍ ومجلاتٌ ثقافية عربية تصدر في بيروت والقاهرة وبلاد الخليج ولندن. راسلتُ مجلةَ المستقبل العربي أطلب منحي اشتراكًا مجانيًا، لم يهمل مركزُ دراسات الوحدة العربية رسالتي؛ فبعث لي جوابًا يشير إلى تسجيل اشتراكٍ ريثما يتبرع أحدُ أصدقاء المركز باشتراكاتٍ مجانية لقراء المجلة، وصلني العددُ الشهري للمجلة بعد مدة وجيزة، مرفقًا بفاتورة اشتراك سنوي أهداه متروك الفالح الذي لم أكن قبل ذلك سمعتُ اسمه، الفالح سعودي أحد أصدقاء المركز المعروفين. يتجدّد هذا الاشتراكُ التطوعي لسنواتٍ متوالية، فتصلني المستقبلُ العربي بلا انقطاع، تمنيتُ أن ألتقي هذا الإنسانَ الكريم يومًا لأشكره.
أضحى رصيدُ الكتب والدوريات يتضاعف سريعًا في المكتبة، في الألفية الجديدة نشأت لدي مكتبةٌ ثانية مودَعة في بيروت، يتراكم فيها فائضُ كتبٍ ودورياتٍ أشتريها من دور النشر اللبنانية، في كلِّ مرةٍ يزيد ما أنقله بعد عودتي في الطائرة عن الوزن الذي أستطيع حملَه. بعد عودتي للوطن وإقامتي ببغداد تكوّنت بالتدريج مكتبةٌ أخرى تملأ اليوم كلَّ غرف البيت. تجمع مكتباتي نحو 30000 من الكتب ودوريات الدراسات والمجلات الثقافية. لم أعد أحتاج الكتبَ لمطالعتها إلا قليلًا بعد شيوع الكتب الإلكترونية، أحتاج الكتابَ اليوم بوصفه صديقَ العمر الأبدي، الذي مكث معي بعد مغادرةِ كثيرٍ ممن أحبّهم إلى الدار الآخرة، أو هجرتهم إلى بلاد نائية، بعد إكراه المواطن العراقي على العيش خارج أرضه، أو بعد أن عزلتهم الشيخوخةُ عن الحضور التفاعلي في الحياة. وجودُ الكتب في كلِّ بيت أسكنه يخفضُ الشعورَ بالاغترابِ الوجودي وقلقِ الموت. أتحسّس الكتبَ كائناتٍ حيّة تتغلغل في العاطفة، ويبهجُ حضورُها العقل.كأنها تناديني بلغة عتابٍ حين أنشغل طويلًا بالكتابة والمطالعة على الكمبيوتر. أتحسّس مؤلّفي هذه الكتب كأنهم يتحدّثون إليّ وأتحدث إليهم، يضحكون فأضحك معهم، يبكون فأبكي، يتألمون فاتألم، يكتئبون فأكتئب.
حتى لو لم أقرأ أيَّ كتابٍ لا أستطيعُ العيشَ في بيتٍ بلا كتب.
‏لم تعد الحاجةُ للكتاب اليوم كما كانت أمس، بعد الانتشار الواسع للكتاب الإلكتروني وحضوره في كلِّ مكان، وتعدّد مصادر المعرفة وتنوعها وتيسيرها للجميع عبر تطبيقات وسائل التواصل المرئية والمسموعة، والحضور المكثف للذكاء الاصطناعي في التعرف على كل شيء. أظنّ لإعلاءِ الكتّاب ومدمني القراءة، وأنا منهم، من قيمة الكتاب وتأثيره الاستثنائي الفعّال، وربما تمادى بعضُهم فنفى تأثيرَ ما سواه؛ بواعثَ كامنة في الأعماق، تشي بالشعور بتفوق ثقافتهم ومعرفتهم بالإنسان والعالم على غيرهم، وأن مَن لا يقرأ كأنه لا يعرف الحياةَ مثلما يعرفونها. الكاتبُ الذي يُنتِج #الكتاب، ويقرأه، ويعيش مصطحبًا إياه بوصفه رفيقًا للعمر حيثما كان، ويرتبط بصلة عاطفية حميمة معه، يصرّ على الإشادةِ بدور الكتاب المعرفي والثقافي، وأثرِه في إنتاج معنىً لحياته وتسليته. تغذي النرجسيةُ تمجيدَ الكتاب والاحتفاءَ به أحيانًا، والمبالغةَ بتأثيره الواسع، والتعويلَ عليه في إحداث التغيير والتحولات الكبرى في زماننا، والنظرَ إليه بوصفه أساسا لبناء الفرد والمجتمع والدولة. تجاربُ الحياة علّمتني أن بعضَ الأشخاص، ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب؛ يعرفون الإنسانَ جيدًا من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع، ربما أكثر مما نعرفه نحن جماعة الكتاب والقراءة، رأيتُهم أكثرَ قدرةً على التكيّفِ مع الواقع، وبناءِ علاقات وثيقة بغيرهم، منا معشر الكتّاب والمثقفين.
قراءةُ الكتب ليست الوحيدةَ اليوم المثمرة في التثقيف وتلقي المعرفة وفهم الإنسان والعالم. مشاهدةُ الأفلام وحضورُ السينما والمسرح العالمي، والأسفارُ والرحلات لمختلف بلدان العالم، والعيشُ مع الناس في المقاهي والأسواق الشعبية، وممارسةُ مختلف المهن الفنية، والفلاحةُ والتأمل في فضاء الطبيعة الممتع،كلُّها تفتح آفاقًا للحياة يتعلّم فيها الإنسانُ طرقَ العيش، ويتعرّفُ على الذات، ويكتشفُ ما يشترك معه من كائناتٍ في الأرض. ممارسةُ السياسة والعمل التنظيمي الحزبي والنقابي، وحتى التجارب المريرة في السجون، تمنح الإنسانَ خبراتٍ ودروسًا لا يعرف معظمَها إنسانٌ قلّما يتفاعل مع الواقع ونادرًا ما يكدح في الحياة، ولا يستطيع العيشَ بعيدًا عن أوراق الكتب.
أبقى صامتًا، عندما أستمع إلى ما يحكيه ولدي علي عن أفلام هوليوود، يشرح قصصًا بمضمون فلسفي عميق لأفلام المخرجين والممثلين المشاهير، وكيف تتكشف بها بشكل درامي تناقضاتُ الإنسان ومصائرُه وأقدارُه المفروضة عليه. علي مغرم بالسينما، بدأ يشاهد أفلام هوليود بعمر 14 سنة، نحو أربع ساعات يوميًا، منها تعلّم الانجليزية بطلاقة، وصار خبيرًا بعلم النفس. أفتقرُ لنمط ثقافته ومعرفته الغنية المتنوعة، أرى ثقافتي فقيرةً مقارنة بنوع ثقافته وجيله؛ ممن يمتلكون مصادرَ بديلة للمعرفة غير الكتاب. لم يقرأوا كثيرًا، إلا أن مصادرَهم في تلقي المعرفة غزيرةٌ تفرض عليك الاهتمامَ بها وتقديرها، خاصة في عصرنا الذي يزيح فيه الإنترنتُ وتطبيقاتُ وسائل التواصل الكتابَ والورقَ بالتدريج.
الواقعُ في مكانٍ آخرَ لا في الكتب، أدركتُ متأخرًا أن واحدةً من ثغرات شخصية مَن يعيش معظم حياته في فضاء الكتب هي نسيانُ الواقع، والجهلُ بأكثر ما يطفو على سطحه، وما هو محتجبٌ في مدياته الواسعة وطبقاته القصية. لا يتعلّم الإنسانُ من الكلمات الا قليلًا، الواقعُ معلّمٌ عظيم، مَن يهرب من خوض معارك الواقع ولا يطيق الانغمارَ في شجونه، يخسر أكثرَ ما يزجّه العيشُ فيه من معارك مباغتة، ويظلّ عاجزًا عن معرفة كثيرٍ مما يضمره البشر، ويصدمه بعضُ الأصدقاء بمواقفهم المستهجنة أحيانًا، ويستغرب من الناس سلوكَهم الذي اعتادوا عليه. ‏يتطلب التعلّمُ العملي أن يعيش الإنسانُ الواقعَ بكلِّ تناقضاته، ويتذوق ما يحفل به من عطايا، ويتجرّع مراراته، ويكتشف ما تفرضه عليه الحياةُ من ضروراتٍ لابدّ منها.كنتُ لا أمنع أولادي من اللعبِ في الشارع والاندماجِ بجيلهم، أساعدهم على اكتشافِ الواقع بأنفسهم. أرشدهم، وأراقب من بعيد سلوكَهم، ولا أتدخل في خصوصياتهم.
أنا وأمثالي يفاجؤنا الواقعُ، وأحيانًا يصدمنا سلوكُ الإنسان، بما لا يفاجئ ولا يصدم غيرَنا، ممن اختبروا الواقعَ ومحصوه؛ عبر التوغلِ في طبقاته الظاهرة والخفية، ووعي طرائق العيش، ومواجهة مختلف المواقف الأخلاقية واللاأخلاقية، وشهودِ ما يفعله الناسُ من تمويهٍ ومراوغةٍ واختباءٍ خلف الأقنعة. #الكتبُ تسكن #الكاتبَ مثلما يسكنها، لذلك يعيش مغترِبًا مَن يغادر الحياةَ ويطمر نفسَه في أوراقها. هذا الإنسانُ يظلّ يفتش عن حياةٍ على شاكلة الكتب التي يقرأها، وتلك الحياة لن يراها أبدًا، مهما بحث عنها في كلِّ زوايا الواقع المعيش.
#عبدالجبار_الرفاعي

https://alzawraapaper.com/content.php?id=377370
‏وردني هذا السؤال من باحثة تكتب رسالة ماجستير في أحد الجامعات عن اعمالي:
سؤال: هل تعتقد أن الخلاص في التصوف المعرفي؟
جوابي: ‏
‏ لم اكتب ان الخلاص في التصوف المعرفي، وإنما كتبت ان الخلاص في عودة الدين إلى حقله الروحي والأخلاقي والجمالي. كما يتضح ذلك من التعريف الذي وضعته للدين: ‏"الدين حياة في افق المعنى، تفرضها حاجة وجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياة الإنسان الفردية والمجتمعية".
‏قلت يمكن الإفادة من بعض مقولات التصوف المعرفي في: المحبة، والرحمة، وتعدد الطرق إلى الله، وعدم احتكار الخلاص.
‏ولا أقبل كل شيء في التصوف، حتى عند ابن عربي ارفض بشدة الطريقة الأكبرية في التصوف، التي تدعو إلى السهر الطويل، والجوع، والبكاء، والعزلة والابتعاد عن المجتمع.
‏التربية في مختلف أنواع التصوف بعضهت لا يطيقها البدن وضد الطبيعة البشرية.
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
د. عبد الجبار الرفاعي
المعارك على الماضي لن تبني الحاضر ولا المستقبل، مَن يتسلح بحسٍّ تاريخي لا ينزلق إلى معارك خاسرة على الماضي، فمثل هذه المعارك لا تُنتج إلا وقودًا للهويات الطائفية والأيديولوجيات والمعتقدات المغلقة. الحسّ التاريخي النقدي مشغول بالواقع بكلِّ تفاصيله، ومتطلّع دومًا إلى مستقبلٍ يبحث فيه عن خلاص الإنسان.كلُّ قراءة للتاريخ تمليها التعصّبات القومية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية هي قراءة غير علمية. بسبب غزارة ما يُعاد استحضارُ التراث بمختلف الوسائل والأساليب، والاحتماءُ به، اعتاد المجتمعُ على العيش في الماضي، حتى غدا هذا النمطُ من العيش إدمانًا لا يُطيق الخلاصَ منه. وصارت كلُّ محاولةٍ لترحيل المجتمع إلى الواقع الذي يعيشه، والتطلّع إلى المستقبل، كأنها اعتداءٌ صارخٌ على أسلافه، يقوده إلى المجهول، من دون أن يُدرك أن الهروبَ إلى الماضي ليس سوى متاهاتٍ يضيع فيها حاضرُه ومستقبلُه. وحين تُختزل الهويةُ في استحضارٍ مكرّرٍ للماضي، تنغلق على نفسها، وتكفّ عن الحوار مع العالم، وتتحول إلى هويةٍ تشعر بأنها مكتفية بذاتها، لا تتفاعل مع غيرها، ولا تطيق التعدد.
الاحتماء بالتراث حاجة نفسية واجتماعية توفر للإنسان أمانًا يشتاق إليه، فيعتقد أن تراثه الخاص يمدّه بكل ما يحتاجه في حاضره ومستقبله. هذا الاعتقاد يدفعه إلى مقاومة أي محاولة علمية لمساءلة التراث، والخوف من توظيف المناهج العلمية الحديثة في تفسيره، وتحليله، ونقده، أو تجاوزه. القراءة النقدية العلمية للتراث لا تقف عند سطح النصوص، ولا تكتفي بتقديس الموروث، بل تتعمق في تحليل كيفية إنتاج التراث، وتكشف عن العوامل المتنوعة التي شكّلته، من سياقات تاريخية، وتحوّلات اجتماعية، وصراعات سياسية، ومؤثرات ثقافية، وأنساق معرفية راكمها العقل منذ عصر التدوين.
القراءة النقدية العلمية للتراث لا تعني الانفصال عنه أو مناهضته، بل تعني تحرير الوعي الديني من الارتهان لنماذج معرفية استنفدت وظيفتها، وعجزت عن الاستمرارية ومواكبة احتياجات الإنسان في عالَم متغير، ولم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة الإنسان المتوالية. فعند دراسة علم من علوم الدين، كعلم الكلام مثلًا، نراه لم يتشكل في فراغ، بل تبلور في أجواء مشحونة بالأسئلة اللاهوتية والصراعات المذهبية، فصاغ رؤية تجيب عن هموم عصره، على الرغم من أنه أغفل أسئلة العواطف، والمشاعر، والوجدان، وهمّش الحاجات الروحية، والأخلاقية، والجمالية في الدين ذلك العصر. وفي دراسة علم أصول الفقه، ينبغي التركيز على بواعث تأسيسه، وكيفية تشكّل مفاهيمه ومقولاته، والرؤية للعالم التي صاغها، والمنهج الذي فرضه على تفسير القرآن الكريم والسُّنة. علينا أن نتبيّن كيفية ولادة هذا العلم، والظروف التي أنتجته، وكيف أسهم في تشكيل المدونة الفقهية وصياغة نمط التلقي للنصوص الدينية. وهكذا يكون منهجُ القراءة النقدية العلمية في كلِّ حقل من حقول التراث.
لكن أصبحت كلُّ محاولةٍ لمساءلة التاريخ أو نزع القناع عنه تُوصَمُ بالعدوان على أمجاد الأمة وماضيها المشرق. ويُمارَس التشهير بحقّ كلّ باحثٍ يشرع في فضحِ ما طال النصوص والمقولات والوقائع من تزوير، أو يكشف محاولاتِ الحذف والإقصاء التي تعرّضت لها معتقداتٌ ومفاهيمُ لا تنسجم مع الأيديولوجيا التبجيلية التسلطية المهيمنة.كما تُلاحَقُ الأصواتُ التي تسعى لإشهار المهمَّش والمسكوت عنه، أو تفضحُ سطوةَ السائدِ والمتغلِّبِ في التراث، وما مارسه من قمعٍ واستبعادٍ بحقّ المختلفين.
تُعاني مجتمعاتنا من إرث ثقيل يُكبّل وعيها ويقيّد حركتها نحو المستقبل، فالتاريخ لم يعد مجرد سردٍ للأحداث أو محاولةٍ لفهم الماضي وتحليله ونقده وغربلته وتمحيصه، بل تحوّل في الوعي الجمعي إلى ما يشبه المقدّس الذي لا يُمَس، والمرجعية التي لا تُساءَل، مما عطّل إمكانية فهمه النقدي، وشلّ أدوات تفسيره العلمي، وكرّس الأوهام عن الذات والآخر. التحرّر من أوهام التاريخ لا يعني إنكار الماضي، بل يعني مقاربته بعين فاحصة وحسٍّ نقدي يستلهم العبرة ولا يكرّس الوهم. فقط حين نكفّ عن تحويل الماضي إلى صنم، ونمتلك الجرأة على مساءلته، يمكننا أن نخطو نحو حاضرٍ مُنتِج، ومستقبلٍ يتّسع للكرامة والحرية والمساواة والاختلاف. الوعي العلمي التاريخي لا يُقيم في كهوف الماضي، بل يسعى لاكتشاف خارطة طريق الخلاص.
منذ عصر الاستعمار، تحوّل العداءُ للآخر إلى أيديولوجيا سياسية تتبنّاها الحركاتُ اليساريةُ والقوميةُ والأصولية، وتُربّي أتباعها عليها، حتى صار العيشُ المزمنُ في محيطٍ عدائي عقيدةً سياسيةً يتلقّنها الأتباعُ، جنبًا إلى جنبٍ مع ما يُلقَّن لهم من أفكارٍ ومواقف. نتيجة لذلك، صار يصعب على معظمهم التحرّر من هذه العقيدة، حتى مع تقدُّمهم في العمر، أو تغيّر مواقعهم الفكرية. عرفتُ ماركسيين انتقلوا إلى الإسلام السياسي في مراحل متأخرة من حياتهم، لكن مواقفهم لم تتغيّر. تغيّرَ الإطارُ أو القالبُ الذي يُعبّرون من خلاله عن مواقفهم، إلا أن المضمونَ ظلّ على حاله؛ لبثوا تأسرهم النظرةُ التآمرية للعالم، والعداءُ للآخر المختلِف. المحتوى الأيديولوجيُّ النفسيُّ العميقُ للإنسان لا يتغيّر بسهولة، حتى لو بدّل شعاراته ومواقعه التنظيمية. العداءُ للآخر ليس دائمًا موقفًا عقلانيًا، بل كثيرًا ما يكون حالةً نفسيةً تتغذّى على الخوف، والرفض.
هويّةُ الجماعة تتجلّى في معتقداتها وسرديّاتها ومرويّاتها عن نفسها والآخر، في الماضي والحاضر، كما تتشكّل من أحلامها وتطلّعاتها للمستقبل.كلُّ هويّةٍ مغلقةٍ تزهو بوهم أنها مركزُ العالم، وأن ما يصحّ عليها لا يصحّ على غيرها، وأنها مرجعيّةُ الحقيقة الوحيدة. هذا التمركز يولّد نزعةً تبشيريّة تسعى إلى فرض قيم الجماعة، ورؤيتها للعالم، ومعارفها، وآدابها، وفنونها، وثقافتها على كلّ مَن يقع خارج محيطها العقائدي والثقافي. ويستند هذا النزوع إلى قناعةٍ راسخة بأن عقيدتها وثقافتها ورؤيتها للعالم خَلّاقةٌ دائمًا؛ أي أنها تملك القدرة المستمرة على إنتاج ما تحتاجه البشريّة من قيمٍ ومعارف وآداب وفنون وثقافة في العصور المختلفة.
لكلِّ جماعةٍ بشرية شغف بإنتاج هوية خاصة مصطفاة، على وفق رهانات ترسمها أحلامها وآفاق انتظارها، وما تتعرض له من إكراهات، وأنماط الرهانات والتحديات، وما تنشده من احتياجات متنوعة في الزمان والمكان.كلُّ ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدِها، ويحدّد ألوانَ رسمِها لصوره المتنوعة وتعبيراتِه في العصور المختلفة. وتُدمج أيّ صورة من صور المعتقد بوصفه عنصرًا رئيسًا في مكونات هذه الهوية، إلى جانب العناصر الإثنية والثقافية واللغوية وغيرها، بالشكل الذي يجعل المعتقد مكونًا أساسيًا فاعلًا ومنفعلًا داخل الهوية، إذ تتغذى منه الهوية باستمرار ويتغذى منها. بل إن كلَّ هوية تنشد إنتاج الحقيقة على وفق رهاناتها ومطامحها ومعاييرها، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو دنيوية. وهذه ظاهرة بشرية عامة لا تتخلف ولا تختلف، يخضع لها كلُّ معتقد في ولادته وصيرورته داخل فضاء الهوية الجمعية.
لكي يكون البحثُ علميًا في نشأة المعتقد وتطوره، ينبغي أن يكون منهجه وفيًا لكلِّ ذلك، فلا يقفز على حقائق الواقع، ولا يتجاهل أثر السلطة والإكراهات واللغة والثقافة والمتخيّل والميثيولوجيا والمحيط، وكلَّ ما يضجّ به التاريخُ في تحولات وصيرورة ذلك المعتقَد. بمعنى أن يكونَ منهجًا يتبصر تاريخية المعتقَد، ويكشف سياقات تشكّله في المتخيّل، ويزيل الغبارَ عن صوره المتنوعة عبر محطاته المختلفة في الزمان والمكان.
‏ تعيد المخيِّلةُ ابتكارَ الصور في فضائها، وهو فضاءٌ رحب يتضخم باستمرار، فتولِّد المخيِّلةُ الأحلامَ والأماني والرغباتِ المختلفة وحتى الأوهام، وما يصدر عن نرجسيات الهوية المتجذّرة في البنى اللاشعورية، وما تختزنه من أوهام تفوّق هذه الهوية واصطفائها وقدراتها الاستثنائية الفذّة، وإن كانت تعيش واقعًا بائسًا يضجّ بالأمية والفقر والمرض، غير أنها تلجأ للذاكرة العتيقة والأمجاد الإمبراطورية لأسلافها. تكرّر هذه الهوية بلا جدوى، لسنواتٍ طويلة تجنيدَ الإنسان، وما يمكن توظيفُه من طاقات في المجتمع، لإيقاد رمادِ نرجسية إمبراطورية مندثرة، من دون أن تكترثَ هذه الهويةُ بهزائمها، ولا تقف عندها وتدرس أسبابَها وتكتشف ثغراتها، ولا تسعى لأن تجرّب طريقةً بديلة في توكيد حضورها في الواقع وصناعة حاضرها ومستقبلها.
الهويات الأيديولوجية مغلقة تجهض أية محاولة للتعددية العقائدية والثقافية والسياسية. في هذه الهوية المغلقة، يعيد متخيَّلُ الجماعة كتابةَ تاريخها في أفقٍ يتحول فيه الماضي إلى سرديةٍ رومانسيةٍ فاتنة، ويصبح العجزُ عن بناء الحاضر استعادةً مهووسةً بالأمجاد العتيقة. ويجري ضخّ الذاكرة الجمعية بتاريخٍ متخيَّلٍ يضمحلُّ فيه حضورُ التاريخ الأرضي، وتُخلع على الحوادث والشخصيات والرموز والأفكار والمعتقدات والتراث هالةٌ أسطوريةٌ، تتحدّث عنها وكأنها خارجَ الزمان والمكان والواقع الذي ظهرتْ وتكوّنتْ وعاشتْ فيه.
تشتدّ حالةُ اصطفاءِ #الهوية ووضعِها فوق التاريخ في مراحلِ الإخفاق الحضاري، وعجزِ المجتمعات عن الإسهام في صناعة العالم الذي تعيش فيه. لذلك تسعى هذه الهوية للاستيلاءِ على المكاسب الكبرى للآخر، وإيداعِها في خزانتها الموروثة، من خلال القيام بعمليات تلفيقٍ متنوعةٍ تتسع لكلِّ ما هو خلاقٌ مما ابتكره وصنعه غيرُها. وذلك أبرزُ مأزقٍ اختنقتْ فيه هويتُنا في العصر الحديث. #عبدالجبار_الرفاعي https://alsabaah.iq/114904-.html