عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
616 photos
51 videos
270 files
1.08K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
حتى لو لم أقرأ أيَّ كتابٍ لا أستطيعُ العيشَ في بيتٍ بلا كتب.
‏لم تعد الحاجةُ للكتاب اليوم كما كانت أمس، بعد الانتشار الواسع للكتاب الإلكتروني وحضوره في كلِّ مكان، وتعدّد مصادر المعرفة وتنوعها وتيسيرها للجميع عبر تطبيقات وسائل التواصل المرئية والمسموعة، والحضور المكثف للذكاء الاصطناعي في التعرف على كل شيء. أظنّ لإعلاءِ الكتّاب ومدمني القراءة، وأنا منهم، من قيمة الكتاب وتأثيره الاستثنائي الفعّال، وربما تمادى بعضُهم فنفى تأثيرَ ما سواه؛ بواعثَ كامنة في الأعماق، تشي بالشعور بتفوق ثقافتهم ومعرفتهم بالإنسان والعالم على غيرهم، وأن مَن لا يقرأ كأنه لا يعرف الحياةَ مثلما يعرفونها. الكاتبُ الذي يُنتِج #الكتاب، ويقرأه، ويعيش مصطحبًا إياه بوصفه رفيقًا للعمر حيثما كان، ويرتبط بصلة عاطفية حميمة معه، يصرّ على الإشادةِ بدور الكتاب المعرفي والثقافي، وأثرِه في إنتاج معنىً لحياته وتسليته. تغذي النرجسيةُ تمجيدَ الكتاب والاحتفاءَ به أحيانًا، والمبالغةَ بتأثيره الواسع، والتعويلَ عليه في إحداث التغيير والتحولات الكبرى في زماننا، والنظرَ إليه بوصفه أساسا لبناء الفرد والمجتمع والدولة. تجاربُ الحياة علّمتني أن بعضَ الأشخاص، ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب؛ يعرفون الإنسانَ جيدًا من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع، ربما أكثر مما نعرفه نحن جماعة الكتاب والقراءة، رأيتُهم أكثرَ قدرةً على التكيّفِ مع الواقع، وبناءِ علاقات وثيقة بغيرهم، منا معشر الكتّاب والمثقفين.
قراءةُ الكتب ليست الوحيدةَ اليوم المثمرة في التثقيف وتلقي المعرفة وفهم الإنسان والعالم. مشاهدةُ الأفلام وحضورُ السينما والمسرح العالمي، والأسفارُ والرحلات لمختلف بلدان العالم، والعيشُ مع الناس في المقاهي والأسواق الشعبية، وممارسةُ مختلف المهن الفنية، والفلاحةُ والتأمل في فضاء الطبيعة الممتع،كلُّها تفتح آفاقًا للحياة يتعلّم فيها الإنسانُ طرقَ العيش، ويتعرّفُ على الذات، ويكتشفُ ما يشترك معه من كائناتٍ في الأرض. ممارسةُ السياسة والعمل التنظيمي الحزبي والنقابي، وحتى التجارب المريرة في السجون، تمنح الإنسانَ خبراتٍ ودروسًا لا يعرف معظمَها إنسانٌ قلّما يتفاعل مع الواقع ونادرًا ما يكدح في الحياة، ولا يستطيع العيشَ بعيدًا عن أوراق الكتب.
أبقى صامتًا، عندما أستمع إلى ما يحكيه ولدي علي عن أفلام هوليوود، يشرح قصصًا بمضمون فلسفي عميق لأفلام المخرجين والممثلين المشاهير، وكيف تتكشف بها بشكل درامي تناقضاتُ الإنسان ومصائرُه وأقدارُه المفروضة عليه. علي مغرم بالسينما، بدأ يشاهد أفلام هوليود بعمر 14 سنة، نحو أربع ساعات يوميًا، منها تعلّم الانجليزية بطلاقة، وصار خبيرًا بعلم النفس. أفتقرُ لنمط ثقافته ومعرفته الغنية المتنوعة، أرى ثقافتي فقيرةً مقارنة بنوع ثقافته وجيله؛ ممن يمتلكون مصادرَ بديلة للمعرفة غير الكتاب. لم يقرأوا كثيرًا، إلا أن مصادرَهم في تلقي المعرفة غزيرةٌ تفرض عليك الاهتمامَ بها وتقديرها، خاصة في عصرنا الذي يزيح فيه الإنترنتُ وتطبيقاتُ وسائل التواصل الكتابَ والورقَ بالتدريج.
الواقعُ في مكانٍ آخرَ لا في الكتب، أدركتُ متأخرًا أن واحدةً من ثغرات شخصية مَن يعيش معظم حياته في فضاء الكتب هي نسيانُ الواقع، والجهلُ بأكثر ما يطفو على سطحه، وما هو محتجبٌ في مدياته الواسعة وطبقاته القصية. لا يتعلّم الإنسانُ من الكلمات الا قليلًا، الواقعُ معلّمٌ عظيم، مَن يهرب من خوض معارك الواقع ولا يطيق الانغمارَ في شجونه، يخسر أكثرَ ما يزجّه العيشُ فيه من معارك مباغتة، ويظلّ عاجزًا عن معرفة كثيرٍ مما يضمره البشر، ويصدمه بعضُ الأصدقاء بمواقفهم المستهجنة أحيانًا، ويستغرب من الناس سلوكَهم الذي اعتادوا عليه. ‏يتطلب التعلّمُ العملي أن يعيش الإنسانُ الواقعَ بكلِّ تناقضاته، ويتذوق ما يحفل به من عطايا، ويتجرّع مراراته، ويكتشف ما تفرضه عليه الحياةُ من ضروراتٍ لابدّ منها.كنتُ لا أمنع أولادي من اللعبِ في الشارع والاندماجِ بجيلهم، أساعدهم على اكتشافِ الواقع بأنفسهم. أرشدهم، وأراقب من بعيد سلوكَهم، ولا أتدخل في خصوصياتهم.
أنا وأمثالي يفاجؤنا الواقعُ، وأحيانًا يصدمنا سلوكُ الإنسان، بما لا يفاجئ ولا يصدم غيرَنا، ممن اختبروا الواقعَ ومحصوه؛ عبر التوغلِ في طبقاته الظاهرة والخفية، ووعي طرائق العيش، ومواجهة مختلف المواقف الأخلاقية واللاأخلاقية، وشهودِ ما يفعله الناسُ من تمويهٍ ومراوغةٍ واختباءٍ خلف الأقنعة. #الكتبُ تسكن #الكاتبَ مثلما يسكنها، لذلك يعيش مغترِبًا مَن يغادر الحياةَ ويطمر نفسَه في أوراقها. هذا الإنسانُ يظلّ يفتش عن حياةٍ على شاكلة الكتب التي يقرأها، وتلك الحياة لن يراها أبدًا، مهما بحث عنها في كلِّ زوايا الواقع المعيش.
#عبدالجبار_الرفاعي

https://alzawraapaper.com/content.php?id=377370
‏وردني هذا السؤال من باحثة تكتب رسالة ماجستير في أحد الجامعات عن اعمالي:
سؤال: هل تعتقد أن الخلاص في التصوف المعرفي؟
جوابي: ‏
‏ لم اكتب ان الخلاص في التصوف المعرفي، وإنما كتبت ان الخلاص في عودة الدين إلى حقله الروحي والأخلاقي والجمالي. كما يتضح ذلك من التعريف الذي وضعته للدين: ‏"الدين حياة في افق المعنى، تفرضها حاجة وجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياة الإنسان الفردية والمجتمعية".
‏قلت يمكن الإفادة من بعض مقولات التصوف المعرفي في: المحبة، والرحمة، وتعدد الطرق إلى الله، وعدم احتكار الخلاص.
‏ولا أقبل كل شيء في التصوف، حتى عند ابن عربي ارفض بشدة الطريقة الأكبرية في التصوف، التي تدعو إلى السهر الطويل، والجوع، والبكاء، والعزلة والابتعاد عن المجتمع.
‏التربية في مختلف أنواع التصوف بعضهت لا يطيقها البدن وضد الطبيعة البشرية.
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
د. عبد الجبار الرفاعي
المعارك على الماضي لن تبني الحاضر ولا المستقبل، مَن يتسلح بحسٍّ تاريخي لا ينزلق إلى معارك خاسرة على الماضي، فمثل هذه المعارك لا تُنتج إلا وقودًا للهويات الطائفية والأيديولوجيات والمعتقدات المغلقة. الحسّ التاريخي النقدي مشغول بالواقع بكلِّ تفاصيله، ومتطلّع دومًا إلى مستقبلٍ يبحث فيه عن خلاص الإنسان.كلُّ قراءة للتاريخ تمليها التعصّبات القومية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية هي قراءة غير علمية. بسبب غزارة ما يُعاد استحضارُ التراث بمختلف الوسائل والأساليب، والاحتماءُ به، اعتاد المجتمعُ على العيش في الماضي، حتى غدا هذا النمطُ من العيش إدمانًا لا يُطيق الخلاصَ منه. وصارت كلُّ محاولةٍ لترحيل المجتمع إلى الواقع الذي يعيشه، والتطلّع إلى المستقبل، كأنها اعتداءٌ صارخٌ على أسلافه، يقوده إلى المجهول، من دون أن يُدرك أن الهروبَ إلى الماضي ليس سوى متاهاتٍ يضيع فيها حاضرُه ومستقبلُه. وحين تُختزل الهويةُ في استحضارٍ مكرّرٍ للماضي، تنغلق على نفسها، وتكفّ عن الحوار مع العالم، وتتحول إلى هويةٍ تشعر بأنها مكتفية بذاتها، لا تتفاعل مع غيرها، ولا تطيق التعدد.
الاحتماء بالتراث حاجة نفسية واجتماعية توفر للإنسان أمانًا يشتاق إليه، فيعتقد أن تراثه الخاص يمدّه بكل ما يحتاجه في حاضره ومستقبله. هذا الاعتقاد يدفعه إلى مقاومة أي محاولة علمية لمساءلة التراث، والخوف من توظيف المناهج العلمية الحديثة في تفسيره، وتحليله، ونقده، أو تجاوزه. القراءة النقدية العلمية للتراث لا تقف عند سطح النصوص، ولا تكتفي بتقديس الموروث، بل تتعمق في تحليل كيفية إنتاج التراث، وتكشف عن العوامل المتنوعة التي شكّلته، من سياقات تاريخية، وتحوّلات اجتماعية، وصراعات سياسية، ومؤثرات ثقافية، وأنساق معرفية راكمها العقل منذ عصر التدوين.
القراءة النقدية العلمية للتراث لا تعني الانفصال عنه أو مناهضته، بل تعني تحرير الوعي الديني من الارتهان لنماذج معرفية استنفدت وظيفتها، وعجزت عن الاستمرارية ومواكبة احتياجات الإنسان في عالَم متغير، ولم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة الإنسان المتوالية. فعند دراسة علم من علوم الدين، كعلم الكلام مثلًا، نراه لم يتشكل في فراغ، بل تبلور في أجواء مشحونة بالأسئلة اللاهوتية والصراعات المذهبية، فصاغ رؤية تجيب عن هموم عصره، على الرغم من أنه أغفل أسئلة العواطف، والمشاعر، والوجدان، وهمّش الحاجات الروحية، والأخلاقية، والجمالية في الدين ذلك العصر. وفي دراسة علم أصول الفقه، ينبغي التركيز على بواعث تأسيسه، وكيفية تشكّل مفاهيمه ومقولاته، والرؤية للعالم التي صاغها، والمنهج الذي فرضه على تفسير القرآن الكريم والسُّنة. علينا أن نتبيّن كيفية ولادة هذا العلم، والظروف التي أنتجته، وكيف أسهم في تشكيل المدونة الفقهية وصياغة نمط التلقي للنصوص الدينية. وهكذا يكون منهجُ القراءة النقدية العلمية في كلِّ حقل من حقول التراث.
لكن أصبحت كلُّ محاولةٍ لمساءلة التاريخ أو نزع القناع عنه تُوصَمُ بالعدوان على أمجاد الأمة وماضيها المشرق. ويُمارَس التشهير بحقّ كلّ باحثٍ يشرع في فضحِ ما طال النصوص والمقولات والوقائع من تزوير، أو يكشف محاولاتِ الحذف والإقصاء التي تعرّضت لها معتقداتٌ ومفاهيمُ لا تنسجم مع الأيديولوجيا التبجيلية التسلطية المهيمنة.كما تُلاحَقُ الأصواتُ التي تسعى لإشهار المهمَّش والمسكوت عنه، أو تفضحُ سطوةَ السائدِ والمتغلِّبِ في التراث، وما مارسه من قمعٍ واستبعادٍ بحقّ المختلفين.
تُعاني مجتمعاتنا من إرث ثقيل يُكبّل وعيها ويقيّد حركتها نحو المستقبل، فالتاريخ لم يعد مجرد سردٍ للأحداث أو محاولةٍ لفهم الماضي وتحليله ونقده وغربلته وتمحيصه، بل تحوّل في الوعي الجمعي إلى ما يشبه المقدّس الذي لا يُمَس، والمرجعية التي لا تُساءَل، مما عطّل إمكانية فهمه النقدي، وشلّ أدوات تفسيره العلمي، وكرّس الأوهام عن الذات والآخر. التحرّر من أوهام التاريخ لا يعني إنكار الماضي، بل يعني مقاربته بعين فاحصة وحسٍّ نقدي يستلهم العبرة ولا يكرّس الوهم. فقط حين نكفّ عن تحويل الماضي إلى صنم، ونمتلك الجرأة على مساءلته، يمكننا أن نخطو نحو حاضرٍ مُنتِج، ومستقبلٍ يتّسع للكرامة والحرية والمساواة والاختلاف. الوعي العلمي التاريخي لا يُقيم في كهوف الماضي، بل يسعى لاكتشاف خارطة طريق الخلاص.
منذ عصر الاستعمار، تحوّل العداءُ للآخر إلى أيديولوجيا سياسية تتبنّاها الحركاتُ اليساريةُ والقوميةُ والأصولية، وتُربّي أتباعها عليها، حتى صار العيشُ المزمنُ في محيطٍ عدائي عقيدةً سياسيةً يتلقّنها الأتباعُ، جنبًا إلى جنبٍ مع ما يُلقَّن لهم من أفكارٍ ومواقف. نتيجة لذلك، صار يصعب على معظمهم التحرّر من هذه العقيدة، حتى مع تقدُّمهم في العمر، أو تغيّر مواقعهم الفكرية. عرفتُ ماركسيين انتقلوا إلى الإسلام السياسي في مراحل متأخرة من حياتهم، لكن مواقفهم لم تتغيّر. تغيّرَ الإطارُ أو القالبُ الذي يُعبّرون من خلاله عن مواقفهم، إلا أن المضمونَ ظلّ على حاله؛ لبثوا تأسرهم النظرةُ التآمرية للعالم، والعداءُ للآخر المختلِف. المحتوى الأيديولوجيُّ النفسيُّ العميقُ للإنسان لا يتغيّر بسهولة، حتى لو بدّل شعاراته ومواقعه التنظيمية. العداءُ للآخر ليس دائمًا موقفًا عقلانيًا، بل كثيرًا ما يكون حالةً نفسيةً تتغذّى على الخوف، والرفض.
هويّةُ الجماعة تتجلّى في معتقداتها وسرديّاتها ومرويّاتها عن نفسها والآخر، في الماضي والحاضر، كما تتشكّل من أحلامها وتطلّعاتها للمستقبل.كلُّ هويّةٍ مغلقةٍ تزهو بوهم أنها مركزُ العالم، وأن ما يصحّ عليها لا يصحّ على غيرها، وأنها مرجعيّةُ الحقيقة الوحيدة. هذا التمركز يولّد نزعةً تبشيريّة تسعى إلى فرض قيم الجماعة، ورؤيتها للعالم، ومعارفها، وآدابها، وفنونها، وثقافتها على كلّ مَن يقع خارج محيطها العقائدي والثقافي. ويستند هذا النزوع إلى قناعةٍ راسخة بأن عقيدتها وثقافتها ورؤيتها للعالم خَلّاقةٌ دائمًا؛ أي أنها تملك القدرة المستمرة على إنتاج ما تحتاجه البشريّة من قيمٍ ومعارف وآداب وفنون وثقافة في العصور المختلفة.
لكلِّ جماعةٍ بشرية شغف بإنتاج هوية خاصة مصطفاة، على وفق رهانات ترسمها أحلامها وآفاق انتظارها، وما تتعرض له من إكراهات، وأنماط الرهانات والتحديات، وما تنشده من احتياجات متنوعة في الزمان والمكان.كلُّ ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدِها، ويحدّد ألوانَ رسمِها لصوره المتنوعة وتعبيراتِه في العصور المختلفة. وتُدمج أيّ صورة من صور المعتقد بوصفه عنصرًا رئيسًا في مكونات هذه الهوية، إلى جانب العناصر الإثنية والثقافية واللغوية وغيرها، بالشكل الذي يجعل المعتقد مكونًا أساسيًا فاعلًا ومنفعلًا داخل الهوية، إذ تتغذى منه الهوية باستمرار ويتغذى منها. بل إن كلَّ هوية تنشد إنتاج الحقيقة على وفق رهاناتها ومطامحها ومعاييرها، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو دنيوية. وهذه ظاهرة بشرية عامة لا تتخلف ولا تختلف، يخضع لها كلُّ معتقد في ولادته وصيرورته داخل فضاء الهوية الجمعية.
لكي يكون البحثُ علميًا في نشأة المعتقد وتطوره، ينبغي أن يكون منهجه وفيًا لكلِّ ذلك، فلا يقفز على حقائق الواقع، ولا يتجاهل أثر السلطة والإكراهات واللغة والثقافة والمتخيّل والميثيولوجيا والمحيط، وكلَّ ما يضجّ به التاريخُ في تحولات وصيرورة ذلك المعتقَد. بمعنى أن يكونَ منهجًا يتبصر تاريخية المعتقَد، ويكشف سياقات تشكّله في المتخيّل، ويزيل الغبارَ عن صوره المتنوعة عبر محطاته المختلفة في الزمان والمكان.
‏ تعيد المخيِّلةُ ابتكارَ الصور في فضائها، وهو فضاءٌ رحب يتضخم باستمرار، فتولِّد المخيِّلةُ الأحلامَ والأماني والرغباتِ المختلفة وحتى الأوهام، وما يصدر عن نرجسيات الهوية المتجذّرة في البنى اللاشعورية، وما تختزنه من أوهام تفوّق هذه الهوية واصطفائها وقدراتها الاستثنائية الفذّة، وإن كانت تعيش واقعًا بائسًا يضجّ بالأمية والفقر والمرض، غير أنها تلجأ للذاكرة العتيقة والأمجاد الإمبراطورية لأسلافها. تكرّر هذه الهوية بلا جدوى، لسنواتٍ طويلة تجنيدَ الإنسان، وما يمكن توظيفُه من طاقات في المجتمع، لإيقاد رمادِ نرجسية إمبراطورية مندثرة، من دون أن تكترثَ هذه الهويةُ بهزائمها، ولا تقف عندها وتدرس أسبابَها وتكتشف ثغراتها، ولا تسعى لأن تجرّب طريقةً بديلة في توكيد حضورها في الواقع وصناعة حاضرها ومستقبلها.
الهويات الأيديولوجية مغلقة تجهض أية محاولة للتعددية العقائدية والثقافية والسياسية. في هذه الهوية المغلقة، يعيد متخيَّلُ الجماعة كتابةَ تاريخها في أفقٍ يتحول فيه الماضي إلى سرديةٍ رومانسيةٍ فاتنة، ويصبح العجزُ عن بناء الحاضر استعادةً مهووسةً بالأمجاد العتيقة. ويجري ضخّ الذاكرة الجمعية بتاريخٍ متخيَّلٍ يضمحلُّ فيه حضورُ التاريخ الأرضي، وتُخلع على الحوادث والشخصيات والرموز والأفكار والمعتقدات والتراث هالةٌ أسطوريةٌ، تتحدّث عنها وكأنها خارجَ الزمان والمكان والواقع الذي ظهرتْ وتكوّنتْ وعاشتْ فيه.
تشتدّ حالةُ اصطفاءِ #الهوية ووضعِها فوق التاريخ في مراحلِ الإخفاق الحضاري، وعجزِ المجتمعات عن الإسهام في صناعة العالم الذي تعيش فيه. لذلك تسعى هذه الهوية للاستيلاءِ على المكاسب الكبرى للآخر، وإيداعِها في خزانتها الموروثة، من خلال القيام بعمليات تلفيقٍ متنوعةٍ تتسع لكلِّ ما هو خلاقٌ مما ابتكره وصنعه غيرُها. وذلك أبرزُ مأزقٍ اختنقتْ فيه هويتُنا في العصر الحديث. #عبدالجبار_الرفاعي https://alsabaah.iq/114904-.html
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الأول - نسيان الذات:

https://www.hindawi.org/books/30847268/1/
المنهج الهرمنيوطيقي في التفسير عند عبد الجبار الرفاعي
يدعو عبد الجبار الرفاعي إلى ضرورة الانتقال إلى المنهج الهرمنيوطيقي في تفسير النصوص الدينية، لأن هذا المنهجفي التفسير يمثّل عنده تحولًا معرفيًا في فهم القرآن، يقوم على إدراك شروط إنتاج المعنى، واحترام تاريخية النص، والاهتمام بأفق انتظار المتلقي، وأحكامه السابقة، وفهمه، والانفتاح على التجربة الإنسانية، بدلًا من التفسير التقليدي الذي غالبا ما يغلق المعنى، ويجمّد النص في قوالب حرفية موروثة.
يستند الرفاعي في دعوته للانتقال إلى الهرمنيوطيقا إلى قناعة راسخة بأن الدين لا يكتمل إلا بالمعنى، ولا يُفهم إلا بالتأويل، ولا يُستعاد إلا بروح إنسانية روحانية أخلاقية. والمنهج الهرمنيوطيقي عنده ليس تأملا فلسفيًا لا ضرورة له، بل هذا المنهج في ضوء تعريف الرفاعي للدين، الذي ينص على أنه: "حياة في أفق المعنى تفرضها حاجة وجودية لانتاج معنى روحي وأخلاقي لحياة الإنسان الفردية والمجتمعية"، يعبر المنهج الهرمنيوطيقي في التفسير عن ضرورة روحية وأخلاقية ومعرفية لاستعادة إنسانية الدين، وتجديد العلاقة مع النص، وتحرير الفهم الديني من أسر سياقات التاريخ واكراهات السلطة.
أولًا: الانتقال إلى الهرمنيوطيقا في التفسير لدى الرفاعي يرتكز على:
1. نقد التفسير التقليدي الموروث
يرى الرفاعي أن التفسير الموروث للنصوص الدينية أسير أدوات لغوية وتاريخية ومنطقية تراثية، وأنه يغفل الشروط الإنسانية والمعرفية التي تتغير بتغير الزمان والمكان. وهو تفسير يخضع لمقولات المتكلمين والفقهاء الذين خلطوا بين الوحي وقراءاتهم له، فجعلوا من قراءتهم دينًا.
2. تاريخية الفهم الإنساني
يشدد الرفاعي على أن المعنى لا يُنتج من داخل النص وحده، بل هو نتاج تفاعل القارئ مع النص في ضوء خلفيته الثقافية والمعرفية، أي أن التفسير هو دومًا فعل إنساني مشروط، وهذا ما تبرزه الهرمنيوطيقا في مقابل النزعة التقديسية للتفاسير الموروثة.
3. تغير رؤية العصر وأفق التلقي
يرى الرفاعي أن النص لا يتكلم وحده، بل يُقرأ في أفق انتظار المتلقي، وأحكامه السابقة، والواقع. التفسير الهرمنيوطيقي هو التفسير المواكب الذي يصغي للمفسر ويستجيب لأسئلته، وهو ما لا يقدر عليه التفسير الموروث أو البياني وحده، وإنما يتطلب أداة منهجية تُعنى بـ "فهم الفهم"، أي الهرمنيوطيقا.
4. التحرر من هيمنة علم الكلام التقليدي
يشير الرفاعي إلى أن التفاسير التراثية كثيرًا ما اشتغلت بوصفها دفاعًا عن العقيدة، فصارت مقولات دفاعية لا معرفية، تصنع لاهوتًا قشريًا يعيد إنتاج الخوف والكراهية والجمود، بينما يحتاج عصرنا إلى تفسير يوقظ الأبعاد الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين.

ثانيًا: ضرورات الانتقال إلى الهرمنيوطيقا 1. استيعاب تعقيد الإنسان المعاصر الذي لا تقنعه التفسيرات الفقهية أو البلاغية القديمة، بل يبحث عن المعنى والكرامة والرحمة والمحبة.
2. إعادة اكتشاف البُعد الجمالي والروحي والأخلاقي للنص، وهو ما يغيب في التفاسير التي تحوّل النص إلى أداة تشريع فقط.
3.فهم النص بوصفه "حدثًا حيًّا" لا "جمادًا ساكنًا"، أي أن النص يتجدد مع كل قارئ وزمن وظرف، لا يُختزَل في فهم واحد مغلق.
4. إنتاج تفسير تواصلي لا إقصائي، ينفتح على التعدد والتأويل، لا يحتكر المعنى في مذهب أو جماعة أو سلطة.
ثالثًا: تطبيقات في كتاب: "الهرمنيوطيقا بوصفها منهجًا للتفسير عند أمين الخولي"
في كتابه "الهرمنيوطيقا بوصفها منهجًا للتفسير عند أمين الخولي" (المنشور على منصة هنداوي)، لا يكتفي عبد الجبار الرفاعي بتناول تجربة الخولي بوصفها محطة في تطور الفكر التأويلي العربي الحديث، بل يتخذ من هذا الكتاب مناسبةً لمساءلة المناهج التفسيرية التقليدية، واقتراح الهرمنيوطيقا بوصفها مخرجًا من الجمود التفسيري، ووسيلة لتجديد فهم النصوص الدينية. في هذا السياق، تتجلّى تطبيقات الرفاعي للمنهج الهرمنيوطيقي في عدّة مواضع من الكتاب، يمكن تلخيصها كما يلي:
1. قراءة الخولي من منظور هرمنيوطيقي
الرفاعي لا يقدّم عرضًا تقريريًا لتجربة أمين الخولي، بل يُعيد قراءتها من خلال عدسة هرمنيوطيقية، أي: ينظر إلى مشروع الخولي في التفسير الأدبي على أنه بداية لتأويل غير حرفي للنص القرآني، وإن كان لم يرقَ بعدُ إلى الهرمنيوطيقا الغربية الحديثة. يُفكّك محاولات الخولي لتحرير التفسير من الفقه والتراث الكلامي، ويرى فيها إرهاصًا لوعي تأويلي لا يكتمل إلا بالتحوّل إلى فهم النص بوصفه خطابًا مفتوحًا لا حزمة أحكام. "منهج الخولي تجاوز التفسير التراثي، لكنه بقي في أفق منهج بلاغي لغوي لا يصل إلى عمق الهرمنيوطيقا التي تقرأ النص في ضوء شروط الفهم وتاريخية المعنى." (ص: 41-43 من نسخة هنداوي الإلكترونية).
2. نقد التفسير البياني
يُبيّن الرفاعي أن قراءة النصوص الدينية من داخل القاموس البياني البلاغي، أو من زاوية الإعجاز، تُنتج تفسيرًا مغلقًا يعيد إنتاج السلطة. من هنا، فإن الرفاعي يطبق المنهج الهرمنيوطيقي في نقد هذه المناهج، مثل: التفسير البياني: الذي ينشغل بجماليات النصوص، ولا يقرأ التجربة الإنسانية في ضوء النص، ولا يصغي إلى سؤال الوجود في ضوء النص، بل يغلق النص داخل بنيته اللغوية.
3. إبراز مركزية المتلقي في إنتاج المعنى
من تطبيقات المنهج الهرمنيوطيقي عند الرفاعي في هذا الكتاب: التأكيد أن النص لا يملك معنًى جاهزًا يُستخرج كما تُستخرج الأحكام من المسائل الفقهية، بل إن المعنى يتشكل في لحظة التفاعل بين النص والقارئ. يدعو الرفاعي إلى تفسير يأخذ بالحسبان أفق انتظار القارئ الحديث، وأحكامه السابقة، ويصغي إلى معاناته وأسئلته، وهي مبادئ مركزية في الهرمنيوطيقا الحديثة (غادامير تحديدًا). "لا معنى للنص خارج شروط فهمه. وكل معنى ينعقد في لحظة زمانية ومكانية مخصوصة."(ص: 53)

4. الدعوة إلى وعي تأويلي جديد
يتجاوز الرفاعي في هذا الكتاب حدود التحليل الأكاديمي البحت، ويدعو إلى تأسيس علم تأويل قرآني جديد، يتفاعل مع: الفلسفة التأويلية الحديثة، ومناهج التأويل الغربي (غادامير، ريكور)، وذلك في مقابل علوم القرآن التقليدية التي ظلت حبيسة منطق الأصول، والبلاغة، والجدل الكلامي.
5. نقد مشروع الخولي من الداخل
من أهم تطبيقات الرفاعي في الكتاب: تفكيك الموانع المعرفية والمنهجية التي حالت دون تطور تأويل الخولي إلى هرمنيوطيقا، منها: انحصار التفسير الأدبي في الأدوات البلاغية القديمة، وغياب الوعي بتاريخية اللغة والمعنى، وعدم تجاوز الثنائية بين "النص" و"الحقيقة"، وعدم وعي النص كخطاب لا كحاوية لمضمون جاهز. "كان مشروع الخولي تأسيسًا تأويليًا جنينيًا، غير أن غيابه عن فلسفة اللغة، وعن أسئلة الوجود الإنساني العميق، حدَّ من تطوره إلى هرمنيوطيقا." (ص: 66)
الرفاعي في هذا الكتاب: يُعيد تأويل تجربة أمين الخولي بوصفها إرهاصًا لتأويل حديث. ويُطبّق أدوات المنهج الهرمنيوطيقي (سؤال القارئ، تاريخية المعنى، مركزية الفهم، تعدد القراءات). وينتقد التفسير الموروث، بوصفه يتجاهل أن الفهم فعل إنساني متجدد، يتغير بتغير المتلقي وسياقاته.
ويدعو الرفاعي إلى تأسيس علم تأويلي يوقظ البعد الإنساني في النص. ويمكن القول إن هذا الكتاب لا يكتفي بعرض الخولي، بل يُمثّل نموذجًا تطبيقيًا للهرمنيوطيقا عند عبد الجبار الرفاعي، ويمهد لمشروعه الفلسفي الأكبر في تأويل النص الديني بوصفه خطابًا أخلاقيًا روحيًا متجددًا.
المنهج_الهرمنيوطيقي_في_تفسير_القرآن_عند_عبد_الجبار_الرفاعي.pdf
165.8 KB
المنهج الهرمنيوطيقي في تفسير القرآن عند عبد الجبار الرفاعي
كتاب_الدين_والاغتراب_الميتافيزيقي_مؤسسة_هنداوي_عام_٢٠٢٥.pdf
5.8 MB
كتاب الدين والاغتراب الميتافيزيقي -مؤسسة هنداوي عام ٢٠٢٥
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الثاني - نسيان الإنسان (١) الأقدامُ الحافية لا يرهقها ترابُ الأزقة:

https://www.hindawi.org/books/30847268/2/
الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
د. عبد الجبار الرفاعي
المعارك على الماضي لن تبني الحاضر ولا المستقبل، مَن يتسلح بحسٍّ تاريخي لا ينزلق إلى معارك خاسرة على الماضي، فمثل هذه المعارك لا تُنتج إلا وقودًا للهويات الطائفية والأيديولوجيات والمعتقدات المغلقة. الحسّ التاريخي النقدي مشغول بالواقع بكلِّ تفاصيله، ومتطلّع دومًا إلى مستقبلٍ يبحث فيه عن خلاص الإنسان.كلُّ قراءة للتاريخ تمليها التعصّبات القومية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية هي قراءة غير علمية. بسبب غزارة ما يُعاد استحضارُ التراث بمختلف الوسائل والأساليب، والاحتماءُ به، اعتاد المجتمعُ على العيش في الماضي، حتى غدا هذا النمطُ من العيش إدمانًا لا يُطيق الخلاصَ منه. وصارت كلُّ محاولةٍ لترحيل المجتمع إلى الواقع الذي يعيشه، والتطلّع إلى المستقبل، كأنها اعتداءٌ صارخٌ على أسلافه، يقوده إلى المجهول، من دون أن يُدرك أن الهروبَ إلى الماضي ليس سوى متاهاتٍ يضيع فيها حاضرُه ومستقبلُه. وحين تُختزل الهويةُ في استحضارٍ مكرّرٍ للماضي، تنغلق على نفسها، وتكفّ عن الحوار مع العالم، وتتحول إلى هويةٍ تشعر بأنها مكتفية بذاتها، لا تتفاعل مع غيرها، ولا تطيق التعدد.
الاحتماء بالتراث حاجة نفسية واجتماعية توفر للإنسان أمانًا يشتاق إليه، فيعتقد أن تراثه الخاص يمدّه بكل ما يحتاجه في حاضره ومستقبله. هذا الاعتقاد يدفعه إلى مقاومة أي محاولة علمية لمساءلة التراث، والخوف من توظيف المناهج العلمية الحديثة في تفسيره، وتحليله، ونقده، أو تجاوزه. القراءة النقدية العلمية للتراث لا تقف عند سطح النصوص، ولا تكتفي بتقديس الموروث، بل تتعمق في تحليل كيفية إنتاج التراث، وتكشف عن العوامل المتنوعة التي شكّلته، من سياقات تاريخية، وتحوّلات اجتماعية، وصراعات سياسية، ومؤثرات ثقافية، وأنساق معرفية راكمها العقل منذ عصر التدوين.
القراءة النقدية العلمية للتراث لا تعني الانفصال عنه أو مناهضته، بل تعني تحرير الوعي الديني من الارتهان لنماذج معرفية استنفدت وظيفتها، وعجزت عن الاستمرارية ومواكبة احتياجات الإنسان في عالَم متغير، ولم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة الإنسان المتوالية. فعند دراسة علم من علوم الدين، كعلم الكلام مثلًا، نراه لم يتشكل في فراغ، بل تبلور في أجواء مشحونة بالأسئلة اللاهوتية والصراعات المذهبية، فصاغ رؤية تجيب عن هموم عصره، على الرغم من أنه أغفل أسئلة العواطف، والمشاعر، والوجدان، وهمّش الحاجات الروحية، والأخلاقية، والجمالية في الدين ذلك العصر. وفي دراسة علم أصول الفقه، ينبغي التركيز على بواعث تأسيسه، وكيفية تشكّل مفاهيمه ومقولاته، والرؤية للعالم التي صاغها، والمنهج الذي فرضه على تفسير القرآن الكريم والسُّنة. علينا أن نتبيّن كيفية ولادة هذا العلم، والظروف التي أنتجته، وكيف أسهم في تشكيل المدونة الفقهية وصياغة نمط التلقي للنصوص الدينية. وهكذا يكون منهجُ القراءة النقدية العلمية في كلِّ حقل من حقول التراث.
لكن أصبحت كلُّ محاولةٍ لمساءلة التاريخ أو نزع القناع عنه تُوصَمُ بالعدوان على أمجاد الأمة وماضيها المشرق. ويُمارَس التشهير بحقّ كلّ باحثٍ يشرع في فضحِ ما طال النصوص والمقولات والوقائع من تزوير، أو يكشف محاولاتِ الحذف والإقصاء التي تعرّضت لها معتقداتٌ ومفاهيمُ لا تنسجم مع الأيديولوجيا التبجيلية التسلطية المهيمنة.كما تُلاحَقُ الأصواتُ التي تسعى لإشهار المهمَّش والمسكوت عنه، أو تفضحُ سطوةَ السائدِ والمتغلِّبِ في التراث، وما مارسه من قمعٍ واستبعادٍ بحقّ المختلفين.
تُعاني مجتمعاتنا من إرث ثقيل يُكبّل وعيها ويقيّد حركتها نحو المستقبل، فالتاريخ لم يعد مجرد سردٍ للأحداث أو محاولةٍ لفهم الماضي وتحليله ونقده وغربلته وتمحيصه، بل تحوّل في الوعي الجمعي إلى ما يشبه المقدّس الذي لا يُمَس، والمرجعية التي لا تُساءَل، مما عطّل إمكانية فهمه النقدي، وشلّ أدوات تفسيره العلمي، وكرّس الأوهام عن الذات والآخر. التحرّر من أوهام التاريخ لا يعني إنكار الماضي، بل يعني مقاربته بعين فاحصة وحسٍّ نقدي يستلهم العبرة ولا يكرّس الوهم. فقط حين نكفّ عن تحويل الماضي إلى صنم، ونمتلك الجرأة على مساءلته، يمكننا أن نخطو نحو حاضرٍ مُنتِج، ومستقبلٍ يتّسع للكرامة والحرية والمساواة والاختلاف. الوعي العلمي التاريخي لا يُقيم في كهوف الماضي، بل يسعى لاكتشاف خارطة طريق الخلاص.
منذ عصر الاستعمار، تحوّل العداءُ للآخر إلى أيديولوجيا سياسية تتبنّاها الحركاتُ اليساريةُ والقوميةُ والأصولية، وتُربّي أتباعها عليها، حتى صار العيشُ المزمنُ في محيطٍ عدائي عقيدةً سياسيةً يتلقّنها الأتباعُ، جنبًا إلى جنبٍ مع ما يُلقَّن لهم من أفكارٍ ومواقف. نتيجة لذلك، صار يصعب على معظمهم التحرّر من هذه العقيدة، حتى مع تقدُّمهم في العمر، أو تغيّر مواقعهم الفكرية. عرفتُ ماركسيين انتقلوا إلى الإسلام السياسي في مراحل متأخرة من حياتهم، لكن مواقفهم لم تتغيّر. تغيّرَ الإطارُ أو القالبُ الذي يُعبّرون من خلاله عن مواقفهم، إلا أن المضمونَ ظلّ على حاله؛ لبثوا تأسرهم النظرةُ التآمرية للعالم، والعداءُ للآخر المختلِف. المحتوى الأيديولوجيُّ النفسيُّ العميقُ للإنسان لا يتغيّر بسهولة، حتى لو بدّل شعاراته ومواقعه التنظيمية. العداءُ للآخر ليس دائمًا موقفًا عقلانيًا، بل كثيرًا ما يكون حالةً نفسيةً تتغذّى على الخوف، والرفض.
هويّةُ الجماعة تتجلّى في معتقداتها وسرديّاتها ومرويّاتها عن نفسها والآخر، في الماضي والحاضر، كما تتشكّل من أحلامها وتطلّعاتها للمستقبل.كلُّ هويّةٍ مغلقةٍ تزهو بوهم أنها مركزُ العالم، وأن ما يصحّ عليها لا يصحّ على غيرها، وأنها مرجعيّةُ الحقيقة الوحيدة. هذا التمركز يولّد نزعةً تبشيريّة تسعى إلى فرض قيم الجماعة، ورؤيتها للعالم، ومعارفها، وآدابها، وفنونها، وثقافتها على كلّ مَن يقع خارج محيطها العقائدي والثقافي. ويستند هذا النزوع إلى قناعةٍ راسخة بأن عقيدتها وثقافتها ورؤيتها للعالم خَلّاقةٌ دائمًا؛ أي أنها تملك القدرة المستمرة على إنتاج ما تحتاجه البشريّة من قيمٍ ومعارف وآداب وفنون وثقافة في العصور المختلفة.
لكلِّ جماعةٍ بشرية شغف بإنتاج #هوية خاصة مصطفاة، على وفق رهانات ترسمها أحلامها وآفاق انتظارها، وما تتعرض له من إكراهات، وأنماط الرهانات والتحديات، وما تنشده من احتياجات متنوعة في الزمان والمكان.كلُّ ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدِها، ويحدّد ألوانَ رسمِها لصوره المتنوعة وتعبيراتِه في العصور المختلفة. وتُدمج أيّ صورة من صور المعتقد بوصفه عنصرًا رئيسًا في مكونات هذه الهوية، إلى جانب العناصر الإثنية والثقافية واللغوية وغيرها، بالشكل الذي يجعل المعتقد مكونًا أساسيًا فاعلًا ومنفعلًا داخل الهوية، إذ تتغذى منه الهوية باستمرار ويتغذى منها. بل إن كلَّ هوية تنشد إنتاج الحقيقة على وفق رهاناتها ومطامحها ومعاييرها، سواء كانت تلك الحقيقة دينية أو دنيوية. وهذه ظاهرة بشرية عامة لا تتخلف ولا تختلف، يخضع لها كلُّ معتقد في ولادته وصيرورته داخل فضاء الهوية الجمعية.
لكي يكون البحثُ علميًا في نشأة المعتقد وتطوره، ينبغي أن يكون منهجه وفيًا لكلِّ ذلك، فلا يقفز على حقائق الواقع، ولا يتجاهل أثر السلطة والإكراهات واللغة والثقافة والمتخيّل والميثيولوجيا والمحيط، وكلَّ ما يضجّ به التاريخُ في تحولات وصيرورة ذلك المعتقَد. بمعنى أن يكونَ منهجًا يتبصر تاريخية المعتقَد، ويكشف سياقات تشكّله في المتخيّل، ويزيل الغبارَ عن صوره المتنوعة عبر محطاته المختلفة في الزمان والمكان.
‏ تعيد المخيِّلةُ ابتكارَ الصور في فضائها، وهو فضاءٌ رحب يتضخم باستمرار، فتولِّد #المخيِّلةُ الأحلامَ والأماني والرغباتِ المختلفة وحتى الأوهام، وما يصدر عن نرجسيات الهوية المتجذّرة في البنى اللاشعورية، وما تختزنه من أوهام تفوّق هذه الهوية واصطفائها وقدراتها الاستثنائية الفذّة، وإن كانت تعيش واقعًا بائسًا يضجّ بالأمية والفقر والمرض، غير أنها تلجأ للذاكرة العتيقة والأمجاد الإمبراطورية لأسلافها. تكرّر هذه الهوية بلا جدوى، لسنواتٍ طويلة تجنيدَ الإنسان، وما يمكن توظيفُه من طاقات في المجتمع، لإيقاد رمادِ نرجسية إمبراطورية مندثرة، من دون أن تكترثَ هذه الهويةُ بهزائمها، ولا تقف عندها وتدرس أسبابَها وتكتشف ثغراتها، ولا تسعى لأن تجرّب طريقةً بديلة في توكيد حضورها في الواقع وصناعة حاضرها ومستقبلها.
الهويات الأيديولوجية مغلقة تجهض أية محاولة للتعددية العقائدية والثقافية والسياسية. في هذه الهوية المغلقة، يعيد متخيَّلُ الجماعة كتابةَ تاريخها في أفقٍ يتحول فيه الماضي إلى سرديةٍ رومانسيةٍ فاتنة، ويصبح العجزُ عن بناء الحاضر استعادةً مهووسةً بالأمجاد العتيقة. ويجري ضخّ الذاكرة الجمعية بتاريخٍ متخيَّلٍ يضمحلُّ فيه حضورُ التاريخ الأرضي، وتُخلع على الحوادث والشخصيات والرموز والأفكار والمعتقدات والتراث هالةٌ أسطوريةٌ، تتحدّث عنها وكأنها خارجَ الزمان والمكان والواقع الذي ظهرتْ وتكوّنتْ وعاشتْ فيه.
تشتدّ حالةُ اصطفاءِ الهوية ووضعِها فوق التاريخ في مراحلِ الإخفاق الحضاري، وعجزِ المجتمعات عن الإسهام في صناعة العالم الذي تعيش فيه. لذلك تسعى هذه الهوية للاستيلاءِ على المكاسب الكبرى للآخر، وإيداعِها في خزانتها الموروثة، من خلال القيام بعمليات تلفيقٍ متنوعةٍ تتسع لكلِّ ما هو خلاقٌ مما ابتكره وصنعه غيرُها. وذلك أبرزُ مأزقٍ اختنقتْ فيه هويتُنا في العصر الحديث.

https://alsabaah.iq/115331-.html
تسجيل صوتي لكتاب الدين والظمأ الأنطولوجي/ الفصل الثاني - نسيان الإنسان (2) مرايا الذات:
https://www.hindawi.org/books/30847268/3/