عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
616 photos
51 videos
270 files
1.09K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
ليس بوسعنا بناءُ تفسيرٍ علمي لنشأة الهوية السياسية في مجتمعنا، من دون العودة إلى تجربة الخلافة، الممتدة عبر مراحل تاريخ الإسلام المختلفة، منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر، والكشف عن الكيفية التي جرى فيها استثمار الميراث الرمزي للخلافة في صناعة الهوية السياسية، بوصفها استمرارية عميقة لذلك الميراث العريق في الذاكرة، وتجسيدًا لهوية متخيلة، تتغذى على سلطة الماضي، وتستأنف حضورها عبر مقولاته ورموزه وتمثلاته، وما نتج عنه من مشاعر وأحلام ربما تتوارى في أزمنة لكنها لا تموت. تشكّلت الهوية السياسية في سياق دولة الخلافة، لا بوصفها مؤسسةً للسلطة فحسب، بل بما هي منبع للمتخيَّل الذي تشكّل وتضخم في فضائها، وصاغ مقولاتها حول المشروعية السياسية وغيرها، وولد فيه وتجذّر وعي الإنسان المسلم السياسي ولاوعيه الفردي والجمعي، وتوالد داخله تعريفه لهويته السياسية، والسلطة، والحكومة، وشكل الدولة.
الخلافة، في ضمير أكثر المسلمين، تنبثق مشروعيتها من السماء، وهي وحدها ما يتخيّلون أنها تعبّر عن هويتهم السياسية، وقد تكرّست صورتها في المتخيّل الجمعي بوصفها الهوية الجامعة للأمة المسلمة، عبر رمزية الخليفة الواحد. وإن كانت خلافة الخليفة متصدعة متآكلة، يظل رمزًا، ما دامت تُلقى خطبة الجمعة على المنابر بعنوانه كخليفة، والدعاء يُرفع له، والنقود تسكّ باسمه، مما أسهم في تجذّر هوية الخلافة وترسيخها في الذاكرة السياسية. يتجلى حضور الخلافة في اللاشعور الجمعي بوصاية الماضي على الحاضر، وامتدادها بوصفها سلطة رمزية لا تزال تنتج تأثيرها عبر نظامٍ رمزي وشبكة متشعبة من المفاهيم، تستمدّ قوتها وفاعليتها من صور رومانسية للخلافة، بوصفها مرجعية متخيّلة، تعيد إنتاج عناصر حياتها في الوعي واللاوعي، وتؤطر تصورات الإنسان المسلم عن السلطة، والحكومة، والدولة، والهوية السياسية.
في دولة الخلافة، كان بإمكان المسلم أن يتنقّل من بلد إلى بلد بحرية، ويقيم في أقاليمها المختلفة، الممتدّة من الأندلس إلى الهند، من دون أن يشعر بالغربة، مادام انتماؤه إلى دار الإسلام، وهويته السياسية هي عقيدته. هذا الانتماء الرمزي رسّخ في اللاشعور الجمعي عدم التمييز سياسيًا بين أرض وأخرى، ما دامت في إطار دولة الخلافة، وما دام الإسلام هو العقيدة السائدة لأهلها. هذه العوامل لا تزال تمارس ممانعة صلبة في تقبّل مفهوم الوطن، والمواطنة، والمشروعية السياسية، والسلطة، والحكومة، والدولة، بمعانيها المعروفة في الفكر السياسي الحديث.
الذاكرة السياسية المشبعة بالصور الرومانسية المتخيّلة لدولة الخلافة مازالت تشكّل أرضية خصبة، ذات تأثير فعّال في التمهيد، لولادة أحلام الدولة الدينية في المتخيّل السياسي لعدد غير قليل من المسلمين. لم تسقط الدولة العثمانية، آخر تجليات الخلافة في عالم الإسلام، إلا عام 1924، وهذا يعني أن المسلم لم يمضِ عليه قرن واحد في التعايش مع المفاهيم الحديثة للدولة، ولم يدخل المفهوم الحديث للوطن والمواطنة كمكون أساسي للهوية السياسية. معنى "الوطن" في تراثنا يختلف عن معناه في الفكر السياسي والدساتير الحديثة، التي تؤسّس للمواطنة بوصفها علاقة قانونية وحقوقية، تربط الفرد بالدولة على أساس الانتماء لأرض وتاريخ وثقافة ومصالح ومصائر مشتركة.
ما زال سقوط دولة الخلافة العثمانية يمثّل جرحًا نرجسيًا غائرًا للهوية السياسية لعدد غير قليل من المسلمين، ممن كانت الخلافة تمثّل لهم شعورًا بالتماهي مع كلّ مسلم يقطن أرضها، وتغذّي خيالهم بوحدة رمزية وعقائدية تتجاوز الحدود الجغرافية. ظلّ المتخيّل الجمعي، الذي تراكم واتسع عبر قرون، يعمل على ترسيخ صورة الخلافة بوصفها مكوّنًا أصيلًا في هوية المسلم السياسية، وبعد انهيارها استمر حضورها الرمزي في الذاكرة السياسية الجمعية. الخلافة لم تكن مجرّد نظام سياسي، بل غدت رمزًا مشحونًا بالدلالة، يتوارى فيه التاريخ خلف الأسطورة، وتتداخل فيه الوظائف السياسية بالدلالات الدينية. المتخيّل السياسي أسهم في بناء صورة مثالية مضيئة للخلافة، لا تعكس واقع المظالم التي وقعت في زمانها، ولا تكشف عن جور السلاطين وبطشهم، وما كان يعيشه رعاياهم من تمييز واضطهاد. جعلها هذا المتخيّل تمثّل ذروة اندماج السياسة بالدين، وملاذًا آمنًا لهوية سياسية مأزومة، تلجأ للماضي حين تعجز عن بناء الحاضر.
بعد انهيار آخر دولة خلافة، لم تتبدد صورتها، بل ظلّ ميراثها الرمزي وشبكة مفاهيمها حيّة في اللاشعور الجمعي، تتجدد حضورًا في الذاكرة، وتعيد إنتاج نفسها في وجدان لم يتحرّر من قبضة الماضي، ولم يغادر الحنين إلى سلطة يتخيّلها ضامنًا لوحدة شاملة على أساس الدين الواحد. ظلّ المتخيَّل الديني يعمل على مدى قرونٍ على ترسيخ صورة الخلافة بوصفها عنصرًا أساسيًا من مكوّنات هوية المسلم السياسية، فتتشبع بها اللاشعور الجمعي، وأمست ملاذًا يستحضره المسلم، كلّما عجز عن تحقيق أحلامه في الواقع السياسي، وصار المتخيَّل وسيلة يعيد بها الإنسان إنتاج ما فشل في إنجازه في الواقع. وما يزال عدد غير قليل من المسلمين، إلى اليوم، عاجزين عن الانفصال عن الصورة المثالية للخلافة، والتحرر من سلطتها الرمزية، وهيمنتها على الذاكرة السياسية. ذلك ما جعلهم يقرأون المستقبل بعيون الماضي، ويقيسون الدولة الحديثة بمقاييس الدولة السلطانية، ويحاكمون السياسة والدولة الحديثة بأحكام دولة الخلافة.
من أبرز آثار الجرح النرجسي للهوية السياسية، الذي نتج عن سقوط آخر دولة للخلافة، انبعاث أول حركة للإسلام السياسي في العصر الحديث، إذ لم تمضِ سوى أربع سنوات على نهاية الخلافة العثمانية، حتى بادر حسن البنا، في مدينة الإسماعيلية، إلى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، بوصفها مشروعًا يطمح إلى استعادة مجد المسلمين السياسي، عبر إعادة بعث دولة الخلافة. وصارت الخلافة ركنًا من أركان الإسلام، كما يصرح حسن البناء في رسالة المؤتمر الخامس: (الإسلام يجعل الحكومة ركناً من أركانه… فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف… أما الخلافة فهي رمز الوحدة الإسلامية، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في دفن النبي صلى الله عليه وسلم. والأحاديث الواردة في وجوب نصب الإمام كثيرة. لذلك فالإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها في رأس منهاجهم، وهم – مع ذلك – يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات الضرورية) . لم أجد فقيهًا أو متكلمًا في تاريخ الإسلام، قبل حسن البنا، يقول: إن "الحكومة ركن من أركان الإسلام"، أو إن الدولة ركن في الإسلام. أركان الإسلام معروفة لدى المذاهب والفرق. الماوردي "ت. 450هـ" يرى أن الإمامة، أو الخلافة، أو الحكم، واجب شرعي من واجبات الدين، لا من أركانه. ويذهب الجويني "ت. 478هـ" إلى أن الإمامة ضرورة لحفظ الشريعة، لا ركنًا من أركان الدين. لكن في العصر الحديث، جعل أكثر من منظّر من منظّري الإسلام السياسي، الحكم من أركان الدين.
وفي سياق أدبيات هذه الجماعة، وشعاراتها، وأهدافها، تشكّلت رؤية تمجّد الماضي السياسي، وتدعو للعودة إلى نموذج الحكم الذي ساد عدة قرون في دول الخلافة. في فضاء هذا المتخيّل السياسي، توالدت سلسلة من الحركات الإسلامية في شتى أنحاء العالم الإسلامي، استلهمت نموذجها من الإخوان، وواصلت الأحلام السياسية ذاتها ببعث الخلافة، كلٌّ منها على شاكلتها، بوصف دولة الخلافة رمزًا لوحدة المسلمين، ومصدرًا للهوية السياسية، وأفقًا لاستعادة السيادة والكرامة المهدورتين. غير أن ما لم يُدركه الوعي المؤدلج أن الخلافة، بوصفها مشروعًأ سياسيًا تاريخيًا، لا يمكن استعادتها إلا في المتخيّل السياسي، وأن إحياءها لا يعني سوى إعادة انتاج ماضٍ لم يعد صالحًا لبناء دولة قائمة على المواطنة الدستورية، والقانون، والعدالة، وحقوق الإنسان وحرياته. حين يتحوّل الحنين للماضي السياسي إلى مشروع للخلاص، يفقد الحاضر قدرته على توليد معنى سياسي، ويُختزل المستقبل في صورة مثالية لماضٍ متخيّل، لا حضور له خارج الذاكرة.
https://alsabaah.iq/115728-.html
#الهرمنيوطيقا بوصفها منهجا للتفسير عند #أمين_الخولي. يصدر هذا الكتاب قريبا عن دار الشؤون الثقافية في بغداد.
السؤالُ الميتافيزيقي سؤالٌ فلسفي

د. عبدالجبار الرفاعي
مَنْ لا يعرفُ الإنسانَ لا يعرفُ الله، ‏معرفةُ الطبيعة لا تكفي لمعرفة الله. مَنْ يعرفُ شيئًا عن غرابة ‏الإنسان وغربته الوجودية وفقره وهشاشته، ويعرفُ شيئًا من الطبيعة الإنسانية ‏بوصفها ملتقى الأضداد، يمكنه أن يصلَ إلى الله.
يتنكرُ بعضُ المثقفين للميتافيزيقا وما وراء الطبيعة، على الرغم من أنه لا يعرف عنها شيئًا، وينفي وجودَ الله، لأنه لم يصل إليه بأدوات العلم التجريبي التي يثق بها فقط، ولا يثق بسواها. يجزم بالنفي من دون أن يتواضعَ ويكشفَ عن إخفاق عقله في إدراك ما لم يتمكن هو من إدراكه. لا يدري هؤلاء بأن البحثَ في الميتافيزيقا وما وراء الطبيعة خارجَ أدوات العلم، وخارجَ وسائل اكتشاف العالَم الفيزيقي وقوانينه.
يُعلِن بعضُهم بصرامة بأنه لا يؤمن بوجود الله، ويقطع بعدم وجود ما وراء الطبيعة، بلا تأمّل وتدبّر وتبصّر، وينسى بأن الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة هو الموضوع الأثير للفلسفة منذ بدايات التفلسف حتى اليوم، وأن سؤالَ الايمان والإلحاد ليس سؤالًا علميًا، وأن أسئلةَ الميتافيزيقا وعالَم ما وراء الطبيعة أسئلةٌ فلسفية.كلُّ سؤال وجواب خارج عالَم الطبيعة سؤالٌ وجوابٌ فلسفي. إعلانُ الإلحاد ضربٌ من الجواب الميتافيزيقي، الإلحادُ يعكسُ ضراوةَ القلق الوجودي، وأقصى مديات ‏حيرة الجواب الميتافيزيقي. لحظةَ يعلن أحدٌ عن إلحادِه ينتقل من التفكير العلمي إلى التفكير الفلسفي، من دون أن يتنبه لذلك. نفيُ عالَم ماوراء الطبيعة كإثباته، الإثباتُ حكمٌ فلسفي، والنفيُ حكمٌ فلسفي. التفكيرُ في ماهية العلوم الطبيعية وماهية أيّ علمٍ هو تفكيرٌ فلسفي، العلمُ لا يُفكّر في ماهيته، التفكيرُ في ماهية العلوم خارجَ مجال العلوم، كلُّ تفكيرٍ من هذا النوع تفكيرٌ فلسفي. في مقابلةٍ تلفزيونية على إحدى الفضائيات العربية مع معماري عراقي مثقف واسع الاطلاع، تحدّث فيها عن إلحاده بصراحة. يقول رفعت الجادرجي: "أنا ملحد بكل ما للكلمة من معنى". ويضيف: "أن لديه وصية مكتوبة بأن تحرق جثته بعد موته ولا يُدفَن ولا يُصلَى عليه" .
ولد ونشأ المهندس المعماري رفعت الجادرجي في محيطٍ تقليدي ببغداد، أبوه كامل الجادرجي كان سياسيًا ومثقفًا غير تقليدي، وهو من أبرز رواد الديمقراطية ودعاتها في العراق. سمعتُ الحوارَ كلَّه بتأمل أكثر من مرة، رأيته يفسِّر الدينَ والمقدّسَ، وحاجةَ الإنسان للصلة بوجودٍ الله تفسيرًا سيكولوجيًا وسوسيولوجيًا وأنثربولوجيًا. لا يغور رفعت الجادرجي فلسفيًا ليرى الأبعادَ العميقةَ للحاجة الى الدين في وجود الإنسان، ولا يذهب تفكيره بعيدًا ليطلّ على الميتافيزيقا وعالَم ما وراء المادة. حاجةُ الإنسان للصلة بوجودٍ مطلق يفرضها نوعُ وجوده، ونتيجةً لها يفرض الدينُ حضورَه الأبدي، وينتقم لنفسه كلّ مرة تجري إزاحتُه فيها ليعود عاصفًا، مهما كانت محاولاتُ بعض الفلاسفة والمفكرين لرفضِه، والكشفِ عن بؤس تمثلاته وتطبيقاته العملية. الحاجةُ الوجودية لله أسعدتْ كبارَ ملهمي الروح المعلمين في إطار الأديان المعروفة وغيرَهم ممن عاشوا مُتيّمين بحب الله، وأشقت بعضَ البشر، عندما زجّتهم في صراعٍ مع أنفسهم والناس والعالَم من حولهم.
لا أريد أن أحكم على تفسيرِ رفعت الجادرجي وشعورِه وتعبيرِه الصريح عن موقفه، لأن كلَّ تفسيرٍ لا يمكن أن يتحرّر كليًا من بصمةِ الذات، وكيفيةِ نشأتها وتربيتها، وتكوينِها المعرفي، والبنى اللاشعوريّة الغاطسة فيها، واحتياجاتِها المتنوعة.
‏ الظواهرُ الدينية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ‏وكلُّ تمثلات الدين المجتمعية، تدرسها علومُ الإنسان والمجتمع الحديثة، ‏مثل: سوسيولوجيا الدين، انثربولوجيا الدين، سيكولوجيا الدين، وغير ذلك. التفسيرُ السيكولوجي والسوسيولوجي والأنثربولوجي والاقتصادي والسياسي والتاريخي للظواهر الدينية شديدُ الأهمية، لأننا لا يمكن أن ندرس تمثلاتِ الدين وتعبيراته في حياة الفرد والجماعة من دونه، غير أن هذا التفسيرَ لا نستطيع أن نرى بأدواته منشأَ الحاجة الوجودية لله، ولا يسعفنا في اكتشاف الجذرِ العميق لهذه الحاجة، لأنه يقف خارجَ فضاء الميتافيزيقا.
جذرُ هذه الحاجة وأصلُها لا تتمكن من الغوص في مدياته إلا الرؤيةُ الفلسفية، لأنها يمكن أن تطلّ على الميتافيزيقا. التفكيرُ في حقيقة الأشياء وماهياتِها تفكيرٌ فلسفي. ماهيةُ الدين لا يمكن التفكيرُ فيها خارجَ السؤال الفلسفي، أعمقُ سؤال فلسفي السؤالُ ميتافيزيقي، لا يستطيع العقلُ أن يفكِّر في العالَم الميتافيزيقي بلا منظارٍ فلسفي. ولا يحضر جوهرُ الدين الروحي إلا باستبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المضيئة الآسرة.
اللهُ، الوحيُ، النبوةُ، الآخرةُ، وغيرُ ذلك من عوالم الغيب، تبحثها فلسفةُ الدين، لأنها تحاول أن تغوص في ما هو ميتافيزيقي.كما تبحث فلسفةُ الدين كيفيةَ تجلي الإلهي في البشري،‏ وكيفيةَ شهود البشري للإلهي، ونمط ‏الحالة الروحية والعاطفية لحظة شهود البشري للإلهي.
العلومُ الطبيعية والبحتة والتطبيقية وعلومُ الإنسان والمجتمع لها مدياتٌ قصوى تقف عند تخومها ولا تتخطاها، إنها تظلّ مقيمةً في آفاق الزمان والمكان والحركة والمادة وأبعادها وخصائصها وشؤونها. يقول علي عزت بيغوفيتش: "إن علمَ الحفريات، وعلمَ هيئة الإنسان، وعلمَ النفس، كلَّها علومٌ تصفُ من الإنسان فقط الجانبَ الخارجي الآلي الذي لا معنى لهُ... إننا لا نستطيعُ تفسيرَ الحياةِ بالوسائل العلمية فقط، لأن الحياةَ معجزةٌ وظاهرة معًا. الإعحابُ والدهشةُ هما أعظمُ شكلٍ من أشكال فهمنا للحياة".
مادامت مناهجُ وأدواتُ ووسائل العلم تجريبيةً فهناك قصورٌ ذاتي في هذه المناهج والأدوات والوسائل عن أن تطلّ على عوالم الميتافيزيقا، لذلك يعجز العلمُ عن عبور فضاء المادة وأحوالها وما يتصل بها، ولا يمكنه الكشفُ عن ماهية الأشياء وجوهرها، كما لا يمكنه الجواب عن السؤال الميتافيزيقي. ما يتناوله العلمُ يلبث في حدود المادة، بخلاف الفلسفة واللاهوت التي بوسعها إدراكُ شيء من أبعاد الميتافيزيقا وعوالمها وشؤونها. وفي العرفان تنكشف مواطنُ أشواق الروح البشرية وأحوالها واحتياجاتها العميقة، لحظة يعلن جوهرُ الدين عن حضوره المُضِيء باستبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المبهجة.
علّق هايدغر على عبارته المشهورة: "العلم لا يفكّر"، (بقوله: "إن هذه العبارة التي خلّفت كثيرًا من الضجيج إثر نطقي بها، تعني أن العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلا أنه، ومن غير أن يعلم، ينْشدّ إلى ذلك الإطار. فعلى سبيل المثال: إن الفيزياء تشتغل على المكان والزمان والحركة. إلا أن العلم، بما هو كذلك، لا يمكنه أن يحدّد ما الحركة، وما المكان، وما الزمان". العلمُ إذًا لا يفكّر، بل إنه لا يمكن أن يفكّر في هذا الاتجاه باستخدام وسائله. لا يمكنني على سبيل المثال أن أقول ما الفيزياء باتّباع مناهج الفيزياء. ماهية الفيزياء لا يمكنني أن أفكّر فيها إلا عن طريق سؤال فلسفي) . وكما يقول فتحي المسكيني: "الفلسفةُ شيء لا علاقةَ له بالعلم. وبعبارة واحدة لهيدغر: العلم لا يفكّر. والقصد هو لا يفكّر بشكل كوني في الكينونة، رغم أنّه ينتج معرفةً كلية بالكائن".
تتوقف التفسيراتُ العلميةُ للدينِ عند معاينةِ حضورهِ الفردي والمجتمعي، ودراسةِ وتحليل آثاره المتنوعة في حياة الإنسان ومختلف تعبيراته، لكنها تخفقُ في البحث عن المديات الأعمق لأصل الحاجةِ للصلة بالله في الكينونة الوجودية العميقة للكائن البشري. تقودُ هذه التفسيراتُ بعضَ الناس أحيانًا إلى نفي الحاجةِ للدين، ويتمادى بعضُ مَنْ يتبناها ليقولَ بنفي وجود الله، من دونِ أن يسوقَ أيَّ برهانٍ على هذا النفي. ويزعمُ أناسٌ آخرون إن الإيمانَ مجردُ شعورٍ نفساني، تفرضُه على الإنسان سيكولوجيتُه وبيئتُه وتربيتُه وثقافتُه، وهي محاولةٌ أخرى لنفي وجودِ الله بلا دليلٍ.
الإنسانُ ليس عقلًا محضًا، الإنسانُ كائنٌ تتحكم فيه المشاعرُ والإنفعالاتُ والمصالحُ أكثرَ من العقل، الإنسانُ كائنٌ عاطفي قبل أن يكون كائنًا عقلانيًا. أسرف التنويرُ الغربي في الاعلاء من مكانة العقل والعلم، وتجاهلِ العواطف والمشاعر والأحاسيس والانفعالات، والمتخيل والأسطورة والذاكرة، بنحو تسيّد العقلُ والعلمُ واستبدّا، فصادرا كلَّ شيء خارج حدودهما، وصار كلُّ شيء لا يصدق عليه عقل وعلم منسيًا. قراراتُ ووقائعُ حياة الإنسان تكذِّب ذلك، لأن الشعرَ والفنَ، والمتخيل والأسطورة والذاكرة، ومكاشفاتِ الروح وإشراقاتها، لا يصدر كثيرٌ منها عن العقل. القرارات المصيرية في حياة الإنسان تصدر أحيانًا لحظةَ انفعال عاطفي، وطالما اتخذ الإنسانُ فردًا وجماعةً مواقفَ تغيب فيها حساباتُ العقل والعلم تمامًا.

https://alsabaah.iq/46711/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D9%82%D9%8A?fbclid=IwAR3ExfvtwpzGG9vKpNTIAt-DpfC9xdKfdn7s8DgJhsk_sOb9e3E8WqAq58A
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
‏عرض الاستاذ محمد بحر العلوم لكتاب: "ثناء على الجيل الجديد".
"الإنسان ومشكلة المعرفة عند عبد الجبار الرفاعي"، رسالة ماجستير قدمتها: منال عوني عبدالخالق غنيم، إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة طنطا في مصر، تمت مناقشتها هذا اليوم 14-6-2025، وأجيزت بتقدير امتياز.
عبدالجبار الرفاعي
"الإنسان ومشكلة المعرفة عند عبد الجبار الرفاعي"، رسالة ماجستير قدمتها: منال عوني عبدالخالق غنيم، إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة طنطا في مصر، تمت مناقشتها هذا اليوم 14-6-2025، وأجيزت بتقدير امتياز.
هذه الرسالة 25 في تسلسل اطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير المناقشة حول مشروعي في تجديد الفكر الديني حتى اليوم. وهناك 10 اطروحات دكتوراه ورسائل ماجستير قيد الكتابة، في عدة جامعات عراقية وعربية وأجنبية.
رؤيا الغيب في لغة الدين
د. عبد الجبار الرفاعي
لغة الدين المختصة بالغيب تعجز عن التعبير عن حقيقة الغيب بنحو تعكسه كما هو، وهذا العجز حكاية لعجز الإنسان عن تصور الحقيقة غير المحسوسة كما هي. يتصور الإنسان الغيب على شاكلته، لا على شاكلة الغيب، لأن إدراكه لا يتسع لحقيقة ما لا يُدرك بالحواس، كما يتصور الإنسان الغيب بكيفيته، لا بالكيفية التي عليها الغيب. إشراق الغيب رؤيا لا تبوح بما تكتنزه، وليس رؤية محسوسة تدل الإنسان على أبعاد صورتها، رؤيا لما لا يراه الإنسان ولا يسعه أن يحيط بحدوده.كل ما يقال عن الغيب يظل رمزيًا وتلميحيًا، لا يطابق ذات الغيب وما هو عليه. ما يكتب عن الغيب هو تقريب له بلغة الإنسان، لا لغة الغيب. لذلك تتكئ النصوص الدينية التي تتحدث عن الغيب على الرمز والمجاز، وتجنح إلى التعبير التمثيلي، فتستخدم لغة تشي بما وراءها، وتدعونا إلى التأمل في إشاراتها، لا التوقف عند دلالتها الحرفية. أية محاولة لتجسيد الغيب حسيًا، أو تحويله إلى صورة مرسومة بوضوح في العقل الكلامي، تعجز عن رسم صورة الغيب، ولا تكتنه معناه خارج الإشارة، وتفرغه من أثره في إثراء الروح، وايقاظ الضمير الأخلاقي. الغيب رؤيا لا تُمتلك، وليس بوسع الإنسان اكتشاف حدودها في ضوء المنطق الصوري، ولا تتسع لها مقولات علم الكلام. الغيب لمن يؤمن به، يبرق في البصيرة كضوء ساطع، يتذوق القلب ومضاته، ويعيش حالاته، وكل ما هو من جنس الحالات لا يمكن أن تتسع له الكلمات والمقولات الجاهزة. ما لم يتحرر العقل الديني من إسار الرؤية الكلامية والفقهية التي أحكمت قبضتها على فهم الغيب، يظل الغيب مجرد كلمات منطفئة، لا تفتح له أفقا على عوالم النور، ولا تسقي القلب ببهجة معانقة النور، وتعمل على خفض وتيرة قلقه الوجودي، وتعيد إليه سلامه، وللروح سكينتها.
إثر عجز الإنسان عن تصور الذات الإلهية كما هي، كانت لغة الدين المختصة بالغيب رمزية. الرموز لا تبوح بالمعنى، بل تؤشر إلى شيء مما يتذوقه الإنسان لحظة تجلي الغيب له، وغياب الإنسان في عالم الرؤيا عن أقواله، وكأن ما يحدث رؤية لمعان البرق في ليلة حالكة الظلام. لغة الإشارات لغة رمزية، يتذوقها من يتسامى من الحروف إلى الحالات، إنها لغة مشبعة بمعنى يبهج الإنسان الشغوف بالأنوار. اللغة الرمزية لا تصور الغيب كما هو، لكنها تلمح إليه، وتهمس به، وتشي بشهوده، إنها لغة لا تشرح بل توقظ، لا تفسّر بل تقودك للبصيرة. أي تعبير ديني عن الغيب مسعى لتصوير ما لا يمكن تصويره، واستيعاب ما لا يتسع وعاء الإنسان له، وترميز ما لا تدركه الحواس، ولا تبلغه اللغة العادية. لغة الغيب لا تستجيب لمقاييس البرهنة، ولا تخضع لموازين المحاججات العقلية، بل ترتوي من معين التذوق، وتستنير بما ينكشف للقلب في لحظة الصفاء من تجليات، وتنهل من إشراقة الروح حين تتخطى الحواس. تظل اللغة الدينية في تعبيرها عن الغيب محتجبة، لا تنفتح إلا لمن اتسعت آفاق رؤيا بصيرته، وتطهر من غشاوة الحرف، وتجاوز ظاهر الكلمات. حين تتجمد الرموز، وتختزل دلالاتها في معنى ظاهر، تفقد اللغة قدرتها على الإيحاء، ويتحول الغيب إلى مقولة كلامية بلا إيحاء، تعبر عنه لغة مقولات جاهزة، ويتحول التديّن إلى ممارسة شكلية لا أثر لها في تطهير النفس، ولا تهذيب الروح، ولا رعشة القلب، ولا بناء علاقة حب صافية بين الله والإنسان.
مصطلح "لغة الدين" غير متداول على نطاق واسع في الدراسات الدينية والفلسفية والألسنية العربية، على الرغم من كونه أحد الموضوعات المحورية في فلسفة الدين الحديثة. توطين هذا المفهوم في دراساتنا الدينية يوفر لنا مرآة نرى فيها نصوص الكتب السماوية من زاوية مغايرة للنظر المكرر إليها من الزاوية ذاتها، ويفتح لنا نافذة على فهم يتخطى الرؤية السطحية، عبر مقاربة ماهية هذه النصوص، وبيان ما إذا كانت تخضع لمنطق اللغة العرفية، أم أنها لغة تنفرد بمنطق داخلي خاص، تعبّر عن معانيها بطريقتها، وإن تشاركت ألفاظها مع ألفاظ اللغة المتداولة.
الكتب السماوية لا تتحدث بلغة رمزية في كل ما تتناوله، الرمزية تبرز حين تلامس هذه الكتب الحقائق الغيبية، فتصبح اللغة الدينية فيها مشحونة بالإشارة لا التصريح والإيضاح، وتلجأ إلى المجاز لا البيان الحرفي، إذ لا سبيل إلى التعبير عن الغيب إلا بلغة تتجاوز المعنى الظاهر للكلمات. أما حين تتناول الكتب السماوية موضوعات الطبيعة، وما فيها من كائنات، وتضاريس طبيعية، وجبال، وبحار، وأنهار، وجغرافيا مناخية، أو تتحدث عن النباتات والحيوانات، والكائنات التي تعيش على الأرض، أو تتحدث عن الطبيعة البشرية، وأحوالها، والكيفية المخلوقة فيها، وما يكتنفها من هشاشة، وقوة، وعن تكريم الإنسان، وإناطة مهمة الاستخلاف به، أو ما يتصل بأحوال القلوب، وتذبذب أحوال النفس، والعلاقات الاجتماعية، والقيم الروحية والأخلاقية، والعبادات والمعاملات، أو تستعرض أحوال الإنسان وحياته على الأرض فردًا وجماعة، فإن اللغة المستعملة في هذه الموارد للكتب السماوية لا تتجاوز دلالاتها العرفية، وتظل ألفاظها تشير إلى معانيها التي وضعت لها في الاستعمال المتعارف.
التمييز بين لغة الغيب بوصفها موضوعًا للغة الرمزية، وبين اللغة العرفية بوصفها موضوعًا للطبيعة وما فيها من كائنات وغيرها، وأحوال الإنسان وحياته الأرضية، في النصوص الدينية، ضرورة يفرضها فهم لغة الدين فهمًا ينأى عن التبسيط والتعميم، ويساعد على إدراك ما تنشده هذه اللغة من معانٍ تسعى إلى توصيلها، حسب اختلاف موضوعها. لا يصح تفسير اللغة الدينية التي تتحدث عن الغيب، كما تفسر ما يتحدث عن الأخلاق، أو المعاملات، أو أحوال الإنسان في الأرض، أو الطبيعة وغيرها. الغيب لا يُدرك بالحس، ولا تحيط به التجربة، ولا تشرحه اللغة العادية، بل يومئ إليه النص بإشارات لا يصح اختزالها بحرفية الألفاظ.
لغة الدين المختصة بالغيب بوصفها حكاية عن عوالمه، تخاطب روح الإنسان وقلبه وعواطفه ومشاعره، وتوقظ حواسه الباطنية، لذلك ينبغي البحث عن حضور آثارها في الشعور قبل غيره. لا تتحدث هذه اللغة عن الأشياء الملموسة إلا عندما تحاول رسم صورة لما هو مجردا، فتعمل على محاكاتها بالمحسوسات لتقريب المعنى المجرد بما هو ملموس،كما في آية النور: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [النور: 35]. التمثيل في هذه الآية لا يراد به رسم صورة بأشياء مادية لله، بل يراد به تقريب المعنى المجرد بصورة تتقبلها المخيلة، وتتهيأ له الذائقة الباطنية، وتستعد له البصيرة، ويتذوق نوره القلب. المجاز وسيلة لتهذيب الحس، وفتح الأفق على دلالات لا تختزلها العبارة، ولا تقدر اللغة العادية على القبض عليها. حين تتكلم الكتب السماوية عن الغيب، فإنها لا تتحدث عنه كما تتحدث عن الظواهر الطبيعية، وأحوال الإنسان وحياته الأرضية، بل تشير إلى الغيب بلغة الرمز، وتقربه بلغة المشابهة، وتدعونا لاكتشافه لا بوصفه معلومة، بل بوصفه شهودًا يشعر به الإنسان، ويتجلى لمن صفا قلبه، وأشرقت روحه لترى فيه نورًا لا يراه غيرها.
في ضوء ما تقدم لا يصح أن يُفهم الغيب فهمًا حرفيًا، ولا ينبغي تفسير دلالاته بأدوات تفسير تغلقه على معنى واحد، أو مقولات علم الكلام، وكأنه شيئًا محسوسًا، بل يحتاج تلقي الغيب إلى لغة شعورية، ورؤيا باطنية، وشوق لا ينطفئ لمعنى لا يحدّه شكل، ولا تحيط به صورة. أية محاولة لإغلاق دلالة الغيب على معنى واحد، تنفي عنه عمقه الدلالي وتعدد وتنوع تجلياته، وتحوّله إلى مجرد مفهوم لا يبوح بمعنى يعيشه شعور الإنسان، ويضئ بصيرته. الغيب في لغة الدين أفق رحب، لا يتجلى إلا بحدود ما تتسع له البصيره، ولا يُمتلك، أو تتكشف أبعاد صورته، بل يُشار إليه، ويتذقه القلب حالة الصفاء، وترتوي منه الروح كلما اشتاقت إلى النور، واشتد اشتياقها إلى تجليات الجمال الإلهي.


https://alsabaah.iq/116161-.html
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية. الفصل الأول بعنوان: الإيمان يتكلم لغة واحدة، رابط التسجيل:
https://www.hindawi.org/books/13907429/1/