مكتباتنا أرشيف ذكرياتنا
عبدالجبار الرفاعي
بعضُ الورثة يتخلّصون عاجلًا من مكتبات الآباء فيبادرون لعرضِها في المزاد، أو طردِها بطريقةٍ مهينة من مأواها. نقل لي أحدُ الأصدقاء واقعةً مأساوية لمصير مكتبة قيِّمة لأحد تجار بغداد بداية القرن الماضي، يقول: كان هذا التاجرُ من عشّاق الكتاب، لديه خبرةٌ جيدة بالكتب والمؤلفين، يقتني المطبوعاتِ والمخطوطاتِ النفيسة، وكان ضنينًا بالإعارة، لا يسمحُ أن يخرجَ أيُّ كتاب من بيته. ظلّ يتربص بعضُ أصدقائه يوم وفاته، عسى أن يستعيروا كتبًا بحاجة إليها من ورثته، بعد مضي أيامٍ قليلة على وفاته ذهبوا للأبناء لاستعارة ما هم بحاجةٍ ماسة إليه، فقال الورثة: ليتكم جئتم أبكر، بعد فراغنا من عزاء الوالد كنا بحاجةٍ ماسة لتفريغ غرفِ المكتبة، فوضعنا كلَّ الكتب في أكياسِ بضائعَ كبيرةٍ وألقيناها في نهر دجلة….
تتة المقال على هذا الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
عبدالجبار الرفاعي
بعضُ الورثة يتخلّصون عاجلًا من مكتبات الآباء فيبادرون لعرضِها في المزاد، أو طردِها بطريقةٍ مهينة من مأواها. نقل لي أحدُ الأصدقاء واقعةً مأساوية لمصير مكتبة قيِّمة لأحد تجار بغداد بداية القرن الماضي، يقول: كان هذا التاجرُ من عشّاق الكتاب، لديه خبرةٌ جيدة بالكتب والمؤلفين، يقتني المطبوعاتِ والمخطوطاتِ النفيسة، وكان ضنينًا بالإعارة، لا يسمحُ أن يخرجَ أيُّ كتاب من بيته. ظلّ يتربص بعضُ أصدقائه يوم وفاته، عسى أن يستعيروا كتبًا بحاجة إليها من ورثته، بعد مضي أيامٍ قليلة على وفاته ذهبوا للأبناء لاستعارة ما هم بحاجةٍ ماسة إليه، فقال الورثة: ليتكم جئتم أبكر، بعد فراغنا من عزاء الوالد كنا بحاجةٍ ماسة لتفريغ غرفِ المكتبة، فوضعنا كلَّ الكتب في أكياسِ بضائعَ كبيرةٍ وألقيناها في نهر دجلة….
تتة المقال على هذا الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
جريدة الزوراء العراقية
أقسـام الموقع
موقع صحيفة عراقية منذ 1957
الهويَّة في حالة صيرورة وتشكّل
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة بطبيعتها علائقية، لا توجد في فراغ، انها نسيج صلات متشابكة، وصيرورة مستمرة تتحقق بها أنماط وجودها.
الهويَّة ليست صخرة جامدة، الهويَّة الحيّة ديناميكية، تتفاعل وتنفعل، تستقي من غيرها وتسقي غيرها، تأخذ وتعطي، ويعاد تشكّلها على الدوام عبر الاستيعاب والتمثل.
تتشكل الهويَّة الحيّة تبعًا لكيفية صلاتها وعلاقاتها بالهويات الأخرى الموازية لها، فهي تصاغ في سياق: تضادها، تضامنها، تسوياتها، تساكنها، مع الهويات الأخرى. ففي سياق تضادها تتحقّق الهويَّة بإعادة تعريف ذاتها، كي تستجيب لنزوعها للتفرد والتميز، فتعمل على اكتشاف وتكريس مزاياها وميزاتها الثقافيَّة والرمزية والحضارية، وتحاول تكريس ما هو حاضر منها، وإحياء ما هو منسي وما يمكن إحياؤه وتنميته منها. في سياق تضامنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تتعلم فيها من هويات ديناميكية خلّاقة، استطاعت أن تراكم منجزات معرفية وعلمية وتكنولوجية وثقافيَّة وحضارية، فرضت حضورها عالميًا، فتبحث الهويَّة عن المشتركات وما يمكن أن تتمثله ويدخل في نسيجها منها، من غير أن تنصهر في تلك الهويَّة الأخرى. وفي سياق التسويات تتحقّق الهويَّة بكيفية تتفادى فيها الصدام والصراعات المسلحة مع الهويات المنافسة، وتتمرن على سياسة الاحتواء ما أمكنها ذلك، ولا تتورط في المواقف الصفرية، التي تخسر فيها كل شيء. وفي سياق تساكنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تعيد فيها تعريف ذاتها، واكتشاف حدودها بوضوح وحدود غيرها من الهويات المساكنة لها.
الهويَّة كائنٌ حيٌّ في حالة صيرورة مستمرة، وكل صيرورة تحوّل متواصل، لا تولد أية هويَّة ناجزة مكتملة، الهويَّة تتخلق عبر الزمن، في سياق علاقاتها بالهويات الأخرى، وتجاربها وخبراتها، وقدرتها على التفاعل الخلّاق مع غيرها، فكل تجربة في تفاعل للهويَّة مع هويَّة مختلفة دينيًا وعقائديًا وثقافيًا ولغويًا تترك بصمتها في بناء هذه الهويَّة وإعادة إنتاجها لذاتها. وكما تحدث النجاحات والانتصارات أثرها في تكامل الهويَّة وتثريها، تحدث الصدمات العظمى والانكسارات والهزائم آثارها الموجعة وجروحها العميقة، عبر استفزاز الهويَّة الحيّة إلى إعادة النظر في: رؤيتها للعالم، وثقافتها، ومفاهيمها الأساسية، فتسارع إلى تفكيكها ونقدها وتمحيصها، والتحرر مما قادها لهذه الصدمات والانكسارات بشجاعة.
الهويَّة كائنٌ اجتماعيٌّ ثقافيٌّ لغويٌّ سياسيٌّ متحوّل، تعيش الهويَّة في عالمٍ تتفاعل وتتصادم فيه هويات متعددة متنوعة. لا تستطيع أية هويَّة عزل نفسها عمّا يجري حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع متسارع حاد التغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغيّر كل شيء فيما تظل الهويَّة ساكنة. مهما حاولت الهويَّة أن تسجن نفسها في محيط خاص بها تفشل، وفي هذا العصر الرقمي يصير فشلها حتميًا، فهي أمام خيارين: أما أن تواكب ايقاع الواقع، أو تنسحب منه وتنكفئ في متحف الهويات القابعة في متحف التاريخ.
إذا تعطلت ديناميكيَّة تفاعل الهويَّة مع العالم الذي تعيش فيه، وعاندت الواقع، وأنكرت ما يجري من حولها، فإنها تنغلق على نفسها، وتنكمش وتتصلب، وتندثر وتنسحب من العالم في خاتمة المطاف. ممانعة الهويَّة ومكوثها في أنفاق الماضي تفضي إلى انسدادها وتحجرها، ومن ثم خروجها من العصر؛ ذلك أن كل هويَّة تفشل في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب إيقاع التحولات المتسارعة في الواقع، وتعجز عن الإسهام في بناء الواقع، يفرض عليها التاريخ أن تغيب، إذ إن كل من يعجز عن صناعة التاريخ لا محل له في ذاكرته.
بنية الهويَّة في عالمنا اليوم لم تعد بسيطة، بل صارت مركبة عميقة تتألف من سلسلة طبقات متنوعة المكونات، وتتزاحم عليها صور متعددة. لا تلبث مكوناتها على الدوام في سلم ترتيبها، ولا تمكث في مواقعها، ولا تقف الصور المتعاقبة عليها عند صورة واحدة، لذلك تتطلب معرفتها تفكيرًا صبورًا، يتوغّل في طبقاتها، ويحلّل عناصرها، ويضيء صورها المتلاحقة. تسارعَ تحوّل الهويَّة في عصر الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية وتكنولوجيا النانو والمنعطفات والقفزات الهائلة في العلوم المختلفة والتكنولوجيات الجديدة، فقد تعددت وجوه الهويَّة وتنوعت أبعادها.
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة بطبيعتها علائقية، لا توجد في فراغ، انها نسيج صلات متشابكة، وصيرورة مستمرة تتحقق بها أنماط وجودها.
الهويَّة ليست صخرة جامدة، الهويَّة الحيّة ديناميكية، تتفاعل وتنفعل، تستقي من غيرها وتسقي غيرها، تأخذ وتعطي، ويعاد تشكّلها على الدوام عبر الاستيعاب والتمثل.
تتشكل الهويَّة الحيّة تبعًا لكيفية صلاتها وعلاقاتها بالهويات الأخرى الموازية لها، فهي تصاغ في سياق: تضادها، تضامنها، تسوياتها، تساكنها، مع الهويات الأخرى. ففي سياق تضادها تتحقّق الهويَّة بإعادة تعريف ذاتها، كي تستجيب لنزوعها للتفرد والتميز، فتعمل على اكتشاف وتكريس مزاياها وميزاتها الثقافيَّة والرمزية والحضارية، وتحاول تكريس ما هو حاضر منها، وإحياء ما هو منسي وما يمكن إحياؤه وتنميته منها. في سياق تضامنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تتعلم فيها من هويات ديناميكية خلّاقة، استطاعت أن تراكم منجزات معرفية وعلمية وتكنولوجية وثقافيَّة وحضارية، فرضت حضورها عالميًا، فتبحث الهويَّة عن المشتركات وما يمكن أن تتمثله ويدخل في نسيجها منها، من غير أن تنصهر في تلك الهويَّة الأخرى. وفي سياق التسويات تتحقّق الهويَّة بكيفية تتفادى فيها الصدام والصراعات المسلحة مع الهويات المنافسة، وتتمرن على سياسة الاحتواء ما أمكنها ذلك، ولا تتورط في المواقف الصفرية، التي تخسر فيها كل شيء. وفي سياق تساكنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تعيد فيها تعريف ذاتها، واكتشاف حدودها بوضوح وحدود غيرها من الهويات المساكنة لها.
الهويَّة كائنٌ حيٌّ في حالة صيرورة مستمرة، وكل صيرورة تحوّل متواصل، لا تولد أية هويَّة ناجزة مكتملة، الهويَّة تتخلق عبر الزمن، في سياق علاقاتها بالهويات الأخرى، وتجاربها وخبراتها، وقدرتها على التفاعل الخلّاق مع غيرها، فكل تجربة في تفاعل للهويَّة مع هويَّة مختلفة دينيًا وعقائديًا وثقافيًا ولغويًا تترك بصمتها في بناء هذه الهويَّة وإعادة إنتاجها لذاتها. وكما تحدث النجاحات والانتصارات أثرها في تكامل الهويَّة وتثريها، تحدث الصدمات العظمى والانكسارات والهزائم آثارها الموجعة وجروحها العميقة، عبر استفزاز الهويَّة الحيّة إلى إعادة النظر في: رؤيتها للعالم، وثقافتها، ومفاهيمها الأساسية، فتسارع إلى تفكيكها ونقدها وتمحيصها، والتحرر مما قادها لهذه الصدمات والانكسارات بشجاعة.
الهويَّة كائنٌ اجتماعيٌّ ثقافيٌّ لغويٌّ سياسيٌّ متحوّل، تعيش الهويَّة في عالمٍ تتفاعل وتتصادم فيه هويات متعددة متنوعة. لا تستطيع أية هويَّة عزل نفسها عمّا يجري حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع متسارع حاد التغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغيّر كل شيء فيما تظل الهويَّة ساكنة. مهما حاولت الهويَّة أن تسجن نفسها في محيط خاص بها تفشل، وفي هذا العصر الرقمي يصير فشلها حتميًا، فهي أمام خيارين: أما أن تواكب ايقاع الواقع، أو تنسحب منه وتنكفئ في متحف الهويات القابعة في متحف التاريخ.
إذا تعطلت ديناميكيَّة تفاعل الهويَّة مع العالم الذي تعيش فيه، وعاندت الواقع، وأنكرت ما يجري من حولها، فإنها تنغلق على نفسها، وتنكمش وتتصلب، وتندثر وتنسحب من العالم في خاتمة المطاف. ممانعة الهويَّة ومكوثها في أنفاق الماضي تفضي إلى انسدادها وتحجرها، ومن ثم خروجها من العصر؛ ذلك أن كل هويَّة تفشل في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب إيقاع التحولات المتسارعة في الواقع، وتعجز عن الإسهام في بناء الواقع، يفرض عليها التاريخ أن تغيب، إذ إن كل من يعجز عن صناعة التاريخ لا محل له في ذاكرته.
بنية الهويَّة في عالمنا اليوم لم تعد بسيطة، بل صارت مركبة عميقة تتألف من سلسلة طبقات متنوعة المكونات، وتتزاحم عليها صور متعددة. لا تلبث مكوناتها على الدوام في سلم ترتيبها، ولا تمكث في مواقعها، ولا تقف الصور المتعاقبة عليها عند صورة واحدة، لذلك تتطلب معرفتها تفكيرًا صبورًا، يتوغّل في طبقاتها، ويحلّل عناصرها، ويضيء صورها المتلاحقة. تسارعَ تحوّل الهويَّة في عصر الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية وتكنولوجيا النانو والمنعطفات والقفزات الهائلة في العلوم المختلفة والتكنولوجيات الجديدة، فقد تعددت وجوه الهويَّة وتنوعت أبعادها.
جريدة الصباح
الهويَّة في حالة صيرورة وتشكّل » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة…
الواقع الشديد التحوّل يفرض عليها أن تصير سيّالة متغيّرة، تتعدد عناصرها وتتنوّع مكوناتها تبعًا لتعدد وتنوع إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتحوّل، لذلك يفرض الواقع الراهن على الهويَّة التي تتشبث بالبقاء طريقة للعيش تواكب إيقاعه، كي تبقى مسجلة على قيد الحياة، وإن كانت هذه المواكبة قلقة مضطربة مشوهة هشّة في مجتمعاتنا. لا خيار للهويَّة إلا أن تخرج من قوقعتها، كي لا يمحو وجودها واقع يتغيّر فيه كل شيء، ولتحتفظ بشيء من عناصر البقاء، حتى لو كانت مضطربة مشوشة.
الهويَّة المفتوحة تتفاعل مع الهويات المتنوعة بلا وجل، وبما أنها في حالة تشكّل متواصلة فهي في حالة تعلّم واستكشاف أبدي، لا ترى للمعرفة مديات نهائية، ولا تراها قارة ساكنة، بل ترى المعرفة أفقًا مضيئًا لانهائيًا، يستمد فيه الإنسان قدرته على تطوير ذاته فردًا ومجتمعًا، وإثراء هويته وإنضاجها. ولا تدعي الهويَّة المفتوحة احتكار الحقيقة مثلما تفعل الهويَّة المغلقة، وإنما ترى الحقيقة وطرق الوصول إليها أوسع من أن تحتكرها هويَّة خاصة، أو يحتكرها عقل واحد. وذلك ما يجعل الهويَّة المفتوحة مستعدة لمسائلة ذاتها، ونبش أرشيفاتها، واكتشاف ثغراتها، والنظر لتاريخها بوصفه محكومًا بما يخضع له تاريخ المجتمعات من صعود وهبوط، وانتصارات وهزائم، وتقدم وتخلف، ولا تراه تاريخًا استثنائيًا متفردًا، يتفوق على المجتمعات البشريَّة في مختلف مراحله وعصوره. ويفرض على هذه الهويَّة وعيها النقدي التمييز بين محطات الإخفاق ومحطات التفوق، وتتعامل مع ما حدث في تاريخها بجسارة، ولا تلجأ للتنكر لما حدث فيه من مظالم واضطهادات للمختلف أحيانًا والتنكيل به. الإنسان الذي يتربى في سياق هويَّة مفتوحة تتحلى شخصيته باحترام المختلف، وقبول التعددية الدينية والعقائدية والثقافيَّة واللغوية والإثنية في المجتمع، والقدرة على العيش في فضاء الاختلاف والتنوع، بلا شعور بالاصطفاء والتفوق على غيره، مهما كان دينه ومعتقده وإثنيته وثقافته ولغته.
https://alsabaah.iq/113752-.html
الهويَّة المفتوحة تتفاعل مع الهويات المتنوعة بلا وجل، وبما أنها في حالة تشكّل متواصلة فهي في حالة تعلّم واستكشاف أبدي، لا ترى للمعرفة مديات نهائية، ولا تراها قارة ساكنة، بل ترى المعرفة أفقًا مضيئًا لانهائيًا، يستمد فيه الإنسان قدرته على تطوير ذاته فردًا ومجتمعًا، وإثراء هويته وإنضاجها. ولا تدعي الهويَّة المفتوحة احتكار الحقيقة مثلما تفعل الهويَّة المغلقة، وإنما ترى الحقيقة وطرق الوصول إليها أوسع من أن تحتكرها هويَّة خاصة، أو يحتكرها عقل واحد. وذلك ما يجعل الهويَّة المفتوحة مستعدة لمسائلة ذاتها، ونبش أرشيفاتها، واكتشاف ثغراتها، والنظر لتاريخها بوصفه محكومًا بما يخضع له تاريخ المجتمعات من صعود وهبوط، وانتصارات وهزائم، وتقدم وتخلف، ولا تراه تاريخًا استثنائيًا متفردًا، يتفوق على المجتمعات البشريَّة في مختلف مراحله وعصوره. ويفرض على هذه الهويَّة وعيها النقدي التمييز بين محطات الإخفاق ومحطات التفوق، وتتعامل مع ما حدث في تاريخها بجسارة، ولا تلجأ للتنكر لما حدث فيه من مظالم واضطهادات للمختلف أحيانًا والتنكيل به. الإنسان الذي يتربى في سياق هويَّة مفتوحة تتحلى شخصيته باحترام المختلف، وقبول التعددية الدينية والعقائدية والثقافيَّة واللغوية والإثنية في المجتمع، والقدرة على العيش في فضاء الاختلاف والتنوع، بلا شعور بالاصطفاء والتفوق على غيره، مهما كان دينه ومعتقده وإثنيته وثقافته ولغته.
https://alsabaah.iq/113752-.html
جريدة الصباح
الهويَّة في حالة صيرورة وتشكّل » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة…
مصائر مكتباتنا
د. #عبدالجبار_الرفاعي
من المكتبات الشخصية الثمينة مكتبة الصديق د.رضوان السيد،كنت أزوره في بيته ببيروت، في زياراتي المتواصلة لهذه المدينة العشرين سنة الماضية.كان رضوان ومازال من أكثر الأصدقاء العرب دراية بالكتب والكتّاب باللغات العربية والألمانية والإنجليزية، ظل يلاحق كلَّ جديد، ويشتري أكثر من نسخة من الكتاب غالبًا، فضلا عن الهدايا التي تصله من دور النشر والمؤلفين والدوريات في لبنان والبلدان المختلفة. رأيته من أكرم الناس بالكتب، في كل زيارة يهديني ويهدي أصدقاءه مجموعة من الكتب والدوريات الممتازة. بيته يضيق على الرغم من سعته بما يضيفه من كتب بلغات يتقنها، قبل أكثر من عشر سنوات أخبرني بأنه اشترى مكانًا ببناية في بيروت ليأوي مكتبته. عرض عليّ في أحد زياراتي مشاهدة مكتبته في محلها الجديد، بهرتني المكتبة بتميزها وفرادة ما استوعبته من مؤلفات نوعية، مكتبة نادرة انتقاها عالم وباحث متمرّس في التراث الإسلامي والعلوم الإنسانية، وهو يواصل شغفه بتزويدها بما يستجدّ. بلغ رصيدها من الكتب والدوريات 120000 كتابًا ودورية،كما أخبرني رضوان في اللقاء الأخير في المؤتمر الفلسفي لبيت الزبير الثقافي بمسقط شهر أبريل 2024. حكى لي المصير المؤلم لمكتبته الفريدة، بعد ما حدث لبيروت في السنوات الأخيرة من تآكل بنى الدولة المدنية، وانهيار الاقتصاد والنظام المصرفي، واضطراره للهجرة والإقامة في أبوظبي. يقول رضوان: تعرضت المكتبة إلى تسرب شيء من مياه الأمطار إثر تشققات في السطح، فتضررت بعض الكتب، حاولت إنقاذها بترميم سطح البناية، لكن غيابي وإهمال المكتبة، جعلها ضحية تسرب مياه مرة أخرى، فقررت إهداءها إلى مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت وعرضتها عليهم، غير أنهم اعتذروا عن تسلمها على الرغم من نفائسها، لعدم توفر الفضاء الكافي في مخازن الكتب لاستيعاب مكتبة بهذه الضخامة. عرضتها على مكتبة جمعية المقاصد الإسلامية ببيروت فاعتذروا للسبب ذاته. وأخيرًا عرضتها على مكتبة جامعة القديس يوسف «اليسوعية» ببيروت فاعتذروا كذلك. كلهم قالوا: لا يتوفر المكان الذي يتسع لاستيعاب هذه الكمية من الكتب، فضلا عن تراجع استعمال الكتاب الورقي، ما دعاني لعرضها أخيرًا على مكتبة إحدى الجامعات في أبوظبي. هذه المكتبة من أندر المكتبات في نوعية كتبها المنتقاة بخبرة عارف بالكتب والمؤلفين، ولمعرفتي بالتكوين الأكاديمي الرصين لرضوان، وولعه بالقراءة والكتب والكتابة، ومواكبتي السنوات العشرين الأخيرة لنمو هذه المكتبة وتطور رصيدها، وحرصه الدائم على إثرائها. المصير الذي آلت إليه هذه المكتبة، دعاني للتفكير طويلًا بمصير مكتبتي، وهي تعادل ربع مكتبة #رضوان_السيد.
تتمة المقال على الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
د. #عبدالجبار_الرفاعي
من المكتبات الشخصية الثمينة مكتبة الصديق د.رضوان السيد،كنت أزوره في بيته ببيروت، في زياراتي المتواصلة لهذه المدينة العشرين سنة الماضية.كان رضوان ومازال من أكثر الأصدقاء العرب دراية بالكتب والكتّاب باللغات العربية والألمانية والإنجليزية، ظل يلاحق كلَّ جديد، ويشتري أكثر من نسخة من الكتاب غالبًا، فضلا عن الهدايا التي تصله من دور النشر والمؤلفين والدوريات في لبنان والبلدان المختلفة. رأيته من أكرم الناس بالكتب، في كل زيارة يهديني ويهدي أصدقاءه مجموعة من الكتب والدوريات الممتازة. بيته يضيق على الرغم من سعته بما يضيفه من كتب بلغات يتقنها، قبل أكثر من عشر سنوات أخبرني بأنه اشترى مكانًا ببناية في بيروت ليأوي مكتبته. عرض عليّ في أحد زياراتي مشاهدة مكتبته في محلها الجديد، بهرتني المكتبة بتميزها وفرادة ما استوعبته من مؤلفات نوعية، مكتبة نادرة انتقاها عالم وباحث متمرّس في التراث الإسلامي والعلوم الإنسانية، وهو يواصل شغفه بتزويدها بما يستجدّ. بلغ رصيدها من الكتب والدوريات 120000 كتابًا ودورية،كما أخبرني رضوان في اللقاء الأخير في المؤتمر الفلسفي لبيت الزبير الثقافي بمسقط شهر أبريل 2024. حكى لي المصير المؤلم لمكتبته الفريدة، بعد ما حدث لبيروت في السنوات الأخيرة من تآكل بنى الدولة المدنية، وانهيار الاقتصاد والنظام المصرفي، واضطراره للهجرة والإقامة في أبوظبي. يقول رضوان: تعرضت المكتبة إلى تسرب شيء من مياه الأمطار إثر تشققات في السطح، فتضررت بعض الكتب، حاولت إنقاذها بترميم سطح البناية، لكن غيابي وإهمال المكتبة، جعلها ضحية تسرب مياه مرة أخرى، فقررت إهداءها إلى مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت وعرضتها عليهم، غير أنهم اعتذروا عن تسلمها على الرغم من نفائسها، لعدم توفر الفضاء الكافي في مخازن الكتب لاستيعاب مكتبة بهذه الضخامة. عرضتها على مكتبة جمعية المقاصد الإسلامية ببيروت فاعتذروا للسبب ذاته. وأخيرًا عرضتها على مكتبة جامعة القديس يوسف «اليسوعية» ببيروت فاعتذروا كذلك. كلهم قالوا: لا يتوفر المكان الذي يتسع لاستيعاب هذه الكمية من الكتب، فضلا عن تراجع استعمال الكتاب الورقي، ما دعاني لعرضها أخيرًا على مكتبة إحدى الجامعات في أبوظبي. هذه المكتبة من أندر المكتبات في نوعية كتبها المنتقاة بخبرة عارف بالكتب والمؤلفين، ولمعرفتي بالتكوين الأكاديمي الرصين لرضوان، وولعه بالقراءة والكتب والكتابة، ومواكبتي السنوات العشرين الأخيرة لنمو هذه المكتبة وتطور رصيدها، وحرصه الدائم على إثرائها. المصير الذي آلت إليه هذه المكتبة، دعاني للتفكير طويلًا بمصير مكتبتي، وهي تعادل ربع مكتبة #رضوان_السيد.
تتمة المقال على الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
جريدة الزوراء العراقية
أقسـام الموقع
موقع صحيفة عراقية منذ 1957
الهوية المغلقة تتلاعب بالذاكرة
د. عبد الجبار الرفاعي
التقيتُ ببعضِ الأصدقاءِ ممن هاجروا إلى بعضِ الدولِ الغربية، إثرَ اختناقِهم بالانغلاقِ والتشدُّدِ في مجتمعاتِهم، وأقاموا هناك سنواتٍ طويلةً، اكتسبوا فيها جنسيةَ تلك الدول. كان لديهم شغفٌ شديدٌ للعيشِ في دولةٍ غربيةٍ، يترقَّبون أن توفِّرَ لهم ضمانًا للعيشِ والصحةِ، ويَحميَهم فيها القانونُ، الذي يساوي بينهم وبين المواطنين غيرِهم، ويوفِّرَ لهم حريةً فكريةً وسياسيةً وحريةَ تعبيرٍ، ويحرِّرَهم من الإكراهِ على الولاءِ والطاعةِ العمياء. رأيتُ هؤلاء بعد سنواتٍ طويلةٍ من الإقامةِ في تلك البلدان، ينظرون لكلِّ شيءٍ في آفاقِ الحنينِ لهويتهم الموروثة، إلى درجةٍ بدأوا فيها يبجِّلون ما كانوا يعلنون كراهيتَهم له ونفورَهم منه، وصاروا مفتونين بما كان يثير اشمئزازَهم في بلادِهم، حتى أمسَوا أكثرَ تعصُّبًا وانغلاقًا وتشدُّدًا مما هربوا منه.
تساءلتُ عن هذا الانقلابِ كيف حدث بهذه الكيفيةِ المثيرة، على الرغم من معرفتهم بأن لا شيءَ تغيَّر نحو الأفضل مما هربوا منه. أدركتُ أن الإنسانَ عندما يغترب عن وطنه، ويعيش في فضاءِ هويةٍ مختلفةٍ عن هويته، تحذفُ ذاكرته ما كابده في مجتمعه من بؤسٍ وشقاءٍ، ولا تحتفظ إلا بصورٍ فاتنةٍ من طفولته وصباه وذكرياتٍ مريحةٍ من حياته الماضية، يعيد متخيِّلُه إنتاجَها بأبهى أشكالها، ويَبتكِرُ لها صورةً خلّابَةً. ما يستدعي حضورَ الهوية هو شعورُها بالاغتراب، وممانعتُها الاندماجَ بهويةِ المجتمع الذي يعيش فيه المهاجر، إثرَ ما يستفزه ويضاعف آلامَه من تمييزٍ مضمرٍ ضد المهاجرين، وما يشعره بالعزلة والعجزِ عن بناءِ روابطَ اجتماعيةٍ تعيد ما ألفه من روابطَ في مجتمعه ووطنه الأصلي. يستحثُّ ذلك هويتَه الدينيةَ والطائفيةَ والعرقيةَ والثقافيةَ على أن تعلن عن حضورِها بثقةٍ وفاعليةٍ، وتتصلَّبَ وتنغلقَ، ويستبدَّ به الشوقُ والحنينُ للصورةِ الآسرةِ المتخيَّلة للوطن والمجتمع الذي وُلِد وترعرع فيه، كما يستبدُّ به تضخُّمُ الشعور بتهديدِ هويته الدينيةِ والطائفيةِ والعرقيةِ والثقافيةِ وتذويبِها، فتصبح وظيفةُ المغتربِ حمايةَ هويته والاحتماءَ بها، ورفضَ أيةِ محاولةٍ لنقدها أو مسائلتها أو الإعلان عن ثغراتِها وأخطائها وإخفاقاتها وتعصُّباتها وانغلاقها، أو تذكيره بما كان ينهجُها فيه وكان سببًا لهجرته.
وفي ضوء ما يشرحه بيير بورديو في «الهابيتوس» (habitus)، يمكن أن نفسِّر هذا الاغترابَ الذي يعيشه بعضُ المغتربين عن أوطانهم، وكيف يمارس الحنينُ نسيانَ ذاكرةِ ألمِ الماضي، وبناءَ ذاكرةٍ بديلةٍ مبهجةٍ، وتكوينَ معرفةٍ فاتنةٍ متخيَّلةٍ بماضي المغترب وهويته. يرى بورديو أن الإنسانَ ينشأ في إطارِ هابيتوس يتشكَّل من معتقداتٍ وتقاليدَ وعاداتٍ ومفاهيمَ ورموزٍ، فيكون إطارًا عميقًا للهوية والسلوك والذوق، يترسَّخ في البنية اللاواعيةِ العميقة لشخصيته منذ الطفولة. وحين يغترب الإنسانُ ويعيش في فضاءِ هويةٍ مغايرةٍ لهويته، يحدث تنافرٌ بنيويٌّ بين: الجسدِ واللاوعي اللذين يواصلان الاستمرارَ في نمطِ هابيتوس هويةِ وثقافةِ مجتمعه، وهويةِ وثقافةِ مغتربِه، مما يخلق صراعًا حادًّا بين ما هو متجذِّرٌ في شخصيته، ورأسِ المالِ الثقافيِّ المفروض عليه في غربته، فيتسبب في اغترابٍ مريرٍ يشتدُّ ويتفاقم بمرور الأيام، وبموازاته حنينٌ حادٌّ لهوية الأمس. ويعمل العنفُ الرمزيُّ بخفاءٍ على إكراه الإنسانِ في مغتربِه على نسيانِ ماضيه ومحوِ ذاكرته والاندماجِ ببيئتِه اليوم. وهذا ما يُحفِّز المغتربَ على محوِ ما يثير النفورَ والخجلَ والألمَ والرفضَ من ذاكرةِ الأمس، واستبداله بصورٍ تجعل الذاكرةَ مصدرَ إغواءٍ فاتنةٍ، وهويةَ أمسَ مثارَ إعجابٍ واشتياقٍ.
بول ريكور تَحَدَّثَ في كتابه: "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، عن نوعين مختلفين من الذاكرة، النوع الأول: ذاكرةٌ حقيقيةٌ تعمل على استحضار الماضي كما كان بأمانةٍ وصدقٍ قدر ما يتمكن الإنسان، وذلك يرتبط بمفهوم الشهادة عند ريكور، بما يعنيه من وفاءٍ للتجربة الإنسانية والحقيقة التاريخية. وهذه الذاكرة تحرص على الحديث عن الوقائع التاريخية كما وقعت، والتحدث عن الشخصيات كما كانت، بعيدًا عن الإضافات والتحريفات، والتأويلات المتعسفة، وإن كانت عمليةُ الاستذكار ذاتَها تعني إعادةَ بناءٍ، وهذه الإعادة لا تخلو من تأويلٍ، غير أنه ضربٌ من التأويل الذي لا يزيف. والنوع الثاني من الذاكرة: ذاكرةٌ موجَّهة، يجري ابتكارُها وتوجيهُها وفقًا لمطامحَ أيديولوجيةٍ، كما تفعل الهوياتُ المغلقةُ، عندما تعمل على صياغة الماضي لتوظيفه في مطامحَ تنشدها الهويةُ في الحاضر. الهويةُ المغلقةُ لا ترى التنوعَ والتعقيدَ في الهويات، وتكون منحازةً وأسيرةً لصورة تحلم بها وتشدد على خلقها، فتعمد لانتقاء ما يجعل هذه الصورة أجملَ، وإن كان لا تعرفه الهويةُ في ماضيها، وتحرص على تكريس "نحن" مقابل "هم" على الدوام.
د. عبد الجبار الرفاعي
التقيتُ ببعضِ الأصدقاءِ ممن هاجروا إلى بعضِ الدولِ الغربية، إثرَ اختناقِهم بالانغلاقِ والتشدُّدِ في مجتمعاتِهم، وأقاموا هناك سنواتٍ طويلةً، اكتسبوا فيها جنسيةَ تلك الدول. كان لديهم شغفٌ شديدٌ للعيشِ في دولةٍ غربيةٍ، يترقَّبون أن توفِّرَ لهم ضمانًا للعيشِ والصحةِ، ويَحميَهم فيها القانونُ، الذي يساوي بينهم وبين المواطنين غيرِهم، ويوفِّرَ لهم حريةً فكريةً وسياسيةً وحريةَ تعبيرٍ، ويحرِّرَهم من الإكراهِ على الولاءِ والطاعةِ العمياء. رأيتُ هؤلاء بعد سنواتٍ طويلةٍ من الإقامةِ في تلك البلدان، ينظرون لكلِّ شيءٍ في آفاقِ الحنينِ لهويتهم الموروثة، إلى درجةٍ بدأوا فيها يبجِّلون ما كانوا يعلنون كراهيتَهم له ونفورَهم منه، وصاروا مفتونين بما كان يثير اشمئزازَهم في بلادِهم، حتى أمسَوا أكثرَ تعصُّبًا وانغلاقًا وتشدُّدًا مما هربوا منه.
تساءلتُ عن هذا الانقلابِ كيف حدث بهذه الكيفيةِ المثيرة، على الرغم من معرفتهم بأن لا شيءَ تغيَّر نحو الأفضل مما هربوا منه. أدركتُ أن الإنسانَ عندما يغترب عن وطنه، ويعيش في فضاءِ هويةٍ مختلفةٍ عن هويته، تحذفُ ذاكرته ما كابده في مجتمعه من بؤسٍ وشقاءٍ، ولا تحتفظ إلا بصورٍ فاتنةٍ من طفولته وصباه وذكرياتٍ مريحةٍ من حياته الماضية، يعيد متخيِّلُه إنتاجَها بأبهى أشكالها، ويَبتكِرُ لها صورةً خلّابَةً. ما يستدعي حضورَ الهوية هو شعورُها بالاغتراب، وممانعتُها الاندماجَ بهويةِ المجتمع الذي يعيش فيه المهاجر، إثرَ ما يستفزه ويضاعف آلامَه من تمييزٍ مضمرٍ ضد المهاجرين، وما يشعره بالعزلة والعجزِ عن بناءِ روابطَ اجتماعيةٍ تعيد ما ألفه من روابطَ في مجتمعه ووطنه الأصلي. يستحثُّ ذلك هويتَه الدينيةَ والطائفيةَ والعرقيةَ والثقافيةَ على أن تعلن عن حضورِها بثقةٍ وفاعليةٍ، وتتصلَّبَ وتنغلقَ، ويستبدَّ به الشوقُ والحنينُ للصورةِ الآسرةِ المتخيَّلة للوطن والمجتمع الذي وُلِد وترعرع فيه، كما يستبدُّ به تضخُّمُ الشعور بتهديدِ هويته الدينيةِ والطائفيةِ والعرقيةِ والثقافيةِ وتذويبِها، فتصبح وظيفةُ المغتربِ حمايةَ هويته والاحتماءَ بها، ورفضَ أيةِ محاولةٍ لنقدها أو مسائلتها أو الإعلان عن ثغراتِها وأخطائها وإخفاقاتها وتعصُّباتها وانغلاقها، أو تذكيره بما كان ينهجُها فيه وكان سببًا لهجرته.
وفي ضوء ما يشرحه بيير بورديو في «الهابيتوس» (habitus)، يمكن أن نفسِّر هذا الاغترابَ الذي يعيشه بعضُ المغتربين عن أوطانهم، وكيف يمارس الحنينُ نسيانَ ذاكرةِ ألمِ الماضي، وبناءَ ذاكرةٍ بديلةٍ مبهجةٍ، وتكوينَ معرفةٍ فاتنةٍ متخيَّلةٍ بماضي المغترب وهويته. يرى بورديو أن الإنسانَ ينشأ في إطارِ هابيتوس يتشكَّل من معتقداتٍ وتقاليدَ وعاداتٍ ومفاهيمَ ورموزٍ، فيكون إطارًا عميقًا للهوية والسلوك والذوق، يترسَّخ في البنية اللاواعيةِ العميقة لشخصيته منذ الطفولة. وحين يغترب الإنسانُ ويعيش في فضاءِ هويةٍ مغايرةٍ لهويته، يحدث تنافرٌ بنيويٌّ بين: الجسدِ واللاوعي اللذين يواصلان الاستمرارَ في نمطِ هابيتوس هويةِ وثقافةِ مجتمعه، وهويةِ وثقافةِ مغتربِه، مما يخلق صراعًا حادًّا بين ما هو متجذِّرٌ في شخصيته، ورأسِ المالِ الثقافيِّ المفروض عليه في غربته، فيتسبب في اغترابٍ مريرٍ يشتدُّ ويتفاقم بمرور الأيام، وبموازاته حنينٌ حادٌّ لهوية الأمس. ويعمل العنفُ الرمزيُّ بخفاءٍ على إكراه الإنسانِ في مغتربِه على نسيانِ ماضيه ومحوِ ذاكرته والاندماجِ ببيئتِه اليوم. وهذا ما يُحفِّز المغتربَ على محوِ ما يثير النفورَ والخجلَ والألمَ والرفضَ من ذاكرةِ الأمس، واستبداله بصورٍ تجعل الذاكرةَ مصدرَ إغواءٍ فاتنةٍ، وهويةَ أمسَ مثارَ إعجابٍ واشتياقٍ.
بول ريكور تَحَدَّثَ في كتابه: "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، عن نوعين مختلفين من الذاكرة، النوع الأول: ذاكرةٌ حقيقيةٌ تعمل على استحضار الماضي كما كان بأمانةٍ وصدقٍ قدر ما يتمكن الإنسان، وذلك يرتبط بمفهوم الشهادة عند ريكور، بما يعنيه من وفاءٍ للتجربة الإنسانية والحقيقة التاريخية. وهذه الذاكرة تحرص على الحديث عن الوقائع التاريخية كما وقعت، والتحدث عن الشخصيات كما كانت، بعيدًا عن الإضافات والتحريفات، والتأويلات المتعسفة، وإن كانت عمليةُ الاستذكار ذاتَها تعني إعادةَ بناءٍ، وهذه الإعادة لا تخلو من تأويلٍ، غير أنه ضربٌ من التأويل الذي لا يزيف. والنوع الثاني من الذاكرة: ذاكرةٌ موجَّهة، يجري ابتكارُها وتوجيهُها وفقًا لمطامحَ أيديولوجيةٍ، كما تفعل الهوياتُ المغلقةُ، عندما تعمل على صياغة الماضي لتوظيفه في مطامحَ تنشدها الهويةُ في الحاضر. الهويةُ المغلقةُ لا ترى التنوعَ والتعقيدَ في الهويات، وتكون منحازةً وأسيرةً لصورة تحلم بها وتشدد على خلقها، فتعمد لانتقاء ما يجعل هذه الصورة أجملَ، وإن كان لا تعرفه الهويةُ في ماضيها، وتحرص على تكريس "نحن" مقابل "هم" على الدوام.
الهوياتُ سردياتٌ تصوغ بها المجتمعاتُ صورتَها عن نفسها، فترسمها بالكلمات، في ضوء ما تحلم به ويحلُو لها وتتمناه. وتستبعد ما يخصُّ الآخرَ المختلفَ، بل وتعمل على تهميش روايةِ المختلفِ في داخل الهوية وتتجاهلها، ولا تمتنع عن تسويغ العنف الرمزي والجسدي ضدَّه في بعض الحالات. وحذفُ ذاكرة التنوع والتعايش في إطار الاختلاف داخل المجتمع في الماضي، واستحضارُ صورةٍ واحدةٍ للهوية لا غير. وبذلك تختزل الهويةُ المغلقةُ الماضي في ذاكرةٍ أيديولوجيةٍ، تنتقيها مما تتمناه وترغب فيه، وتستبعد ما لا ترغب فيه. في ضوء ذلك تكون الذاكرةُ الحقيقيةُ مزيجًا من الحقيقة والتأويل، وهو تأويلٌ بمعنى إعادة بناءٍ، لكن الذاكرةَ الأيديولوجية الموجَّهة لا تحرص على اكتشاف الحقيقة، قدر حرصها على توجيه الذاكرة لبناء روايةِ هويةِ جماعةٍ عن ماضيها، بحيث يجري توظيف الروايةِ بالكيفية التي تفرضها الأيديولوجيا.
الإنسانُ المغتربُ يتصرَّفُ بذاكرةِ الألمِ فيعيدُ تشكيلَها، بعد حذفٍ وإضافاتٍ يُمارسُها متخيِّلُه، في ضوءِ رغباتِه وأمانيه، بكيفيةٍ يحدثُ فيها تلاعُبٌ في الذاكرةِ بالخلاصِ من صُوَرِ آلامِ الأمس، وابتكارِ ذاكرةٍ تختزنُ صورًا جميلةً للماضي، إذ يجري إعادةُ خلقِ الذاكرةِ، فبدلًا من كونِها منبعًا للألمِ والإحباطِ تصيرُ منبعًا للثقةِ والأملِ. ويتَصاعدُ الحنينُ حدَّ الشغفِ بالماضي، بنحوٍ يُضيِّعُ الوعيَ النقديَّ، ويُعطِّلُ التساؤلَ، ويُعيدُ خلقَ الذاكرةِ ويستبدلُها بما يتمنَّى أن تكونَ عليه. عندما تنغلقُ الهويةُ تنظرُ لذاتها بوصفِها نهائيةً كاملةً مكتفيةً بنفسِها، وتُعيدُ صياغةَ ماضيها وحاضرِها، بحيثُ ترى ذاتَها على الدوام؛ إما متفوِّقةً على غيرِها أو مظلومةً مضطهَدةً، وكأنْ لا شيء آخرَ في تاريخِها سوى كونِها بطلةً، أو ضحيةً لأعداءَ متربصينَ بها، وتَخترعُ حكاياتٍ متنوِّعةً لكيفيةِ تآمرِ أولئك الأعداءِ عليها. يحرصُ على صناعةِ هذه الحكاياتِ وترويجِها الزعماءُ المستبدُّون وأجهزتُهم الدعائيةُ الفعّالةُ، بغيةَ تبريرِ استبدادِهم وتكريسِه، وخَلعِ المشروعيةِ على قمعِهم. وتَحتجبُ خلفَ ذلك مختلِفُ العواملِ الداخليةِ للإخفاقِ والفشلِ، فلا يُفكَّرُ في أثرِ الاستبدادِ السياسيِّ والدينيِّ، ولا في مصادرةِ حرياتِ وحقوقِ المواطنينَ، ولا في تفشِّي القيمِ والتقاليدِ المتحجِّرةِ، ولا في شيوعِ الأميةِ والتجهيلِ والتخلُّفِ.
ويجري تلاعُبُ الهويةِ المغلقةِ بالذاكرةِ بكيفيةٍ تُعلي من قيمةِ كلِّ شيءٍ ينتمي إليها، وتنتقصُ من قيمةِ كلِّ شيءٍ ينتمي لغيرها، فتعمدُ إلى حذفِ المظالمِ والهزائمِ من تاريخِها، وتضخيمِ الانتصاراتِ والإنجازاتِ وتصويرها بشكلٍ مُبهِر، وإعادةِ إخراجِها بشكلٍ يجعلُها تتنكَّرُ للواقعةِ المدونةِ في المراجعِ التاريخيةِ المتاخمةِ لعصرِها، وكثيرًا ما تنتقلُ الواقعةُ من كونِها حادثةً وقعت في زمانٍ ومكانٍ معينٍ وتلتحقُ بالأساطيرِ، يراها أتباعُ الهويةِ المغلقةِ بوصفِها مفارقةً لعصرِها ومتعاليةً على التاريخِ، وذلك ما يتجلَّى في الوقائعِ التاريخيةِ التي تَقترنُ بطولتَها بشخصياتٍ دينيةٍ في مختلفِ الأديانِ.كلُّ هويةٍ يَخترعُ متخيِّلُها أساطيرَها الخاصةَ، ويتمادى متخيِّلُها في افتعالِ ما يريدُ أن يراه من صورٍ مبهجةٍ لهويتِه المترسِّبةِ في أعماقِه. كل هوية يخترع متخيلها أساطيرها الخاصة، ويتمادى متخيلها في افتعال ما يريد أن يراه من صور مبهجة لهويته المترسبة في أعماقه.
تعملُ الهويةُ المغلقةُ على إعادةِ خلقِ ذاكرةٍ موازيةٍ لها، تَنتقي فيها من كلِّ شيءٍ، في تاريخِها وتراثِها، ما هو الأجملُ والأكملُ، ولا تكتفي بذلك، بل تَسلُبُ ما يمكنُها من الأجملِ والأكملِ في تاريخِ وتراثِ ما حولَها، فتستولي على ما هو مضيءٌ فيه. يَجري كلُّ ذلك في ضوءِ اصطفاءِ الهويةِ لذاتِها، لذلك تَعمَدُ إلى حذفِ كلِّ خساراتِ الماضي وإخفاقاتِه من ذاكرةِ الجماعةِ، ولا تتوقَّفُ عند ذلك، بل تسعى لتشويهِ ماضي جماعاتٍ مجاورةٍ لها، والتكتُّمِ على مكاسبِها ومنجزاتِها عبرَ التاريخِ.
https://alsabaah.iq/114075-.html
الإنسانُ المغتربُ يتصرَّفُ بذاكرةِ الألمِ فيعيدُ تشكيلَها، بعد حذفٍ وإضافاتٍ يُمارسُها متخيِّلُه، في ضوءِ رغباتِه وأمانيه، بكيفيةٍ يحدثُ فيها تلاعُبٌ في الذاكرةِ بالخلاصِ من صُوَرِ آلامِ الأمس، وابتكارِ ذاكرةٍ تختزنُ صورًا جميلةً للماضي، إذ يجري إعادةُ خلقِ الذاكرةِ، فبدلًا من كونِها منبعًا للألمِ والإحباطِ تصيرُ منبعًا للثقةِ والأملِ. ويتَصاعدُ الحنينُ حدَّ الشغفِ بالماضي، بنحوٍ يُضيِّعُ الوعيَ النقديَّ، ويُعطِّلُ التساؤلَ، ويُعيدُ خلقَ الذاكرةِ ويستبدلُها بما يتمنَّى أن تكونَ عليه. عندما تنغلقُ الهويةُ تنظرُ لذاتها بوصفِها نهائيةً كاملةً مكتفيةً بنفسِها، وتُعيدُ صياغةَ ماضيها وحاضرِها، بحيثُ ترى ذاتَها على الدوام؛ إما متفوِّقةً على غيرِها أو مظلومةً مضطهَدةً، وكأنْ لا شيء آخرَ في تاريخِها سوى كونِها بطلةً، أو ضحيةً لأعداءَ متربصينَ بها، وتَخترعُ حكاياتٍ متنوِّعةً لكيفيةِ تآمرِ أولئك الأعداءِ عليها. يحرصُ على صناعةِ هذه الحكاياتِ وترويجِها الزعماءُ المستبدُّون وأجهزتُهم الدعائيةُ الفعّالةُ، بغيةَ تبريرِ استبدادِهم وتكريسِه، وخَلعِ المشروعيةِ على قمعِهم. وتَحتجبُ خلفَ ذلك مختلِفُ العواملِ الداخليةِ للإخفاقِ والفشلِ، فلا يُفكَّرُ في أثرِ الاستبدادِ السياسيِّ والدينيِّ، ولا في مصادرةِ حرياتِ وحقوقِ المواطنينَ، ولا في تفشِّي القيمِ والتقاليدِ المتحجِّرةِ، ولا في شيوعِ الأميةِ والتجهيلِ والتخلُّفِ.
ويجري تلاعُبُ الهويةِ المغلقةِ بالذاكرةِ بكيفيةٍ تُعلي من قيمةِ كلِّ شيءٍ ينتمي إليها، وتنتقصُ من قيمةِ كلِّ شيءٍ ينتمي لغيرها، فتعمدُ إلى حذفِ المظالمِ والهزائمِ من تاريخِها، وتضخيمِ الانتصاراتِ والإنجازاتِ وتصويرها بشكلٍ مُبهِر، وإعادةِ إخراجِها بشكلٍ يجعلُها تتنكَّرُ للواقعةِ المدونةِ في المراجعِ التاريخيةِ المتاخمةِ لعصرِها، وكثيرًا ما تنتقلُ الواقعةُ من كونِها حادثةً وقعت في زمانٍ ومكانٍ معينٍ وتلتحقُ بالأساطيرِ، يراها أتباعُ الهويةِ المغلقةِ بوصفِها مفارقةً لعصرِها ومتعاليةً على التاريخِ، وذلك ما يتجلَّى في الوقائعِ التاريخيةِ التي تَقترنُ بطولتَها بشخصياتٍ دينيةٍ في مختلفِ الأديانِ.كلُّ هويةٍ يَخترعُ متخيِّلُها أساطيرَها الخاصةَ، ويتمادى متخيِّلُها في افتعالِ ما يريدُ أن يراه من صورٍ مبهجةٍ لهويتِه المترسِّبةِ في أعماقِه. كل هوية يخترع متخيلها أساطيرها الخاصة، ويتمادى متخيلها في افتعال ما يريد أن يراه من صور مبهجة لهويته المترسبة في أعماقه.
تعملُ الهويةُ المغلقةُ على إعادةِ خلقِ ذاكرةٍ موازيةٍ لها، تَنتقي فيها من كلِّ شيءٍ، في تاريخِها وتراثِها، ما هو الأجملُ والأكملُ، ولا تكتفي بذلك، بل تَسلُبُ ما يمكنُها من الأجملِ والأكملِ في تاريخِ وتراثِ ما حولَها، فتستولي على ما هو مضيءٌ فيه. يَجري كلُّ ذلك في ضوءِ اصطفاءِ الهويةِ لذاتِها، لذلك تَعمَدُ إلى حذفِ كلِّ خساراتِ الماضي وإخفاقاتِه من ذاكرةِ الجماعةِ، ولا تتوقَّفُ عند ذلك، بل تسعى لتشويهِ ماضي جماعاتٍ مجاورةٍ لها، والتكتُّمِ على مكاسبِها ومنجزاتِها عبرَ التاريخِ.
https://alsabaah.iq/114075-.html
جريدة الصباح
الهويَّة المغلقة تتلاعبُ بالذاكرة » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي التقيتُ ببعضِ الأصدقاءِ ممن هاجروا إلى بعضِ الدولِ الغربيَّة، إثرَ اختناقِهم بالانغلاقِ والتشدُّدِ في مجتمعاتِهم، وأقاموا هناك سنواتٍ طويلةً، اكتسبوا فيها جنسيَّةَ تلك الدول. كان لديهم شغفٌ شديدٌ للعيشِ في دولةٍ غربيَّة، يترقَّبون أن…
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني
د. عبد الجبار الرفاعي
يجري في المقرر المتعارَف دراستُه في معاهد التعليم الديني اختزال الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي المقتول، وغالبًا ما يجري التعرّفُ على بعض أفكارهما عبر ملا صدرا، فيما يغيب بنحوٍ تام أو يشحّ حضورُ تراثٍ فلسفي واسع، أنجزه فلاسفةٌ معروفون. كانت فلسفةُ ملا صدرا وما زالت محورًا للدرس الفلسفي في معاهد التعليم الديني، وتنامت واتسعت دراستُها في نصف القرن الماضي. التقليد المكرّس في هذا الدرس اليوم لا يهتم إلّا بفلسفة ملا صدرا الشيرازي، وتلامذةِ فلسفته. وكأن الفلسفةَ في الاسلام تبدأ وتنتهي بملا صدرا.
يلتقي القارئُ في المجلدات التسعة لكتاب "الأسفار الأربعة" باقتباساتٍ مطولة من آثار الفخر الرازي وغيره، فقد قال بعضُ المحققين إن ملا صدرا نسخ كتابَ: "المباحث المشرقية"، ونصوصًا لابن عربي. ويلتقي القارئُ بكلمات القيصري شارح "فصوص الحكم"، مضافًا إلى نصوص من الكتب الأخرى، وغالبًا لا يشير ملا صدرا إلى ما يقتبسه، حتى اتهمه البعضُ بالانتحال. وذهب آخرون إلى أن ملا صدرا جمع أكثر كتابه الأسفار الأربعة وغيره بنَسْخ مؤلفات غيره، فقد كتب علي أصغر حلبي: "لا تكمن أهمية فيلسوفنا في تأليفه كتابًا ضخمًا بحجم الأسفار، وإنما تكمن أهميته في بيان بضع مسائل بديعة لا يتجاوز بيانها أربعين صفحة، ولو أن هذا الرجل العظيم قد اكتفى بطرح هذه الأفكار في رسالة مختصرة، لكفى نفسه وكفانا مؤونة قراءة موسوعاته" .
وكان الميرزا أبو الحسن جلوه (1238- 1314 ه) أول من نبّه على ذلك. أبو الحسن جلوه فيلسوف مشائي من أتباع ابن سينا، والمعروف عنه أنه كان لا يدرّس كتابًا إلا بعد أن يصحّحَه، ويشرحَ غوامضَه، ويحيل على مصادره ومراجعه.كان جلوه يحتفظ بنسخة مخطوطة من الأسفار الأربعة "موجودةٍ في مكتبة مجلس الشورى في طهران. وهي مملوءةٌ بالتعليقات، التي كتبها بين سطورها" . نبّه أبو الحسن جلوه إلى المراجع التي نقل عنها ملا صدرا، من دون أن يحيل إليها صاحبُ الأسفار، حتى نسب بعضُ الباحثين الى جلوه أنه ألّف كتابًا، بعنوان: "سرقات ملا صدرا، وأشاروا إلى أنه محفوظ في مكتبة مجلس الشورى. حيث تم استخراج الموارد التي أخذها صدر المتألهين من الآخرين" . ولعلها التعليقاتُ المذكورة نفسُها، إذ لم تدرج في آثار جلوه، وهي غير موجودة اليوم في فهارس هذه المكتبة، وربما أخفاها أحدُ عشّاق ملا صدرا.
كما اتهم الآغا ضياء الدين درّي ملا صدرا بانتحال أفكار غيره من دون إشارة. إذ تعرّض إلى هذا الموضوع عند التعريف بملا صدرا في القسم الأخير من ترجمته لكتاب "كنز الحكمة" للشهرزوري، الذي خصَّ به الفلاسفةَ الذين لم يرد ذكرُهم في هذا الكتاب. وهناك صرَّحَ بانتحالات ملا صدرا، وذكر العديدَ من الموارد، فقال بصراحة: "كان صاحب الأسفار يعمد إلى إسقاط بداية النص وخاتمته، وفي أغلب الموارد تكون العبارات منقولة بشكل خاطئ، الأمر الذي كان يوقع الأساتذة المتقدمين في الخطأ في سعيهم إلى توجيه تلك العبارات ... في الكثير من الموارد ينسب مسائل وأجوبة الآخرين إلى نفسه" .
حسن حسن زاده آملي، الذي هو أبرزُ المختصين في عصرنا بآثار ملا صدرا، وأوسعُهم اطلاعًا وتتبعًا، والذي قام بتصحيح الأسفار الأربعة والتعليق عليها ، يقدّم لنا شهادتَه الصريحة بهذا الشأن، بعد 20 عاما من التدقيق والتحقيق والتدريس لكتاب "الأسفار" وكتب ملا صدرا، وكتابَي الفتوحات والفصوص، ففي كتاب زاده آملي: "العرفان والحكمة المتعالية" وهو بالفارسية ، يقول: "إن جميع المباحث الرفيعة والعرشية للأسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقية الصحف القيّمة والكريمة للشيخ الأكبر وتلاميذه، بلا واسطة أو مع الواسطة... إذا اعتبرنا كتاب الأسفار الكبير مدخلًا أو شرحًا للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصواب، ولا سيما عندما يذكر: تحقيق عرشي" ، وأضاف حسن حسن زاده آملي ما نصه: " كل ما لدى ملا صدرا هو من محيي الدين وقد جلس على مائدته" .
وكتب جهانگيري في مقدمة تصحيح رسالة (كسر أصنام الجاهلية) لملا صدرا: "إن جميع المسائل تقريبا، وأكثر العبارات والأحاديث الواردة في هذه الرسالة ــــ إلا في بعض الموارد المعدودة ــــ منقولة عن مؤلفات المتقدمين على عصر صدر المتألهين، وقد نقلها دون الإحالة إلى مصادرها، ويبدو أنه كان يقوم بنقل الأحاديث من ذاكرته ودون الرجوع إلى كتب الحديث. وكان لكتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي الحصة الكبرى من الكتب التي اعتمدها صدر المتألهين، وقام بتلخيص موضوعاتها" .
د. عبد الجبار الرفاعي
يجري في المقرر المتعارَف دراستُه في معاهد التعليم الديني اختزال الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي المقتول، وغالبًا ما يجري التعرّفُ على بعض أفكارهما عبر ملا صدرا، فيما يغيب بنحوٍ تام أو يشحّ حضورُ تراثٍ فلسفي واسع، أنجزه فلاسفةٌ معروفون. كانت فلسفةُ ملا صدرا وما زالت محورًا للدرس الفلسفي في معاهد التعليم الديني، وتنامت واتسعت دراستُها في نصف القرن الماضي. التقليد المكرّس في هذا الدرس اليوم لا يهتم إلّا بفلسفة ملا صدرا الشيرازي، وتلامذةِ فلسفته. وكأن الفلسفةَ في الاسلام تبدأ وتنتهي بملا صدرا.
يلتقي القارئُ في المجلدات التسعة لكتاب "الأسفار الأربعة" باقتباساتٍ مطولة من آثار الفخر الرازي وغيره، فقد قال بعضُ المحققين إن ملا صدرا نسخ كتابَ: "المباحث المشرقية"، ونصوصًا لابن عربي. ويلتقي القارئُ بكلمات القيصري شارح "فصوص الحكم"، مضافًا إلى نصوص من الكتب الأخرى، وغالبًا لا يشير ملا صدرا إلى ما يقتبسه، حتى اتهمه البعضُ بالانتحال. وذهب آخرون إلى أن ملا صدرا جمع أكثر كتابه الأسفار الأربعة وغيره بنَسْخ مؤلفات غيره، فقد كتب علي أصغر حلبي: "لا تكمن أهمية فيلسوفنا في تأليفه كتابًا ضخمًا بحجم الأسفار، وإنما تكمن أهميته في بيان بضع مسائل بديعة لا يتجاوز بيانها أربعين صفحة، ولو أن هذا الرجل العظيم قد اكتفى بطرح هذه الأفكار في رسالة مختصرة، لكفى نفسه وكفانا مؤونة قراءة موسوعاته" .
وكان الميرزا أبو الحسن جلوه (1238- 1314 ه) أول من نبّه على ذلك. أبو الحسن جلوه فيلسوف مشائي من أتباع ابن سينا، والمعروف عنه أنه كان لا يدرّس كتابًا إلا بعد أن يصحّحَه، ويشرحَ غوامضَه، ويحيل على مصادره ومراجعه.كان جلوه يحتفظ بنسخة مخطوطة من الأسفار الأربعة "موجودةٍ في مكتبة مجلس الشورى في طهران. وهي مملوءةٌ بالتعليقات، التي كتبها بين سطورها" . نبّه أبو الحسن جلوه إلى المراجع التي نقل عنها ملا صدرا، من دون أن يحيل إليها صاحبُ الأسفار، حتى نسب بعضُ الباحثين الى جلوه أنه ألّف كتابًا، بعنوان: "سرقات ملا صدرا، وأشاروا إلى أنه محفوظ في مكتبة مجلس الشورى. حيث تم استخراج الموارد التي أخذها صدر المتألهين من الآخرين" . ولعلها التعليقاتُ المذكورة نفسُها، إذ لم تدرج في آثار جلوه، وهي غير موجودة اليوم في فهارس هذه المكتبة، وربما أخفاها أحدُ عشّاق ملا صدرا.
كما اتهم الآغا ضياء الدين درّي ملا صدرا بانتحال أفكار غيره من دون إشارة. إذ تعرّض إلى هذا الموضوع عند التعريف بملا صدرا في القسم الأخير من ترجمته لكتاب "كنز الحكمة" للشهرزوري، الذي خصَّ به الفلاسفةَ الذين لم يرد ذكرُهم في هذا الكتاب. وهناك صرَّحَ بانتحالات ملا صدرا، وذكر العديدَ من الموارد، فقال بصراحة: "كان صاحب الأسفار يعمد إلى إسقاط بداية النص وخاتمته، وفي أغلب الموارد تكون العبارات منقولة بشكل خاطئ، الأمر الذي كان يوقع الأساتذة المتقدمين في الخطأ في سعيهم إلى توجيه تلك العبارات ... في الكثير من الموارد ينسب مسائل وأجوبة الآخرين إلى نفسه" .
حسن حسن زاده آملي، الذي هو أبرزُ المختصين في عصرنا بآثار ملا صدرا، وأوسعُهم اطلاعًا وتتبعًا، والذي قام بتصحيح الأسفار الأربعة والتعليق عليها ، يقدّم لنا شهادتَه الصريحة بهذا الشأن، بعد 20 عاما من التدقيق والتحقيق والتدريس لكتاب "الأسفار" وكتب ملا صدرا، وكتابَي الفتوحات والفصوص، ففي كتاب زاده آملي: "العرفان والحكمة المتعالية" وهو بالفارسية ، يقول: "إن جميع المباحث الرفيعة والعرشية للأسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقية الصحف القيّمة والكريمة للشيخ الأكبر وتلاميذه، بلا واسطة أو مع الواسطة... إذا اعتبرنا كتاب الأسفار الكبير مدخلًا أو شرحًا للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصواب، ولا سيما عندما يذكر: تحقيق عرشي" ، وأضاف حسن حسن زاده آملي ما نصه: " كل ما لدى ملا صدرا هو من محيي الدين وقد جلس على مائدته" .
وكتب جهانگيري في مقدمة تصحيح رسالة (كسر أصنام الجاهلية) لملا صدرا: "إن جميع المسائل تقريبا، وأكثر العبارات والأحاديث الواردة في هذه الرسالة ــــ إلا في بعض الموارد المعدودة ــــ منقولة عن مؤلفات المتقدمين على عصر صدر المتألهين، وقد نقلها دون الإحالة إلى مصادرها، ويبدو أنه كان يقوم بنقل الأحاديث من ذاكرته ودون الرجوع إلى كتب الحديث. وكان لكتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي الحصة الكبرى من الكتب التي اعتمدها صدر المتألهين، وقام بتلخيص موضوعاتها" .
وأشار رضا أكبريان ــــ الذي تولى تصحيحَ المجلد التاسع من الأسفار ــــ في هوامش متعددة إلى ذلك، إذ يكتب مثلًا: "إن عبارة المصنف في هذا الشأن قد وردت في كتاب (المباحث المشرقية) مع شيء من التغيير" . أو قوله: "إن مسائل هذا الفصل شبيهة بمسائل (المباحث المشرقية)" . ومن ثم ذكر موضعَ المصادر الأصلية لتسهلَ على القارئ عمليةُ المقارنة بين هذه الموارد. وفي الحقيقة، إن صدرَ المتألهين قد أخذ هنا ما يقرب من عشرين صفحةً عن الفخر الرازي، دون أن يشيرَ إلى مصدره، مع قيامِهِ بتغيير بعضِ الكلمات والعبارات .
وكذلك أشار جوادي آملي في شرحه على الأسفار إلى هذه الحقيقة،كما في ذلك قوله: "إن بعض أبحاث هذا الفصل متطابقة مع أبحاث الفخر الرازي في (المباحث المشرقية)" ، وهكذا قوله: "لقد ذكر ابنُ سينا برهانَ الصديقين في الفصل التاسع والعشرين من النمط الرابع من (الإشارات والتنبيهات)، وقام المحقّق الطوسي بشرحه، وإنَّ جانبًا من عبارات هذا الفصل من الأسفار هي ذات عبارات شرح الطوسي على الإشارات" .
كما نبه أحمد خسروجردي إلى كيفية نقل ملا صدرا عن غيره، بقوله: "لم يقتصر على جملة واحدة أو جملتين، وإنما قد يستغرق أحيانًا صفحة كاملة وحتى أربع صفحات، بل وحتى فصلًا كاملًا أو فصلين من كتب الآخرين، دون أدنى تغيير" .
وقال علي رضا ذكاوتي قراگزلو: "هناك فصلٌ كاملٌ في (عشق الظرفاء والفتيان وذوي الأوجه الحسان) منقولٌ بنصِّه عن (رسائل إخوان الصفا) ، فعلى من أراد أن يجري مقارنةً بينهما، أن يقفَ على حقيقة ذلك" .
وكتب مهدي حائري يزدي: "المعروف أن صدر المتألهين قد أخذ أجزاء من كتاب الأسفار الأربعة وبعض كتبه الأخرى عن الآخرين دون ذكر أسمائهم. وهذا ما وجدته بنفسي، حيث رأيت اقتباساته عن (المباحث المشرقية) في كتاب (الأسفار الأربعة)، دون أن يشير إلى ذلك" .
كما صرّحَ غلام حسين إبراهيمي ديناني قائلا: "إن صدر المتألهين في الكثير من الموارد قد نقل نص عبارات الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء الذين سبقوه، دون أن تصدر عنه أدنى إشارة للمصادر التي نقل عنها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تبرير صدور هذا الأمر عن مثل هذا الشخص الحكيم والمتألِّه؟" .
تسيّدت فلسفة ملا صدرا في معاهد التعليم الديني بشكل حجبت فلاسفة عالم الإسلام سواه، وبالغ المعجبون فيه إلى درجة جعلوه يتفوق على فلاسفة المشرق والمغرب في تاريخ الإسلام، وقلما درست آثاره دراسة نقدية في معاهد التعليم الديني، أو جرى التفتيش عن مرجعيات نظرياته والكشف عن منابعها، وغالبًا ما تم التسليم بما يقوله بلا تفحص واختبار وتمحيص.
شدّد ملا صدرا في بعض كتاباته على أنه هو مَن أبدع نظريةً أو قاعدةً ما، وأنه لم يسبقه للقول بها أحد، في حين نعثر عليها نفسها فيما أورده ابنُ عربي أو غيره قبله مثلًا،كما نلحظ ذلك بقوله: "وهذا مطلب شريف لم أجد في وجه الأرض من له علم بذلك" ، وهو يتحدث عن قاعدة: "بسيط الحقيقة كل الأشياء"، التي وردت في آثار ابن عربي، فقد ذكر القيصري في شرحه لفصوص الحكم هذه القاعدة في سياق قوله: "لأن تلك الحقائق أيضاً عين ذاته حقيقة، وإن كانت غيرها تعينًا". والغريب أن ملا صدرا يورد نصًّا لابن عربي تأييدًا لما قرّره في هذه القاعدة، إذ يقول محيي الدين: "العلم التفصيلي في عين الإجمال" .
كما أن القارئ الخبير بكتاب الأسفار لملا صدرا وآثارِ ابنِ عربي يعرِفُ أن نظريةَ الحركة الجوهرية لملا صدرا هي صياغةٌ أخرى لنظرية تجدّد الأمثال عند ابن عربي. وإن كانت نظريةُ تجدد الأمثال تتسع لكل عالَم الإمكان الذي يشمل عوالِمَ العقل والمثال والمادة، لكن ملا صدرا خصَّها بعالَم المادة. ويعني تجدّدُ الأمثال أنَّ وجودَ كلّ شيء في عالم الإمكان يتلوه وجود، من دون أن يتخللَ العدمُ بينهما، أي في كلّ آنٍ يظهر وجود، ثم يليه وجودٌ جديد، وهكذا تتوالى الوجودات كلَّ آن. يرى المتصوفةُ أن لكل وجود باطنًا وظاهرًا، وتجددُ الأمثال هو تجلِّي الوجود الإمكاني وظهورُه من عالم الباطن. أما الحركةُ الجوهرية فهي صيرورةٌ تكاملية لكل شيءٍ موجودٍ في عالم المادة، أي ليس هناك جوهرٌ ماديّ ثابت في الطبيعة، كلُّ وجودٍ لجوهر في حالة صيرورة سيالة مستمرة متواصلة، يتكامل وجودُه معها بالتدريج حتى يتجردَ ليتوقفَ، إذ لا حركةَ في المجرَّد .
وكذلك أشار جوادي آملي في شرحه على الأسفار إلى هذه الحقيقة،كما في ذلك قوله: "إن بعض أبحاث هذا الفصل متطابقة مع أبحاث الفخر الرازي في (المباحث المشرقية)" ، وهكذا قوله: "لقد ذكر ابنُ سينا برهانَ الصديقين في الفصل التاسع والعشرين من النمط الرابع من (الإشارات والتنبيهات)، وقام المحقّق الطوسي بشرحه، وإنَّ جانبًا من عبارات هذا الفصل من الأسفار هي ذات عبارات شرح الطوسي على الإشارات" .
كما نبه أحمد خسروجردي إلى كيفية نقل ملا صدرا عن غيره، بقوله: "لم يقتصر على جملة واحدة أو جملتين، وإنما قد يستغرق أحيانًا صفحة كاملة وحتى أربع صفحات، بل وحتى فصلًا كاملًا أو فصلين من كتب الآخرين، دون أدنى تغيير" .
وقال علي رضا ذكاوتي قراگزلو: "هناك فصلٌ كاملٌ في (عشق الظرفاء والفتيان وذوي الأوجه الحسان) منقولٌ بنصِّه عن (رسائل إخوان الصفا) ، فعلى من أراد أن يجري مقارنةً بينهما، أن يقفَ على حقيقة ذلك" .
وكتب مهدي حائري يزدي: "المعروف أن صدر المتألهين قد أخذ أجزاء من كتاب الأسفار الأربعة وبعض كتبه الأخرى عن الآخرين دون ذكر أسمائهم. وهذا ما وجدته بنفسي، حيث رأيت اقتباساته عن (المباحث المشرقية) في كتاب (الأسفار الأربعة)، دون أن يشير إلى ذلك" .
كما صرّحَ غلام حسين إبراهيمي ديناني قائلا: "إن صدر المتألهين في الكثير من الموارد قد نقل نص عبارات الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء الذين سبقوه، دون أن تصدر عنه أدنى إشارة للمصادر التي نقل عنها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تبرير صدور هذا الأمر عن مثل هذا الشخص الحكيم والمتألِّه؟" .
تسيّدت فلسفة ملا صدرا في معاهد التعليم الديني بشكل حجبت فلاسفة عالم الإسلام سواه، وبالغ المعجبون فيه إلى درجة جعلوه يتفوق على فلاسفة المشرق والمغرب في تاريخ الإسلام، وقلما درست آثاره دراسة نقدية في معاهد التعليم الديني، أو جرى التفتيش عن مرجعيات نظرياته والكشف عن منابعها، وغالبًا ما تم التسليم بما يقوله بلا تفحص واختبار وتمحيص.
شدّد ملا صدرا في بعض كتاباته على أنه هو مَن أبدع نظريةً أو قاعدةً ما، وأنه لم يسبقه للقول بها أحد، في حين نعثر عليها نفسها فيما أورده ابنُ عربي أو غيره قبله مثلًا،كما نلحظ ذلك بقوله: "وهذا مطلب شريف لم أجد في وجه الأرض من له علم بذلك" ، وهو يتحدث عن قاعدة: "بسيط الحقيقة كل الأشياء"، التي وردت في آثار ابن عربي، فقد ذكر القيصري في شرحه لفصوص الحكم هذه القاعدة في سياق قوله: "لأن تلك الحقائق أيضاً عين ذاته حقيقة، وإن كانت غيرها تعينًا". والغريب أن ملا صدرا يورد نصًّا لابن عربي تأييدًا لما قرّره في هذه القاعدة، إذ يقول محيي الدين: "العلم التفصيلي في عين الإجمال" .
كما أن القارئ الخبير بكتاب الأسفار لملا صدرا وآثارِ ابنِ عربي يعرِفُ أن نظريةَ الحركة الجوهرية لملا صدرا هي صياغةٌ أخرى لنظرية تجدّد الأمثال عند ابن عربي. وإن كانت نظريةُ تجدد الأمثال تتسع لكل عالَم الإمكان الذي يشمل عوالِمَ العقل والمثال والمادة، لكن ملا صدرا خصَّها بعالَم المادة. ويعني تجدّدُ الأمثال أنَّ وجودَ كلّ شيء في عالم الإمكان يتلوه وجود، من دون أن يتخللَ العدمُ بينهما، أي في كلّ آنٍ يظهر وجود، ثم يليه وجودٌ جديد، وهكذا تتوالى الوجودات كلَّ آن. يرى المتصوفةُ أن لكل وجود باطنًا وظاهرًا، وتجددُ الأمثال هو تجلِّي الوجود الإمكاني وظهورُه من عالم الباطن. أما الحركةُ الجوهرية فهي صيرورةٌ تكاملية لكل شيءٍ موجودٍ في عالم المادة، أي ليس هناك جوهرٌ ماديّ ثابت في الطبيعة، كلُّ وجودٍ لجوهر في حالة صيرورة سيالة مستمرة متواصلة، يتكامل وجودُه معها بالتدريج حتى يتجردَ ليتوقفَ، إذ لا حركةَ في المجرَّد .
وعلى الرغم من الانقسام في المواقف من ملا صدرا، لكن تَسيَّد منذ النصف الثاني من القرن العشرين التيارُ الصدرائي، وحجب الأصواتَ الناقدة لهذه الفلسفة. فمثلًأ تمحورت اهتمامات مرتضى المطهري وغيرُه من تلامذة الطباطبائي بالفلسفة الصدرائية، وأُعجب المطهري في توصيف أثرها بعبارات، هو أقرب لمديح الشعراء من صرامة عقل الفلاسفة، فنراه يقول في سياق حديثه عن الحركة الجوهرية: "إن من جملة الأفكار الثمينة جدًّا لصدر المتألهين، والتي غيرت وجه الفلسفة، وفي الواقع غيرت وجه العالم في نظرنا، هي إثباته للحركة الجوهرية. وهي تعني أن جواهر هذا العالم، وتبعًا لها أعراض العالم، في تغيُّر دائم ومستمر، وأساسًا لا يوجد ثبات في عالم الطبيعة" . والذي نعرف أن ملا صدرا (980هـ-1050هـ / 1572م-1640م) في الشرق كان معاصرًا لديكارت (1596 –1650) في الغرب، ولا ينكر خبيرٌ بتاريخ الفلسفة أن عقلانيةَ ديكارت كانت رائدةً في انبعاثِ العقلانية الحديثة، والتحرّرِ من وصاية العقلانية الأرسطية. ولم نرَ حتى اليوم أثرًا ملموسًا للفلسفة الصدرائية في بناء عقل حديث في عالم الإسلام.
سنة 1991م ترجمتُ من الفارسية كتابَ "شرح المنظومة المبسوط" في 4 أجزاء لمرتضى مطهري، وأردفتُه بترجمة: "محاضرات في الفلسفة الإسلامية" له أيضا، وكلاهما مطبوعٌ بالعربية، ولم قرأ له فيهما كلمةٌ واحدة أو إشارةٌ عابرة في نقد الفلسفة الصدرائية أو دعوة لضرورة مراجعتها ونقدها وتمحيصها. يرى المطهري بأن "ملا صدرا ألّفَ بين المسلك العقلي للفلسفة والمسلك القلبي للعرفان" . ونحن نعلم أن الفلسفة لا تخرج عن مرجعية العقل، فهي تستقي من العقل وتسقيه، والعرفان لا يخرج عن مرجعية القلب، فهو يستضئ بالقلب ويضيؤه.
بسبب سطوة الفلسفة الصدرائية لا يعرف أكثرُ دارسي الفلسفة في المعاهد الدينية شيئًا عن فلسفة أول فيلسوف مسلم، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكِندي المتوفى سنة 252 أو260 هـ، والذي عدَّه كاردان cardan؛ أحدُ فلاسفة عصر النهضة «واحداً من اثني عشر مفكرًا، هم أنفذ المفكرين عقولًا» . وأورد ابنُ النديم في (الفهرست) قائمةً لمؤلفات الكندي تجاوزت (230) عنوانًا ؛ منها ما هو في الفلسفة، ومنها ماهو في المنطق، والموسيقى، والحساب، والطبيعة، وغير ذلك، لكن ما وصلنا منها هو مجموعةُ رسائل، ظلَّت حتى عهد متأخر طيَّ النسيان، حتى اكتشفها في الثلاثينات من هذا القرن المستشرقُ الألماني ريتر H-Ritter، في مكتبة أيا صوفيا بإسطنبول، فعكف عليها محمد عبد الهادي أبو ريدة، ونشر ما يتصل منها برسائل الكندي الفلسفية والعلمية في مجلدين، صدر الأولُ منهما عام 1950م، وصدر الثاني عام 1953م، وقدّم أبو ريدة لهذه الرسائل بدراسةٍ مستفيضة عن الكندي، وفكرِه الفلسفي، وإسهامِه في تأسيس الفلسفة في الإسلام. وكانت بضعُ رسائل أخرى قد نُشرت للكندي في أوروبا قبل هذا التاريخ بكثير، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بترجمات لاتينية، ضاع الأصلُ العربي لبعضها .
كذلك يظل تلميذُ الفلسفة في هذه المعاهد يجهل ما أنجزه الفيلسوفُ أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي المعروف بالمعلم الثاني والمتوفى سنة 339هـ ، والذي وصفه ابنُ خلكان بأنه: "أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه" . ولذا نصَّ غيرُ واحدٍ ممن ترجموا لابن سينا أو درسوا فلسفته، على أنه كان تلميذًا لتصانيف الفارابي، بل ذهب بعضُهم إلى أننا: «نكاد لا نجد في فلسفته شيئًا الا وأصوله عند الفارابي» . وربما لا يتاح لتلميذ الفلسفة سوى معرفة بعض الآراء القليلة للفارابي، المتناثرة في آثار ملا صدرا الشيرازي، والفلاسفة التالين لـه، ممن يتعاطى التلاميذُ دراسةَ مؤلفاتهم في معاهد التعليم الديني، وهي لا تقدّم صورةً واضحة عن الآثار الفلسفية للفارابي، ودورِه التأسيسي للفلسفة في الإسلام. يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في ترجمته لنفسه: «وانتهيت إلى العلم الإلهي ، وقرأت (كتاب ما بعد الطبيعة)، فلم أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرضُ واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا. وأنا ـــ مع ذلك ـــ لا أفهمه، ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، فحضرتُ يومًا، وقت العصر، في سوق الوراقين، فتقدم دلال بيده مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم، معتقدًا أنْ لا فائدة في هذا العلم، فقال: اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه، وهو رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، فاشتريته، فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الطبيعة). فرجعت إلى داري وأسرعتُ قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنه صار محفوظًا على ظهر القلب، ففرحت بذلك، وتصدقت في اليوم التالي بشيء كثير على الفقراء، شكرًا لله تعالى...» .
سنة 1991م ترجمتُ من الفارسية كتابَ "شرح المنظومة المبسوط" في 4 أجزاء لمرتضى مطهري، وأردفتُه بترجمة: "محاضرات في الفلسفة الإسلامية" له أيضا، وكلاهما مطبوعٌ بالعربية، ولم قرأ له فيهما كلمةٌ واحدة أو إشارةٌ عابرة في نقد الفلسفة الصدرائية أو دعوة لضرورة مراجعتها ونقدها وتمحيصها. يرى المطهري بأن "ملا صدرا ألّفَ بين المسلك العقلي للفلسفة والمسلك القلبي للعرفان" . ونحن نعلم أن الفلسفة لا تخرج عن مرجعية العقل، فهي تستقي من العقل وتسقيه، والعرفان لا يخرج عن مرجعية القلب، فهو يستضئ بالقلب ويضيؤه.
بسبب سطوة الفلسفة الصدرائية لا يعرف أكثرُ دارسي الفلسفة في المعاهد الدينية شيئًا عن فلسفة أول فيلسوف مسلم، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكِندي المتوفى سنة 252 أو260 هـ، والذي عدَّه كاردان cardan؛ أحدُ فلاسفة عصر النهضة «واحداً من اثني عشر مفكرًا، هم أنفذ المفكرين عقولًا» . وأورد ابنُ النديم في (الفهرست) قائمةً لمؤلفات الكندي تجاوزت (230) عنوانًا ؛ منها ما هو في الفلسفة، ومنها ماهو في المنطق، والموسيقى، والحساب، والطبيعة، وغير ذلك، لكن ما وصلنا منها هو مجموعةُ رسائل، ظلَّت حتى عهد متأخر طيَّ النسيان، حتى اكتشفها في الثلاثينات من هذا القرن المستشرقُ الألماني ريتر H-Ritter، في مكتبة أيا صوفيا بإسطنبول، فعكف عليها محمد عبد الهادي أبو ريدة، ونشر ما يتصل منها برسائل الكندي الفلسفية والعلمية في مجلدين، صدر الأولُ منهما عام 1950م، وصدر الثاني عام 1953م، وقدّم أبو ريدة لهذه الرسائل بدراسةٍ مستفيضة عن الكندي، وفكرِه الفلسفي، وإسهامِه في تأسيس الفلسفة في الإسلام. وكانت بضعُ رسائل أخرى قد نُشرت للكندي في أوروبا قبل هذا التاريخ بكثير، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بترجمات لاتينية، ضاع الأصلُ العربي لبعضها .
كذلك يظل تلميذُ الفلسفة في هذه المعاهد يجهل ما أنجزه الفيلسوفُ أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي المعروف بالمعلم الثاني والمتوفى سنة 339هـ ، والذي وصفه ابنُ خلكان بأنه: "أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه" . ولذا نصَّ غيرُ واحدٍ ممن ترجموا لابن سينا أو درسوا فلسفته، على أنه كان تلميذًا لتصانيف الفارابي، بل ذهب بعضُهم إلى أننا: «نكاد لا نجد في فلسفته شيئًا الا وأصوله عند الفارابي» . وربما لا يتاح لتلميذ الفلسفة سوى معرفة بعض الآراء القليلة للفارابي، المتناثرة في آثار ملا صدرا الشيرازي، والفلاسفة التالين لـه، ممن يتعاطى التلاميذُ دراسةَ مؤلفاتهم في معاهد التعليم الديني، وهي لا تقدّم صورةً واضحة عن الآثار الفلسفية للفارابي، ودورِه التأسيسي للفلسفة في الإسلام. يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في ترجمته لنفسه: «وانتهيت إلى العلم الإلهي ، وقرأت (كتاب ما بعد الطبيعة)، فلم أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرضُ واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا. وأنا ـــ مع ذلك ـــ لا أفهمه، ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، فحضرتُ يومًا، وقت العصر، في سوق الوراقين، فتقدم دلال بيده مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم، معتقدًا أنْ لا فائدة في هذا العلم، فقال: اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه، وهو رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، فاشتريته، فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الطبيعة). فرجعت إلى داري وأسرعتُ قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنه صار محفوظًا على ظهر القلب، ففرحت بذلك، وتصدقت في اليوم التالي بشيء كثير على الفقراء، شكرًا لله تعالى...» .
واحدة من نتائج تقليد فلسفة ملا صدرا تعطيل الاختلاف والتساؤل الفلسفي في معاهد التعليم الديني. الفلسفة فن الاختلاف والتشكيك والتساؤل، تسود تاريخَ الفلسفة سلسلةٌ متوالية من الاختلافات والتساؤلات الكبرى، وتقويض اليقينيات المتصلبة، والخروج على ما كان كثيرون يحسبونها بداهات راسخة. لولا ذلك لم تتعدّد وتتنوع المدارسُ الفلسفية، ولم تختلف الرؤى والمواقفُ والآراء والمفاهيم المتصارعة للفلاسفة. يبدأ موتُ الفلسفة لحظة تتسلط آراء فيلسوف واحد ويقلده دارسو الفلسفة، ويرضخ الكلُّ لما يقوله. لا يتجلى التفلسف ولا يدلّل على حضوره وفاعليته إلا بالأسئلة وإجابات الأسئلة التي تتوالد منها أسئلةٌ واختلافات في الرؤى والآراء. التقليد والاتباع يُفسِد التفلسف.
اختصار الفلسفة بملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني في القرن الأخير يعود إلى كون الفلسفة الصدرائية مزيجًا من الفلسفة والعرفان، وهي تعبير واضح عن الحاجة إلى ما تنشده الحياة الحياة الروحية. فضلًا عن أن الفقهاء الذين قالوا بولاية الفقيه المطلقة يتبنون نظرية الإنسان الكامل في العرفان، وفلسفةُ ملا صدرا الشيرازي أساسٌ لهذه النظرية، لذلك اتسعت دراسةُ وتدريس هذه الفلسفة في قم بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
https://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%85%D9%84%D8%A7-%D8%B5%D8%AF%D8%B1%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A-9843
اختصار الفلسفة بملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني في القرن الأخير يعود إلى كون الفلسفة الصدرائية مزيجًا من الفلسفة والعرفان، وهي تعبير واضح عن الحاجة إلى ما تنشده الحياة الحياة الروحية. فضلًا عن أن الفقهاء الذين قالوا بولاية الفقيه المطلقة يتبنون نظرية الإنسان الكامل في العرفان، وفلسفةُ ملا صدرا الشيرازي أساسٌ لهذه النظرية، لذلك اتسعت دراسةُ وتدريس هذه الفلسفة في قم بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
https://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%85%D9%84%D8%A7-%D8%B5%D8%AF%D8%B1%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A-9843
Mominoun Without Borders
فلسفة ملا صدرا الشيرازي في التعليم الديني
يجري في المقرر المتعارَف دراستُه في معاهد التعليم الديني اختزال الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي المقتول،
الهوية المغلقة تتلاعب بالمعرفة
د. عبد الجبار الرفاعي
تعمد الهويةُ المغلقة إلى التلاعب بالمعرفة؛ فبدلًا من أن تكون المعرفةُ سعيًا متواصلًا لاكتشاف الحقيقة، والكشف عن المزيد من طرق الوصول إليها وتجليتها، وتظلَّ أفقًا مفتوحًا للأسئلة والمراجعات النقدية، تصير وظيفتُها الدفاعَ عن الهوية، وتبريرَ أخطائها وإخفاقاتها مهما كانت مفضوحة. ولا تقتصر هذه الهوية على تسخير المعرفة للدفاع، بل تستخدمها أيضًا لغلق منافذ التساؤل والنقد، ومنع أية محاولة لغربلة التراث وتمحيصه خارج رؤيتها، مع تنمية الحنين للماضي وترسيخه عبر التكرار والمبالغة، وتوليد صورٍ فاتنة له في المتخيل الجمعي، تُظهره بصورةٍ مضيئة لا يشوبها ظلام.
حقلُ العلم غيرُ حقل الدين، وحقلُ المعرفة غيرُ حقل الإيمان. وظيفةُ العلم غيرُ وظيفة الدين، ووظيفةُ المعرفة غيرُ وظيفة الإيمان، مهمةُ رجل العلم في الحياة غيرُ مهمة رجل الدين. العلومُ كونيّةٌ لا هويةَ دينية واعتقادية وأيديولوجية لها، وإلّا لو حاول كلُّ مجتمع أن يبتكر العلومَ من جديد، ويشتقّها في سياقات دينه ومعتقده وميراثه، بدعوى أن العلومَ تأسرها بيئاتُ وثقافاتُ ودياناتُ مَن ينتجها، فإن ذلك، فضلًا عن أنه مُتعذَّر، لأن البشريةَ احتاجت لآلاف السنين حتى وصلت العلومُ إلى هذه المرتبة، يفضي أيضًا إلى تعدّد العلوم والمعارف بعدد الأديان والمعتقدات والثقافات في المجتمعات البشرية، وهذا ما يكذِّبه الحضورُ المكثَّف للعلوم والمعارف في العالَم كلّه، إذ نجدها ذاتَها ماثلة في مراكز الأبحاث والتربية والتعليم والتكنولوجيا ومختلف مجالات الحياة، سواء أكانت في الولايات المتّحدة الأمريكية أو أستراليا أو بريطانيا أو روسيا أو فرنسا أو الهند أو الصين أو اليابان أو ماليزيا أو إيران أو تركيا أو مصر، وغيرها في العالم.
منطقُ التاريخ وقوانينه شاملان، لكن هناك شعورًا كامنًا في لاوعي كثيرٍ من الناس في مجتمعِنا بأنهم يشكّلون استثناءً في حضارتِهم وهويتِهم ومعتقدِهم وثقافتِهم وتاريخِهم، وكأن تاريخهم لا يخضع لما تخضع له تواريخُ المجتمعات الأخرى من قوانين، وثقافتهم تتفوق على كلِّ الثقافات، وتراثهم مختلفٌ عن كلِّ تراث، وهويتهم تنفرد بخصوصياتٍ استثنائيةٍ. ظلَّ هذا الشعورُ بالخصوصية والاستثناء يغذي الهويةَ باستمرار، حتى تصلبتْ وانغلقتْ على نفسها، فبلغت حالةً تتخيل فيها أنها مكتفيةٌ بذاتها، إذْ تعتقد أن كلَّ ما تحتاجه في حاضرِها ومستقبلِها يمدها به ماضيها. صار تراثُها بمثابة منجمٍ زاخرٍ بكلِّ ما هو ضروري لأي عمليةِ بناءٍ ونهوضٍ، وباتت تتوهم بأن علومَها ومعارفها الموروثة تغنيها عن كلِّ علمٍ ومعرفةٍ تبتكرها المجتمعاتُ الأخرى، بدعوى أن هذه المعارف منتجاتٌ لمجتمعات أجنبية تنتهك خصوصيتَها، وتهدد هويتَها، وتؤدي إلى تغريبها.
في إطار الهوية المغلقة الساكنة، يخفق الإنسانُ في تحقيق حضورٍ حقيقي في عالمٍ يتغير فيه كلُّ شيء، لأن الحضورَ الفعلي في العالم يفرض عليه أن يتغير هو ذاته مع تغيّر العالم. لم تعد أسوارُ أيةِ هويةٍ تعاند التاريخَ قادرةً على حماية نفسها أو إبقاءِ كلِّ ما كان كما كان، في عالمٍ بات فيه التغييرُ شرطًا لازمًا للبقاء.
حين تنغلق الثقافةُ والهويةُ والحضارة على ذاتها وتتوهم أنها نهائية ومكتفية، تدخل مسارَ انحطاطها واندثارها وتعرضها للنسيان. لا معرفةَ حيّة مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ حيّة مكتفية بذاتها، لا هويةَ حيّة مكتفية بذاتها، ولا حضارةَ حيّة مكتفية بذاتها.كلُّ هوية حيّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الهويات.كلُّ ثقافة حيّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الثقافات، وكلُّ حضارة حيّة مركبة تنصهر فيها مكونات عدة حضارات. الحضارة لا تزدهر إلا من خلال تفاعل خلّاق للخبرات الإنسانية العالمية المشتركة؛ إذ تلتقي هذه الخبرات في مركب أكثف لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالميّ في الوقت الذي هو محلي، ومحلي في الوقت الذي هو عالمي. العلوم الطبيعية والعلوم الصرفة علوم كونية، أما العلوم الإنسانية فالكوني فيها أكبر بكثير من المحلي، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته.
تعيد الهويةُ المغلقة بناءَ نظامٍ معرفي داخلي مغلقٍ يختص بها، تحرص على تميّزه بلغةٍ ومصطلحاتٍ خاصة، وتعمل على شيطنة المصادر الخارجية للمعرفة، خاصةً في الفلسفة والعلوم الإنسانية، من خلال تشويهها وتقويلها ما لا تقول. وأحيانًا تستعير شيئًا من نظرياتها ومفاهيمها وتخلع عليها تسميات تراثية، كما يحدث في محاولات "أسلمة علم النفس"، إذ يجري نسخ ما يقوله علم النفس الحديث، وإطلاق أسماء تعود للتراث الديني عليه، ومثل ذلك يجري في أسلمة غيره من علوم الإنسان والمجتمع.
د. عبد الجبار الرفاعي
تعمد الهويةُ المغلقة إلى التلاعب بالمعرفة؛ فبدلًا من أن تكون المعرفةُ سعيًا متواصلًا لاكتشاف الحقيقة، والكشف عن المزيد من طرق الوصول إليها وتجليتها، وتظلَّ أفقًا مفتوحًا للأسئلة والمراجعات النقدية، تصير وظيفتُها الدفاعَ عن الهوية، وتبريرَ أخطائها وإخفاقاتها مهما كانت مفضوحة. ولا تقتصر هذه الهوية على تسخير المعرفة للدفاع، بل تستخدمها أيضًا لغلق منافذ التساؤل والنقد، ومنع أية محاولة لغربلة التراث وتمحيصه خارج رؤيتها، مع تنمية الحنين للماضي وترسيخه عبر التكرار والمبالغة، وتوليد صورٍ فاتنة له في المتخيل الجمعي، تُظهره بصورةٍ مضيئة لا يشوبها ظلام.
حقلُ العلم غيرُ حقل الدين، وحقلُ المعرفة غيرُ حقل الإيمان. وظيفةُ العلم غيرُ وظيفة الدين، ووظيفةُ المعرفة غيرُ وظيفة الإيمان، مهمةُ رجل العلم في الحياة غيرُ مهمة رجل الدين. العلومُ كونيّةٌ لا هويةَ دينية واعتقادية وأيديولوجية لها، وإلّا لو حاول كلُّ مجتمع أن يبتكر العلومَ من جديد، ويشتقّها في سياقات دينه ومعتقده وميراثه، بدعوى أن العلومَ تأسرها بيئاتُ وثقافاتُ ودياناتُ مَن ينتجها، فإن ذلك، فضلًا عن أنه مُتعذَّر، لأن البشريةَ احتاجت لآلاف السنين حتى وصلت العلومُ إلى هذه المرتبة، يفضي أيضًا إلى تعدّد العلوم والمعارف بعدد الأديان والمعتقدات والثقافات في المجتمعات البشرية، وهذا ما يكذِّبه الحضورُ المكثَّف للعلوم والمعارف في العالَم كلّه، إذ نجدها ذاتَها ماثلة في مراكز الأبحاث والتربية والتعليم والتكنولوجيا ومختلف مجالات الحياة، سواء أكانت في الولايات المتّحدة الأمريكية أو أستراليا أو بريطانيا أو روسيا أو فرنسا أو الهند أو الصين أو اليابان أو ماليزيا أو إيران أو تركيا أو مصر، وغيرها في العالم.
منطقُ التاريخ وقوانينه شاملان، لكن هناك شعورًا كامنًا في لاوعي كثيرٍ من الناس في مجتمعِنا بأنهم يشكّلون استثناءً في حضارتِهم وهويتِهم ومعتقدِهم وثقافتِهم وتاريخِهم، وكأن تاريخهم لا يخضع لما تخضع له تواريخُ المجتمعات الأخرى من قوانين، وثقافتهم تتفوق على كلِّ الثقافات، وتراثهم مختلفٌ عن كلِّ تراث، وهويتهم تنفرد بخصوصياتٍ استثنائيةٍ. ظلَّ هذا الشعورُ بالخصوصية والاستثناء يغذي الهويةَ باستمرار، حتى تصلبتْ وانغلقتْ على نفسها، فبلغت حالةً تتخيل فيها أنها مكتفيةٌ بذاتها، إذْ تعتقد أن كلَّ ما تحتاجه في حاضرِها ومستقبلِها يمدها به ماضيها. صار تراثُها بمثابة منجمٍ زاخرٍ بكلِّ ما هو ضروري لأي عمليةِ بناءٍ ونهوضٍ، وباتت تتوهم بأن علومَها ومعارفها الموروثة تغنيها عن كلِّ علمٍ ومعرفةٍ تبتكرها المجتمعاتُ الأخرى، بدعوى أن هذه المعارف منتجاتٌ لمجتمعات أجنبية تنتهك خصوصيتَها، وتهدد هويتَها، وتؤدي إلى تغريبها.
في إطار الهوية المغلقة الساكنة، يخفق الإنسانُ في تحقيق حضورٍ حقيقي في عالمٍ يتغير فيه كلُّ شيء، لأن الحضورَ الفعلي في العالم يفرض عليه أن يتغير هو ذاته مع تغيّر العالم. لم تعد أسوارُ أيةِ هويةٍ تعاند التاريخَ قادرةً على حماية نفسها أو إبقاءِ كلِّ ما كان كما كان، في عالمٍ بات فيه التغييرُ شرطًا لازمًا للبقاء.
حين تنغلق الثقافةُ والهويةُ والحضارة على ذاتها وتتوهم أنها نهائية ومكتفية، تدخل مسارَ انحطاطها واندثارها وتعرضها للنسيان. لا معرفةَ حيّة مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ حيّة مكتفية بذاتها، لا هويةَ حيّة مكتفية بذاتها، ولا حضارةَ حيّة مكتفية بذاتها.كلُّ هوية حيّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الهويات.كلُّ ثقافة حيّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الثقافات، وكلُّ حضارة حيّة مركبة تنصهر فيها مكونات عدة حضارات. الحضارة لا تزدهر إلا من خلال تفاعل خلّاق للخبرات الإنسانية العالمية المشتركة؛ إذ تلتقي هذه الخبرات في مركب أكثف لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالميّ في الوقت الذي هو محلي، ومحلي في الوقت الذي هو عالمي. العلوم الطبيعية والعلوم الصرفة علوم كونية، أما العلوم الإنسانية فالكوني فيها أكبر بكثير من المحلي، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته.
تعيد الهويةُ المغلقة بناءَ نظامٍ معرفي داخلي مغلقٍ يختص بها، تحرص على تميّزه بلغةٍ ومصطلحاتٍ خاصة، وتعمل على شيطنة المصادر الخارجية للمعرفة، خاصةً في الفلسفة والعلوم الإنسانية، من خلال تشويهها وتقويلها ما لا تقول. وأحيانًا تستعير شيئًا من نظرياتها ومفاهيمها وتخلع عليها تسميات تراثية، كما يحدث في محاولات "أسلمة علم النفس"، إذ يجري نسخ ما يقوله علم النفس الحديث، وإطلاق أسماء تعود للتراث الديني عليه، ومثل ذلك يجري في أسلمة غيره من علوم الإنسان والمجتمع.
كما يجري توظيف المقدّس كأداة احتكار معرفي، إذ يُوصَف ما يعود للتراث الديني بأنه مقدّس يلزم تبنّيه واعتباره مرجعيةً لمختلف أنواع المعرفة؛ وفي ضوء ذلك التراث تتحدد مشروعية المعرفة وقبولها، أو عدم مشروعيتها ورفضها. وتُستعمل لغةٌ عاطفيةٌ متوترةٌ مشحونةٌ بمصطلحات ذات إيقاعٍ حربي، مثل مصطلح "الغزو الثقافي" في توصيف أية معرفة يتلقاها الإنسان من خارج تراثه، مع تعبئة مشاعر المجتمع ضد خطرها وآثارها الفتاكة.
عندما تصبح المعرفةُ العلمية موضوعًا للإيمان أو الدين أو العقيدة، فإنها تخرج عن كونها معرفةً بالمعنى الدقيق. ما يُسمى بـ "أسلمة المعرفة" وأمثالها ليست سوى محاولات لإنتاج هوية دينية وعقائدية للمعرفة في مختلف المذاهب الإسلامية. في هذه الحالة، تتحول المعرفة إلى ذاتٍ مغتربة عن ذاتها، إذ ترفض الهوية الدينية والعقائدية للمعرفة التفكيرَ النقدي، وتعاند النقاش، وتنزعج من التساؤل، وتُقلقها المراجعة، ولا تقبل التأمل وإعادة النظر،كما تتنكر للغربلة والتمحيص. المعرفة العلمية تزلزل اليقينيات وتثير الشكوك والأسئلة، والشكوك والأسئلة يُجهضان التسليم المطلق الذي تفرضه الهويات المغلقة. حين تتدخل الهويات الدينية أو العقائدية في المعرفة العلمية، فإنها تفسدها من الداخل. أسوارُ الهوية المغلقة حين تسجن فيها المعرفة العلمية تخنقها وتميت روحها الحيّة. ما يُعرف بـ "الإعجاز العلمي" وأمثاله هو تعبير عن أيديولوجيا أسلمة العلوم والمعارف، وهو نموذج واضح لهذا التداخل الذي يفسد المعرفة العلمية.
كان التنكّرُ للأبعاد الكونية في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع أعقدَ مأزقٍ تورّط فيه العقلُ الدينيُّ والقوميُّ في عصرنا، خاصة في مجتمعاتنا. وقد ظهر ذلك بوضوحٍ في مشاريع استنزفت أموالًا طائلة وأهدرت عقولًا فذّة، وظلَّ وهمُها يلاحق عدةَ أجيال إلى اليوم، تلك المشاريع التي تسعى بلا جدوى منذ عقود لاكتشافِ هويةٍ دينية للعلوم والمعارف، أو التنقيب عن هويةٍ قوميّةٍ ضائعةٍ للعلم والمعرفة. نوستالجيا الهوية وأوهامها عن الذات الحضارية تدعو كثيرين للمطالبة بالكفّ عن استعارة المعرفة العلمية، بدعوى تحقيق الذات الحضارية بعيدًا عن هيمنة الآخر الغربي. لكن ألا يجدر بهؤلاء أن يتساءلوا: أين هي علوم الذات الحديثة؟! كيف يمكننا أن نقطع الصلة بالعلوم الطبيعية والعلوم البحتة والعلوم التطبيقية والذكاء الاصطناعي والعلوم الإنسانية الحديثة، وهي علوم تطورت وتوالدت وازدهرت في مجتمعات أخرى خارج المجتمعات الإسلامية؟
إدمانُ مديح الماضي والحنين إليه في أحاديثنا وكتاباتنا ليس إلا تعبيرًا عن الإخفاق في الحضور الفعلي في عالم اليوم من خلال منجز حقيقي.كلُّ من يعجز عن الحضور عبر منجزه يلجأ إلى تعويض ذلك بفعلٍ يوهمه بالحضور. مديحُ الماضي هو شكلٌ من أشكال استجداء الاعتراف من الآخر الذي يفرض حضوره في عالم اليوم بمنجزه. هذا الحنين يفضي إلى المزيد من الضياع في أنفاقِ التراث، والغرقِ في متاهاته، وتقليدِ القدماءِ في كلِّ شيء، ومع التقليد يكفُّ العقلُ عن أن يكون عقلًا، ويتوقف التفكيرُ عن التساؤل والنقد.
https://alsabaah.iq/114451-.html
عندما تصبح المعرفةُ العلمية موضوعًا للإيمان أو الدين أو العقيدة، فإنها تخرج عن كونها معرفةً بالمعنى الدقيق. ما يُسمى بـ "أسلمة المعرفة" وأمثالها ليست سوى محاولات لإنتاج هوية دينية وعقائدية للمعرفة في مختلف المذاهب الإسلامية. في هذه الحالة، تتحول المعرفة إلى ذاتٍ مغتربة عن ذاتها، إذ ترفض الهوية الدينية والعقائدية للمعرفة التفكيرَ النقدي، وتعاند النقاش، وتنزعج من التساؤل، وتُقلقها المراجعة، ولا تقبل التأمل وإعادة النظر،كما تتنكر للغربلة والتمحيص. المعرفة العلمية تزلزل اليقينيات وتثير الشكوك والأسئلة، والشكوك والأسئلة يُجهضان التسليم المطلق الذي تفرضه الهويات المغلقة. حين تتدخل الهويات الدينية أو العقائدية في المعرفة العلمية، فإنها تفسدها من الداخل. أسوارُ الهوية المغلقة حين تسجن فيها المعرفة العلمية تخنقها وتميت روحها الحيّة. ما يُعرف بـ "الإعجاز العلمي" وأمثاله هو تعبير عن أيديولوجيا أسلمة العلوم والمعارف، وهو نموذج واضح لهذا التداخل الذي يفسد المعرفة العلمية.
كان التنكّرُ للأبعاد الكونية في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع أعقدَ مأزقٍ تورّط فيه العقلُ الدينيُّ والقوميُّ في عصرنا، خاصة في مجتمعاتنا. وقد ظهر ذلك بوضوحٍ في مشاريع استنزفت أموالًا طائلة وأهدرت عقولًا فذّة، وظلَّ وهمُها يلاحق عدةَ أجيال إلى اليوم، تلك المشاريع التي تسعى بلا جدوى منذ عقود لاكتشافِ هويةٍ دينية للعلوم والمعارف، أو التنقيب عن هويةٍ قوميّةٍ ضائعةٍ للعلم والمعرفة. نوستالجيا الهوية وأوهامها عن الذات الحضارية تدعو كثيرين للمطالبة بالكفّ عن استعارة المعرفة العلمية، بدعوى تحقيق الذات الحضارية بعيدًا عن هيمنة الآخر الغربي. لكن ألا يجدر بهؤلاء أن يتساءلوا: أين هي علوم الذات الحديثة؟! كيف يمكننا أن نقطع الصلة بالعلوم الطبيعية والعلوم البحتة والعلوم التطبيقية والذكاء الاصطناعي والعلوم الإنسانية الحديثة، وهي علوم تطورت وتوالدت وازدهرت في مجتمعات أخرى خارج المجتمعات الإسلامية؟
إدمانُ مديح الماضي والحنين إليه في أحاديثنا وكتاباتنا ليس إلا تعبيرًا عن الإخفاق في الحضور الفعلي في عالم اليوم من خلال منجز حقيقي.كلُّ من يعجز عن الحضور عبر منجزه يلجأ إلى تعويض ذلك بفعلٍ يوهمه بالحضور. مديحُ الماضي هو شكلٌ من أشكال استجداء الاعتراف من الآخر الذي يفرض حضوره في عالم اليوم بمنجزه. هذا الحنين يفضي إلى المزيد من الضياع في أنفاقِ التراث، والغرقِ في متاهاته، وتقليدِ القدماءِ في كلِّ شيء، ومع التقليد يكفُّ العقلُ عن أن يكون عقلًا، ويتوقف التفكيرُ عن التساؤل والنقد.
https://alsabaah.iq/114451-.html
جريدة الصباح
الهويَّة المغلقة تتلاعب بالمعرفة » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي تعمد الهوية المغلقة إلى التلاعب بالمعرفة؛ فبدلا من أن تكون المعرفة سعيًا متواصلا لاكتشاف الحقيقة، والكشف عن المزيد من طرق الوصول إليها وتجليتها، وتظل أفقا مفتوحا للأسئلة والمراجعات النقديَّة، تصير وظيفتها الدفاعَ عن الهوية، وتبريرَ أخطائها…
لم تعد الحاجة للكتاب اليوم كما كانت
د. عبدالجبار الرفاعي
الاهتمامُ بالكتاب صفةٌ حميدة، يحكي جعفر الخليلي في كتابه "هكذا عرفتهم" عن أحد أصدقائه من تجار النجف الأميين،كان يمتلك مكتبةً واسعة تضمُّ آلافَ الكتب، يشتري كلَّ جديد ويجلّده تجليدًا فاخرًا، ويودعه في مكتبته. لا أستطيع المكوثَ ببيتٍ بلا مكتبة، لم أتذمّر يومًا أو أندم من هذا الشره إلى شراء الكتب، ولا أنزعج من تكرار محاولاتي بإعادة تأسيسِ مكتبةٍ كلّما خسرت واحدة منها. في حوزة قم أنشأتُ مكتبةً في ثمانينيات القرن الماضي. في قم سوقٌ من عدة طوابق يضمُّ مجموعةَ مكتباتٍ لبيع الإصدارات العربية. معظمُ أصحابِ المكتبات من الأصدقاء العراقيين، أتردّد عليهم باستمرار، وأشترى ما أراه جديدًا. أسعار الكتب رخيصة، تنامى رصيدُ المكتبة عاجلًا، بمدة قصيرة تجاوزت مقتنياتها 1000 كتاب. تواصل الشراءُ فضاق البيتُ بالكتب، بعد أن تجاوز عددُها 6000 كتابٍ ومجلة. أمسى مصيرُ المكتبة البيعَ أيام إصدار مجلة قضايا إسلامية معاصرة سنة 1997، وسلسلة الكتاب الرديفة لها. اشترت الكتبَ بمجموعها مكتبةٌ عامة قيدَ الإنشاء تخطّط لأن يكون رصيدُها مليونَ كتاب. اكتأبت العائلةُ واكتأبتُ أنا، وكأن قدرَنا الأبدي رثاءُ مكتباتنا، عندما يتكرّر فقدانُ المكتبة، لأيّ سبب من الأسباب، يغرق الإنسانُ بكابوس خسرانِه كنوزَه النادرة. المكتبةُ مكونٌ جميل لذاكرتنا، ومستودعُ أثمن مقتنياتِنا. زوجتي أم محمد اكتأبت جدًا وعاشت ساعاتٍ مريرة، أجهشت بالبكاء لحظة نزولها للطابق الأسفل، لحظة صدمت بوحشة هذا الطابق؛ وكأنه يرثي رحيلَ المكتبة وهجرانَها للبيت الذي احتضنها وآواها. تصف حالتَها وهي تبكي بكاءً شديدًا، فتقول: شعرتْ كأنَّ روحي انتزعت مني وهرولت بعيدًا عساها تدرك المكتبة.كنتُ أقتّرُ على نفسي بكلِّ شيء غير أساسي، لفرط شغفي حدَ الهوس بالكتب، كنتُ أغفل فأقدّم شراءَ الكتاب على تسوق الفاكهة لأولادي. لا أنسى كلمةً، كلّما تذكّرتها شعرتُ بتأنيب ضميرٍ من تقصيري، قالها ولدي محمد باقر "مواليد 1982" حين كان طفلًا، وهو يراني لحظةَ عودتي للمنزل لا أحمل إلا عدة َكتبٍ، وأنسى شراءَ الفواكه عدةَ أيام، فقال بهدوء ولطف: بابا ليش "لماذا" ما تشتري لنا فواكه!
بعد بيع المكتبة، لم أترك منذ الأسبوع الأول الإدمانَ المزمن على زيارة سوق الكتب، كذلك تكثّفت زياراتي لمعرض الكتاب،كنتُ أذهب مرة أو مرتين، صرتُ أحضر أكثرَ أيام المعرض. أنهمك من الصباح إلى المساء بشراء كمياتٍ من الإصدارات المتنوعة لدور النشر العربية، أسعارُ الكتب مناسبة، أيام وزارة محمد خاتمي لوزارة الإرشاد ثم رئاسته للجمهورية كانت الوزارة تقدّم دعمًا سخيًا لمطبوعات الناشرين المحليين بالورق، وتدعم مختلفَ مبيعات كتب المكتبات من خارج إيران في المعرض. تراكمُ الكتب دعاني لتخصيصِ طابقٍ بتمامه في البيت للمكتبة. استوعبت المكتبةُ المجموعاتِ الكاملة لدورياتٍ عربية وفارسية معروفة، تصلني باستمرار عبر البريد دورياتُ دراساتٍ ومجلاتٌ ثقافية عربية تصدر في بيروت والقاهرة وبلاد الخليج ولندن. راسلتُ مجلةَ المستقبل العربي أطلب منحي اشتراكًا مجانيًا، لم يهمل مركزُ دراسات الوحدة العربية رسالتي؛ فبعث لي جوابًا يشير إلى تسجيل اشتراكٍ ريثما يتبرع أحدُ أصدقاء المركز باشتراكاتٍ مجانية لقراء المجلة، وصلني العددُ الشهري للمجلة بعد مدة وجيزة، مرفقًا بفاتورة اشتراك سنوي أهداه متروك الفالح الذي لم أكن قبل ذلك سمعتُ اسمه، الفالح سعودي أحد أصدقاء المركز المعروفين. يتجدّد هذا الاشتراكُ التطوعي لسنواتٍ متوالية، فتصلني المستقبلُ العربي بلا انقطاع، تمنيتُ أن ألتقي هذا الإنسانَ الكريم يومًا لأشكره.
أضحى رصيدُ الكتب والدوريات يتضاعف سريعًا في المكتبة، في الألفية الجديدة نشأت لدي مكتبةٌ ثانية مودَعة في بيروت، يتراكم فيها فائضُ كتبٍ ودورياتٍ أشتريها من دور النشر اللبنانية، في كلِّ مرةٍ يزيد ما أنقله بعد عودتي في الطائرة عن الوزن الذي أستطيع حملَه. بعد عودتي للوطن وإقامتي ببغداد تكوّنت بالتدريج مكتبةٌ أخرى تملأ اليوم كلَّ غرف البيت. تجمع مكتباتي نحو 30000 من الكتب ودوريات الدراسات والمجلات الثقافية. لم أعد أحتاج الكتبَ لمطالعتها إلا قليلًا بعد شيوع الكتب الإلكترونية، أحتاج الكتابَ اليوم بوصفه صديقَ العمر الأبدي، الذي مكث معي بعد مغادرةِ كثيرٍ ممن أحبّهم إلى الدار الآخرة، أو هجرتهم إلى بلاد نائية، بعد إكراه المواطن العراقي على العيش خارج أرضه، أو بعد أن عزلتهم الشيخوخةُ عن الحضور التفاعلي في الحياة. وجودُ الكتب في كلِّ بيت أسكنه يخفضُ الشعورَ بالاغترابِ الوجودي وقلقِ الموت. أتحسّس الكتبَ كائناتٍ حيّة تتغلغل في العاطفة، ويبهجُ حضورُها العقل.كأنها تناديني بلغة عتابٍ حين أنشغل طويلًا بالكتابة والمطالعة على الكمبيوتر. أتحسّس مؤلّفي هذه الكتب كأنهم يتحدّثون إليّ وأتحدث إليهم، يضحكون فأضحك معهم، يبكون فأبكي، يتألمون فاتألم، يكتئبون فأكتئب.
د. عبدالجبار الرفاعي
الاهتمامُ بالكتاب صفةٌ حميدة، يحكي جعفر الخليلي في كتابه "هكذا عرفتهم" عن أحد أصدقائه من تجار النجف الأميين،كان يمتلك مكتبةً واسعة تضمُّ آلافَ الكتب، يشتري كلَّ جديد ويجلّده تجليدًا فاخرًا، ويودعه في مكتبته. لا أستطيع المكوثَ ببيتٍ بلا مكتبة، لم أتذمّر يومًا أو أندم من هذا الشره إلى شراء الكتب، ولا أنزعج من تكرار محاولاتي بإعادة تأسيسِ مكتبةٍ كلّما خسرت واحدة منها. في حوزة قم أنشأتُ مكتبةً في ثمانينيات القرن الماضي. في قم سوقٌ من عدة طوابق يضمُّ مجموعةَ مكتباتٍ لبيع الإصدارات العربية. معظمُ أصحابِ المكتبات من الأصدقاء العراقيين، أتردّد عليهم باستمرار، وأشترى ما أراه جديدًا. أسعار الكتب رخيصة، تنامى رصيدُ المكتبة عاجلًا، بمدة قصيرة تجاوزت مقتنياتها 1000 كتاب. تواصل الشراءُ فضاق البيتُ بالكتب، بعد أن تجاوز عددُها 6000 كتابٍ ومجلة. أمسى مصيرُ المكتبة البيعَ أيام إصدار مجلة قضايا إسلامية معاصرة سنة 1997، وسلسلة الكتاب الرديفة لها. اشترت الكتبَ بمجموعها مكتبةٌ عامة قيدَ الإنشاء تخطّط لأن يكون رصيدُها مليونَ كتاب. اكتأبت العائلةُ واكتأبتُ أنا، وكأن قدرَنا الأبدي رثاءُ مكتباتنا، عندما يتكرّر فقدانُ المكتبة، لأيّ سبب من الأسباب، يغرق الإنسانُ بكابوس خسرانِه كنوزَه النادرة. المكتبةُ مكونٌ جميل لذاكرتنا، ومستودعُ أثمن مقتنياتِنا. زوجتي أم محمد اكتأبت جدًا وعاشت ساعاتٍ مريرة، أجهشت بالبكاء لحظة نزولها للطابق الأسفل، لحظة صدمت بوحشة هذا الطابق؛ وكأنه يرثي رحيلَ المكتبة وهجرانَها للبيت الذي احتضنها وآواها. تصف حالتَها وهي تبكي بكاءً شديدًا، فتقول: شعرتْ كأنَّ روحي انتزعت مني وهرولت بعيدًا عساها تدرك المكتبة.كنتُ أقتّرُ على نفسي بكلِّ شيء غير أساسي، لفرط شغفي حدَ الهوس بالكتب، كنتُ أغفل فأقدّم شراءَ الكتاب على تسوق الفاكهة لأولادي. لا أنسى كلمةً، كلّما تذكّرتها شعرتُ بتأنيب ضميرٍ من تقصيري، قالها ولدي محمد باقر "مواليد 1982" حين كان طفلًا، وهو يراني لحظةَ عودتي للمنزل لا أحمل إلا عدة َكتبٍ، وأنسى شراءَ الفواكه عدةَ أيام، فقال بهدوء ولطف: بابا ليش "لماذا" ما تشتري لنا فواكه!
بعد بيع المكتبة، لم أترك منذ الأسبوع الأول الإدمانَ المزمن على زيارة سوق الكتب، كذلك تكثّفت زياراتي لمعرض الكتاب،كنتُ أذهب مرة أو مرتين، صرتُ أحضر أكثرَ أيام المعرض. أنهمك من الصباح إلى المساء بشراء كمياتٍ من الإصدارات المتنوعة لدور النشر العربية، أسعارُ الكتب مناسبة، أيام وزارة محمد خاتمي لوزارة الإرشاد ثم رئاسته للجمهورية كانت الوزارة تقدّم دعمًا سخيًا لمطبوعات الناشرين المحليين بالورق، وتدعم مختلفَ مبيعات كتب المكتبات من خارج إيران في المعرض. تراكمُ الكتب دعاني لتخصيصِ طابقٍ بتمامه في البيت للمكتبة. استوعبت المكتبةُ المجموعاتِ الكاملة لدورياتٍ عربية وفارسية معروفة، تصلني باستمرار عبر البريد دورياتُ دراساتٍ ومجلاتٌ ثقافية عربية تصدر في بيروت والقاهرة وبلاد الخليج ولندن. راسلتُ مجلةَ المستقبل العربي أطلب منحي اشتراكًا مجانيًا، لم يهمل مركزُ دراسات الوحدة العربية رسالتي؛ فبعث لي جوابًا يشير إلى تسجيل اشتراكٍ ريثما يتبرع أحدُ أصدقاء المركز باشتراكاتٍ مجانية لقراء المجلة، وصلني العددُ الشهري للمجلة بعد مدة وجيزة، مرفقًا بفاتورة اشتراك سنوي أهداه متروك الفالح الذي لم أكن قبل ذلك سمعتُ اسمه، الفالح سعودي أحد أصدقاء المركز المعروفين. يتجدّد هذا الاشتراكُ التطوعي لسنواتٍ متوالية، فتصلني المستقبلُ العربي بلا انقطاع، تمنيتُ أن ألتقي هذا الإنسانَ الكريم يومًا لأشكره.
أضحى رصيدُ الكتب والدوريات يتضاعف سريعًا في المكتبة، في الألفية الجديدة نشأت لدي مكتبةٌ ثانية مودَعة في بيروت، يتراكم فيها فائضُ كتبٍ ودورياتٍ أشتريها من دور النشر اللبنانية، في كلِّ مرةٍ يزيد ما أنقله بعد عودتي في الطائرة عن الوزن الذي أستطيع حملَه. بعد عودتي للوطن وإقامتي ببغداد تكوّنت بالتدريج مكتبةٌ أخرى تملأ اليوم كلَّ غرف البيت. تجمع مكتباتي نحو 30000 من الكتب ودوريات الدراسات والمجلات الثقافية. لم أعد أحتاج الكتبَ لمطالعتها إلا قليلًا بعد شيوع الكتب الإلكترونية، أحتاج الكتابَ اليوم بوصفه صديقَ العمر الأبدي، الذي مكث معي بعد مغادرةِ كثيرٍ ممن أحبّهم إلى الدار الآخرة، أو هجرتهم إلى بلاد نائية، بعد إكراه المواطن العراقي على العيش خارج أرضه، أو بعد أن عزلتهم الشيخوخةُ عن الحضور التفاعلي في الحياة. وجودُ الكتب في كلِّ بيت أسكنه يخفضُ الشعورَ بالاغترابِ الوجودي وقلقِ الموت. أتحسّس الكتبَ كائناتٍ حيّة تتغلغل في العاطفة، ويبهجُ حضورُها العقل.كأنها تناديني بلغة عتابٍ حين أنشغل طويلًا بالكتابة والمطالعة على الكمبيوتر. أتحسّس مؤلّفي هذه الكتب كأنهم يتحدّثون إليّ وأتحدث إليهم، يضحكون فأضحك معهم، يبكون فأبكي، يتألمون فاتألم، يكتئبون فأكتئب.
جريدة الزوراء العراقية
لم تعد الحاجة للكتاب اليوم كما كانت
الاهتمامُ بالكتاب صفةٌ حميدة، يحكي جعفر الخليلي في كتابه laquoهكذا عرفتهمraquo عن أحد أصدقائه من تجار النجف الأميين،كان يمتلك مكتبةً واسعة تضمُّ آلافَ الكتب، يشتري كلَّ جديد ويجلّده تجليدًا فاخرًا، ويودعه في مكتبته. لا