ويرتبط نمطُ فهم النصوص بتطلُّعات الإنسان وأفق انتظاره من الدين، فالإنسانُ الذي يتوقَّع من النَّصِّ استيعابه للنُّظم الاجتماعية والمعارف والعلوم الطبيعية والإنسانيَّة، نراه ينشد انتزاع كافَّة النُّظم والمعارف والعلوم من الكتاب والسُّنَّة، خلافًا لمن لا يترقب ذلك، ويفترض أنَّ النصَّ يستوعب ما يرتبط بهداية الإنسان وسعادته الأخروية فقط، وأنَّ الدين ليس بديلًا عن العقل، أو التجرِبة البشرية، وأن العقل وما يتراكم من خبرات عبر التاريخ، هو ما يتكفل بإدارة وتدبير وتنمية الحياة البشرية، الثابت هو القيم التي يحتاجها الإنسانُ بوصفه إنسانًا في كلِّ زمان ومكان، أمَّا «ما يتضمنه الكتابُ والسنة بشأن العَلاقات العائلية والحكومية والقضاء والعقوبات والمعاملات، وما إليها من إمضاءات بحتة أو تهذيبات وتوجيهات، فلم يكن الهدفُ منها تقنين العَلاقات العائليَّة أو الاجتماعيَّة أو ما يتعلق بشئون الدولة، بقوانين ثابتة لا تتغير. فالثابِت والخالد في هذه الإمضاءات هو القيم، إنها هي المقصودة والمستهدفة من عملية التعديل التي تمَّت عبر الكِتاب والسُّنة. وهي المعيار والملهِم لإجراءات من هذا القبيل. إن هذه القيم ليستْ أمورًا مستقلة، بل هي منبثقة من ضروراتِ السلوك التوحيدي، فتُفسَّر بجوارها، وتكتسب قيمتها منها.»٢٧
لم ينزل القرآن ليشطب على الحضارات والثقافات الإنسانية، وإنما جاء ليُضفيَ على ما هو موجود طابعًا جديدًا يسير به صوبَ التَّوحيد، كما أنَّ الهداية الإلهيَّة لا تبلَّغ للإنسان عن طريق الأنبياء وحسب، وإنَّما الحلول الإنسانية لمعضلات الحياة وترتيب شئونها هي الأخرى هداية إلهية. ولم يكن الانتشارُ السريع للإسلام، وتغطيته لرقعة واسعة تمتد من الأندلس إلى الصين، بعد أقلَّ من قرن على ظهوره، إلا بسبب اعترافه بالتعبيرات الثقافيَّة المتنوِّعة للمجتمعات، وقبوله الأساليب المتفاوتة للحياة الإنسانية لدى الشعوب. وعدم إصراره على طمسها أو مناهضتها، والاقتصار على ترشيدها وتقويمها بالقدر الذي يضمن عدم تنافيها مع قِيَمِ الإسلام وعقيدة التوحيد.٢٨ فقد استطاع الإسلامُ أن يستوعب ويهضم أشكال التمدُّن والتنظيمات والتدبيرات والمعارف والآداب والفنون السائدة في تلك المجتمعات، ويسكبها في إطار واحد، ويصوغ منها نَموذجًا عالميًّا للتحضُّر.
وهكذا نخلُص إلى أن الاستنباط الفقهي يستند إلى القواعد الأصولية التي تمهِّد لهذه العملية، وتشكِّل المقدِّمات والأدوات اللازمة لصوغ الفتاوى، فلا استنباط للأحكام الشرعية من دون الاعتماد على الأصول، وقواعد أصول الفقه تصدر عن مسلَّمات وآراء اعتقادية تتشكل في حقل التفكير الكلامي. وبكلمة موجزة: إن الاجتهاد الفقهيَّ يعتمد على الاجتهاد الأصولي، ولا اجتهاد في أصول الفقه ما لم يتجدَّد علمُ الكلام، أي لا معنى لتحديثِ الفقه من دون تحديث مرجعيَّاته الكلاميَّة.
إن هذه الورقة لا تتحدث عن تاريخ نشأة الفقه، أو أصول الفقه، أو علم الكلام، ولا تؤرخ لولادة أيٍّ من هذه المعارف، أو تبحث فيمن هو سابق أو لاحق في تدوينه على سواه، وإنما هي محاولة للكشف عن شيء من عناصر البنية العميقة والمضمرات والمسلَّمات والمرجعيات الاعتقادية الثاويَة والمستترة في الذهنية الفقهية عند الاستنباط، والتي تتحدد في سياق الرؤية الكلامية للفقيه.
١ ندوة «تطور العلوم الفقهية: التقنين والتجديد في الفقه الإسلامي الحديث والمعاصر»، مسقط، عُمان، ٥–٨ نيسان ٢٠٠٨م.
٢ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، بيروت، دار صادر، ج٧ ص٢٨٧، ج٨ ص١٠٩-١١٠، ج٩ ص١٢٤.
٣ محمد بو هلال: إسلام المتكلمين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٦م، ص٢٠–٢٢.
٤ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، ج١، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، ط٤، ٢٠٠٧م، ص٥٥-٥٦.
٥ المصدر السابق، ص٣٤٦.
٦ الطوسي: العُدة في أصول الفقه، قُم، مؤسسة البعثة، ١٤١٧ﻫ، ص١٩٤.
المحقِّق الحِلِّي: معارج الأصول، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مؤسسة آل البيت، ١٤٠٣ﻫ، ص١١٢.
العلَّامة الحِلِّي: منتهى المطلب، تِبريز، ١٣٣٣ﻫ، ج١، ص١٤٨.
الفاضل التُّوني: الوافية، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مجمع الفكر الإسلامي، ١٤١٢ﻫ، ص٨٨.
محمد باقر الصَّدر: بحوث في علم الأصول، تقريرات: محمود الهاشمي، قُم، مج٤، ص٢٨-٢٩.
لم ينزل القرآن ليشطب على الحضارات والثقافات الإنسانية، وإنما جاء ليُضفيَ على ما هو موجود طابعًا جديدًا يسير به صوبَ التَّوحيد، كما أنَّ الهداية الإلهيَّة لا تبلَّغ للإنسان عن طريق الأنبياء وحسب، وإنَّما الحلول الإنسانية لمعضلات الحياة وترتيب شئونها هي الأخرى هداية إلهية. ولم يكن الانتشارُ السريع للإسلام، وتغطيته لرقعة واسعة تمتد من الأندلس إلى الصين، بعد أقلَّ من قرن على ظهوره، إلا بسبب اعترافه بالتعبيرات الثقافيَّة المتنوِّعة للمجتمعات، وقبوله الأساليب المتفاوتة للحياة الإنسانية لدى الشعوب. وعدم إصراره على طمسها أو مناهضتها، والاقتصار على ترشيدها وتقويمها بالقدر الذي يضمن عدم تنافيها مع قِيَمِ الإسلام وعقيدة التوحيد.٢٨ فقد استطاع الإسلامُ أن يستوعب ويهضم أشكال التمدُّن والتنظيمات والتدبيرات والمعارف والآداب والفنون السائدة في تلك المجتمعات، ويسكبها في إطار واحد، ويصوغ منها نَموذجًا عالميًّا للتحضُّر.
وهكذا نخلُص إلى أن الاستنباط الفقهي يستند إلى القواعد الأصولية التي تمهِّد لهذه العملية، وتشكِّل المقدِّمات والأدوات اللازمة لصوغ الفتاوى، فلا استنباط للأحكام الشرعية من دون الاعتماد على الأصول، وقواعد أصول الفقه تصدر عن مسلَّمات وآراء اعتقادية تتشكل في حقل التفكير الكلامي. وبكلمة موجزة: إن الاجتهاد الفقهيَّ يعتمد على الاجتهاد الأصولي، ولا اجتهاد في أصول الفقه ما لم يتجدَّد علمُ الكلام، أي لا معنى لتحديثِ الفقه من دون تحديث مرجعيَّاته الكلاميَّة.
إن هذه الورقة لا تتحدث عن تاريخ نشأة الفقه، أو أصول الفقه، أو علم الكلام، ولا تؤرخ لولادة أيٍّ من هذه المعارف، أو تبحث فيمن هو سابق أو لاحق في تدوينه على سواه، وإنما هي محاولة للكشف عن شيء من عناصر البنية العميقة والمضمرات والمسلَّمات والمرجعيات الاعتقادية الثاويَة والمستترة في الذهنية الفقهية عند الاستنباط، والتي تتحدد في سياق الرؤية الكلامية للفقيه.
١ ندوة «تطور العلوم الفقهية: التقنين والتجديد في الفقه الإسلامي الحديث والمعاصر»، مسقط، عُمان، ٥–٨ نيسان ٢٠٠٨م.
٢ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، بيروت، دار صادر، ج٧ ص٢٨٧، ج٨ ص١٠٩-١١٠، ج٩ ص١٢٤.
٣ محمد بو هلال: إسلام المتكلمين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٦م، ص٢٠–٢٢.
٤ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، ج١، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، ط٤، ٢٠٠٧م، ص٥٥-٥٦.
٥ المصدر السابق، ص٣٤٦.
٦ الطوسي: العُدة في أصول الفقه، قُم، مؤسسة البعثة، ١٤١٧ﻫ، ص١٩٤.
المحقِّق الحِلِّي: معارج الأصول، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مؤسسة آل البيت، ١٤٠٣ﻫ، ص١١٢.
العلَّامة الحِلِّي: منتهى المطلب، تِبريز، ١٣٣٣ﻫ، ج١، ص١٤٨.
الفاضل التُّوني: الوافية، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مجمع الفكر الإسلامي، ١٤١٢ﻫ، ص٨٨.
محمد باقر الصَّدر: بحوث في علم الأصول، تقريرات: محمود الهاشمي، قُم، مج٤، ص٢٨-٢٩.
٧ محمد كاظم الخراساني: كفاية الأصول، قُم، مؤسسة النشر الإسلامي، ١٤١٥ﻫ، ص٨٩؛ محمد حسين الأصفهاني: نهاية الدراية، قُم، مؤسسة آل البيت، ج١، ص١٦٧.
٨ محمد كاظم الخراساني: مصدر سابق، ص٣١٩-٣٢٠.
٩ المصدر السابق، ص٨٨؛ نهاية الدراية، ج١، ص١٦٥.
١٠ المصدر السابق، ص١٤٥.
١١ المصدر السابق، ص٧٦–٧٨.
١٢ المصدر السابق، ص٩١، ٣٤٢.
١٣ المصدر السابق، ص٨٨–٩٠ و٣٠٠.
١٤ الشريف المرتضى: الذخيرة في علم الكلام، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، قُم، مؤسسة النشر الإسلامي، ص٢٢٣.
١٥ نور الدين بو ثوري: «مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد»، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٠م، ص٣٦.
١٦ محمد حمزة: إسلام المجدِّدين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٧م، ص٤٦.
١٧ أحد فرامرز قراملكي: مناهج البحث في الدراسات الدينية، ترجمة: سرمد الطائي، بيروت، معهد المعارف الحكمية، ٢٠٠٤م، ص٨٥.
١٨ عبد الكريم سروش: القبض والبسط في الشريعة، ترجمة: د. دلال عباس، بيروت، دار الجديد، ٢٠٠٢م، ص٩٦ و١٠٢ و١١٩ و١٢٤.
١٩ مرتضى المطهري: الاجتهاد في الإسلام، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، طهران، مؤسسة البعثة، ص٢٧.
٢٠ محمد عابد الجابري: وجهة نظر نحو إعادة بناء الفكر العربي المعاصر، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ١٩٩٢م، ص٦٦.
٢١ عبد الكريم سروش: مصدر سابق، ص١٩٨-١٩٩ و٢٠٣-٢٠٤.
٢٢ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، مصدر سابق، ج١، ص٢٠٧–٢١٠.
٢٣ محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: محمود عباس، القاهرة، ١٩٥٥م، ص١٤٤.
٢٤ عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠١م، ص٩١.
٢٥ محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٩٠، ١٩٧.
٢٦ عبد الكريم سروش: مدارا ومديريت، طهران، صراط، ص٤٠٨–٤١٢.
٢٧ محمد مجتهد شبستري: هرمونتك، كتاب وسنت، طهران، طرح نو، ص٨٧.
٢٨ محمد مجتهد شبستري: المصدر السابق، ص٢١٠–٢١٥. https://www.hindawi.org/books/74738615/4/
٨ محمد كاظم الخراساني: مصدر سابق، ص٣١٩-٣٢٠.
٩ المصدر السابق، ص٨٨؛ نهاية الدراية، ج١، ص١٦٥.
١٠ المصدر السابق، ص١٤٥.
١١ المصدر السابق، ص٧٦–٧٨.
١٢ المصدر السابق، ص٩١، ٣٤٢.
١٣ المصدر السابق، ص٨٨–٩٠ و٣٠٠.
١٤ الشريف المرتضى: الذخيرة في علم الكلام، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، قُم، مؤسسة النشر الإسلامي، ص٢٢٣.
١٥ نور الدين بو ثوري: «مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد»، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٠م، ص٣٦.
١٦ محمد حمزة: إسلام المجدِّدين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٧م، ص٤٦.
١٧ أحد فرامرز قراملكي: مناهج البحث في الدراسات الدينية، ترجمة: سرمد الطائي، بيروت، معهد المعارف الحكمية، ٢٠٠٤م، ص٨٥.
١٨ عبد الكريم سروش: القبض والبسط في الشريعة، ترجمة: د. دلال عباس، بيروت، دار الجديد، ٢٠٠٢م، ص٩٦ و١٠٢ و١١٩ و١٢٤.
١٩ مرتضى المطهري: الاجتهاد في الإسلام، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، طهران، مؤسسة البعثة، ص٢٧.
٢٠ محمد عابد الجابري: وجهة نظر نحو إعادة بناء الفكر العربي المعاصر، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ١٩٩٢م، ص٦٦.
٢١ عبد الكريم سروش: مصدر سابق، ص١٩٨-١٩٩ و٢٠٣-٢٠٤.
٢٢ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، مصدر سابق، ج١، ص٢٠٧–٢١٠.
٢٣ محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: محمود عباس، القاهرة، ١٩٥٥م، ص١٤٤.
٢٤ عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠١م، ص٩١.
٢٥ محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٩٠، ١٩٧.
٢٦ عبد الكريم سروش: مدارا ومديريت، طهران، صراط، ص٤٠٨–٤١٢.
٢٧ محمد مجتهد شبستري: هرمونتك، كتاب وسنت، طهران، طرح نو، ص٨٧.
٢٨ محمد مجتهد شبستري: المصدر السابق، ص٢١٠–٢١٥. https://www.hindawi.org/books/74738615/4/
www.hindawi.org
المَرْجِعِيَّاتُ الكلاميَّة وأثرُها في الاستنباطِ الفقهيِّ | الدين والنزعة الإنسانية | مؤسسة هنداوي
هل يستحق الجيل الجديد الثناء؟ بروين حبيب قبل أكثر من سنة كتبت في جريدتنا هذه مقالا بعنوان «عبد الجبار الرفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود»، تناولت فيه كتابه «مسرات القراءة ومخاض الكتابة»، وفي قراءتي للكتاب استوقفتني فكرة بدت لي مفاجئة، حتى لا أقول غريبة، عن موقف الرفاعي من جيل الشباب، كتبت عنها «عبد الجبار الرفاعي الذي نشأ في بيئة تقليدية محافظة، وقضى سنوات طويلة من عمره دارسا ومدرسا للعلوم الدينية وهو حاصل على ماجستير في علم الكلام ودكتوراه في الفلسفة الإسلامية، يملك مرونة فكرية متسامحة مع الجيل الجديد وآليات اكتسابه للمعرفة»، ولم أركز عليها كثيرا باعتبار أن مقالي كان عن كتابه المخصص للقراءة والكتابة، لذلك كنت سعيدة بصدور كتاب له يشي عنوانه «ثناء على الجيل الجديد»، بأن ما تناوله باقتضاب في كتابه السابق قد استوى مؤلفا مستقلا.....يعي الرفاعي أن هذه العتبة النصية الأولى، أي العنوان ستفاجئ قارئيه، بل وتستفز مجايليه الذين «يكابدون صراعا مع الأبناء»، وهو حال الكثيرين، كما أنها تحمل مقابلها الضمني اللامنطوق الذي قد يرد على ذهن هؤلاء القراء، أي «هجاء الجيل القديم»، رغم أن مديح جيل لا يستدعي بالضرورة ذم الجيل المقابل له. ويمكن للجملتين اللتين افتتح بهما المؤلف كتابه، أن تكونا إضاءة أولى على المقصود من العنوان، فقد جاء فيهما «تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي.. تعلمت من تلامذتي أكثر من أساتذتي»، وعن هؤلاء الأبناء والتلامذة قدم لنا عبد الجبار الرفاعي كتابه، في مقدمة وسبعة فصول متفاوتة الطول، ما له تعلق بموضوع الكتاب هما الفصلان الأول بعنوان، «ثناء على الجيل الجديد» والثاني بعنوان «التربية خيارها الحصانة لا المنع» مضافا إليهما الفصل السادس بعنوان «أمية الأساتذة الثقافية والرقمية»، الذي كنت أفضل أن يأخذ مكانه الطبيعي بعد الفصلين الأولين لارتباطه العضوي بهما.
في مقدمة الكتاب يوضح لنا الكاتب أنه لا يريد «أن يكون محاميا عن جيل يتميز بالجرأة والوضوح والمباشرة في التعبير عن ذاته وهمومه»، بل يعتبر ما كتبه محاولة منه لتفسير مميزات جيل الأبناء، التي أهلتهم للتفوق على آبائهم، فهذه الفكرة يقينية عند الكاتب، يبدأ بها ويعيد، ولا يحتاج للدوران حولها، بل يعلنها قطعية بأن جذوة الشباب تلهمه أكثر من حكمة الشيوخ. ويورد في الفصل الأول -الذي استعار منه الكتاب عنوانه والمجزأ إلى خمسة أجزاء – مقارنة بين الجيلين محسومة سلفا للجيل الجديد، الذي يراه الكاتب نسيجا مركبا معقدا، أسئلته صعبة تشبه عالمه، في حين أسئلة أسلافه بسيطة، فهذا الجيل واقعي لا يصدق الأوهام ولا يتشبث بالأحلام، ولا يصل إلى اليقين بسهولة، مقابل آبائه الرومانسيين الحالمين المولعين بعبادة الأصنام البشرية، من زعامات دينية وسياسية، وأعتقد أن هذه النقطة ليست بالضرورة ذات لونين أسود وأبيض، ولعل منطقتها الرمادية أوسع مساحة، فللجيل الجديد -الذي يراه الرفاعي مولعا بتحطيم الأصنام- أصنامه أيضا من فنانين ونجوم سينما ومؤثرين.... يرجع عبد الجبار الرفاعي هذا التفوق لجيل الأبناء على جيل الآباء إلى الفجوة التي أحدثتها التكنولوجيا في العقود الأخيرة، ويرى أن الفجوة بين جيله وجيل آبائه ضيقة، في حين أنها بين جيله وجيل أبنائه واسعة بسعة العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، ويعطي مثالا عن حفيدته ذات العشر سنوات، التي تستهلك وقتها منذ أن تفيق صباحا في وسائل التواصل ومواقع الإنترنت ليختصر الفرق بينهما بهذه الجملة الموجزة «تدهشني سميراميس حين تتحدث بما تعلمته من اليوتوب ووسائل التواصل، تعرف أشياء ما زلت أجهل كثيرا منها». فالتكنولوجيا الحديثة التي تجلت في مختلف وسائل التواصل وفي تطبيقات الذكاء الاصطناعي مؤخرا، هي التي صنعت هذه الهوة الرقمية التي تتسع بسرعة ضوئية بين الجيلين: جيل ورقي تقليدي في طريقه إلى الانقراض، وجيل رقمي يمتلك «مهارات متنوعة في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي واستخداماتها المتنوعة، في تأمين متطلبات حياته المختلفة»، دون أن يقع الكاتب في فخ الإعجاب الأعمى غير المشروط بالعصر الرقمي، فقد يحمل في ثناياه حربا نووية شاملة، أو أوبئة غامضة مميتة وما وباء كوفيد منا ببعيد، أو تغيرات مناخية تجاوزت الاحتباس الحراري إلى «الغليان الحراري العالمي»، أو عبث علماء الوراثة بالجينات وإنتاج كائن غريب متوحش يقضي على الإنسان، أو تطوير أنظمة الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى مستوى يفوق إمكانية الإنسان على تسييرها والسيطرة عليها والتحكم فيها.
في مقدمة الكتاب يوضح لنا الكاتب أنه لا يريد «أن يكون محاميا عن جيل يتميز بالجرأة والوضوح والمباشرة في التعبير عن ذاته وهمومه»، بل يعتبر ما كتبه محاولة منه لتفسير مميزات جيل الأبناء، التي أهلتهم للتفوق على آبائهم، فهذه الفكرة يقينية عند الكاتب، يبدأ بها ويعيد، ولا يحتاج للدوران حولها، بل يعلنها قطعية بأن جذوة الشباب تلهمه أكثر من حكمة الشيوخ. ويورد في الفصل الأول -الذي استعار منه الكتاب عنوانه والمجزأ إلى خمسة أجزاء – مقارنة بين الجيلين محسومة سلفا للجيل الجديد، الذي يراه الكاتب نسيجا مركبا معقدا، أسئلته صعبة تشبه عالمه، في حين أسئلة أسلافه بسيطة، فهذا الجيل واقعي لا يصدق الأوهام ولا يتشبث بالأحلام، ولا يصل إلى اليقين بسهولة، مقابل آبائه الرومانسيين الحالمين المولعين بعبادة الأصنام البشرية، من زعامات دينية وسياسية، وأعتقد أن هذه النقطة ليست بالضرورة ذات لونين أسود وأبيض، ولعل منطقتها الرمادية أوسع مساحة، فللجيل الجديد -الذي يراه الرفاعي مولعا بتحطيم الأصنام- أصنامه أيضا من فنانين ونجوم سينما ومؤثرين.... يرجع عبد الجبار الرفاعي هذا التفوق لجيل الأبناء على جيل الآباء إلى الفجوة التي أحدثتها التكنولوجيا في العقود الأخيرة، ويرى أن الفجوة بين جيله وجيل آبائه ضيقة، في حين أنها بين جيله وجيل أبنائه واسعة بسعة العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، ويعطي مثالا عن حفيدته ذات العشر سنوات، التي تستهلك وقتها منذ أن تفيق صباحا في وسائل التواصل ومواقع الإنترنت ليختصر الفرق بينهما بهذه الجملة الموجزة «تدهشني سميراميس حين تتحدث بما تعلمته من اليوتوب ووسائل التواصل، تعرف أشياء ما زلت أجهل كثيرا منها». فالتكنولوجيا الحديثة التي تجلت في مختلف وسائل التواصل وفي تطبيقات الذكاء الاصطناعي مؤخرا، هي التي صنعت هذه الهوة الرقمية التي تتسع بسرعة ضوئية بين الجيلين: جيل ورقي تقليدي في طريقه إلى الانقراض، وجيل رقمي يمتلك «مهارات متنوعة في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي واستخداماتها المتنوعة، في تأمين متطلبات حياته المختلفة»، دون أن يقع الكاتب في فخ الإعجاب الأعمى غير المشروط بالعصر الرقمي، فقد يحمل في ثناياه حربا نووية شاملة، أو أوبئة غامضة مميتة وما وباء كوفيد منا ببعيد، أو تغيرات مناخية تجاوزت الاحتباس الحراري إلى «الغليان الحراري العالمي»، أو عبث علماء الوراثة بالجينات وإنتاج كائن غريب متوحش يقضي على الإنسان، أو تطوير أنظمة الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى مستوى يفوق إمكانية الإنسان على تسييرها والسيطرة عليها والتحكم فيها.
القدس العربي
هل يستحق الجيل الجديد الثناء؟ | بروين حبيب
قبل أكثر من سنة كتبت في جريدتنا هذه مقالا بعنوان «عبد الجبار الرفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود»، تناولت فيه كتابه «مسرات القراءة ومخاض الكتابة»، وفي قراءتي للكتاب استوقفتني فكرة بدت لي مفاجئة، حتى لا أقول غريبة، عن موقف الرفاعي من جيل الشباب، كتبت عنها «عبد…
ولكن هذه المخاوف لا تلغي ما أحدثته التكنولوجيا الحديثة في حياتنا من تحسينات استفاد منها جيل الشباب أكثر من غيرهم لأنهم ولدوا في أحضانها، فقد أزالت الطبقيات بمختلف أنواعها من «طبقية العلاقات الاجتماعية» وأنزلت الأرستقراطية من برجها العاجي، بل أخرجت مفهوم الثراء من معناه التقليدي المتوارث وأصبح إنجاز تطبيق واحد يعود على صاحبه بثروة كان السابقون يجمعونها عبر أجيال كاملة، كما أزالت طبقية التعليم بالكم الذي يصعب تصوره من المعلومات المتاحة مجانا وسبل التعلم المتطورة وغير التقليدية، ما جعل الكاتب يقول «لست متشائما في المستقبل الثقافي للجيل الجديد، لأن الثقافة اليوم تشهد ازدهارا في القراءة والكتابة والتداول الواسع لما ينشر ويكتب بوسائل وأساليب وكيفيات بديلة».
يضيء الرفاعي في كتابه على موضوع عجز نظام التربية والتعليم الموروث عن مجاراة جيل يستقي معارفه من العالم الرقمي قبل الأسرة والمدرسة «ففي أغلب البلاد العربية ينتمي العقل الذي يدير العملية التربوية والتعليمية إلى عصر لم تظهر فيه وسائل التواصل ولا الذكاء الاصطناعي»، ويعطي أمثلة عن مديري مؤسسات تربوية يعانون من أمية ثقافية رقمية ولا يمتلكون مهارات التعامل مع وسائل التواصل، بل بعضهم لا يمتلك بريدا إلكترونيا في عصر أصبحت ثقافته ثقافة رقمية، حيث منصات التواصل وتطبيقاتها تجاوزت دور الكتاب التقليدي في التربية والتعليم والتكوين المعرفي، زيادة على أن العملية التربوية بشكلها الحالي تقوم على المنع، في حين يرى الرفاعي أن خيارها الأفضل هو الحصانة. والأمر نفسه ينطبق على التدين عند الجيل الجديد، فالجيل الجديد لا يتجاوب مع «دين علم الكلام القديم» الذي اتسعت فيه مساحة الحظر على حساب الإباحة، وشاع فيه التشدد المحرم للفنون السمعية البصرية، فهو جيل كما يلخص الرفاعي نظرته إلى الدين «ليس ضد الله هو ضد الصورة الكئيبة التي رسمتها السلفية المتشددة»، لذلك انجذب إلى الصورة المضيئة لله في دين العرفاء، وهذا ما يفسر شيوع مقولات كبار الصوفية مثل، جلال الدين الرومي وابن عربي في منشورات الشباب ورواج الروايات التي تضيء حياة هؤلاء العرفانيين، مثل روايتيْ «قواعد العشق الأربعون» و»موت صغير»... ومع هذا تكفي الفصول المتعلقة بالجيل الجديد لتعطينا نظرة وافية عن مفكر استطاع تجاوزَ ثقافته الدينية التراثية التي استهلكت عقودا من عمره، وتجاوزَ محيطه بعقليته التقليدية اجتماعيا وفكريا وحتى سياسيا، لينظر بانفتاح كبير وأحيانا شديد التفاؤل إلى جيل يصفه جاهلوه بالتفاهة والرداءة، في حين نظر إليه رجل آخر يدعى علي بن أبي طالب قبل أربعة عشر قرنا نظرة مستقبلية حين قال «لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». https://www.alquds.co.uk/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d8%ad%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a1%d8%9f/ .
يضيء الرفاعي في كتابه على موضوع عجز نظام التربية والتعليم الموروث عن مجاراة جيل يستقي معارفه من العالم الرقمي قبل الأسرة والمدرسة «ففي أغلب البلاد العربية ينتمي العقل الذي يدير العملية التربوية والتعليمية إلى عصر لم تظهر فيه وسائل التواصل ولا الذكاء الاصطناعي»، ويعطي أمثلة عن مديري مؤسسات تربوية يعانون من أمية ثقافية رقمية ولا يمتلكون مهارات التعامل مع وسائل التواصل، بل بعضهم لا يمتلك بريدا إلكترونيا في عصر أصبحت ثقافته ثقافة رقمية، حيث منصات التواصل وتطبيقاتها تجاوزت دور الكتاب التقليدي في التربية والتعليم والتكوين المعرفي، زيادة على أن العملية التربوية بشكلها الحالي تقوم على المنع، في حين يرى الرفاعي أن خيارها الأفضل هو الحصانة. والأمر نفسه ينطبق على التدين عند الجيل الجديد، فالجيل الجديد لا يتجاوب مع «دين علم الكلام القديم» الذي اتسعت فيه مساحة الحظر على حساب الإباحة، وشاع فيه التشدد المحرم للفنون السمعية البصرية، فهو جيل كما يلخص الرفاعي نظرته إلى الدين «ليس ضد الله هو ضد الصورة الكئيبة التي رسمتها السلفية المتشددة»، لذلك انجذب إلى الصورة المضيئة لله في دين العرفاء، وهذا ما يفسر شيوع مقولات كبار الصوفية مثل، جلال الدين الرومي وابن عربي في منشورات الشباب ورواج الروايات التي تضيء حياة هؤلاء العرفانيين، مثل روايتيْ «قواعد العشق الأربعون» و»موت صغير»... ومع هذا تكفي الفصول المتعلقة بالجيل الجديد لتعطينا نظرة وافية عن مفكر استطاع تجاوزَ ثقافته الدينية التراثية التي استهلكت عقودا من عمره، وتجاوزَ محيطه بعقليته التقليدية اجتماعيا وفكريا وحتى سياسيا، لينظر بانفتاح كبير وأحيانا شديد التفاؤل إلى جيل يصفه جاهلوه بالتفاهة والرداءة، في حين نظر إليه رجل آخر يدعى علي بن أبي طالب قبل أربعة عشر قرنا نظرة مستقبلية حين قال «لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». https://www.alquds.co.uk/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d8%ad%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a1%d8%9f/ .
القدس العربي
هل يستحق الجيل الجديد الثناء؟ | بروين حبيب
قبل أكثر من سنة كتبت في جريدتنا هذه مقالا بعنوان «عبد الجبار الرفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود»، تناولت فيه كتابه «مسرات القراءة ومخاض الكتابة»، وفي قراءتي للكتاب استوقفتني فكرة بدت لي مفاجئة، حتى لا أقول غريبة، عن موقف الرفاعي من جيل الشباب، كتبت عنها «عبد…
الحريّة منزعًا أصيلاً في فكر الرفاعي
د. وسام حسين العبيدي
لا يخرج قارئ #عبدالجبار_الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو الهدف والغاية من بعثة الأنبياء والمرسلين، وبهذا لا بدّ من أنْ يكون النصُّ الديني في خدمة القيم الإنسانية لدى الإنسان، وليس العكس، بما وجدناه عند كثير من الذين أرادوا قلب المعادلة، عبر تأويلات تعسّفت بالنص الديني، وأبعدته عن غايته الأساس، بما آل إليه حال كثير من الجماعات والمذاهب والتيارات على مدى التاريخ، كان لأصحابها قراءاتهم للمدوّنة الدينية، بما ينسجم وتطلّعات تلك الجماعة أو ذلك المذهب، وكانت النتيجة أنْ صُودِر النص الديني من غايته الأساس في رفع مناسيب القيم الأخلاقية لدى البشر، والارتقاء بنزعاتهم لما فيه خير الإنسان بغضِّ النظر عن انتماءاتهم أو توجّهاتهم، وهنا يطرق الرفاعي نواقيس الخطر في كتابه المهم "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" بالتحذير من هذه القضية، عبر منافذ عدّة، كان أولها في مبحثٍ بعنوان: (الرحمة الإلهية مفتاح فهم القرآن) بادئًا بالقول فيه: "الرحمةُ صوتُ الله، ومعيار إنسانية الدين. لا يُؤتي الدينُ ثمارَهُ ما لم يكن تجربةً إيمانيةً تنبضُ فيها روح المؤمن بالرحمة. الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين، فكلُّ دينٍ مفرغٍ من الرحمة يفتقد رسالته الإنسانية" (ص: 17) وهذه الخلاصة التي يُقدمها لنا الرفاعي تُمثِّل الأساس الذي يُعوِّل عليه في تحريك المشهد المُلبّد بغيوم التباغض المُعلن عنها أو المخفيّ في قراءات ممثِّلي الجماعات الدينية والمذهبيّة – أيًّا كان ذلك الدين أو المذهب - ومن خلال تلك القراءات الأحادية، يتخندق كلُّ جماعةٍ بما لديهم من متاريس خطابيّة تؤثِّل وجودهم على حساب نسف المختلف عنهم، من دون مراعاة لأثر التجربة الفرديّة في تلقّي التعاليم الدينية، وبعبارةٍ أخرى: إنَّ إقصاء "الرحمة" وتمثّلاتها الدلالية: التسامح، التعايش، السِلْم، قبول الآخر، محدودية فهم الإنسان، ونسبية الوعي، على مستوى خطاب ممثِّلي الجماعات والمذاهب في المجال الديني، سببٌ في بقاء الدين غير فاعلٍ على المستوى التطبيقي عند هذه الجماعات، وجعله محدود المجال، الأمر الذي آل إليه حال كثير من المجتمعات المتديّنة، من تفشّي الأمراض الأخلاقية من كذبٍ ونفاق، وشهادة زور، ومن دجل، ومن طائفية وتعصّب مذهبي مقيت عند الأعم الأغلب من أتباع الأديان والمذاهب؛ لتجرُّد الدين من أهمِّ رسالة يُبشِّر بها ويدعو الناس إلى اعتناقها متمثِّلةً بالرحمة، وبافتقادها يخبرنا الرفاعي، أنَّ الدين يفتقد رسالته الإنسانية، التي من دونها لا يكون سوى خطابٍ يدعو إلى الكراهية وإلى العنف، وإلى نبذ الآخر المختلف، وإلى الانكماش حول الفهم السلفي للمتن الديني لقرونٍ خلت، بوصفه الأصل وما عداه فهو الخروج والضلال..! ومن هذا المنطلق، تناول الرفاعي بإسهابٍ وتفصيلٍ منطق "الفرقة الناجية" بوصفه أحد أبرز إفرازات إقصاء الرحمة وتمثّلاته الدلالية في الخطاب الديني، هذا المنطق الذي استدعاه وتبنّاه الأصوليون – لا بالمعنى الفقهي – المتشدِّدون، واعتاشوا على فتاته، وغيّبوا في طيّاته كلَّ موردٍ يُتيح فرصةً للآخر المختلف عنهم بشرعية الوجود قبالتهم، وذلك بعودة الرفاعي إلى المتن الأصل متمثّلا بالقرآن الكريم، بالدرجة الأساس، وهذه الإحالة تضمن لصاحبها عدم الوقوع "في شباك التفسيرات والمرويّات المتراكمة، وأنْ يعتمد القرآن مرجعيةً يستكشف في هديها صورة الله، ومنطق الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها" (ص: 28) وهذه العودة لا يُفهم منها الانكفاء على أدوات التفسير التي تبنّاها السلف من المفسِّرين، وسار على نهجهم كثير من المعاصرين، وإلا لم تكن النتيجة بأفضل مما توصّل إليه السلف، من غلبة "لغة العنف على لغة الرحمة، وأهدر كثيرون من مفسري القرآن وفقهاء الإسلام كل هذا الرصيد الدلالي المكثّف للرحمة، وصارت فاعلية دلالة آية السيف في القرآن مضافًا إلى ما تتسع له مصنّفات الحديث من روايات تعضِّد مضمونها، هي الأشد أثرًا والأوسع حضورًا في القول والفعل في الحياة السياسية لمجتمعات عالم الإسلام" (ص: 28) بل العودة بفهم لا يُشيح النظر عن المعارف الإنسانية التي أخذت حيّزها في ساحة الفكر، إيمانًا منه بأنَّ الخطاب الديني خطابٌ ينتمي لكل عصر، من حيث الفهم والتلقّي، ولا ينتهي فهمه عند من نزل عليهم ذلك الخطاب، وإلا عاش غريبًا بعيدًا عن هموم الناس وإيقاع الحياة المتطوِّر.
د. وسام حسين العبيدي
لا يخرج قارئ #عبدالجبار_الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو الهدف والغاية من بعثة الأنبياء والمرسلين، وبهذا لا بدّ من أنْ يكون النصُّ الديني في خدمة القيم الإنسانية لدى الإنسان، وليس العكس، بما وجدناه عند كثير من الذين أرادوا قلب المعادلة، عبر تأويلات تعسّفت بالنص الديني، وأبعدته عن غايته الأساس، بما آل إليه حال كثير من الجماعات والمذاهب والتيارات على مدى التاريخ، كان لأصحابها قراءاتهم للمدوّنة الدينية، بما ينسجم وتطلّعات تلك الجماعة أو ذلك المذهب، وكانت النتيجة أنْ صُودِر النص الديني من غايته الأساس في رفع مناسيب القيم الأخلاقية لدى البشر، والارتقاء بنزعاتهم لما فيه خير الإنسان بغضِّ النظر عن انتماءاتهم أو توجّهاتهم، وهنا يطرق الرفاعي نواقيس الخطر في كتابه المهم "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" بالتحذير من هذه القضية، عبر منافذ عدّة، كان أولها في مبحثٍ بعنوان: (الرحمة الإلهية مفتاح فهم القرآن) بادئًا بالقول فيه: "الرحمةُ صوتُ الله، ومعيار إنسانية الدين. لا يُؤتي الدينُ ثمارَهُ ما لم يكن تجربةً إيمانيةً تنبضُ فيها روح المؤمن بالرحمة. الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين، فكلُّ دينٍ مفرغٍ من الرحمة يفتقد رسالته الإنسانية" (ص: 17) وهذه الخلاصة التي يُقدمها لنا الرفاعي تُمثِّل الأساس الذي يُعوِّل عليه في تحريك المشهد المُلبّد بغيوم التباغض المُعلن عنها أو المخفيّ في قراءات ممثِّلي الجماعات الدينية والمذهبيّة – أيًّا كان ذلك الدين أو المذهب - ومن خلال تلك القراءات الأحادية، يتخندق كلُّ جماعةٍ بما لديهم من متاريس خطابيّة تؤثِّل وجودهم على حساب نسف المختلف عنهم، من دون مراعاة لأثر التجربة الفرديّة في تلقّي التعاليم الدينية، وبعبارةٍ أخرى: إنَّ إقصاء "الرحمة" وتمثّلاتها الدلالية: التسامح، التعايش، السِلْم، قبول الآخر، محدودية فهم الإنسان، ونسبية الوعي، على مستوى خطاب ممثِّلي الجماعات والمذاهب في المجال الديني، سببٌ في بقاء الدين غير فاعلٍ على المستوى التطبيقي عند هذه الجماعات، وجعله محدود المجال، الأمر الذي آل إليه حال كثير من المجتمعات المتديّنة، من تفشّي الأمراض الأخلاقية من كذبٍ ونفاق، وشهادة زور، ومن دجل، ومن طائفية وتعصّب مذهبي مقيت عند الأعم الأغلب من أتباع الأديان والمذاهب؛ لتجرُّد الدين من أهمِّ رسالة يُبشِّر بها ويدعو الناس إلى اعتناقها متمثِّلةً بالرحمة، وبافتقادها يخبرنا الرفاعي، أنَّ الدين يفتقد رسالته الإنسانية، التي من دونها لا يكون سوى خطابٍ يدعو إلى الكراهية وإلى العنف، وإلى نبذ الآخر المختلف، وإلى الانكماش حول الفهم السلفي للمتن الديني لقرونٍ خلت، بوصفه الأصل وما عداه فهو الخروج والضلال..! ومن هذا المنطلق، تناول الرفاعي بإسهابٍ وتفصيلٍ منطق "الفرقة الناجية" بوصفه أحد أبرز إفرازات إقصاء الرحمة وتمثّلاته الدلالية في الخطاب الديني، هذا المنطق الذي استدعاه وتبنّاه الأصوليون – لا بالمعنى الفقهي – المتشدِّدون، واعتاشوا على فتاته، وغيّبوا في طيّاته كلَّ موردٍ يُتيح فرصةً للآخر المختلف عنهم بشرعية الوجود قبالتهم، وذلك بعودة الرفاعي إلى المتن الأصل متمثّلا بالقرآن الكريم، بالدرجة الأساس، وهذه الإحالة تضمن لصاحبها عدم الوقوع "في شباك التفسيرات والمرويّات المتراكمة، وأنْ يعتمد القرآن مرجعيةً يستكشف في هديها صورة الله، ومنطق الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها" (ص: 28) وهذه العودة لا يُفهم منها الانكفاء على أدوات التفسير التي تبنّاها السلف من المفسِّرين، وسار على نهجهم كثير من المعاصرين، وإلا لم تكن النتيجة بأفضل مما توصّل إليه السلف، من غلبة "لغة العنف على لغة الرحمة، وأهدر كثيرون من مفسري القرآن وفقهاء الإسلام كل هذا الرصيد الدلالي المكثّف للرحمة، وصارت فاعلية دلالة آية السيف في القرآن مضافًا إلى ما تتسع له مصنّفات الحديث من روايات تعضِّد مضمونها، هي الأشد أثرًا والأوسع حضورًا في القول والفعل في الحياة السياسية لمجتمعات عالم الإسلام" (ص: 28) بل العودة بفهم لا يُشيح النظر عن المعارف الإنسانية التي أخذت حيّزها في ساحة الفكر، إيمانًا منه بأنَّ الخطاب الديني خطابٌ ينتمي لكل عصر، من حيث الفهم والتلقّي، ولا ينتهي فهمه عند من نزل عليهم ذلك الخطاب، وإلا عاش غريبًا بعيدًا عن هموم الناس وإيقاع الحياة المتطوِّر.
الحرية المعرفية في فهم الدين
من هذا المنطلق، دعا الرفاعي إلى التحرُّر من غلالة الفهم السلفي للخطاب الديني، مؤمنًا بقدرة المعارف الإنسانية وأثرها – فيما لو اضطلع الحكماء من الباحثين الذين قتلوا القديم فهمًا وانطلقوا منه لفهم المعاصر من المعارف والعلوم الحديثة – في استيلاد دلالات أُخَر لم يلتفت إليها السلف، وهذه الرغبة تكرّرت لدى الرفاعي في أكثر من مواطن من كتابه سالف الذكر. هذه الحرية المعرفية في فهم الدين لدى الرفاعي، لم تتأتَّ لديه إلا بعد قطعه شوطًا طويلاً مع المعارف التراثية في فهم الخطاب الديني وتلقّيه مثّلت حاضنته الأولى الحوزة، وبعد سبره تلك المعارف، لم يقف مكتوفَ الأيدي، بل انطلق يباشر ما جدَّ من معارف حديثة في ميدان الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والفكر العربي وتطبيقها في المجال الديني، منطلقًا في رؤيته تلك، أنَّ "أبديّة أيِّ نصٍّ مقدّسٍ تعني أنَّه نصٌّ ذو كثافةٍ دلالية، إذ تتعدَّدُ وتتنوَّعُ دلالاته تبعًا لتنوُّعِ ظروف الإنسان وأنماط حياته، وتبعًا لتنوُّع وتعدُّد سياقات التلقّي في العصور المختلفة. وإنَّ الخلطَ بين سياقات عصر البعثة وعصرنا يُخرِج القرآنَ من حياتنا، ذلك أنَّ سياقات تنزيله جاءت لتلبية احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مُجدَّدًا على الحياة، لتلبية احتياجات إنسان اليوم للمعنى الديني" (ص213) وإذ يُقرِّر الرفاعيُّ لنا هذه الحقيقة التي يؤمن بها، فهو في الوقت نفسه لا ينسى الضريبة التي تعرَّض لها أولئك الباحثون ممّن تناولوا النصَّ الدينيّ، عبر أدوات البحث التي استجدّت بفعل تطوُّر المعارف الإنسانية وتشعُّبها وتعمُّق مباحثها، فقد "واجهت مقاومة عنيفة، إذ نعتَها بعضهم بالعدوان على أمجاد الأمّة، ومحاولة طمس ماضيها المُشرِق، وجرى التشهير بكلِّ باحثٍ عَمَد إلى إفشاء أسرار عمليّات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشف عن محاولات حذف وإقصاء معتقدات لا تتناغم مع الآيديولوجيا التبجيلية التسلّطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمّش والمسكوت عنه، أو فضح سطوة وقمع السائد والمتغلِّب في التراث، وهكذا فإنَّ كلَّ قراءةٍ للنصِّ الديني تتخطّى التفسيرات المُغلقة القديمة لا تمرُّ من دون ضريبة" (ص212). ولا يخفى ما نتحصّله عبر هذا المقتبس من احتجاجٍ بليغ يضعه الرفاعي بين يدينا، على أولئك الذين تمثّلوا موقف الدفاع الأعمى عن التراث، بما تسبّبَ في هدر مساحة العقل والتفكير العقلاني في النص الديني، في الوقت نفسه يكون مثل هذا الموقف "المتزمِّت" سببًا لقطع أوردة سيرورة النص وإدامة تفاعله مع المتلقّي، بحكم ما أُحيطَ به من قراءات احتكرت دلالته دون سواها، وهي في كل الأحوال تبقى قراءاتٍ مرتهنة لظرفها التاريخي. وإذا أردنا القبض على فكرة الكتاب الرئيسة من بحوثه التي تعدّدت، بمقتضى كون بعضها تمّ نشره فيما سبق منفردًا بوصفها أوراق مؤتمرات، فإنَّ فكرة الحرّية/ التحرُّر لم تُغادر مبحثًا واحدًا من مباحث هذا الكتاب، إذ نجدها تلوحُ لنا في كل مبحثٍ عبر تمثُّلاتٍ متنوّعة، يظهر بعضها بصورة مباشرة عبر دعوته إلى ضرورة "الرحمة الإلهية بوصفها مفتاح فهم القرآن" ولا يخفى أنَّ تبنّي هذه الفكرة يدعو للتحرُّر من العصبية التي تحيط كل جماعة من الجماعات الدينية، فالرحمة في حال تبنّيها تكسح ما تكلّسَ من قراءة ضيّقة للنصِّ الديني، وحصر دلالته الرحيبة بهذه الجماعة أو تلك، بإبطال الأحكام التي تفوِّض الحقّ والأولوية بفهم النص الديني، وإحلال الآخر المختلف مقامًا يليق بإنسانيته على أقل تقدير.
من هذا المنطلق، دعا الرفاعي إلى التحرُّر من غلالة الفهم السلفي للخطاب الديني، مؤمنًا بقدرة المعارف الإنسانية وأثرها – فيما لو اضطلع الحكماء من الباحثين الذين قتلوا القديم فهمًا وانطلقوا منه لفهم المعاصر من المعارف والعلوم الحديثة – في استيلاد دلالات أُخَر لم يلتفت إليها السلف، وهذه الرغبة تكرّرت لدى الرفاعي في أكثر من مواطن من كتابه سالف الذكر. هذه الحرية المعرفية في فهم الدين لدى الرفاعي، لم تتأتَّ لديه إلا بعد قطعه شوطًا طويلاً مع المعارف التراثية في فهم الخطاب الديني وتلقّيه مثّلت حاضنته الأولى الحوزة، وبعد سبره تلك المعارف، لم يقف مكتوفَ الأيدي، بل انطلق يباشر ما جدَّ من معارف حديثة في ميدان الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والفكر العربي وتطبيقها في المجال الديني، منطلقًا في رؤيته تلك، أنَّ "أبديّة أيِّ نصٍّ مقدّسٍ تعني أنَّه نصٌّ ذو كثافةٍ دلالية، إذ تتعدَّدُ وتتنوَّعُ دلالاته تبعًا لتنوُّعِ ظروف الإنسان وأنماط حياته، وتبعًا لتنوُّع وتعدُّد سياقات التلقّي في العصور المختلفة. وإنَّ الخلطَ بين سياقات عصر البعثة وعصرنا يُخرِج القرآنَ من حياتنا، ذلك أنَّ سياقات تنزيله جاءت لتلبية احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مُجدَّدًا على الحياة، لتلبية احتياجات إنسان اليوم للمعنى الديني" (ص213) وإذ يُقرِّر الرفاعيُّ لنا هذه الحقيقة التي يؤمن بها، فهو في الوقت نفسه لا ينسى الضريبة التي تعرَّض لها أولئك الباحثون ممّن تناولوا النصَّ الدينيّ، عبر أدوات البحث التي استجدّت بفعل تطوُّر المعارف الإنسانية وتشعُّبها وتعمُّق مباحثها، فقد "واجهت مقاومة عنيفة، إذ نعتَها بعضهم بالعدوان على أمجاد الأمّة، ومحاولة طمس ماضيها المُشرِق، وجرى التشهير بكلِّ باحثٍ عَمَد إلى إفشاء أسرار عمليّات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشف عن محاولات حذف وإقصاء معتقدات لا تتناغم مع الآيديولوجيا التبجيلية التسلّطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمّش والمسكوت عنه، أو فضح سطوة وقمع السائد والمتغلِّب في التراث، وهكذا فإنَّ كلَّ قراءةٍ للنصِّ الديني تتخطّى التفسيرات المُغلقة القديمة لا تمرُّ من دون ضريبة" (ص212). ولا يخفى ما نتحصّله عبر هذا المقتبس من احتجاجٍ بليغ يضعه الرفاعي بين يدينا، على أولئك الذين تمثّلوا موقف الدفاع الأعمى عن التراث، بما تسبّبَ في هدر مساحة العقل والتفكير العقلاني في النص الديني، في الوقت نفسه يكون مثل هذا الموقف "المتزمِّت" سببًا لقطع أوردة سيرورة النص وإدامة تفاعله مع المتلقّي، بحكم ما أُحيطَ به من قراءات احتكرت دلالته دون سواها، وهي في كل الأحوال تبقى قراءاتٍ مرتهنة لظرفها التاريخي. وإذا أردنا القبض على فكرة الكتاب الرئيسة من بحوثه التي تعدّدت، بمقتضى كون بعضها تمّ نشره فيما سبق منفردًا بوصفها أوراق مؤتمرات، فإنَّ فكرة الحرّية/ التحرُّر لم تُغادر مبحثًا واحدًا من مباحث هذا الكتاب، إذ نجدها تلوحُ لنا في كل مبحثٍ عبر تمثُّلاتٍ متنوّعة، يظهر بعضها بصورة مباشرة عبر دعوته إلى ضرورة "الرحمة الإلهية بوصفها مفتاح فهم القرآن" ولا يخفى أنَّ تبنّي هذه الفكرة يدعو للتحرُّر من العصبية التي تحيط كل جماعة من الجماعات الدينية، فالرحمة في حال تبنّيها تكسح ما تكلّسَ من قراءة ضيّقة للنصِّ الديني، وحصر دلالته الرحيبة بهذه الجماعة أو تلك، بإبطال الأحكام التي تفوِّض الحقّ والأولوية بفهم النص الديني، وإحلال الآخر المختلف مقامًا يليق بإنسانيته على أقل تقدير.
تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة
أما المبحث الذي يليه، فكان بعنوان: "تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة" فهو أيضًا يتحرّر من التصورات السلفية لمفهوم الدولة، مستفيدًا من توصّلات المعارف الحديثة، وفي مقدمتها علم الاجتماع السياسي، بأن الدولة "ظاهرة حيّة، تنمو وتتطوّر مفاهيمها، ويُعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوُّعها عبر الزمان" (ص: 46)، بما يفرض على الباحث إعادة النظر في المُسلّمات، وإخضاعها لمشرط البحث وأداوته الإجرائية، بعيدًا عن النظرة الطوباوية التي انطلق منها كبار فقهاء العصر الحديث في تصدِّيهم لعرض هذا المفهوم، ولما كانت الدولة لدى الرفاعي "ظاهرة اجتماعية مركّبة، إنها أهم وأعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان، فقد احتاجت البشرية، من خلال مسيرتها الطويلة في تاريخها، إلى آلاف التجارب الفاشلة، حتى استطاعت أن تبتكر ظاهرة الدولة" (ص: 45)، وهو تصوُّرٌ ينطلق من حيثيات التاريخ ووقائعه، وما أدلى به علم الاجتماع بهذا الشأن، في حين تجد التصور التوفيقي المخالف لهذا الطرح ينطلق من قامة شامخة متمثّلة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر في حديثه عن مفهوم الدولة، بأنها "ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال" (الإسلام يقود الحياة: 3- 4)، بما يفرض على الباحث المنصف عبر هذا التصوُّر، التوصل لما استنتجه الراحل فالح عبد الجبار، بأن "منشأ الدولة ليس اجتماعيًّا، بل سماويًّا، وأنّها ليست أصيلة، بل مستحدثة" (المادية والفكر الديني – نظرة نقدية: 40)، وهذا الاستنتاج بعيدٌ كل البعد عن الواقع التاريخي أو ما يقرّه علم الاجتماع في هذا الشأن. ولو لم يكن الرفاعي متحرّرًا في وعيه، وفي اطّلاعه المعرفي خارج أروقة الدرس الديني التقليدي، لما كان له أنْ يُغادر تصوّر مدرسة الصدر الفكرية، بما له من ثقلٍ معرفيٍّ في هذا الوسط، ناهيك عن خارجه، ولكان له أنْ يكتفي بترديد مقولاته، إن لم نفترض ترسيخ تلك المقولات والتدليل على صوابها لا أكثر.
في الحاجة إلى إنسانية إيمانية
في المبحث الذي يليه، كان العنوان: (في الحاجة إلى إنسانية إيمانية) لم يُغادر الرفاعي تلك النزعة – الحُرّية الفكرية – في استجلاء قراءةٍ جديدة لـ "أنسنة الدين" تختلف عن سابقيه الذين تناولوا الدين كأيّة ظاهرة بشريّة مقطوعة الصلة عن طبيعة وجود البشر، وتنصيب الإنسان بديلاً لله في كل شيء، في قبال الطرف الذي ينسى قيمة الإنسان ويُقصي كينونته ومتطلّبات تلك الكينونة البشرية على حساب الدين، تتمثّل قراءته لهذا المفهوم، بإنقاذ/ تحرير "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، بعد ضياعه في دينٍ سياسيٍّ لا يعرف الكثير عن هذا المعنى ولا يسعى لامتلاكه، ودينٍ فقهيٍّ يختزل الدين في مدوّنة أحكام قانونيةٍ تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودينٍ كلاميٍّ يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومُحاججات عقيمة تُميت القلب وتُطفئ شعلة الروح" (ص: 74) ونظرةُ الرفاعي في استجلاء هذا المفهوم – أنسنة الدين – تحاول أنْ توازن بين الطرفين، بأنْ تنشد دينًا لا يقطع الصلة بالله، مثلما لا يجهل الطبيعة البشرية، وهو في ذلك البحث يقف منتقدًا "النزعة الاستصحابية" لدى الكثير من دارسي القرآن الكريم، ممّن انشغل بالتفسيرات والتأويلات القديمة له، على حساب الرجوع للنص القرآني، بما صار استيعابها وهضمها الهمَّ الأساسي لأولئك الدارسين، متناسين "أنَّ كل هذه القراءات هي هوامشٌ وشروحٌ واجتهادات الآباء في فهم النص وتفسيره، وهي ليست إلا تمثّلات بشريةً للقرآن تنتمي لأفقها التاريخي، حدودُها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكلُّ ما كان يسود العصر الذي أُنتِجت في فضائه" (ص: 78) بما أدى ذلك المآل – بحسب تعبيره- إلى نسيان الإنسان، بإنتاج قراءة مغلقة للنصوص الدينية، لم تكتف بنفي الإنسان وإقصائه باسم الله، بل أقصت مكانة الحياة الدنيا والتمتع بها باسم الآخرة، ونفت العمران البشري باسم العبادة، والذات باسم التكليف، والاخلاق باسم الفقه، والحريّات باسم العبودية لله، وحقوق الإنسان باسم حقوق الله، منتهيًا ذلك النفي بمحو الصورة الروحانية والرحمانية لله باسم التمسُّك بدين السَلَف ومُحاربة البِدَع والمستحدثات.
أما المبحث الذي يليه، فكان بعنوان: "تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة" فهو أيضًا يتحرّر من التصورات السلفية لمفهوم الدولة، مستفيدًا من توصّلات المعارف الحديثة، وفي مقدمتها علم الاجتماع السياسي، بأن الدولة "ظاهرة حيّة، تنمو وتتطوّر مفاهيمها، ويُعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوُّعها عبر الزمان" (ص: 46)، بما يفرض على الباحث إعادة النظر في المُسلّمات، وإخضاعها لمشرط البحث وأداوته الإجرائية، بعيدًا عن النظرة الطوباوية التي انطلق منها كبار فقهاء العصر الحديث في تصدِّيهم لعرض هذا المفهوم، ولما كانت الدولة لدى الرفاعي "ظاهرة اجتماعية مركّبة، إنها أهم وأعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان، فقد احتاجت البشرية، من خلال مسيرتها الطويلة في تاريخها، إلى آلاف التجارب الفاشلة، حتى استطاعت أن تبتكر ظاهرة الدولة" (ص: 45)، وهو تصوُّرٌ ينطلق من حيثيات التاريخ ووقائعه، وما أدلى به علم الاجتماع بهذا الشأن، في حين تجد التصور التوفيقي المخالف لهذا الطرح ينطلق من قامة شامخة متمثّلة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر في حديثه عن مفهوم الدولة، بأنها "ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال" (الإسلام يقود الحياة: 3- 4)، بما يفرض على الباحث المنصف عبر هذا التصوُّر، التوصل لما استنتجه الراحل فالح عبد الجبار، بأن "منشأ الدولة ليس اجتماعيًّا، بل سماويًّا، وأنّها ليست أصيلة، بل مستحدثة" (المادية والفكر الديني – نظرة نقدية: 40)، وهذا الاستنتاج بعيدٌ كل البعد عن الواقع التاريخي أو ما يقرّه علم الاجتماع في هذا الشأن. ولو لم يكن الرفاعي متحرّرًا في وعيه، وفي اطّلاعه المعرفي خارج أروقة الدرس الديني التقليدي، لما كان له أنْ يُغادر تصوّر مدرسة الصدر الفكرية، بما له من ثقلٍ معرفيٍّ في هذا الوسط، ناهيك عن خارجه، ولكان له أنْ يكتفي بترديد مقولاته، إن لم نفترض ترسيخ تلك المقولات والتدليل على صوابها لا أكثر.
في الحاجة إلى إنسانية إيمانية
في المبحث الذي يليه، كان العنوان: (في الحاجة إلى إنسانية إيمانية) لم يُغادر الرفاعي تلك النزعة – الحُرّية الفكرية – في استجلاء قراءةٍ جديدة لـ "أنسنة الدين" تختلف عن سابقيه الذين تناولوا الدين كأيّة ظاهرة بشريّة مقطوعة الصلة عن طبيعة وجود البشر، وتنصيب الإنسان بديلاً لله في كل شيء، في قبال الطرف الذي ينسى قيمة الإنسان ويُقصي كينونته ومتطلّبات تلك الكينونة البشرية على حساب الدين، تتمثّل قراءته لهذا المفهوم، بإنقاذ/ تحرير "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، بعد ضياعه في دينٍ سياسيٍّ لا يعرف الكثير عن هذا المعنى ولا يسعى لامتلاكه، ودينٍ فقهيٍّ يختزل الدين في مدوّنة أحكام قانونيةٍ تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودينٍ كلاميٍّ يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومُحاججات عقيمة تُميت القلب وتُطفئ شعلة الروح" (ص: 74) ونظرةُ الرفاعي في استجلاء هذا المفهوم – أنسنة الدين – تحاول أنْ توازن بين الطرفين، بأنْ تنشد دينًا لا يقطع الصلة بالله، مثلما لا يجهل الطبيعة البشرية، وهو في ذلك البحث يقف منتقدًا "النزعة الاستصحابية" لدى الكثير من دارسي القرآن الكريم، ممّن انشغل بالتفسيرات والتأويلات القديمة له، على حساب الرجوع للنص القرآني، بما صار استيعابها وهضمها الهمَّ الأساسي لأولئك الدارسين، متناسين "أنَّ كل هذه القراءات هي هوامشٌ وشروحٌ واجتهادات الآباء في فهم النص وتفسيره، وهي ليست إلا تمثّلات بشريةً للقرآن تنتمي لأفقها التاريخي، حدودُها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكلُّ ما كان يسود العصر الذي أُنتِجت في فضائه" (ص: 78) بما أدى ذلك المآل – بحسب تعبيره- إلى نسيان الإنسان، بإنتاج قراءة مغلقة للنصوص الدينية، لم تكتف بنفي الإنسان وإقصائه باسم الله، بل أقصت مكانة الحياة الدنيا والتمتع بها باسم الآخرة، ونفت العمران البشري باسم العبادة، والذات باسم التكليف، والاخلاق باسم الفقه، والحريّات باسم العبودية لله، وحقوق الإنسان باسم حقوق الله، منتهيًا ذلك النفي بمحو الصورة الروحانية والرحمانية لله باسم التمسُّك بدين السَلَف ومُحاربة البِدَع والمستحدثات.
وهكذا شأن المباحث الأخرى من هذا الكتاب، لم يكن الرفاعي فيها إلا صاحب قراءةٍ تنبع من فهمه الإنساني للدين، مُتحرِّرًا فيها من غلالة الفهم السلفي لتلك المقولات والمفاهيم والقضايا الإشكالية التي عالجها السابقون، وكأنَّه أراد أنْ يقول لنا في كلِّ مباحث كتابه الجليل في فكرته، أنَّ اغتراب الدين لم يكن من أصل الدين، بل من الفهم الأحادي للدين، عبر مقولاتٍ لا تخرج من ظرفها التاريخي، ولا تصمد لتكون متراسًا لصدِّ كلِّ قراءةٍ تغاير ذلك التوجُّه السَلفي، لبُعدها عن روح النصِّ، بما شكّلت تلك القراءات حاجزًا يحول بين الدين والغاية التي ينبغي له أنْ يؤدّيها، ونتج عنها ذلك الاغتراب، فحاول مؤلِّف الكتاب أنْ يؤسِّسَ فهمًا للدين لا يُكرِّر ما تداولته الدراسات الحديثة "الناقمة" على الدين، ورؤيتها له بأنّه "وهم" أو "مُخدِّر" أو "تراث" أو "مرحلة من مراحل الوعي البشري" في الوقت الذي لا يُعيد تبني المقولات الوثوقية للسلف في فهم الدين، باحتكارهم تمثيل الله في الأرض، وأنّهم المخوّلون الحصريّون للتحدّث باسمه، ومن هذا المنطلق يُطلق الرفاعي دعوته لهؤلاء "إلى أنْ يكفّوا عن مطاردة الناس باسم الله، وانتهاك كراماتهم، والتضحية بحقوقهم وحرياتهم، باسم الدفاع عن الله، وحماية الدين والتديّن (فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين) وقد خلق الناس أحرارًا، والحرّية ضرورةٌ دينية، يفرضها انبعاث حياة روحية وأخلاقية صادقة لا يُلوِّثها نفاق، وهي شرطٌ لكل تديُّنٍ حر" (ص: 14) وبهذا يتأكّد للقارئ أنَّ الحرّية الفكريّة كانت الرائد الأساس في فهم الرفاعي للدين وبيان غاياته وأهدافه، بما ينسجم وتطلّعات الإنسان ومحدودية فهمه، وارتهانه لظرف الزمان والمكان، وما يُمثِّل وجوده الإنساني والفكري، من خلال الانفتاح على المناهج الحديثة في العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية وتطبيقها على فهم الدين وقراءة النصوص الدينية، وهذا بحسب رأيي ما كان يدعو الرفاعي لتحقيقه في فهمنا للدين وإنقاذه من غربته التي تزداد يومًا بعد آخر، بفعل سوء فهم التعامل البشري معه بين إفراطٍ وتفريط.
https://al-aalem.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%B2%D8%B9%D9%8B%D8%A7-%D8%A3%D8%B5%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A/
https://al-aalem.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%B2%D8%B9%D9%8B%D8%A7-%D8%A3%D8%B5%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A/
Al-Aalem
الحريّة منزعًا أصيلاً في فكر الرفاعي
الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين لا يخرج قارئ عبد الجبار الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو…
مكتباتنا أرشيف ذكرياتنا
عبدالجبار الرفاعي
بعضُ الورثة يتخلّصون عاجلًا من مكتبات الآباء فيبادرون لعرضِها في المزاد، أو طردِها بطريقةٍ مهينة من مأواها. نقل لي أحدُ الأصدقاء واقعةً مأساوية لمصير مكتبة قيِّمة لأحد تجار بغداد بداية القرن الماضي، يقول: كان هذا التاجرُ من عشّاق الكتاب، لديه خبرةٌ جيدة بالكتب والمؤلفين، يقتني المطبوعاتِ والمخطوطاتِ النفيسة، وكان ضنينًا بالإعارة، لا يسمحُ أن يخرجَ أيُّ كتاب من بيته. ظلّ يتربص بعضُ أصدقائه يوم وفاته، عسى أن يستعيروا كتبًا بحاجة إليها من ورثته، بعد مضي أيامٍ قليلة على وفاته ذهبوا للأبناء لاستعارة ما هم بحاجةٍ ماسة إليه، فقال الورثة: ليتكم جئتم أبكر، بعد فراغنا من عزاء الوالد كنا بحاجةٍ ماسة لتفريغ غرفِ المكتبة، فوضعنا كلَّ الكتب في أكياسِ بضائعَ كبيرةٍ وألقيناها في نهر دجلة….
تتة المقال على هذا الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
عبدالجبار الرفاعي
بعضُ الورثة يتخلّصون عاجلًا من مكتبات الآباء فيبادرون لعرضِها في المزاد، أو طردِها بطريقةٍ مهينة من مأواها. نقل لي أحدُ الأصدقاء واقعةً مأساوية لمصير مكتبة قيِّمة لأحد تجار بغداد بداية القرن الماضي، يقول: كان هذا التاجرُ من عشّاق الكتاب، لديه خبرةٌ جيدة بالكتب والمؤلفين، يقتني المطبوعاتِ والمخطوطاتِ النفيسة، وكان ضنينًا بالإعارة، لا يسمحُ أن يخرجَ أيُّ كتاب من بيته. ظلّ يتربص بعضُ أصدقائه يوم وفاته، عسى أن يستعيروا كتبًا بحاجة إليها من ورثته، بعد مضي أيامٍ قليلة على وفاته ذهبوا للأبناء لاستعارة ما هم بحاجةٍ ماسة إليه، فقال الورثة: ليتكم جئتم أبكر، بعد فراغنا من عزاء الوالد كنا بحاجةٍ ماسة لتفريغ غرفِ المكتبة، فوضعنا كلَّ الكتب في أكياسِ بضائعَ كبيرةٍ وألقيناها في نهر دجلة….
تتة المقال على هذا الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
جريدة الزوراء العراقية
أقسـام الموقع
موقع صحيفة عراقية منذ 1957
الهويَّة في حالة صيرورة وتشكّل
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة بطبيعتها علائقية، لا توجد في فراغ، انها نسيج صلات متشابكة، وصيرورة مستمرة تتحقق بها أنماط وجودها.
الهويَّة ليست صخرة جامدة، الهويَّة الحيّة ديناميكية، تتفاعل وتنفعل، تستقي من غيرها وتسقي غيرها، تأخذ وتعطي، ويعاد تشكّلها على الدوام عبر الاستيعاب والتمثل.
تتشكل الهويَّة الحيّة تبعًا لكيفية صلاتها وعلاقاتها بالهويات الأخرى الموازية لها، فهي تصاغ في سياق: تضادها، تضامنها، تسوياتها، تساكنها، مع الهويات الأخرى. ففي سياق تضادها تتحقّق الهويَّة بإعادة تعريف ذاتها، كي تستجيب لنزوعها للتفرد والتميز، فتعمل على اكتشاف وتكريس مزاياها وميزاتها الثقافيَّة والرمزية والحضارية، وتحاول تكريس ما هو حاضر منها، وإحياء ما هو منسي وما يمكن إحياؤه وتنميته منها. في سياق تضامنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تتعلم فيها من هويات ديناميكية خلّاقة، استطاعت أن تراكم منجزات معرفية وعلمية وتكنولوجية وثقافيَّة وحضارية، فرضت حضورها عالميًا، فتبحث الهويَّة عن المشتركات وما يمكن أن تتمثله ويدخل في نسيجها منها، من غير أن تنصهر في تلك الهويَّة الأخرى. وفي سياق التسويات تتحقّق الهويَّة بكيفية تتفادى فيها الصدام والصراعات المسلحة مع الهويات المنافسة، وتتمرن على سياسة الاحتواء ما أمكنها ذلك، ولا تتورط في المواقف الصفرية، التي تخسر فيها كل شيء. وفي سياق تساكنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تعيد فيها تعريف ذاتها، واكتشاف حدودها بوضوح وحدود غيرها من الهويات المساكنة لها.
الهويَّة كائنٌ حيٌّ في حالة صيرورة مستمرة، وكل صيرورة تحوّل متواصل، لا تولد أية هويَّة ناجزة مكتملة، الهويَّة تتخلق عبر الزمن، في سياق علاقاتها بالهويات الأخرى، وتجاربها وخبراتها، وقدرتها على التفاعل الخلّاق مع غيرها، فكل تجربة في تفاعل للهويَّة مع هويَّة مختلفة دينيًا وعقائديًا وثقافيًا ولغويًا تترك بصمتها في بناء هذه الهويَّة وإعادة إنتاجها لذاتها. وكما تحدث النجاحات والانتصارات أثرها في تكامل الهويَّة وتثريها، تحدث الصدمات العظمى والانكسارات والهزائم آثارها الموجعة وجروحها العميقة، عبر استفزاز الهويَّة الحيّة إلى إعادة النظر في: رؤيتها للعالم، وثقافتها، ومفاهيمها الأساسية، فتسارع إلى تفكيكها ونقدها وتمحيصها، والتحرر مما قادها لهذه الصدمات والانكسارات بشجاعة.
الهويَّة كائنٌ اجتماعيٌّ ثقافيٌّ لغويٌّ سياسيٌّ متحوّل، تعيش الهويَّة في عالمٍ تتفاعل وتتصادم فيه هويات متعددة متنوعة. لا تستطيع أية هويَّة عزل نفسها عمّا يجري حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع متسارع حاد التغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغيّر كل شيء فيما تظل الهويَّة ساكنة. مهما حاولت الهويَّة أن تسجن نفسها في محيط خاص بها تفشل، وفي هذا العصر الرقمي يصير فشلها حتميًا، فهي أمام خيارين: أما أن تواكب ايقاع الواقع، أو تنسحب منه وتنكفئ في متحف الهويات القابعة في متحف التاريخ.
إذا تعطلت ديناميكيَّة تفاعل الهويَّة مع العالم الذي تعيش فيه، وعاندت الواقع، وأنكرت ما يجري من حولها، فإنها تنغلق على نفسها، وتنكمش وتتصلب، وتندثر وتنسحب من العالم في خاتمة المطاف. ممانعة الهويَّة ومكوثها في أنفاق الماضي تفضي إلى انسدادها وتحجرها، ومن ثم خروجها من العصر؛ ذلك أن كل هويَّة تفشل في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب إيقاع التحولات المتسارعة في الواقع، وتعجز عن الإسهام في بناء الواقع، يفرض عليها التاريخ أن تغيب، إذ إن كل من يعجز عن صناعة التاريخ لا محل له في ذاكرته.
بنية الهويَّة في عالمنا اليوم لم تعد بسيطة، بل صارت مركبة عميقة تتألف من سلسلة طبقات متنوعة المكونات، وتتزاحم عليها صور متعددة. لا تلبث مكوناتها على الدوام في سلم ترتيبها، ولا تمكث في مواقعها، ولا تقف الصور المتعاقبة عليها عند صورة واحدة، لذلك تتطلب معرفتها تفكيرًا صبورًا، يتوغّل في طبقاتها، ويحلّل عناصرها، ويضيء صورها المتلاحقة. تسارعَ تحوّل الهويَّة في عصر الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية وتكنولوجيا النانو والمنعطفات والقفزات الهائلة في العلوم المختلفة والتكنولوجيات الجديدة، فقد تعددت وجوه الهويَّة وتنوعت أبعادها.
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة بطبيعتها علائقية، لا توجد في فراغ، انها نسيج صلات متشابكة، وصيرورة مستمرة تتحقق بها أنماط وجودها.
الهويَّة ليست صخرة جامدة، الهويَّة الحيّة ديناميكية، تتفاعل وتنفعل، تستقي من غيرها وتسقي غيرها، تأخذ وتعطي، ويعاد تشكّلها على الدوام عبر الاستيعاب والتمثل.
تتشكل الهويَّة الحيّة تبعًا لكيفية صلاتها وعلاقاتها بالهويات الأخرى الموازية لها، فهي تصاغ في سياق: تضادها، تضامنها، تسوياتها، تساكنها، مع الهويات الأخرى. ففي سياق تضادها تتحقّق الهويَّة بإعادة تعريف ذاتها، كي تستجيب لنزوعها للتفرد والتميز، فتعمل على اكتشاف وتكريس مزاياها وميزاتها الثقافيَّة والرمزية والحضارية، وتحاول تكريس ما هو حاضر منها، وإحياء ما هو منسي وما يمكن إحياؤه وتنميته منها. في سياق تضامنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تتعلم فيها من هويات ديناميكية خلّاقة، استطاعت أن تراكم منجزات معرفية وعلمية وتكنولوجية وثقافيَّة وحضارية، فرضت حضورها عالميًا، فتبحث الهويَّة عن المشتركات وما يمكن أن تتمثله ويدخل في نسيجها منها، من غير أن تنصهر في تلك الهويَّة الأخرى. وفي سياق التسويات تتحقّق الهويَّة بكيفية تتفادى فيها الصدام والصراعات المسلحة مع الهويات المنافسة، وتتمرن على سياسة الاحتواء ما أمكنها ذلك، ولا تتورط في المواقف الصفرية، التي تخسر فيها كل شيء. وفي سياق تساكنها تتحقّق الهويَّة بكيفية تعيد فيها تعريف ذاتها، واكتشاف حدودها بوضوح وحدود غيرها من الهويات المساكنة لها.
الهويَّة كائنٌ حيٌّ في حالة صيرورة مستمرة، وكل صيرورة تحوّل متواصل، لا تولد أية هويَّة ناجزة مكتملة، الهويَّة تتخلق عبر الزمن، في سياق علاقاتها بالهويات الأخرى، وتجاربها وخبراتها، وقدرتها على التفاعل الخلّاق مع غيرها، فكل تجربة في تفاعل للهويَّة مع هويَّة مختلفة دينيًا وعقائديًا وثقافيًا ولغويًا تترك بصمتها في بناء هذه الهويَّة وإعادة إنتاجها لذاتها. وكما تحدث النجاحات والانتصارات أثرها في تكامل الهويَّة وتثريها، تحدث الصدمات العظمى والانكسارات والهزائم آثارها الموجعة وجروحها العميقة، عبر استفزاز الهويَّة الحيّة إلى إعادة النظر في: رؤيتها للعالم، وثقافتها، ومفاهيمها الأساسية، فتسارع إلى تفكيكها ونقدها وتمحيصها، والتحرر مما قادها لهذه الصدمات والانكسارات بشجاعة.
الهويَّة كائنٌ اجتماعيٌّ ثقافيٌّ لغويٌّ سياسيٌّ متحوّل، تعيش الهويَّة في عالمٍ تتفاعل وتتصادم فيه هويات متعددة متنوعة. لا تستطيع أية هويَّة عزل نفسها عمّا يجري حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع متسارع حاد التغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغيّر كل شيء فيما تظل الهويَّة ساكنة. مهما حاولت الهويَّة أن تسجن نفسها في محيط خاص بها تفشل، وفي هذا العصر الرقمي يصير فشلها حتميًا، فهي أمام خيارين: أما أن تواكب ايقاع الواقع، أو تنسحب منه وتنكفئ في متحف الهويات القابعة في متحف التاريخ.
إذا تعطلت ديناميكيَّة تفاعل الهويَّة مع العالم الذي تعيش فيه، وعاندت الواقع، وأنكرت ما يجري من حولها، فإنها تنغلق على نفسها، وتنكمش وتتصلب، وتندثر وتنسحب من العالم في خاتمة المطاف. ممانعة الهويَّة ومكوثها في أنفاق الماضي تفضي إلى انسدادها وتحجرها، ومن ثم خروجها من العصر؛ ذلك أن كل هويَّة تفشل في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب إيقاع التحولات المتسارعة في الواقع، وتعجز عن الإسهام في بناء الواقع، يفرض عليها التاريخ أن تغيب، إذ إن كل من يعجز عن صناعة التاريخ لا محل له في ذاكرته.
بنية الهويَّة في عالمنا اليوم لم تعد بسيطة، بل صارت مركبة عميقة تتألف من سلسلة طبقات متنوعة المكونات، وتتزاحم عليها صور متعددة. لا تلبث مكوناتها على الدوام في سلم ترتيبها، ولا تمكث في مواقعها، ولا تقف الصور المتعاقبة عليها عند صورة واحدة، لذلك تتطلب معرفتها تفكيرًا صبورًا، يتوغّل في طبقاتها، ويحلّل عناصرها، ويضيء صورها المتلاحقة. تسارعَ تحوّل الهويَّة في عصر الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية وتكنولوجيا النانو والمنعطفات والقفزات الهائلة في العلوم المختلفة والتكنولوجيات الجديدة، فقد تعددت وجوه الهويَّة وتنوعت أبعادها.
جريدة الصباح
الهويَّة في حالة صيرورة وتشكّل » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة…
الواقع الشديد التحوّل يفرض عليها أن تصير سيّالة متغيّرة، تتعدد عناصرها وتتنوّع مكوناتها تبعًا لتعدد وتنوع إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتحوّل، لذلك يفرض الواقع الراهن على الهويَّة التي تتشبث بالبقاء طريقة للعيش تواكب إيقاعه، كي تبقى مسجلة على قيد الحياة، وإن كانت هذه المواكبة قلقة مضطربة مشوهة هشّة في مجتمعاتنا. لا خيار للهويَّة إلا أن تخرج من قوقعتها، كي لا يمحو وجودها واقع يتغيّر فيه كل شيء، ولتحتفظ بشيء من عناصر البقاء، حتى لو كانت مضطربة مشوشة.
الهويَّة المفتوحة تتفاعل مع الهويات المتنوعة بلا وجل، وبما أنها في حالة تشكّل متواصلة فهي في حالة تعلّم واستكشاف أبدي، لا ترى للمعرفة مديات نهائية، ولا تراها قارة ساكنة، بل ترى المعرفة أفقًا مضيئًا لانهائيًا، يستمد فيه الإنسان قدرته على تطوير ذاته فردًا ومجتمعًا، وإثراء هويته وإنضاجها. ولا تدعي الهويَّة المفتوحة احتكار الحقيقة مثلما تفعل الهويَّة المغلقة، وإنما ترى الحقيقة وطرق الوصول إليها أوسع من أن تحتكرها هويَّة خاصة، أو يحتكرها عقل واحد. وذلك ما يجعل الهويَّة المفتوحة مستعدة لمسائلة ذاتها، ونبش أرشيفاتها، واكتشاف ثغراتها، والنظر لتاريخها بوصفه محكومًا بما يخضع له تاريخ المجتمعات من صعود وهبوط، وانتصارات وهزائم، وتقدم وتخلف، ولا تراه تاريخًا استثنائيًا متفردًا، يتفوق على المجتمعات البشريَّة في مختلف مراحله وعصوره. ويفرض على هذه الهويَّة وعيها النقدي التمييز بين محطات الإخفاق ومحطات التفوق، وتتعامل مع ما حدث في تاريخها بجسارة، ولا تلجأ للتنكر لما حدث فيه من مظالم واضطهادات للمختلف أحيانًا والتنكيل به. الإنسان الذي يتربى في سياق هويَّة مفتوحة تتحلى شخصيته باحترام المختلف، وقبول التعددية الدينية والعقائدية والثقافيَّة واللغوية والإثنية في المجتمع، والقدرة على العيش في فضاء الاختلاف والتنوع، بلا شعور بالاصطفاء والتفوق على غيره، مهما كان دينه ومعتقده وإثنيته وثقافته ولغته.
https://alsabaah.iq/113752-.html
الهويَّة المفتوحة تتفاعل مع الهويات المتنوعة بلا وجل، وبما أنها في حالة تشكّل متواصلة فهي في حالة تعلّم واستكشاف أبدي، لا ترى للمعرفة مديات نهائية، ولا تراها قارة ساكنة، بل ترى المعرفة أفقًا مضيئًا لانهائيًا، يستمد فيه الإنسان قدرته على تطوير ذاته فردًا ومجتمعًا، وإثراء هويته وإنضاجها. ولا تدعي الهويَّة المفتوحة احتكار الحقيقة مثلما تفعل الهويَّة المغلقة، وإنما ترى الحقيقة وطرق الوصول إليها أوسع من أن تحتكرها هويَّة خاصة، أو يحتكرها عقل واحد. وذلك ما يجعل الهويَّة المفتوحة مستعدة لمسائلة ذاتها، ونبش أرشيفاتها، واكتشاف ثغراتها، والنظر لتاريخها بوصفه محكومًا بما يخضع له تاريخ المجتمعات من صعود وهبوط، وانتصارات وهزائم، وتقدم وتخلف، ولا تراه تاريخًا استثنائيًا متفردًا، يتفوق على المجتمعات البشريَّة في مختلف مراحله وعصوره. ويفرض على هذه الهويَّة وعيها النقدي التمييز بين محطات الإخفاق ومحطات التفوق، وتتعامل مع ما حدث في تاريخها بجسارة، ولا تلجأ للتنكر لما حدث فيه من مظالم واضطهادات للمختلف أحيانًا والتنكيل به. الإنسان الذي يتربى في سياق هويَّة مفتوحة تتحلى شخصيته باحترام المختلف، وقبول التعددية الدينية والعقائدية والثقافيَّة واللغوية والإثنية في المجتمع، والقدرة على العيش في فضاء الاختلاف والتنوع، بلا شعور بالاصطفاء والتفوق على غيره، مهما كان دينه ومعتقده وإثنيته وثقافته ولغته.
https://alsabaah.iq/113752-.html
جريدة الصباح
الهويَّة في حالة صيرورة وتشكّل » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي الهويَّة علائقيَّة بطبيعتها، تتحقق تبعا لأنماط صلاتها بالواقع، ويعاد تشكلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيد تكوينها في إطار ما يجري على الهويات الأخرى. الهويَّة تعني وجود هويَّة مقابلة لها، الهويَّة…
مصائر مكتباتنا
د. #عبدالجبار_الرفاعي
من المكتبات الشخصية الثمينة مكتبة الصديق د.رضوان السيد،كنت أزوره في بيته ببيروت، في زياراتي المتواصلة لهذه المدينة العشرين سنة الماضية.كان رضوان ومازال من أكثر الأصدقاء العرب دراية بالكتب والكتّاب باللغات العربية والألمانية والإنجليزية، ظل يلاحق كلَّ جديد، ويشتري أكثر من نسخة من الكتاب غالبًا، فضلا عن الهدايا التي تصله من دور النشر والمؤلفين والدوريات في لبنان والبلدان المختلفة. رأيته من أكرم الناس بالكتب، في كل زيارة يهديني ويهدي أصدقاءه مجموعة من الكتب والدوريات الممتازة. بيته يضيق على الرغم من سعته بما يضيفه من كتب بلغات يتقنها، قبل أكثر من عشر سنوات أخبرني بأنه اشترى مكانًا ببناية في بيروت ليأوي مكتبته. عرض عليّ في أحد زياراتي مشاهدة مكتبته في محلها الجديد، بهرتني المكتبة بتميزها وفرادة ما استوعبته من مؤلفات نوعية، مكتبة نادرة انتقاها عالم وباحث متمرّس في التراث الإسلامي والعلوم الإنسانية، وهو يواصل شغفه بتزويدها بما يستجدّ. بلغ رصيدها من الكتب والدوريات 120000 كتابًا ودورية،كما أخبرني رضوان في اللقاء الأخير في المؤتمر الفلسفي لبيت الزبير الثقافي بمسقط شهر أبريل 2024. حكى لي المصير المؤلم لمكتبته الفريدة، بعد ما حدث لبيروت في السنوات الأخيرة من تآكل بنى الدولة المدنية، وانهيار الاقتصاد والنظام المصرفي، واضطراره للهجرة والإقامة في أبوظبي. يقول رضوان: تعرضت المكتبة إلى تسرب شيء من مياه الأمطار إثر تشققات في السطح، فتضررت بعض الكتب، حاولت إنقاذها بترميم سطح البناية، لكن غيابي وإهمال المكتبة، جعلها ضحية تسرب مياه مرة أخرى، فقررت إهداءها إلى مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت وعرضتها عليهم، غير أنهم اعتذروا عن تسلمها على الرغم من نفائسها، لعدم توفر الفضاء الكافي في مخازن الكتب لاستيعاب مكتبة بهذه الضخامة. عرضتها على مكتبة جمعية المقاصد الإسلامية ببيروت فاعتذروا للسبب ذاته. وأخيرًا عرضتها على مكتبة جامعة القديس يوسف «اليسوعية» ببيروت فاعتذروا كذلك. كلهم قالوا: لا يتوفر المكان الذي يتسع لاستيعاب هذه الكمية من الكتب، فضلا عن تراجع استعمال الكتاب الورقي، ما دعاني لعرضها أخيرًا على مكتبة إحدى الجامعات في أبوظبي. هذه المكتبة من أندر المكتبات في نوعية كتبها المنتقاة بخبرة عارف بالكتب والمؤلفين، ولمعرفتي بالتكوين الأكاديمي الرصين لرضوان، وولعه بالقراءة والكتب والكتابة، ومواكبتي السنوات العشرين الأخيرة لنمو هذه المكتبة وتطور رصيدها، وحرصه الدائم على إثرائها. المصير الذي آلت إليه هذه المكتبة، دعاني للتفكير طويلًا بمصير مكتبتي، وهي تعادل ربع مكتبة #رضوان_السيد.
تتمة المقال على الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
د. #عبدالجبار_الرفاعي
من المكتبات الشخصية الثمينة مكتبة الصديق د.رضوان السيد،كنت أزوره في بيته ببيروت، في زياراتي المتواصلة لهذه المدينة العشرين سنة الماضية.كان رضوان ومازال من أكثر الأصدقاء العرب دراية بالكتب والكتّاب باللغات العربية والألمانية والإنجليزية، ظل يلاحق كلَّ جديد، ويشتري أكثر من نسخة من الكتاب غالبًا، فضلا عن الهدايا التي تصله من دور النشر والمؤلفين والدوريات في لبنان والبلدان المختلفة. رأيته من أكرم الناس بالكتب، في كل زيارة يهديني ويهدي أصدقاءه مجموعة من الكتب والدوريات الممتازة. بيته يضيق على الرغم من سعته بما يضيفه من كتب بلغات يتقنها، قبل أكثر من عشر سنوات أخبرني بأنه اشترى مكانًا ببناية في بيروت ليأوي مكتبته. عرض عليّ في أحد زياراتي مشاهدة مكتبته في محلها الجديد، بهرتني المكتبة بتميزها وفرادة ما استوعبته من مؤلفات نوعية، مكتبة نادرة انتقاها عالم وباحث متمرّس في التراث الإسلامي والعلوم الإنسانية، وهو يواصل شغفه بتزويدها بما يستجدّ. بلغ رصيدها من الكتب والدوريات 120000 كتابًا ودورية،كما أخبرني رضوان في اللقاء الأخير في المؤتمر الفلسفي لبيت الزبير الثقافي بمسقط شهر أبريل 2024. حكى لي المصير المؤلم لمكتبته الفريدة، بعد ما حدث لبيروت في السنوات الأخيرة من تآكل بنى الدولة المدنية، وانهيار الاقتصاد والنظام المصرفي، واضطراره للهجرة والإقامة في أبوظبي. يقول رضوان: تعرضت المكتبة إلى تسرب شيء من مياه الأمطار إثر تشققات في السطح، فتضررت بعض الكتب، حاولت إنقاذها بترميم سطح البناية، لكن غيابي وإهمال المكتبة، جعلها ضحية تسرب مياه مرة أخرى، فقررت إهداءها إلى مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت وعرضتها عليهم، غير أنهم اعتذروا عن تسلمها على الرغم من نفائسها، لعدم توفر الفضاء الكافي في مخازن الكتب لاستيعاب مكتبة بهذه الضخامة. عرضتها على مكتبة جمعية المقاصد الإسلامية ببيروت فاعتذروا للسبب ذاته. وأخيرًا عرضتها على مكتبة جامعة القديس يوسف «اليسوعية» ببيروت فاعتذروا كذلك. كلهم قالوا: لا يتوفر المكان الذي يتسع لاستيعاب هذه الكمية من الكتب، فضلا عن تراجع استعمال الكتاب الورقي، ما دعاني لعرضها أخيرًا على مكتبة إحدى الجامعات في أبوظبي. هذه المكتبة من أندر المكتبات في نوعية كتبها المنتقاة بخبرة عارف بالكتب والمؤلفين، ولمعرفتي بالتكوين الأكاديمي الرصين لرضوان، وولعه بالقراءة والكتب والكتابة، ومواكبتي السنوات العشرين الأخيرة لنمو هذه المكتبة وتطور رصيدها، وحرصه الدائم على إثرائها. المصير الذي آلت إليه هذه المكتبة، دعاني للتفكير طويلًا بمصير مكتبتي، وهي تعادل ربع مكتبة #رضوان_السيد.
تتمة المقال على الرابط:
alzawraapaper.com/content.php?id…
جريدة الزوراء العراقية
أقسـام الموقع
موقع صحيفة عراقية منذ 1957