إن هواجس الهُوية تحجب رؤيةَ الآخر، وتكرس الانغلاق على الذات، وتفضي إلى افتعال صورةٍ زائفة للذات والآخر، لا توجد إلا في المخيِّلة. يحلل إدغار موران ما ينجم عن ذلك بقوله: «تؤدي نزعةُ التمركز حول الذات إلى الكذب على الذات، وبالتالي إلى خداعها، وهذا شيء ناجم عن اللجوء إلى التبرير الذاتي، وإلى تزكية الذات، والميل نحو جعل الغير مصدر كل الشرور، سواء أكان هذا الغير عبارة عن غريب أو قريب لنا … إن عدم فهم الذات هو مصدر هام جدًّا لعدم فهم الغير، فنحن نخفي عن ذواتنا عيوبَنا ونقاط ضعفنا؛ الشيء الذي يجعلنا غير متسامحين مع عيوب ونقاط ضعف الغير … تؤدِّي نزعةُ التمركز حول العِرق، ونزعة التمركز حول المجتمع، إلى أنواع مختلفة من كُره الأجانب، ومن النزعات العنصرية، والتي يمكن أن تصل إلى حدود نزع صفة الإنسان عن الأجنبي.»١٢
٦
الإسلامُ بمفهومه القرآنيِّ
تتغلَّب في مجتمعاتنا نزعاتُ التعصُّب والتشهير الدائم بالآخر، وكأننا في عالم لا يعيش فيه معنا سوى الأعداء، وكأنَّ المجتمعات الوحيدة التي تعرَّضت للاستعمار هي نحن، فكلُّ أمراضنا ومشكلاتنا وعاهاتنا نعلِّقها على هذا المِشجَب، ونغذِّي باستمرارٍ رُوح الانتقام والكراهية للآخر، في صحفنا وقنواتنا الفضائية ووسائل إعلامنا المختلفة. وبالرغم من أنَّ الاستعمار شمل في القرون الماضية معظمَ الكرة الأرضية، وتوطَّن في أكثر بلاد العالم عشرات السنين، لكنْ تحررتْ هذه البلادُ، وتجاوزت ماضيَها، والتحق العديدُ منها بالغرب، بل تقدَّم بعضُها عليه صناعيًّا واقتصاديًّا، وما زلنا في رِهانات الهُوية والخصوصية والأصالة.
طالما لجأ السلفيُّون إلى تفسير قمعيٍّ للنص القرآني، واستندوا إلى هذا التفسير كمرجعيةٍ تبرر رغبتَهم في الانتقام من الآخر، وتسوِّغ لهم كراهية كلِّ من لا يتعبَّد بفقههم، ولا يدين بمذهبهم، وربما حكموا عليه بالخروج من الملَّة والكفر، وبالتالي الموت، وقد احتكروا مفهومَهم الخاصَّ للإسلام ومنه تَوَالَدَ مفهومُهم للمسلم الذي لا ينطبق إلا على من هو سلفي، مع أنَّ كلمة «مسلم» بالمفهوم القرآني تعني القبول العفويَّ، والطوعيَّ، والمتلهِّف، بل وحتى العاشق، لكلِّ ما تأمر به إرادة الله، وتعلِّمنا إياه. إنها لا تعني إطلاقًا الاستسلام لسلطة حتميَّة، أو الخضوع المؤدِّي للإكراهات والقيود. وإنما هي تلك الاندفاعة العفويَّة، اندفاعة الشُّكر، والعرفان بالجميل تجاه إله رحيم، يدعو الإنسان إلى تقليده، والسير على هداه. وإنَّ كلمةَ «إسلام» في القرآن ليس لها ذلك المعنى العقائدي واللاهوتي والثقافي الذي كان قد فرض نفسه على مدار تاريخ الإمبراطوريَّتَيْن الأُمويَّة والعباسيَّة. إنَّ الإسلامَ بمفهومه الإمبراطوري هو المعبَّأ بمداليل سلبيَّة، بينما الإسلام بمفهومه القرآنيِّ يعني الدين الأوَّلي والشعيرة النقيَّة، والطاعة العاشقة والكلِّيَّة لله.١٣
أمَّا من يحسب أنه مفوَّض بانتهاك كرامة الإنسان، وإلزامه بمعتقد معين، أو حرمانه من حقِّ الحياة، باعتباره يمتلك الحقيقةَ، وهو الوصيُّ على الآخرين، فانه يحتكرُ رحمةَ الله ويُنَصِّب نفسَه ناطقًا باسمه في الأرض. وهو لا يدري أنَّ حقَّ الحياة من الحقوق المصونة المحترمة لكافة البشر، بقطع النظر عن أجناسهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وأنَّ عدم الإيمان أو الكفر وحده لا يصلح أنْ يكون موضوعًا للحُكم بالاعتداء على شخصٍ أو قتله، وأنَّ الأصل هو براءةُ الكلِّ من العقوبة الدنيويَّة، وإثبات أيَّة عقوبة بحاجة إلى دليل. ذلك أنَّ المعتقدَ أمر داخليٌّ باطنيٌّ، وليس أمرًا جوارحيًّا خارجيًّا، وأنَّ تحقُّقَه وحصولَه ليس باختيار الإنسان؛ بمعنى أنَّ العالَم الجَوَّاني الداخليَّ لا يمكن فرضُه بالقسر، ما يمكن القسرُ والإكراهُ عليه هو الفعلُ الخارجيُّ، أمَّا الإيمان والاعتقاد فهو حالة داخليَّة خارج مجال القسر والإكراه.
٦
الإسلامُ بمفهومه القرآنيِّ
تتغلَّب في مجتمعاتنا نزعاتُ التعصُّب والتشهير الدائم بالآخر، وكأننا في عالم لا يعيش فيه معنا سوى الأعداء، وكأنَّ المجتمعات الوحيدة التي تعرَّضت للاستعمار هي نحن، فكلُّ أمراضنا ومشكلاتنا وعاهاتنا نعلِّقها على هذا المِشجَب، ونغذِّي باستمرارٍ رُوح الانتقام والكراهية للآخر، في صحفنا وقنواتنا الفضائية ووسائل إعلامنا المختلفة. وبالرغم من أنَّ الاستعمار شمل في القرون الماضية معظمَ الكرة الأرضية، وتوطَّن في أكثر بلاد العالم عشرات السنين، لكنْ تحررتْ هذه البلادُ، وتجاوزت ماضيَها، والتحق العديدُ منها بالغرب، بل تقدَّم بعضُها عليه صناعيًّا واقتصاديًّا، وما زلنا في رِهانات الهُوية والخصوصية والأصالة.
طالما لجأ السلفيُّون إلى تفسير قمعيٍّ للنص القرآني، واستندوا إلى هذا التفسير كمرجعيةٍ تبرر رغبتَهم في الانتقام من الآخر، وتسوِّغ لهم كراهية كلِّ من لا يتعبَّد بفقههم، ولا يدين بمذهبهم، وربما حكموا عليه بالخروج من الملَّة والكفر، وبالتالي الموت، وقد احتكروا مفهومَهم الخاصَّ للإسلام ومنه تَوَالَدَ مفهومُهم للمسلم الذي لا ينطبق إلا على من هو سلفي، مع أنَّ كلمة «مسلم» بالمفهوم القرآني تعني القبول العفويَّ، والطوعيَّ، والمتلهِّف، بل وحتى العاشق، لكلِّ ما تأمر به إرادة الله، وتعلِّمنا إياه. إنها لا تعني إطلاقًا الاستسلام لسلطة حتميَّة، أو الخضوع المؤدِّي للإكراهات والقيود. وإنما هي تلك الاندفاعة العفويَّة، اندفاعة الشُّكر، والعرفان بالجميل تجاه إله رحيم، يدعو الإنسان إلى تقليده، والسير على هداه. وإنَّ كلمةَ «إسلام» في القرآن ليس لها ذلك المعنى العقائدي واللاهوتي والثقافي الذي كان قد فرض نفسه على مدار تاريخ الإمبراطوريَّتَيْن الأُمويَّة والعباسيَّة. إنَّ الإسلامَ بمفهومه الإمبراطوري هو المعبَّأ بمداليل سلبيَّة، بينما الإسلام بمفهومه القرآنيِّ يعني الدين الأوَّلي والشعيرة النقيَّة، والطاعة العاشقة والكلِّيَّة لله.١٣
أمَّا من يحسب أنه مفوَّض بانتهاك كرامة الإنسان، وإلزامه بمعتقد معين، أو حرمانه من حقِّ الحياة، باعتباره يمتلك الحقيقةَ، وهو الوصيُّ على الآخرين، فانه يحتكرُ رحمةَ الله ويُنَصِّب نفسَه ناطقًا باسمه في الأرض. وهو لا يدري أنَّ حقَّ الحياة من الحقوق المصونة المحترمة لكافة البشر، بقطع النظر عن أجناسهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وأنَّ عدم الإيمان أو الكفر وحده لا يصلح أنْ يكون موضوعًا للحُكم بالاعتداء على شخصٍ أو قتله، وأنَّ الأصل هو براءةُ الكلِّ من العقوبة الدنيويَّة، وإثبات أيَّة عقوبة بحاجة إلى دليل. ذلك أنَّ المعتقدَ أمر داخليٌّ باطنيٌّ، وليس أمرًا جوارحيًّا خارجيًّا، وأنَّ تحقُّقَه وحصولَه ليس باختيار الإنسان؛ بمعنى أنَّ العالَم الجَوَّاني الداخليَّ لا يمكن فرضُه بالقسر، ما يمكن القسرُ والإكراهُ عليه هو الفعلُ الخارجيُّ، أمَّا الإيمان والاعتقاد فهو حالة داخليَّة خارج مجال القسر والإكراه.
يقول العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسير آية: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ١٤ أنَّ الآية في مقام بيانِ «نفي الدين الإجباريِّ، لما أنَّ الدين، وهو سلسلة من المعارف العلميَّة التي تتبعها أخرى عمليَّة، يجمعها أنَّها اعتقاداتٌ، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنَّ الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهريَّة، والأفعال والحركات البدنيَّة الماديَّة، وأمَّا الاعتقادُ القلبيُّ فله عِلَل وأسباب أخرى قلبيَّة، من سِنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المُحَال أن يُنتج الجهلُ علمًا، أو تُوَلِّد المقدِّماتُ غيرُ العلميَّة تصديقًا علميًّا، فقوله: «لا إكراه في الدين» إنْ كانَ قضيَّة إخباريَّة حاكيةً عن حالِ التكوين، أنتج حُكْمًا دينيًّا بنفي الإكراه على الدِّين والاعتقاد، وإنْ كان حُكْمًا إنشائيًّا تشريعيًّا، كما يشهد ما عقَّبه تعالى من قوله: «قد تبين الرُّشدُ من الغَيِّ» كان نهيًا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهًا، وهو نهيٌ متَّكٍ على حقيقة تكوينية، وهي التي مرَّ بيانُها. إنَّ الإكراه إنَّما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنيَّة من دون الاعتقادات القلبية … وبعبارةٍ أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقيٍّ ينعقد في ذهنِ الإنسان ليس عملًا اختياريًّا للإنسان حتى يتعلَّق به منعٌ أو تجويزٌ أو استعبادٌ أو تحرير، وإنَّما الذي يقبل الحظرَ والإباحةَ هو الالتزام بما تستوحيه العقيدةُ من الأعمالِ، كالدَّعوة إلى العقيدة …»١٥ ويصفُ القرآنُ الإيمانَ بأنَّه رُشد وحقٌّ، وأنَّ ما سواه زَيغ وغَيٌّ، والرُّشد هو الأمر الواضح الجليُّ، الذي لا يجبَر عليه الإنسانُ، ويبدو أنَّ الآية تقرر حقيقةً عامة شاملة لكلِّ إنسانٍ، ومع كلِّ معتقد، فإنه لا يمكن فرضُه، مثلما لا يمكن خلعُه وسلخُه منه. أي «انطلاقًا من الإطلاق الذي تفيده الآيةُ، لم يقصر القرآن الكريم حريَّةَ العقيدة وعدم الإكراه على الدين الإسلامي، بل أعلن عن انتفاء كل أشكال الضغط والإكراه موضوعيًّا عن كافَّة الأديان والعقائد والأفكار، وذلك بالنظر لإلغاء خصوصيَّة المورد، أي إنَّ مثل هذه الحرية المتصلة طبيعيًّا وذاتيًّا بماهية البشر، مما لا يمكن وضعه ولا رفعه.»١٦
وهذا يعني أن المعتقَد ما لم ينبثق الإيمانُ به من قناعة وجدانية، وإرادة قلبية، لا يمكن أنْ يُلامس شغاف القلب. وكلُّ الأنظمة الشمولية، التي تفرض نسقًا أيديولوجيًّا مغلقًا على مواطنيها، إنما تعمل على تفشِّي ظاهرة النفاق، وهي تحسب أنها دمجت كافَّة المواطنين في النسق الاعتقادي الذي اختارتْه لهم؛ ذلك أن المعتقد ليس بمثابة الثوب الذي يُلبس ويُخلع بسهولة. وفي مثل هذه البلاد تَشِيع عادةً عقيدةٌ ظاهرة، وهي ما تريده السلطة، بينما يخفي الأفرادُ معتقداتِهم، التي باتَتْ واحدةً من مكونات هُويتهم الباطنيَّة.
وهذا يعني أن المعتقَد ما لم ينبثق الإيمانُ به من قناعة وجدانية، وإرادة قلبية، لا يمكن أنْ يُلامس شغاف القلب. وكلُّ الأنظمة الشمولية، التي تفرض نسقًا أيديولوجيًّا مغلقًا على مواطنيها، إنما تعمل على تفشِّي ظاهرة النفاق، وهي تحسب أنها دمجت كافَّة المواطنين في النسق الاعتقادي الذي اختارتْه لهم؛ ذلك أن المعتقد ليس بمثابة الثوب الذي يُلبس ويُخلع بسهولة. وفي مثل هذه البلاد تَشِيع عادةً عقيدةٌ ظاهرة، وهي ما تريده السلطة، بينما يخفي الأفرادُ معتقداتِهم، التي باتَتْ واحدةً من مكونات هُويتهم الباطنيَّة.
وفي آيات أخرى يتحدث القرآن أيضًا عن هذه المسألة، ويجليها بوضوح، كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.١٧ هنا إشارة إلى المشيئة الإلهية التكوينيَّة الحتمية، التي بموجِبها يمكن أن يجعل اللهُ جميع سكان الأرض مؤمنين بالقسر، ولكنَّ اللهَ أنكر ذلك مستفهمًا بأنَّ مثل هذه الحالة لا تليقُ بالإنسان، وكما أنَّه سبحانه لم يلجأ لذلك، فهو ينبِّه النبيَّ ألا يحزن أو يقلق، عندما لا يؤمن بعضُ الناس، لأنَّ المورد خارج إطار الإكراه، وأنَّ الإيمان موكول للإنسان، فبوسعه اختيار ما ترسو عليه قناعاتُه، وما يرتضيه قلبُه، وما يستسيغه عقلُه.
في مجموعةِ آياتٍ يتحدَّثُ القرآنُ عن حرية كلِّ فرد في اختيار السبيل الذي ينشده في الدنيا، كما في قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا.١٨ تقرِّر الآية بصراحة أن الإيمان والكفر يرتبطان باختيار الإنسان وإرادته، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولا تشير إلى عقاب أو توبيخ أو تحقير وإهانة دنيوية، بل تقتصر على الإشارة إلى الاستحقاق الأخرويِّ للظالمين المعاندين. وهكذا الآية: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ،١٩ والآية: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ،٢٠ والآية: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ،٢١ والآية: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.٢٢
وبالرغم من أنَّ القرآن لا يساوي بين الهدى والضلال، لكنه يمنح الإنسان حرية في الاختيار، ولا يُلزمه بأحدهما خاصة، لأنَّ المعاد يترتب على هذه الحرية، وليست هناك مسئولية وحساب مع سلب الاختيار في الدنيا. وفي طائفة غيرها من الآيات يحدِّد القرآن نمطَ دعوة الرسولِ الآخرين إلى الدين، فيصفه بأنه «مذكِّر، ومبشِّر، ومنذِر، وشاهد، وسراج منير، ورحمة للعالمين، وما عليه إلا البلاغ، وليس بمسيطر، وليس بجبار …».
في مجموعةِ آياتٍ يتحدَّثُ القرآنُ عن حرية كلِّ فرد في اختيار السبيل الذي ينشده في الدنيا، كما في قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا.١٨ تقرِّر الآية بصراحة أن الإيمان والكفر يرتبطان باختيار الإنسان وإرادته، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولا تشير إلى عقاب أو توبيخ أو تحقير وإهانة دنيوية، بل تقتصر على الإشارة إلى الاستحقاق الأخرويِّ للظالمين المعاندين. وهكذا الآية: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ،١٩ والآية: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ،٢٠ والآية: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ،٢١ والآية: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.٢٢
وبالرغم من أنَّ القرآن لا يساوي بين الهدى والضلال، لكنه يمنح الإنسان حرية في الاختيار، ولا يُلزمه بأحدهما خاصة، لأنَّ المعاد يترتب على هذه الحرية، وليست هناك مسئولية وحساب مع سلب الاختيار في الدنيا. وفي طائفة غيرها من الآيات يحدِّد القرآن نمطَ دعوة الرسولِ الآخرين إلى الدين، فيصفه بأنه «مذكِّر، ومبشِّر، ومنذِر، وشاهد، وسراج منير، ورحمة للعالمين، وما عليه إلا البلاغ، وليس بمسيطر، وليس بجبار …».
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ.٢٣
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ.٢٤
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا .٢٥
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ.٢٦
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ.٢٧
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٢٨
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.٢٩
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٣٠
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.٣١
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.٣٢
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.٣٣
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٣٤
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.٣٥
إذن وظيفة النبيِّ تتلخَّص في التذكير بالبيِّنات والهدى، وإبلاغ الحق، والشهادة، والتبشير بالنعيم، والإنذار بالخسران، في حالة الجحود والعناد، وأنه سراج يضيء الطريق، ورحمة للعالمين. وبموازاة ذلك ينبهه الله إلى أنه ليس له سلطان في إكراه الناس على الإيمان، فهو «ليس بمسيطر، ولا جبار، وإنما رحمة للعالمين». فإذا كان النبي وهو صاحب الرسالة، لم يفوَّض في إجبار الناس وإكراههم، فكيف يُفَوَّضُ غيرُه بذلك؟! وإن كان ذلك ليس من وظائفِ النبي، فكيف يُسوَّغ لمن يدَّعون أنَّهم من أتباعه سلبُ حرية الناس ومصادرةُ حقِّهم في اختيار المعتقَد؟!٣٦
١ ندوة التحولات المجتمعية وجدلية الثقافة والقيم، قطر، ٢٢–٢٥ يناير ٢٠٠٧م.
٢ أدونيس: «الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب»، بيروت، دار الساقي، ط٨، ٢٠٠٢م، ج١، ص٤٦.
٣ محمد مجتهد شبستري: ايمان وآزادي، طهران، طرح نو، ط٤، ١٣٨٢ش، ص١٠٤–١٠٦.
٤ جان جاك لوسركل: عنف اللغة، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠٥م، ص١٥.
٥ بيير بورديو: «بعبارة أخرى، محاولات باتجاه سوسيولوجيا انعكاسية»، ترجمة: أحمد حسان، القاهرة، ميريت للنشر، ٢٠٠٢م، ص٩٧.
٦ مصطفى عبد الرازق: الدين والوحي والإسلام، القاهرة، ١٩٤٥م، ص٨٠.
٧ محمد الحداد: حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، بيروت، دار الطليعة، ص٥.
٨ عبد الجبار الرفاعي: مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، ط١، ٢٠٠٥م، ص٩٨-٩٩.
٩ عبد الجبار الرفاعي: مصدر سابق، ص١٣٤-١٣٥.
١٠ عبد الله إبراهيم: «المركزية الإسلامية، صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى»، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط١، ٢٠٠١م، ص١٧.
١١ أدونيس: مصدر سابق، ج١، ص٢٦-٢٧.
١٢ إدغار موران: «تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل»، ترجمة: عزيز لزرق ومنير الحجوجي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط١، ٢٠٠٢م، ص٩٠-٩١.
١٣ محمد أركون: «من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟» ترجمة وتعليق: هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط٢، ١٩٩٥م، ص٨٣، ١٣٢.
١٤ البقرة: ٢٥٦.
١٥ محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي، ج٢: ص٣٤٧، ج٤: ص١٢٠.
١٦ مهدي حائري يزدي: الإسلام وميثاق حقوق الإنسان، حولية «مكتب تشيع»، ١٩٦٢م، ٤، ص٦٧-٧٦.
١٧ يونس: ٩٩.
١٨ الكهف: ٢٩.
١٩ يونس: ١٠٨.
٢٠ الزمر: ٤١.
٢١ الأنعام: ١٠٤.
٢٢ الروم: ٤٤.
٢٣ الغاشية: ٢١-٢٢.
٢٤ ق: ٤٥.
٢٥ الفرقان: ٥٦–٥٨.
٢٦ الرعد: ٤٠.
٢٧ المائدة: ٩٩.
٢٨ الإسراء: ١٠٥.
٢٩ الأنبياء: ١٠٧.
٣٠ الأحزاب: ٤٥.
٣١ سبأ: ٢٨.
٣٢ فاطر: ٢٤.
٣٣ الشورى: ٤٨.
٣٤ الفتح: ٨.
٣٥ الأنعام: ١٠٧.
٣٦ عبد الجبار الرفاعي: مصدر سابق، ص١٠٠–١٠٣.
https://www.hindawi.org/books/74738615/10/
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ.٢٤
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا .٢٥
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ.٢٦
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ.٢٧
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٢٨
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.٢٩
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٣٠
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.٣١
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.٣٢
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.٣٣
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٣٤
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.٣٥
إذن وظيفة النبيِّ تتلخَّص في التذكير بالبيِّنات والهدى، وإبلاغ الحق، والشهادة، والتبشير بالنعيم، والإنذار بالخسران، في حالة الجحود والعناد، وأنه سراج يضيء الطريق، ورحمة للعالمين. وبموازاة ذلك ينبهه الله إلى أنه ليس له سلطان في إكراه الناس على الإيمان، فهو «ليس بمسيطر، ولا جبار، وإنما رحمة للعالمين». فإذا كان النبي وهو صاحب الرسالة، لم يفوَّض في إجبار الناس وإكراههم، فكيف يُفَوَّضُ غيرُه بذلك؟! وإن كان ذلك ليس من وظائفِ النبي، فكيف يُسوَّغ لمن يدَّعون أنَّهم من أتباعه سلبُ حرية الناس ومصادرةُ حقِّهم في اختيار المعتقَد؟!٣٦
١ ندوة التحولات المجتمعية وجدلية الثقافة والقيم، قطر، ٢٢–٢٥ يناير ٢٠٠٧م.
٢ أدونيس: «الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب»، بيروت، دار الساقي، ط٨، ٢٠٠٢م، ج١، ص٤٦.
٣ محمد مجتهد شبستري: ايمان وآزادي، طهران، طرح نو، ط٤، ١٣٨٢ش، ص١٠٤–١٠٦.
٤ جان جاك لوسركل: عنف اللغة، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠٥م، ص١٥.
٥ بيير بورديو: «بعبارة أخرى، محاولات باتجاه سوسيولوجيا انعكاسية»، ترجمة: أحمد حسان، القاهرة، ميريت للنشر، ٢٠٠٢م، ص٩٧.
٦ مصطفى عبد الرازق: الدين والوحي والإسلام، القاهرة، ١٩٤٥م، ص٨٠.
٧ محمد الحداد: حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، بيروت، دار الطليعة، ص٥.
٨ عبد الجبار الرفاعي: مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، ط١، ٢٠٠٥م، ص٩٨-٩٩.
٩ عبد الجبار الرفاعي: مصدر سابق، ص١٣٤-١٣٥.
١٠ عبد الله إبراهيم: «المركزية الإسلامية، صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى»، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط١، ٢٠٠١م، ص١٧.
١١ أدونيس: مصدر سابق، ج١، ص٢٦-٢٧.
١٢ إدغار موران: «تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل»، ترجمة: عزيز لزرق ومنير الحجوجي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط١، ٢٠٠٢م، ص٩٠-٩١.
١٣ محمد أركون: «من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟» ترجمة وتعليق: هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط٢، ١٩٩٥م، ص٨٣، ١٣٢.
١٤ البقرة: ٢٥٦.
١٥ محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي، ج٢: ص٣٤٧، ج٤: ص١٢٠.
١٦ مهدي حائري يزدي: الإسلام وميثاق حقوق الإنسان، حولية «مكتب تشيع»، ١٩٦٢م، ٤، ص٦٧-٧٦.
١٧ يونس: ٩٩.
١٨ الكهف: ٢٩.
١٩ يونس: ١٠٨.
٢٠ الزمر: ٤١.
٢١ الأنعام: ١٠٤.
٢٢ الروم: ٤٤.
٢٣ الغاشية: ٢١-٢٢.
٢٤ ق: ٤٥.
٢٥ الفرقان: ٥٦–٥٨.
٢٦ الرعد: ٤٠.
٢٧ المائدة: ٩٩.
٢٨ الإسراء: ١٠٥.
٢٩ الأنبياء: ١٠٧.
٣٠ الأحزاب: ٤٥.
٣١ سبأ: ٢٨.
٣٢ فاطر: ٢٤.
٣٣ الشورى: ٤٨.
٣٤ الفتح: ٨.
٣٥ الأنعام: ١٠٧.
٣٦ عبد الجبار الرفاعي: مصدر سابق، ص١٠٠–١٠٣.
https://www.hindawi.org/books/74738615/10/
www.hindawi.org
من أين تشتقُّ الكراهيَةُ مفاهيمَها؟ | الدين والنزعة الإنسانية | مؤسسة هنداوي
المَرْجِعِيَّاتُ الكلاميَّة وأثرُها في الاستنباطِ الفقهيِّ١ عبدالجبار الرفاعي
١
المرجعية الكلامية لأصول الفقه
تغلغلتِ الرؤيةُ العقائديَّةُ في مختلِف العلومِ الإسلاميَّة، وظلَّت المفاهيمُ العقائديَّةُ التي تبلورَت في مقولات المتكلمين فيما بعد، أحد أبرز مرجعيات ومسلَّمات المفسِّرين والأصوليين والفقهاء في صوغ آرائهم، واستند الكثير من الاختلافات في اجتهاداتهم إلى تنوع مواقفهم الاعتقادية ومقولاتهم الكلامية. وتخطَّى أثرُ المقولات الكلامية هذه المجالات، وامتدَّ ليحسم اختيارات اللغويين لمعاني الألفاظ في مدوَّناتهم أحيانًا، فقد يرجِّح أحدُ اللغويين معنًى محدَّدًا للفظ من عدَّة معانٍ متداولة له؛ حين يكون ذلك المعنى قريبًا من رؤيته الكلامية، بينما يستبعد كلَّ ما لا يقترب من شبكة آرائه العقائديَّة.
وبالرغم ممَّا نالَهُ المتكلِّمون من تبجيلٍ واحترام في القرون الأولى، خاصَّة عند الخليفةِ المأمونِ في العصر العباسي، غير أنَّ الاشتغالَ بعلم الكلام أضحى مغامرةً بعد المحنة، فانحسر نفوذُ المتكلِّمين في البلاط العباسيِّ، وانصرف الدارسون إلى الفقه، باعتبار الاختلافِ في الفتاوى والاجتهادات الفقهية، لا يفضي إلى المقاضاة، أو الخروج على «الاعتقاد القادري»، الذي جرى بموجِبه تسييج المعتقَد في إطارٍ مغلَق، لا يصحُّ تجاوزُه أو التفكير خارج مداراته.
تغلغلتْ أفكارُ التيار المناهض للكلام في وعي عامَّة المسلمين، فبدا الكثيرون منهم ينظر بارتياب إلى الفكر الكلاميِّ، بل تنامتْ هذه الحالةُ، وصارت العلومُ العقليَّةُ برمتها يُنظر إليها بتوجُّس ورِيبة، وأُشيع مناخ مُشبَع بالتهمة حول هذه العلوم، حتى اضطر ذلك بعضَ المهتَّمين بها للتمسُّك بالتقيَّة والتكتُّم على معارفه، خشية إثارة حنَق العامَّة، خاصةً وأن بعض خصوم الكلام عمَدوا إلى صوغ خطاب تحريضيٍّ ضد علم الكلام ومن يتعاطاه، وهذا ما ظهر في أسماء كتبِهم. فمثلًا كتب أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهَرَوي (٤٨١ﻫ) كتابًا بعنوان «ذم الكلام وأهله»، وكتب الغزالي (٥٠٥ﻫ) كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام»، وكتب موفَّق الدين بن قدامة المقدسي (٦٢٠ﻫ) كتاب «تحريم النظر في كتب أهل الكلام».٢
ومع ذلك بقي علمُ الكلام حيًّا، وواصل نموه وتطوُّره، وتكرَّست أنساقه المعروفة بعد المحنة، فالنَّسق المعتزلي عُرف كبار متكلميه، ودُوِّنت أهم مصنَّفاته في الفترة اللاحقة على المحنة، وهي الفترة التي تكاملت وتبلورت فيها المنظومةُ الكلاميةُ للاعتزال على يد أبي الحسين الخياط (ت٣٠٠ﻫ/٩١٣م)، وأبي علي الجُبَّائي (ت٣٠٣ﻫ/٩١٥م)، وابنه أبي هاشم (ت ٣٢١ﻫ/٩٣٣م)، وأبي القاسم البَلْخي (ت٣١٩ﻫ/٩٣١م)، وأبي بكر بن إخشيد (ت٣٢٦ﻫ/٩٣٨م)، وأبي عبد الله البصري (ت٣٦٩ﻫ/٩٨٠م)، وأبي إسحاق بن عياش (ت٣٨٦ﻫ/٩٩٦م)، وأبي رشيد النيسابوري (ت٤٠٠ﻫ/١٠٠٩م)، والقاضي عبد الجبار بن أحمد (ت٤١٥ﻫ/١٠٢٥م)، وأبي الحسين البصري (ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٤م)، وأبي محمد الحسن بن مَتُّوَيْه (ت٤٦٩ﻫ/١٠٧٦م) … وغيرهم.
كما أنتج التشيُّع الإماميُّ أبرزَ متكلِّميه في هذه الفترة، مثل: أبي سهل النُّوبَخْتي (ت٣١١ﻫ/٩٢٤م)، والشيخ المفيد (ت٤١٣ﻫ/١٠٢٢م)، والشريف المرتضى (ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٥م)، والشيخ الطُّوسي (ت٤٦٠ﻫ/١٠٦٧م)، والقاضي أبي الفتح محمد بن علي الكَرَاجكي (ت٤٤٩ﻫ/١٠٥٧م)، ونصير الدين الطُّوسي (ت٦٧٢ﻫ/١٢٥٢م)، والعلامة الحِلِّي (ت٧٢٦ﻫ/١٣٠٦م).
وعرَف التشيُّع الزيدي كبار متكلِّميه زمن المحنة وبعدها، مثل: القاسم بن إبراهيم الرَّسِّي (ت٢٤٦ﻫ/٨٦٠م)، والحسن بن زيد (ت٢٧٠ﻫ/٨٨٤م)، ويحيى بن الحسين الهادي إلى الحق (ت٢٩٨ﻫ/٩١١م).
أما التسنُّن فقد ظهرت فرقُه الكلامية وأبرز متكلِّميه يومذاك، كأبي الحسن الأشعري (ت٣٢٤ﻫ/٩٣٥م)، وأبي منصور الماتُرِيدي (ت٣٣٣ﻫ/٩٤٤م)، وأبي بكر الباقِلَّاني (ت٤٠٣ﻫ/١٠١٢م)، وأبي بكر بن فُورَك (ت٤٠٦ﻫ/١٠١٥م)، وأبي المعالي الجُوَيني (ت٤٧٨ﻫ/١٠٨٥م)، وفخر الدين الرازي (ت٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م)، وعضد الدين الإيجي (ت٧٥٦ﻫ/١٣٥٥م).٣
لقد توارَى المتكلِّمون عن الحضور في بلاطات السلاطين وأروقة قصور الخلفاء، واستأثر جماعة من الفقهاء والمحدِّثين بامتيازات، وحظوة عالية في تلك الأماكن، وانصرف معظمُ الدارسين لتعلُّم الفقه والاستغراق في مذاهبِه، والتعرُّف على مواطن الخلاف بين الفقهاء، وتعلُّم أساليب استدلالهم ومناهج الاستنباط المتعارَفة لديهم، ومقدماتها من العلوم، حتى أمسى الفقهُ ملاذًا آمنًا لمن يروم التفرُّغ للدراسات الشرعية.
١
المرجعية الكلامية لأصول الفقه
تغلغلتِ الرؤيةُ العقائديَّةُ في مختلِف العلومِ الإسلاميَّة، وظلَّت المفاهيمُ العقائديَّةُ التي تبلورَت في مقولات المتكلمين فيما بعد، أحد أبرز مرجعيات ومسلَّمات المفسِّرين والأصوليين والفقهاء في صوغ آرائهم، واستند الكثير من الاختلافات في اجتهاداتهم إلى تنوع مواقفهم الاعتقادية ومقولاتهم الكلامية. وتخطَّى أثرُ المقولات الكلامية هذه المجالات، وامتدَّ ليحسم اختيارات اللغويين لمعاني الألفاظ في مدوَّناتهم أحيانًا، فقد يرجِّح أحدُ اللغويين معنًى محدَّدًا للفظ من عدَّة معانٍ متداولة له؛ حين يكون ذلك المعنى قريبًا من رؤيته الكلامية، بينما يستبعد كلَّ ما لا يقترب من شبكة آرائه العقائديَّة.
وبالرغم ممَّا نالَهُ المتكلِّمون من تبجيلٍ واحترام في القرون الأولى، خاصَّة عند الخليفةِ المأمونِ في العصر العباسي، غير أنَّ الاشتغالَ بعلم الكلام أضحى مغامرةً بعد المحنة، فانحسر نفوذُ المتكلِّمين في البلاط العباسيِّ، وانصرف الدارسون إلى الفقه، باعتبار الاختلافِ في الفتاوى والاجتهادات الفقهية، لا يفضي إلى المقاضاة، أو الخروج على «الاعتقاد القادري»، الذي جرى بموجِبه تسييج المعتقَد في إطارٍ مغلَق، لا يصحُّ تجاوزُه أو التفكير خارج مداراته.
تغلغلتْ أفكارُ التيار المناهض للكلام في وعي عامَّة المسلمين، فبدا الكثيرون منهم ينظر بارتياب إلى الفكر الكلاميِّ، بل تنامتْ هذه الحالةُ، وصارت العلومُ العقليَّةُ برمتها يُنظر إليها بتوجُّس ورِيبة، وأُشيع مناخ مُشبَع بالتهمة حول هذه العلوم، حتى اضطر ذلك بعضَ المهتَّمين بها للتمسُّك بالتقيَّة والتكتُّم على معارفه، خشية إثارة حنَق العامَّة، خاصةً وأن بعض خصوم الكلام عمَدوا إلى صوغ خطاب تحريضيٍّ ضد علم الكلام ومن يتعاطاه، وهذا ما ظهر في أسماء كتبِهم. فمثلًا كتب أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهَرَوي (٤٨١ﻫ) كتابًا بعنوان «ذم الكلام وأهله»، وكتب الغزالي (٥٠٥ﻫ) كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام»، وكتب موفَّق الدين بن قدامة المقدسي (٦٢٠ﻫ) كتاب «تحريم النظر في كتب أهل الكلام».٢
ومع ذلك بقي علمُ الكلام حيًّا، وواصل نموه وتطوُّره، وتكرَّست أنساقه المعروفة بعد المحنة، فالنَّسق المعتزلي عُرف كبار متكلميه، ودُوِّنت أهم مصنَّفاته في الفترة اللاحقة على المحنة، وهي الفترة التي تكاملت وتبلورت فيها المنظومةُ الكلاميةُ للاعتزال على يد أبي الحسين الخياط (ت٣٠٠ﻫ/٩١٣م)، وأبي علي الجُبَّائي (ت٣٠٣ﻫ/٩١٥م)، وابنه أبي هاشم (ت ٣٢١ﻫ/٩٣٣م)، وأبي القاسم البَلْخي (ت٣١٩ﻫ/٩٣١م)، وأبي بكر بن إخشيد (ت٣٢٦ﻫ/٩٣٨م)، وأبي عبد الله البصري (ت٣٦٩ﻫ/٩٨٠م)، وأبي إسحاق بن عياش (ت٣٨٦ﻫ/٩٩٦م)، وأبي رشيد النيسابوري (ت٤٠٠ﻫ/١٠٠٩م)، والقاضي عبد الجبار بن أحمد (ت٤١٥ﻫ/١٠٢٥م)، وأبي الحسين البصري (ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٤م)، وأبي محمد الحسن بن مَتُّوَيْه (ت٤٦٩ﻫ/١٠٧٦م) … وغيرهم.
كما أنتج التشيُّع الإماميُّ أبرزَ متكلِّميه في هذه الفترة، مثل: أبي سهل النُّوبَخْتي (ت٣١١ﻫ/٩٢٤م)، والشيخ المفيد (ت٤١٣ﻫ/١٠٢٢م)، والشريف المرتضى (ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٥م)، والشيخ الطُّوسي (ت٤٦٠ﻫ/١٠٦٧م)، والقاضي أبي الفتح محمد بن علي الكَرَاجكي (ت٤٤٩ﻫ/١٠٥٧م)، ونصير الدين الطُّوسي (ت٦٧٢ﻫ/١٢٥٢م)، والعلامة الحِلِّي (ت٧٢٦ﻫ/١٣٠٦م).
وعرَف التشيُّع الزيدي كبار متكلِّميه زمن المحنة وبعدها، مثل: القاسم بن إبراهيم الرَّسِّي (ت٢٤٦ﻫ/٨٦٠م)، والحسن بن زيد (ت٢٧٠ﻫ/٨٨٤م)، ويحيى بن الحسين الهادي إلى الحق (ت٢٩٨ﻫ/٩١١م).
أما التسنُّن فقد ظهرت فرقُه الكلامية وأبرز متكلِّميه يومذاك، كأبي الحسن الأشعري (ت٣٢٤ﻫ/٩٣٥م)، وأبي منصور الماتُرِيدي (ت٣٣٣ﻫ/٩٤٤م)، وأبي بكر الباقِلَّاني (ت٤٠٣ﻫ/١٠١٢م)، وأبي بكر بن فُورَك (ت٤٠٦ﻫ/١٠١٥م)، وأبي المعالي الجُوَيني (ت٤٧٨ﻫ/١٠٨٥م)، وفخر الدين الرازي (ت٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م)، وعضد الدين الإيجي (ت٧٥٦ﻫ/١٣٥٥م).٣
لقد توارَى المتكلِّمون عن الحضور في بلاطات السلاطين وأروقة قصور الخلفاء، واستأثر جماعة من الفقهاء والمحدِّثين بامتيازات، وحظوة عالية في تلك الأماكن، وانصرف معظمُ الدارسين لتعلُّم الفقه والاستغراق في مذاهبِه، والتعرُّف على مواطن الخلاف بين الفقهاء، وتعلُّم أساليب استدلالهم ومناهج الاستنباط المتعارَفة لديهم، ومقدماتها من العلوم، حتى أمسى الفقهُ ملاذًا آمنًا لمن يروم التفرُّغ للدراسات الشرعية.
إلا أنَّ المقولات الكلاميَّة واصلت حضورها في التفكير الفقهي، وترسَّخت بالتدريج كإطار مرجعي يوجِّه هذا التفكير، بعد استعارة أصولِ الفقه لهذه المقولات، وتشكيل قواعد استنباط الأحكام الشرعية في ضوئها. وواصلت مفاهيمُ علم الكلام نفوذَها على الدوام في التفكير الأصولي، واستمرَّت مهيمنةً على مسارات هذا التفكير وموجِّهة له، وإن كانت لا تتبدَّى بوضوح في مساحات عريضة منه، لكننا نعثر عليها مستترةً خلف أصول الفقه.
فمثلًا: نلاحظ في كتاب «الرسالة» للإمام للشافعي، وهو الكتاب الأول الذي وصلنا في أصول الفقه، والأهمُّ في صوغه لمبادئ ومنطلقات ومقولات هذا الفن، أنَّ المباحث التي بنى على أساسِها قواعدَه وترسيماته هي مرتكزات عقائديَّة، كالبحث في مفهوم الحُكْم، وتصور الله سيِّدًا ونحن عبيده، وافتراض وجود أحكام وأوامرَ ونواهٍ صادرةٍ عن الله إلى عبيده، وأن الإنسان إذا علم بأمرٍ صادرٍ عن الله تجبُ عليه طاعتُه، باعتبار اللهِ سيِّدًا والإنسان عبدًا، والسيد هو من تجب طاعتُه على العبد، أي إنَّ الدافع الذي يجعلُ الإنسانَ يطيع الأمرَ هو الإقرارُ للهِ بالسِّيادةِ، والإقرار بالسِّيَادَةِ قضيَّة كلاميَّة. فعندما يقرر الأصوليُّون قاعدةَ: «إنَّ الأمرَ يدلُّ على الوُجوب»، تبتني هذه القاعدة على حُكْمِ العقل بلزوم امتثال الأمر، إنْ كانَ صادرًا عن ذروةٍ وجِهة عليا، أي من مَولًى مثلما يصطلح القدماء، ومضمون كونِ جِهةٍ ما مَولًى هو أنَّه واجبُ الطاعة، مضمون المَولَوية وجوب الطاعة والانقياد والامتثال، فافتراض المَولَوية يعني افتراض حق الطاعة، وافتراض وجوب الامتثال، واستحقاق العقاب على المخالفة. بمعنى أنَّ مجرد علمنا بصدور الأمر عن الله بوصفه المولى تعالى يعني أنَّ هذا الأمر حُجة، والحُجيَّة هي وجوب الامتثال، فبمجرد افتراض صدور الأمر عن مولًى يعني وجوب الامتثال في رتبة سابقة، وهذه مسلَّمة اعتقاديَّة مفروضة في رتبة سابقة، تستقي منها صيغةُ الأمر الدلالةَ على الوجوب.٤
وكان أبرزُ أعلام أصول الفقه كالقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري والشريف المرتضى والشيخ الطوسي وأبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي والفخر الرازي من أشهر أعلام علم الكلام وأهم المصنِّفين فيه، بل يمكن إرجاع أسباب تميُّز أبحاثهم في علم الأصول وذيوع وصفهم بالإبداع والتجديد فيه إلى تخصُّصهم بمباحث علم الكلام وانشغالهم بمناقشاته، وتمكُّنهم من آلياته ومفاهيمه واصطلاحاته. إنَّ آراء المتكلِّمين ومنحاهم في دراسة المسائل الأصولية وإنْ تحولت لاحقًا إلى أسلوب خاصٍّ بهم عُرف ﺑ «طريقة المتكلمين». إلا أنَّ بداية حضورهم التي رافقتْ تشكيلَ علم أصول الفقه كانت تُدْرَجُ في مؤلَّفات الأصول المبكرة تحت عنوان: «قول المتكلِّمين في المسألة».٥
وفي مراجعةٍ للكتابات المتأخِّرة في الأصول عند الإماميَّة نلاحظ كثافةَ الاستناد إلى القواعدِ الكلاميَّة، واشتقاق القضايا والمفاهيم الأصوليَّة منها. فمثلًا: صارتْ مجموعةٌ من المقولات والقواعد الكلامية مرتكزاتٍ محوريَّة في بناء فرضيات وقواعد ومواقف الأصوليين، مثل: قاعدة «اللطف»، و«الحسن والقبح العقليين»، و«قبح العقاب بلا بيان»، و«حق الطاعة»، و«عدم التكليف بما لا يطاق»، و«عدم صدور القبيح عن الحكيم».٦ كما استلهم الأصوليُّون مفاهيمَهم من قواعد أخرى، مثل: «الإرادة التكوينية للواجب لا تكون منافية لاختيارية أفعال الإنسان»،٧ و«إرادة الواجب علمه بالمصلحة والنظام الأحسن»،٨ و«تخلُّف مراد الواجب عن إرادته التكوينية محالٌ لا التشريعية»،٩ و«حدوث الممكن بلا علة محالٌ»،١٠ و«صفات الواجب متغايرة مفهومًا ومتَّحدة مصداقًا»،١١ و«ما يلزم العجز والجهل في حق الواجب محال»،١٢ و«ما ينتهي إلى ما لا يكون بالاختيار فهو غير اختياري»،١٣ و«وجوب دفع الضَّرر».١٤
الإنتاج الفقهي هو الأثْرَى والأوسع من بين كافَّة أنْمَاطِ الإنتاج المعرفيِّ للمسلمين، فهو المعرفةُ التي انخرط فيها معظمُ المهتمين بالدراسات الإسلامية في العصور الأخيرة، إذ تسيَّدت على غيرِها من معارفِ الدين، وصارتْ سلطة معرفية لكلِّ من يتخصص بدراستها، بها يمتلك تفويضًا لإضفاء المشروعيَّة على أيِّ معرفةٍ أخرى أو نفيِها، وتضعه في مقامِ مَنْ يحتكر حقَّ الإذن للغير لدراسة الحقول الأخرى للمعرفة الدينية.
مضافًا إلى ما يحصل عليه المشتغلون في الفقه من امتيازات ومكاسب من الأوقاف والفرائض الماليَّة. لذلك تراجعتْ دراسةُ علوم القرآن والتفسير، واضمحلَّت دراسةُ المعقول في القرون الأخيرة، ولم يتفرَّغ التلامذةُ لدراسة المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فضلًا عن العرفان النظريِّ، واضطر المهتمُّون بهذه المعارف إلى الاختباء والتكتُّم في تعلُّمها أحيانًا، أو دراستها على هامش دراستِهم للفقه وأصولِه، في بعض الحواضر المعروفة، التي عادةً ما تغضُّ النظر عن التعاطي معها.
فمثلًا: نلاحظ في كتاب «الرسالة» للإمام للشافعي، وهو الكتاب الأول الذي وصلنا في أصول الفقه، والأهمُّ في صوغه لمبادئ ومنطلقات ومقولات هذا الفن، أنَّ المباحث التي بنى على أساسِها قواعدَه وترسيماته هي مرتكزات عقائديَّة، كالبحث في مفهوم الحُكْم، وتصور الله سيِّدًا ونحن عبيده، وافتراض وجود أحكام وأوامرَ ونواهٍ صادرةٍ عن الله إلى عبيده، وأن الإنسان إذا علم بأمرٍ صادرٍ عن الله تجبُ عليه طاعتُه، باعتبار اللهِ سيِّدًا والإنسان عبدًا، والسيد هو من تجب طاعتُه على العبد، أي إنَّ الدافع الذي يجعلُ الإنسانَ يطيع الأمرَ هو الإقرارُ للهِ بالسِّيادةِ، والإقرار بالسِّيَادَةِ قضيَّة كلاميَّة. فعندما يقرر الأصوليُّون قاعدةَ: «إنَّ الأمرَ يدلُّ على الوُجوب»، تبتني هذه القاعدة على حُكْمِ العقل بلزوم امتثال الأمر، إنْ كانَ صادرًا عن ذروةٍ وجِهة عليا، أي من مَولًى مثلما يصطلح القدماء، ومضمون كونِ جِهةٍ ما مَولًى هو أنَّه واجبُ الطاعة، مضمون المَولَوية وجوب الطاعة والانقياد والامتثال، فافتراض المَولَوية يعني افتراض حق الطاعة، وافتراض وجوب الامتثال، واستحقاق العقاب على المخالفة. بمعنى أنَّ مجرد علمنا بصدور الأمر عن الله بوصفه المولى تعالى يعني أنَّ هذا الأمر حُجة، والحُجيَّة هي وجوب الامتثال، فبمجرد افتراض صدور الأمر عن مولًى يعني وجوب الامتثال في رتبة سابقة، وهذه مسلَّمة اعتقاديَّة مفروضة في رتبة سابقة، تستقي منها صيغةُ الأمر الدلالةَ على الوجوب.٤
وكان أبرزُ أعلام أصول الفقه كالقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري والشريف المرتضى والشيخ الطوسي وأبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي والفخر الرازي من أشهر أعلام علم الكلام وأهم المصنِّفين فيه، بل يمكن إرجاع أسباب تميُّز أبحاثهم في علم الأصول وذيوع وصفهم بالإبداع والتجديد فيه إلى تخصُّصهم بمباحث علم الكلام وانشغالهم بمناقشاته، وتمكُّنهم من آلياته ومفاهيمه واصطلاحاته. إنَّ آراء المتكلِّمين ومنحاهم في دراسة المسائل الأصولية وإنْ تحولت لاحقًا إلى أسلوب خاصٍّ بهم عُرف ﺑ «طريقة المتكلمين». إلا أنَّ بداية حضورهم التي رافقتْ تشكيلَ علم أصول الفقه كانت تُدْرَجُ في مؤلَّفات الأصول المبكرة تحت عنوان: «قول المتكلِّمين في المسألة».٥
وفي مراجعةٍ للكتابات المتأخِّرة في الأصول عند الإماميَّة نلاحظ كثافةَ الاستناد إلى القواعدِ الكلاميَّة، واشتقاق القضايا والمفاهيم الأصوليَّة منها. فمثلًا: صارتْ مجموعةٌ من المقولات والقواعد الكلامية مرتكزاتٍ محوريَّة في بناء فرضيات وقواعد ومواقف الأصوليين، مثل: قاعدة «اللطف»، و«الحسن والقبح العقليين»، و«قبح العقاب بلا بيان»، و«حق الطاعة»، و«عدم التكليف بما لا يطاق»، و«عدم صدور القبيح عن الحكيم».٦ كما استلهم الأصوليُّون مفاهيمَهم من قواعد أخرى، مثل: «الإرادة التكوينية للواجب لا تكون منافية لاختيارية أفعال الإنسان»،٧ و«إرادة الواجب علمه بالمصلحة والنظام الأحسن»،٨ و«تخلُّف مراد الواجب عن إرادته التكوينية محالٌ لا التشريعية»،٩ و«حدوث الممكن بلا علة محالٌ»،١٠ و«صفات الواجب متغايرة مفهومًا ومتَّحدة مصداقًا»،١١ و«ما يلزم العجز والجهل في حق الواجب محال»،١٢ و«ما ينتهي إلى ما لا يكون بالاختيار فهو غير اختياري»،١٣ و«وجوب دفع الضَّرر».١٤
الإنتاج الفقهي هو الأثْرَى والأوسع من بين كافَّة أنْمَاطِ الإنتاج المعرفيِّ للمسلمين، فهو المعرفةُ التي انخرط فيها معظمُ المهتمين بالدراسات الإسلامية في العصور الأخيرة، إذ تسيَّدت على غيرِها من معارفِ الدين، وصارتْ سلطة معرفية لكلِّ من يتخصص بدراستها، بها يمتلك تفويضًا لإضفاء المشروعيَّة على أيِّ معرفةٍ أخرى أو نفيِها، وتضعه في مقامِ مَنْ يحتكر حقَّ الإذن للغير لدراسة الحقول الأخرى للمعرفة الدينية.
مضافًا إلى ما يحصل عليه المشتغلون في الفقه من امتيازات ومكاسب من الأوقاف والفرائض الماليَّة. لذلك تراجعتْ دراسةُ علوم القرآن والتفسير، واضمحلَّت دراسةُ المعقول في القرون الأخيرة، ولم يتفرَّغ التلامذةُ لدراسة المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فضلًا عن العرفان النظريِّ، واضطر المهتمُّون بهذه المعارف إلى الاختباء والتكتُّم في تعلُّمها أحيانًا، أو دراستها على هامش دراستِهم للفقه وأصولِه، في بعض الحواضر المعروفة، التي عادةً ما تغضُّ النظر عن التعاطي معها.
إثر ذلك تراكمت المدوَّنةُ الفقهيَّة واتَّسعت أفقيًّا، بعد أن تم تأليف الكثير من المتون الفقهية في كلِّ مذهب، وتوالت الشُّروح والحواشي والتعليقات على كلِّ متن، حتى تجاوزتْ أحيانًا عشرين ألف صفحة تقع في أكثر من أربعين مجلدًا. وكان الفقه يترهَّل وتستبدُّ به مشكلات مزمنة، يعيد تكوينها على الدوام، وتتكرس أدواتُه وأساليبُه المتوارثة في الاستنباط، ويكرِّر ذاتَه باستمرار، من دون أن ينفتح على فضاءاتٍ أخرى، تمنحه القدرةَ على مواكبةِ الحياة، والإصغاء لإيقاع المتغيرات الشديدة التنوع.
وعلى الرغم من أن دعواتِ إعادةِ فتح باب الاجتهاد، وإعادة بناء المدوَّنة الفقهية انطلقت منذ أكثر من قرنين، بيد أنَّ معظم هذه الدعوات تفتقر إلى تشخيص المأزق الحقيقي لانسداد الآفاق، الذي انتهى إليه الفقهُ، وما زالت تفسيراتُها تبسيطيَّة، تشدِّد على بعث أصولِ الفقه وتوظيف العناصر التقليدية في الاستدلال الفقهي. وما خلا الاتجاهَ الذي اهتمَّ بإحياء مقاصد الشريعة، لا نعثر على محاولات جادَّة لتشخيص الانسداد الفقهي، واكتشاف مديات بديلة للاجتهاد، بل إن الاتجاه المقاصدي الحديث ما انفك يكرِّر كلام الشاطبي، من دون أن يعمل على توظيف مقاصده في اجتهاد مواكب للعصر، بل عجز عن الإفلات من تقليد أعلام الفقهاء واجترار ما قالوه. ويمكن استثناء جهود الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في دروسه التي ألقاها على طلبة جامع الزيتونة، ثم نشرها في كتابه الموسوم «مقاصد الشريعة الإسلامية» عام ١٩٤٧م، بوصفها من أفضل المحاولات جِديَّة في التفكير المقاصدي الحديث، ومع ذلك فإنها تقف عند حدود التغيير الشكلي في أسلوب الممارسة التشريعية، كما أنها رهينة الأُطُر المعرفية الكلاسيكية، والقيم السائدة ضمنها.١٥
٢
لا يمكن تجديد الفقه من دون تجديد المعارف المنتجة له
إنَّ إشكالية الفقه مندرجة في إشكالية التراث بأسره، من هنا ينبغي أنْ يُعَادَ النَّظر في نسيج المعارف الموروثة المولِّدة للفقه، وتجري غربلتُها واختبارُ صلاحيَّتها، ومعرفة إمكاناتها وقدرتها على عبور سياقاتها الزمانية والمكانية، واستجابتها للوفاء بالمتطلبات التشريعية في هذا العصر. ولا يصح أنْ نستثني القواعدَ الأصوليَّة من كونِها معرفة أنتجها عقلٌ ينتمي إلى أُفُقِه التاريخيِّ الخاصِّ، وإنما يجب أن نتعامل معها في ضوء ذلك الأفق، أي أنها معرفة تاريخية، لا تتوافر على إمكانات استثنائية تتعالى بها على الواقع المنتَجة في داخله، ونمط التفكير الذي صاغها، ومشاغل العصر المنبثقة منه ومفاهيمه ورُؤاه.
لا يمكن تجديدُ الفقه ما لم نستأنفِ النَّظر في نمطِ المناهج المتوارثة في دراستنا للدين، وللظواهر والمعارف المرتبطة به، وتجليات الدين في الحياة، فبدلًا من أن يكون الدينُ هو المفسِّر الشامل للأشياء والكون والعالم، لا بدَّ أن يغدوَ ظاهرةً تخضع لما تخضع له أي ظاهرة تخضع للتفسير، من حيث إمكان فهمها، وتحليلها، واكتشاف مدياتها، ومنابع إلهامها، ومعرفة آليات اشتغالها.١٦ أي إنَّ الدين بدلًا من أن يكون مفسِّرًا لا بُدَّ أن يكون مفسَّرًا.
إنَّ الدراسات الحديثة للدين ليست بصدد بحثٍ معياريٍّ له، أو الحديث عن الصِّدق والكذب، أو الصِّحَّة والبطلان بشأنه، وإنما تُعنَى بتفسير الدين وتعبيراته الرُّوحية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، عبر تطبيق الباحث لمناهج ومعطيات العلوم الإنسانية والمعارف الراهنة، على النصوص والموروث الديني وتجلِّيات الدين في الواقع. إنَّ وصف الظواهر الدينيَّة وتفسيرها من أهم أهداف البحث في الرؤية الجديدة للدراسات الدينية. في حين نجد في الرؤية التقليدية أنَّ البحث الديني يستهدف فهمَ العالم عبر تعاليم الدين وتفسيرها، وتبريرها، والبرهنة على صدقها.١٧
وليس هدف هذه الرؤية جحود الدين، أو إنكار وظائفه الرُّوحية والمعنوية والأخلاقية والنفسية والجمالية والرمزية والاجتماعية، وإنما هدفها توظيف المكاسب الراهنة للعلوم في دراسة وتحليل ومُساءلة التجلِّيات والتعبيرات الدينية في حياةِ الفرد والمجتمع، واكتشاف منابعها وحدودها وآثارها ومعطياتها.
إنَّ تحليل طبيعة المعرفة الدينيَّة، وتشخيص مصادر تشكيلها، وكيفية تكوُّنها، والعَلاقة بينها وبين مختلِف المعارف العلمية والإنسانية، وكيف أنَّ تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يقود إلى تحولات مهمة في المعرفة الدينية، ويفضي إلى نمو وتطور التفكير الفقهي، فإنَّ فهم الدين ليس مستقلًّا عن فهمِ الطبيعة؛ بمعنى أنَّ للفهم في كل عصر هندسةً خاصة، والفهم الديني ابن عصره، وأن إضافة ضلع أو إنقاص ضلع من هندسة المعرفة البشرية المتعددة الأضلاع، يغيِّر شكلَ هذه المعرفة. ذلك أنَّ العلوم الجديدة حين تجتاح عالمَنا لا تترك معارفَنا السابقة على حالها، وإنما تتصرف في مضمونها، بحيث تسلِّحنا بمنظار بديل يعطيها صورة جديدة، إنها بمثابة عدساتٍ بديلة لمعاينة العالم واكتشافه من جديد.
وعلى الرغم من أن دعواتِ إعادةِ فتح باب الاجتهاد، وإعادة بناء المدوَّنة الفقهية انطلقت منذ أكثر من قرنين، بيد أنَّ معظم هذه الدعوات تفتقر إلى تشخيص المأزق الحقيقي لانسداد الآفاق، الذي انتهى إليه الفقهُ، وما زالت تفسيراتُها تبسيطيَّة، تشدِّد على بعث أصولِ الفقه وتوظيف العناصر التقليدية في الاستدلال الفقهي. وما خلا الاتجاهَ الذي اهتمَّ بإحياء مقاصد الشريعة، لا نعثر على محاولات جادَّة لتشخيص الانسداد الفقهي، واكتشاف مديات بديلة للاجتهاد، بل إن الاتجاه المقاصدي الحديث ما انفك يكرِّر كلام الشاطبي، من دون أن يعمل على توظيف مقاصده في اجتهاد مواكب للعصر، بل عجز عن الإفلات من تقليد أعلام الفقهاء واجترار ما قالوه. ويمكن استثناء جهود الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في دروسه التي ألقاها على طلبة جامع الزيتونة، ثم نشرها في كتابه الموسوم «مقاصد الشريعة الإسلامية» عام ١٩٤٧م، بوصفها من أفضل المحاولات جِديَّة في التفكير المقاصدي الحديث، ومع ذلك فإنها تقف عند حدود التغيير الشكلي في أسلوب الممارسة التشريعية، كما أنها رهينة الأُطُر المعرفية الكلاسيكية، والقيم السائدة ضمنها.١٥
٢
لا يمكن تجديد الفقه من دون تجديد المعارف المنتجة له
إنَّ إشكالية الفقه مندرجة في إشكالية التراث بأسره، من هنا ينبغي أنْ يُعَادَ النَّظر في نسيج المعارف الموروثة المولِّدة للفقه، وتجري غربلتُها واختبارُ صلاحيَّتها، ومعرفة إمكاناتها وقدرتها على عبور سياقاتها الزمانية والمكانية، واستجابتها للوفاء بالمتطلبات التشريعية في هذا العصر. ولا يصح أنْ نستثني القواعدَ الأصوليَّة من كونِها معرفة أنتجها عقلٌ ينتمي إلى أُفُقِه التاريخيِّ الخاصِّ، وإنما يجب أن نتعامل معها في ضوء ذلك الأفق، أي أنها معرفة تاريخية، لا تتوافر على إمكانات استثنائية تتعالى بها على الواقع المنتَجة في داخله، ونمط التفكير الذي صاغها، ومشاغل العصر المنبثقة منه ومفاهيمه ورُؤاه.
لا يمكن تجديدُ الفقه ما لم نستأنفِ النَّظر في نمطِ المناهج المتوارثة في دراستنا للدين، وللظواهر والمعارف المرتبطة به، وتجليات الدين في الحياة، فبدلًا من أن يكون الدينُ هو المفسِّر الشامل للأشياء والكون والعالم، لا بدَّ أن يغدوَ ظاهرةً تخضع لما تخضع له أي ظاهرة تخضع للتفسير، من حيث إمكان فهمها، وتحليلها، واكتشاف مدياتها، ومنابع إلهامها، ومعرفة آليات اشتغالها.١٦ أي إنَّ الدين بدلًا من أن يكون مفسِّرًا لا بُدَّ أن يكون مفسَّرًا.
إنَّ الدراسات الحديثة للدين ليست بصدد بحثٍ معياريٍّ له، أو الحديث عن الصِّدق والكذب، أو الصِّحَّة والبطلان بشأنه، وإنما تُعنَى بتفسير الدين وتعبيراته الرُّوحية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، عبر تطبيق الباحث لمناهج ومعطيات العلوم الإنسانية والمعارف الراهنة، على النصوص والموروث الديني وتجلِّيات الدين في الواقع. إنَّ وصف الظواهر الدينيَّة وتفسيرها من أهم أهداف البحث في الرؤية الجديدة للدراسات الدينية. في حين نجد في الرؤية التقليدية أنَّ البحث الديني يستهدف فهمَ العالم عبر تعاليم الدين وتفسيرها، وتبريرها، والبرهنة على صدقها.١٧
وليس هدف هذه الرؤية جحود الدين، أو إنكار وظائفه الرُّوحية والمعنوية والأخلاقية والنفسية والجمالية والرمزية والاجتماعية، وإنما هدفها توظيف المكاسب الراهنة للعلوم في دراسة وتحليل ومُساءلة التجلِّيات والتعبيرات الدينية في حياةِ الفرد والمجتمع، واكتشاف منابعها وحدودها وآثارها ومعطياتها.
إنَّ تحليل طبيعة المعرفة الدينيَّة، وتشخيص مصادر تشكيلها، وكيفية تكوُّنها، والعَلاقة بينها وبين مختلِف المعارف العلمية والإنسانية، وكيف أنَّ تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يقود إلى تحولات مهمة في المعرفة الدينية، ويفضي إلى نمو وتطور التفكير الفقهي، فإنَّ فهم الدين ليس مستقلًّا عن فهمِ الطبيعة؛ بمعنى أنَّ للفهم في كل عصر هندسةً خاصة، والفهم الديني ابن عصره، وأن إضافة ضلع أو إنقاص ضلع من هندسة المعرفة البشرية المتعددة الأضلاع، يغيِّر شكلَ هذه المعرفة. ذلك أنَّ العلوم الجديدة حين تجتاح عالمَنا لا تترك معارفَنا السابقة على حالها، وإنما تتصرف في مضمونها، بحيث تسلِّحنا بمنظار بديل يعطيها صورة جديدة، إنها بمثابة عدساتٍ بديلة لمعاينة العالم واكتشافه من جديد.
إن المعرفة الدينيَّة كأي معرفةٍ أخرى، هي حصيلة جهد البشر وتأملاتهم، وهي دائمًا مزيج من الآراء الظنية واليقينية، والصواب والخطأ، ولا شك في أنَّ الوعي البشريَّ كلَّما تنامى واعتمد على مقدمات وأدوات علمية صحيحة، اتَّسعت لديه مساحة الصواب وتقلَّص الخطأ. وهذا لا يعني أنَّ الوحي الذي أتى به الأنبياءُ يكمله البشر، وإنما يعني أن فهم البشر لمضامين الوحي وكلماته يتطور تبعًا لتطور العلوم والمعارف البشرية، أي إن المقدَّس والكامل هو الوحي، أمَّا الفهم البشري له فإنه ليس كاملًا ولا مقدسًا.١٨
إن ما يفهمه البشر من الدين في مختلِف البيئات الثقافية والاجتماعية ليس كاملًا مَهْما كان. والقراءة المتأنية العميقة للميراث الفقهي والأصولي ترينا أنَّ ما تَرَاكَمَ من قواعد أصولية وفقهية وفتاوى إنما هي معطيات معرفيَّة منجزة في سياقاتٍ تاريخيَّة وثقافيَّة واجتماعية خاصَّة، ولا يمكن تجريدُها من بصمات العصر المنبثقة فيه، مثلما لا يصحُّ فصلُها عن المشروطيَّة الزمانية والمكانية والثقافية لمن أنتجها، فهي منخرطة في تاريخ أصحابها وتحمل تواقيع فهمهم وبصمة تفكيرهم، ولا يصحُّ التعاطي معها بوصفِها حقائق أو جواهر مثاليَّة تتخطَّى الواقعَ الذي وُلدتْ فيه. إنها ليست عابرةً للمحدِّدات والظروف والمحيط الذي تبلورتْ في داخله، فهي مرتهنة بالفضاء الخاصِّ ومسلَّمات الفقيه والأصولي الذي صاغها ودوَّنها؛ ذلك أنَّ «المسَبَّقات الفكرية لكلِّ فقيه، ونمط معرفته بالعالم الخارجي المحيط به، تؤثِّر في فتاواه، بحيث إن فتوى العربي تفوح منها رائحةُ العرب، وفتوى الأعجمي رائحةُ العجم، وفتوى القروي رائحة القرية، وفتوى المدني رائحة المدينة»،١٩ بحسب تعبير الشيخ مرتضى المطهري. إنَّ الفقيه والأصولي يصدران في النتائج التي يخلُصان إليها، عن النظام المعرفي السائد في عصرهما، وعن الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسَها في ذاك العصر.٢٠ فإنسان اليوم هو إنسان نظرياتِ ومتطلَّباتِ وظروفِ اليوم، وإنسان الأمس هو إنسان نظرياتِ ومتطلَّباتِ وظروفِ الأمس، وليس بوسع الإنسان أن يتجرد منها أو يفكر خارجها، بل يتأثر بها بدرجةٍ ما.
٣
الرؤية الكلامية وأثرها في الفقه
الرؤية الكلامية هي التي تحدِّد رؤيةَ الإنسان للعالم، وتصوغ موقفَه حيال إلهه، فالمواقف عند المتكلِّمين والفلاسفة والمتصوِّفة والعارفين وغيرهم حيال الألوهية ليست واحدة، وهكذا مفهومهم للإنسان ونمط عَلاقته بالله يختلف تبعًا لذلك، فهو يتشكل في فضاء رؤيتهم الكونية. فمثلًا: من يستند إلى مباني أرسطو في إثبات وجود الله، لا يستطيع أن يفهم الله في القرآن بنحوٍ لا ينسجم مع تلك المباني،٢١ وهكذا من يتوكَّأ على منظور العارفين في إثبات وجود الله وعَلاقة الإنسان به، لا يمكن أن يفهم النص بشكل مغاير لذلك المنظور. هكذا يستقي فهم النصوص وتأويلها منظوراته من الرؤية الكونيَّة، ويتحدد في فضائها، ويمدُّ علمُ الكلامِ الفقهَ وأصولَه بالرؤى والمسلَّمات، التي تشكل وجهة نظره حيال مجالات الفقه وحدوده، وإمكانات الامتداد بالأحكام الشرعية زمانيًّا، وفي مختلِف الظروف والمناسبات، أو ما يُصْطَلَحُ عليه بالإطلاق الأزمانيِّ والأحواليِّ للأحكام.
ويشدِّدُ أصولُ الفقه على أنَّ إطلاق الأحكام وشمولها لكافة العصور، ومختلِف الظروف، والحالات، مستفاد من الأدلة اللفظية الواردة في الكتاب والسنة، إذ إن عدم تقييد الأدلة وتخصيصها يدل على استيعابها وعمومها، بناءً على ما يُعرف لدى الأصوليين في هذا العصر ﺑ «قرينة الحكمة»، وهي قرينة عامة يفصح عنها حالُ المتكلم، في أنَّ كل متكلِّم في مقامِ بيانِ تمامِ مرادِه بخطابِه، فما لم يقلْه لم يُرِدْهُ، ولمَّا لم يُقَيِّدْ ما نَطَقَ به، إذن فهو لا يريد المقيَّد، وإنما مرادُه المُطلق، بمعنى أنَّ الظهورَ الحاليَّ الذي تعتمد عليه قرينةُ الحكمة مفاده هو ألا يكون هناك قَيْدٌ من القيود دخيلًا في المراد الجِديِّ للمتكلِّم إلا ويبيِّنه ويذكره في خطابه؛ ذلك أنَّ ظاهر حال المتكلِّم هو أنَّه في مقام بيانِ تمامِ مرادِه الجِدِّي بكلامه، فالمعاني التي يريدها يُفصح عنها في حديثه، بينما ما لا يقوله في حديثه لا يريده، أي إنَّ كلَّ ما يكون قيدًا في مقصوده عادةً ما يقوله في الألفاظ الصادرةِ عنه، فإن لم يقله فهو ليس قيدًا في مقصوده. وهكذا يثبت الاستيعاب والشمولُ من خلالِ نفي القَيْدِ بقرينة الحكمة، فنفي القيد يعني إثبات الطبيعة المجردة لموضوعات الأحكام، التي تكون صالحة للانطباق على أي حالة من حالاتها، أو فرد من أفرادها، في كلِّ زمان ومكان. وبتعبير أصولِ الفقه تكون موضوعاتُ الأحكام مأخوذة بنحو القضايا الحقيقية الشاملة، فمتى توافرتْ تلك الحقيقةُ في أي زمان أو أي حالة يثبت لها الحكمُ، وليست الموضوعاتُ مأخوذةً بنحو القضايا الخارجية الخاصة بزمان معيَّن، وبذلك يستدلون على أبديَّة الأحكام وعمومها لكافة الأزمان والأحوال.٢٢
إن ما يفهمه البشر من الدين في مختلِف البيئات الثقافية والاجتماعية ليس كاملًا مَهْما كان. والقراءة المتأنية العميقة للميراث الفقهي والأصولي ترينا أنَّ ما تَرَاكَمَ من قواعد أصولية وفقهية وفتاوى إنما هي معطيات معرفيَّة منجزة في سياقاتٍ تاريخيَّة وثقافيَّة واجتماعية خاصَّة، ولا يمكن تجريدُها من بصمات العصر المنبثقة فيه، مثلما لا يصحُّ فصلُها عن المشروطيَّة الزمانية والمكانية والثقافية لمن أنتجها، فهي منخرطة في تاريخ أصحابها وتحمل تواقيع فهمهم وبصمة تفكيرهم، ولا يصحُّ التعاطي معها بوصفِها حقائق أو جواهر مثاليَّة تتخطَّى الواقعَ الذي وُلدتْ فيه. إنها ليست عابرةً للمحدِّدات والظروف والمحيط الذي تبلورتْ في داخله، فهي مرتهنة بالفضاء الخاصِّ ومسلَّمات الفقيه والأصولي الذي صاغها ودوَّنها؛ ذلك أنَّ «المسَبَّقات الفكرية لكلِّ فقيه، ونمط معرفته بالعالم الخارجي المحيط به، تؤثِّر في فتاواه، بحيث إن فتوى العربي تفوح منها رائحةُ العرب، وفتوى الأعجمي رائحةُ العجم، وفتوى القروي رائحة القرية، وفتوى المدني رائحة المدينة»،١٩ بحسب تعبير الشيخ مرتضى المطهري. إنَّ الفقيه والأصولي يصدران في النتائج التي يخلُصان إليها، عن النظام المعرفي السائد في عصرهما، وعن الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسَها في ذاك العصر.٢٠ فإنسان اليوم هو إنسان نظرياتِ ومتطلَّباتِ وظروفِ اليوم، وإنسان الأمس هو إنسان نظرياتِ ومتطلَّباتِ وظروفِ الأمس، وليس بوسع الإنسان أن يتجرد منها أو يفكر خارجها، بل يتأثر بها بدرجةٍ ما.
٣
الرؤية الكلامية وأثرها في الفقه
الرؤية الكلامية هي التي تحدِّد رؤيةَ الإنسان للعالم، وتصوغ موقفَه حيال إلهه، فالمواقف عند المتكلِّمين والفلاسفة والمتصوِّفة والعارفين وغيرهم حيال الألوهية ليست واحدة، وهكذا مفهومهم للإنسان ونمط عَلاقته بالله يختلف تبعًا لذلك، فهو يتشكل في فضاء رؤيتهم الكونية. فمثلًا: من يستند إلى مباني أرسطو في إثبات وجود الله، لا يستطيع أن يفهم الله في القرآن بنحوٍ لا ينسجم مع تلك المباني،٢١ وهكذا من يتوكَّأ على منظور العارفين في إثبات وجود الله وعَلاقة الإنسان به، لا يمكن أن يفهم النص بشكل مغاير لذلك المنظور. هكذا يستقي فهم النصوص وتأويلها منظوراته من الرؤية الكونيَّة، ويتحدد في فضائها، ويمدُّ علمُ الكلامِ الفقهَ وأصولَه بالرؤى والمسلَّمات، التي تشكل وجهة نظره حيال مجالات الفقه وحدوده، وإمكانات الامتداد بالأحكام الشرعية زمانيًّا، وفي مختلِف الظروف والمناسبات، أو ما يُصْطَلَحُ عليه بالإطلاق الأزمانيِّ والأحواليِّ للأحكام.
ويشدِّدُ أصولُ الفقه على أنَّ إطلاق الأحكام وشمولها لكافة العصور، ومختلِف الظروف، والحالات، مستفاد من الأدلة اللفظية الواردة في الكتاب والسنة، إذ إن عدم تقييد الأدلة وتخصيصها يدل على استيعابها وعمومها، بناءً على ما يُعرف لدى الأصوليين في هذا العصر ﺑ «قرينة الحكمة»، وهي قرينة عامة يفصح عنها حالُ المتكلم، في أنَّ كل متكلِّم في مقامِ بيانِ تمامِ مرادِه بخطابِه، فما لم يقلْه لم يُرِدْهُ، ولمَّا لم يُقَيِّدْ ما نَطَقَ به، إذن فهو لا يريد المقيَّد، وإنما مرادُه المُطلق، بمعنى أنَّ الظهورَ الحاليَّ الذي تعتمد عليه قرينةُ الحكمة مفاده هو ألا يكون هناك قَيْدٌ من القيود دخيلًا في المراد الجِديِّ للمتكلِّم إلا ويبيِّنه ويذكره في خطابه؛ ذلك أنَّ ظاهر حال المتكلِّم هو أنَّه في مقام بيانِ تمامِ مرادِه الجِدِّي بكلامه، فالمعاني التي يريدها يُفصح عنها في حديثه، بينما ما لا يقوله في حديثه لا يريده، أي إنَّ كلَّ ما يكون قيدًا في مقصوده عادةً ما يقوله في الألفاظ الصادرةِ عنه، فإن لم يقله فهو ليس قيدًا في مقصوده. وهكذا يثبت الاستيعاب والشمولُ من خلالِ نفي القَيْدِ بقرينة الحكمة، فنفي القيد يعني إثبات الطبيعة المجردة لموضوعات الأحكام، التي تكون صالحة للانطباق على أي حالة من حالاتها، أو فرد من أفرادها، في كلِّ زمان ومكان. وبتعبير أصولِ الفقه تكون موضوعاتُ الأحكام مأخوذة بنحو القضايا الحقيقية الشاملة، فمتى توافرتْ تلك الحقيقةُ في أي زمان أو أي حالة يثبت لها الحكمُ، وليست الموضوعاتُ مأخوذةً بنحو القضايا الخارجية الخاصة بزمان معيَّن، وبذلك يستدلون على أبديَّة الأحكام وعمومها لكافة الأزمان والأحوال.٢٢
لكنَّ هذا التصورَ غيرُ مكتمل؛ ذلك أنَّ ما يقرر شمول الأحكام وإطلاقها الأزماني والأحوالي أبعدُ مدًى مما تكشف عنه الأدلةُ اللفظية، فإنَّه يحيل إلى أن بنيةَ ذهنية الفقيه مشْبَعة بمجموعة مسلَّمات، تشكِّل بأسرها مسَبَّقات لاواعية، لم يلتفت إليها الفقيهُ حينما يمارس عملية الاستنباط، فهو لا يستخلص فتاواه وآراءَه من تلك النصوص المتاحة له، بل إن ضيق وسَعَة معاني ومضامين النصوص، واستيعابها أو اقتصارها على موارد محدَّدة، تنتجه عدَّةُ مقولات كلامية يعتبرها مسلَّمات، وتؤطِّر فهمه للإنسان وطبيعة عَلاقته بالله، والوحي والنبوة وختم النبوة، والأحكام الشرعية. فأبديَّة الأحكام وامتدادها تصدر عن المواقف الكلامية، وإن كانت بالنظرة الأولية تبدو أنها مستقاة من الأدلة اللفظية.
فعندما يفترض محمد إقبال مثلًا، مفهومًا معينًا عن النبوة وختمها، يقوده ذلك المفهوم إلى نتيجة مغايرة في إطلاق وأبدية الأحكام لكل العصور. ففي ومضة سريعة يوجز إقبال رؤيتَه لختم النبوة، بصيغة لا تكرِّر المفهوم المتداول في علم الكلام، قائلًا: «إنَّ النبوة في الإسلام لتبلغ كمالَها الأخير في الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مِقودٍ يُقَادُ منه. وإن الإنسانَ لكي يحصل كمالُ معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو.»٢٣ إن هذا المفهوم لختم النبوة يفترض أنَّ الحاجة للنبوة تختص بمرحلة الطفولة البشرية، قبل نضوج العقل، وتفتُّح ملكةِ النقد لديه، وهو مفهوم يرتكز على «فهم ختم النبوة أنَّها ختم من الخارج، أي إن هذا الختم يضع حدًّا نهائيًّا لضرورةِ اعتماد الإنسان على مصدرٍ في المعرفة، ومعيار في السلوك، مستمَدَّين من غير مؤهِّلاته الذاتية. إنه إيذانٌ بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبةً، إنه تدشين لمرحلة جديدة في التاريخ، لا يحتاج فيها الإنسانُ، وقد بلغ سنَّ الرُّشد، إلى من يقودُه، وإلى من يتَّكئ عليه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ. وتكون وظيفةُ نبيِّ الإسلام في هذه الحالة إرشادَ الإنسان إلى مسئوليته الجديدة، وتحميلَه تبعات اختياراته، مَثله إذن مَثل من أغلق باب بيته — الذي هو بالنسبة إليه بيت النبوة، بيت جميع الأنبياء — وختمَه من الخارج، فلم يبق سجينًا له، وساح في أرض الله الواسعة.»٢٤
تستقي رؤيةُ محمد إقبال لتطبيق الشريعة على الأجيال اللاحقة من تصوُّره هذا للوحي والخاتميَّة، فهو يحلِّل طريقةَ النبي (ص) وأسلوبه في تطبيق الأحكام على الأمَّة في عَصْر البعثة، واعتبارها مثالًا نَموذجيًّا لما يأتي، فالمقصود كما يرى ليس هو تطبيق الأحكام، وإنما ما يمكن استخلاصه من مؤشرات قيمية عامة، ورفد وتنمية المشاعر المتسامية والخبرة والتجرِبة الرُّوحية. يكتب إقبال: «إنَّ القرآن ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيسيُّ هو أنْ يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتبِ الشُّعور بما بينه وبين الله وبينه وبينَ الكون من صلات. والطريقة التي يتَّبعها النبي، هي أن يُعَلِّمَ أمَّة معينة، ويتخذ منها نواةً لبناء شريعة عالميَّة. وهو في هذه الحالة يؤكِّد المبادئ التي تنهض عليها الحياةُ الاجتماعية للبشر جميعًا، ويطبِّقها على حالات معينة في ضوء العاداتِ المميِّزة للأمة التي هو فيها. وأحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق — كالأحكام الخاصة بعقوبات الجرائم — هي أحكام يمكن أن يُقال عنها إنها تخصُّ هذه الأمة. ولما كانت هذه الأحكام ليست مقصودةً لذاتها فلا يمكن أن تُفْرَضَ بِحَرْفِيَّتِها على الأجيال المقبلة.»٢٥
ويشدِّد محمد إقبال على التجرِبة الدينية الباطنيَّة، ويعتبرها أحد مصادر المعرفة الثلاثة، بموازاة الطبيعة والتاريخ، ويشير إلى استغناء البشريَّة في العصر الحديث عن الحاجة المباشرة إلى تعاليم الأنبياء، وكأنَّ الإنسان يستغني بالتدريج عن النبي (ص)، كما يستغني المريضُ عن الطبيب، والطفل عن حضانة الأبوين. فالإنسانية تتكامل تدريجيًّا، وتجتاز مرحلة عَقِيب أخرى، كيما تنتهي إلى مرحلة لا تحتاج معها تعاليمَ الأنبياء. ذلك أنَّ الأنبياء بشَّروا بتعاليمهم ونشروها بين الناس، وأضحت متاحةً كالماء والهواء في متناول الجميع، فانتشرتْ وترسَّخت تلك التعاليم بنحوٍ صارت معه حياةُ الإنسان مهتديةً بهَدي الأنبياء، إنها بمثابة المؤشِّرات والمنطلقات العامة، التي أنضجتِ الوعيَ، فبلغ العقلُ من خلالها مرتبةَ الرُّشد، وتحرَّرت معها إرادةُ الإنسان.٢٦
من هنا يتجلَّى أنَّ القول بأبديَّة الأحكام وشمولها لكافة العصور، يرتكز على مسلَّمات الفقيه الذهنية المضمرة، بمعنى أن المضمرات الكلاميَّة للفقيه أو أيديولوجيته ورؤيته للعالم، ونظرته للإنسان، والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي المنخرط فيه؛ كلُّ ذلك يساهم في تحديد خياراته في الفتوى، ويدعوه لتبنِّي وانتخاب أحد المواقف من دون سواه.
فعندما يفترض محمد إقبال مثلًا، مفهومًا معينًا عن النبوة وختمها، يقوده ذلك المفهوم إلى نتيجة مغايرة في إطلاق وأبدية الأحكام لكل العصور. ففي ومضة سريعة يوجز إقبال رؤيتَه لختم النبوة، بصيغة لا تكرِّر المفهوم المتداول في علم الكلام، قائلًا: «إنَّ النبوة في الإسلام لتبلغ كمالَها الأخير في الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مِقودٍ يُقَادُ منه. وإن الإنسانَ لكي يحصل كمالُ معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو.»٢٣ إن هذا المفهوم لختم النبوة يفترض أنَّ الحاجة للنبوة تختص بمرحلة الطفولة البشرية، قبل نضوج العقل، وتفتُّح ملكةِ النقد لديه، وهو مفهوم يرتكز على «فهم ختم النبوة أنَّها ختم من الخارج، أي إن هذا الختم يضع حدًّا نهائيًّا لضرورةِ اعتماد الإنسان على مصدرٍ في المعرفة، ومعيار في السلوك، مستمَدَّين من غير مؤهِّلاته الذاتية. إنه إيذانٌ بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبةً، إنه تدشين لمرحلة جديدة في التاريخ، لا يحتاج فيها الإنسانُ، وقد بلغ سنَّ الرُّشد، إلى من يقودُه، وإلى من يتَّكئ عليه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ. وتكون وظيفةُ نبيِّ الإسلام في هذه الحالة إرشادَ الإنسان إلى مسئوليته الجديدة، وتحميلَه تبعات اختياراته، مَثله إذن مَثل من أغلق باب بيته — الذي هو بالنسبة إليه بيت النبوة، بيت جميع الأنبياء — وختمَه من الخارج، فلم يبق سجينًا له، وساح في أرض الله الواسعة.»٢٤
تستقي رؤيةُ محمد إقبال لتطبيق الشريعة على الأجيال اللاحقة من تصوُّره هذا للوحي والخاتميَّة، فهو يحلِّل طريقةَ النبي (ص) وأسلوبه في تطبيق الأحكام على الأمَّة في عَصْر البعثة، واعتبارها مثالًا نَموذجيًّا لما يأتي، فالمقصود كما يرى ليس هو تطبيق الأحكام، وإنما ما يمكن استخلاصه من مؤشرات قيمية عامة، ورفد وتنمية المشاعر المتسامية والخبرة والتجرِبة الرُّوحية. يكتب إقبال: «إنَّ القرآن ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيسيُّ هو أنْ يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتبِ الشُّعور بما بينه وبين الله وبينه وبينَ الكون من صلات. والطريقة التي يتَّبعها النبي، هي أن يُعَلِّمَ أمَّة معينة، ويتخذ منها نواةً لبناء شريعة عالميَّة. وهو في هذه الحالة يؤكِّد المبادئ التي تنهض عليها الحياةُ الاجتماعية للبشر جميعًا، ويطبِّقها على حالات معينة في ضوء العاداتِ المميِّزة للأمة التي هو فيها. وأحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق — كالأحكام الخاصة بعقوبات الجرائم — هي أحكام يمكن أن يُقال عنها إنها تخصُّ هذه الأمة. ولما كانت هذه الأحكام ليست مقصودةً لذاتها فلا يمكن أن تُفْرَضَ بِحَرْفِيَّتِها على الأجيال المقبلة.»٢٥
ويشدِّد محمد إقبال على التجرِبة الدينية الباطنيَّة، ويعتبرها أحد مصادر المعرفة الثلاثة، بموازاة الطبيعة والتاريخ، ويشير إلى استغناء البشريَّة في العصر الحديث عن الحاجة المباشرة إلى تعاليم الأنبياء، وكأنَّ الإنسان يستغني بالتدريج عن النبي (ص)، كما يستغني المريضُ عن الطبيب، والطفل عن حضانة الأبوين. فالإنسانية تتكامل تدريجيًّا، وتجتاز مرحلة عَقِيب أخرى، كيما تنتهي إلى مرحلة لا تحتاج معها تعاليمَ الأنبياء. ذلك أنَّ الأنبياء بشَّروا بتعاليمهم ونشروها بين الناس، وأضحت متاحةً كالماء والهواء في متناول الجميع، فانتشرتْ وترسَّخت تلك التعاليم بنحوٍ صارت معه حياةُ الإنسان مهتديةً بهَدي الأنبياء، إنها بمثابة المؤشِّرات والمنطلقات العامة، التي أنضجتِ الوعيَ، فبلغ العقلُ من خلالها مرتبةَ الرُّشد، وتحرَّرت معها إرادةُ الإنسان.٢٦
من هنا يتجلَّى أنَّ القول بأبديَّة الأحكام وشمولها لكافة العصور، يرتكز على مسلَّمات الفقيه الذهنية المضمرة، بمعنى أن المضمرات الكلاميَّة للفقيه أو أيديولوجيته ورؤيته للعالم، ونظرته للإنسان، والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي المنخرط فيه؛ كلُّ ذلك يساهم في تحديد خياراته في الفتوى، ويدعوه لتبنِّي وانتخاب أحد المواقف من دون سواه.
ويرتبط نمطُ فهم النصوص بتطلُّعات الإنسان وأفق انتظاره من الدين، فالإنسانُ الذي يتوقَّع من النَّصِّ استيعابه للنُّظم الاجتماعية والمعارف والعلوم الطبيعية والإنسانيَّة، نراه ينشد انتزاع كافَّة النُّظم والمعارف والعلوم من الكتاب والسُّنَّة، خلافًا لمن لا يترقب ذلك، ويفترض أنَّ النصَّ يستوعب ما يرتبط بهداية الإنسان وسعادته الأخروية فقط، وأنَّ الدين ليس بديلًا عن العقل، أو التجرِبة البشرية، وأن العقل وما يتراكم من خبرات عبر التاريخ، هو ما يتكفل بإدارة وتدبير وتنمية الحياة البشرية، الثابت هو القيم التي يحتاجها الإنسانُ بوصفه إنسانًا في كلِّ زمان ومكان، أمَّا «ما يتضمنه الكتابُ والسنة بشأن العَلاقات العائلية والحكومية والقضاء والعقوبات والمعاملات، وما إليها من إمضاءات بحتة أو تهذيبات وتوجيهات، فلم يكن الهدفُ منها تقنين العَلاقات العائليَّة أو الاجتماعيَّة أو ما يتعلق بشئون الدولة، بقوانين ثابتة لا تتغير. فالثابِت والخالد في هذه الإمضاءات هو القيم، إنها هي المقصودة والمستهدفة من عملية التعديل التي تمَّت عبر الكِتاب والسُّنة. وهي المعيار والملهِم لإجراءات من هذا القبيل. إن هذه القيم ليستْ أمورًا مستقلة، بل هي منبثقة من ضروراتِ السلوك التوحيدي، فتُفسَّر بجوارها، وتكتسب قيمتها منها.»٢٧
لم ينزل القرآن ليشطب على الحضارات والثقافات الإنسانية، وإنما جاء ليُضفيَ على ما هو موجود طابعًا جديدًا يسير به صوبَ التَّوحيد، كما أنَّ الهداية الإلهيَّة لا تبلَّغ للإنسان عن طريق الأنبياء وحسب، وإنَّما الحلول الإنسانية لمعضلات الحياة وترتيب شئونها هي الأخرى هداية إلهية. ولم يكن الانتشارُ السريع للإسلام، وتغطيته لرقعة واسعة تمتد من الأندلس إلى الصين، بعد أقلَّ من قرن على ظهوره، إلا بسبب اعترافه بالتعبيرات الثقافيَّة المتنوِّعة للمجتمعات، وقبوله الأساليب المتفاوتة للحياة الإنسانية لدى الشعوب. وعدم إصراره على طمسها أو مناهضتها، والاقتصار على ترشيدها وتقويمها بالقدر الذي يضمن عدم تنافيها مع قِيَمِ الإسلام وعقيدة التوحيد.٢٨ فقد استطاع الإسلامُ أن يستوعب ويهضم أشكال التمدُّن والتنظيمات والتدبيرات والمعارف والآداب والفنون السائدة في تلك المجتمعات، ويسكبها في إطار واحد، ويصوغ منها نَموذجًا عالميًّا للتحضُّر.
وهكذا نخلُص إلى أن الاستنباط الفقهي يستند إلى القواعد الأصولية التي تمهِّد لهذه العملية، وتشكِّل المقدِّمات والأدوات اللازمة لصوغ الفتاوى، فلا استنباط للأحكام الشرعية من دون الاعتماد على الأصول، وقواعد أصول الفقه تصدر عن مسلَّمات وآراء اعتقادية تتشكل في حقل التفكير الكلامي. وبكلمة موجزة: إن الاجتهاد الفقهيَّ يعتمد على الاجتهاد الأصولي، ولا اجتهاد في أصول الفقه ما لم يتجدَّد علمُ الكلام، أي لا معنى لتحديثِ الفقه من دون تحديث مرجعيَّاته الكلاميَّة.
إن هذه الورقة لا تتحدث عن تاريخ نشأة الفقه، أو أصول الفقه، أو علم الكلام، ولا تؤرخ لولادة أيٍّ من هذه المعارف، أو تبحث فيمن هو سابق أو لاحق في تدوينه على سواه، وإنما هي محاولة للكشف عن شيء من عناصر البنية العميقة والمضمرات والمسلَّمات والمرجعيات الاعتقادية الثاويَة والمستترة في الذهنية الفقهية عند الاستنباط، والتي تتحدد في سياق الرؤية الكلامية للفقيه.
١ ندوة «تطور العلوم الفقهية: التقنين والتجديد في الفقه الإسلامي الحديث والمعاصر»، مسقط، عُمان، ٥–٨ نيسان ٢٠٠٨م.
٢ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، بيروت، دار صادر، ج٧ ص٢٨٧، ج٨ ص١٠٩-١١٠، ج٩ ص١٢٤.
٣ محمد بو هلال: إسلام المتكلمين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٦م، ص٢٠–٢٢.
٤ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، ج١، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، ط٤، ٢٠٠٧م، ص٥٥-٥٦.
٥ المصدر السابق، ص٣٤٦.
٦ الطوسي: العُدة في أصول الفقه، قُم، مؤسسة البعثة، ١٤١٧ﻫ، ص١٩٤.
المحقِّق الحِلِّي: معارج الأصول، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مؤسسة آل البيت، ١٤٠٣ﻫ، ص١١٢.
العلَّامة الحِلِّي: منتهى المطلب، تِبريز، ١٣٣٣ﻫ، ج١، ص١٤٨.
الفاضل التُّوني: الوافية، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مجمع الفكر الإسلامي، ١٤١٢ﻫ، ص٨٨.
محمد باقر الصَّدر: بحوث في علم الأصول، تقريرات: محمود الهاشمي، قُم، مج٤، ص٢٨-٢٩.
لم ينزل القرآن ليشطب على الحضارات والثقافات الإنسانية، وإنما جاء ليُضفيَ على ما هو موجود طابعًا جديدًا يسير به صوبَ التَّوحيد، كما أنَّ الهداية الإلهيَّة لا تبلَّغ للإنسان عن طريق الأنبياء وحسب، وإنَّما الحلول الإنسانية لمعضلات الحياة وترتيب شئونها هي الأخرى هداية إلهية. ولم يكن الانتشارُ السريع للإسلام، وتغطيته لرقعة واسعة تمتد من الأندلس إلى الصين، بعد أقلَّ من قرن على ظهوره، إلا بسبب اعترافه بالتعبيرات الثقافيَّة المتنوِّعة للمجتمعات، وقبوله الأساليب المتفاوتة للحياة الإنسانية لدى الشعوب. وعدم إصراره على طمسها أو مناهضتها، والاقتصار على ترشيدها وتقويمها بالقدر الذي يضمن عدم تنافيها مع قِيَمِ الإسلام وعقيدة التوحيد.٢٨ فقد استطاع الإسلامُ أن يستوعب ويهضم أشكال التمدُّن والتنظيمات والتدبيرات والمعارف والآداب والفنون السائدة في تلك المجتمعات، ويسكبها في إطار واحد، ويصوغ منها نَموذجًا عالميًّا للتحضُّر.
وهكذا نخلُص إلى أن الاستنباط الفقهي يستند إلى القواعد الأصولية التي تمهِّد لهذه العملية، وتشكِّل المقدِّمات والأدوات اللازمة لصوغ الفتاوى، فلا استنباط للأحكام الشرعية من دون الاعتماد على الأصول، وقواعد أصول الفقه تصدر عن مسلَّمات وآراء اعتقادية تتشكل في حقل التفكير الكلامي. وبكلمة موجزة: إن الاجتهاد الفقهيَّ يعتمد على الاجتهاد الأصولي، ولا اجتهاد في أصول الفقه ما لم يتجدَّد علمُ الكلام، أي لا معنى لتحديثِ الفقه من دون تحديث مرجعيَّاته الكلاميَّة.
إن هذه الورقة لا تتحدث عن تاريخ نشأة الفقه، أو أصول الفقه، أو علم الكلام، ولا تؤرخ لولادة أيٍّ من هذه المعارف، أو تبحث فيمن هو سابق أو لاحق في تدوينه على سواه، وإنما هي محاولة للكشف عن شيء من عناصر البنية العميقة والمضمرات والمسلَّمات والمرجعيات الاعتقادية الثاويَة والمستترة في الذهنية الفقهية عند الاستنباط، والتي تتحدد في سياق الرؤية الكلامية للفقيه.
١ ندوة «تطور العلوم الفقهية: التقنين والتجديد في الفقه الإسلامي الحديث والمعاصر»، مسقط، عُمان، ٥–٨ نيسان ٢٠٠٨م.
٢ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، بيروت، دار صادر، ج٧ ص٢٨٧، ج٨ ص١٠٩-١١٠، ج٩ ص١٢٤.
٣ محمد بو هلال: إسلام المتكلمين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٦م، ص٢٠–٢٢.
٤ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، ج١، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، ط٤، ٢٠٠٧م، ص٥٥-٥٦.
٥ المصدر السابق، ص٣٤٦.
٦ الطوسي: العُدة في أصول الفقه، قُم، مؤسسة البعثة، ١٤١٧ﻫ، ص١٩٤.
المحقِّق الحِلِّي: معارج الأصول، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مؤسسة آل البيت، ١٤٠٣ﻫ، ص١١٢.
العلَّامة الحِلِّي: منتهى المطلب، تِبريز، ١٣٣٣ﻫ، ج١، ص١٤٨.
الفاضل التُّوني: الوافية، تحقيق: محمد حسين الرضوي، قُم، مجمع الفكر الإسلامي، ١٤١٢ﻫ، ص٨٨.
محمد باقر الصَّدر: بحوث في علم الأصول، تقريرات: محمود الهاشمي، قُم، مج٤، ص٢٨-٢٩.
٧ محمد كاظم الخراساني: كفاية الأصول، قُم، مؤسسة النشر الإسلامي، ١٤١٥ﻫ، ص٨٩؛ محمد حسين الأصفهاني: نهاية الدراية، قُم، مؤسسة آل البيت، ج١، ص١٦٧.
٨ محمد كاظم الخراساني: مصدر سابق، ص٣١٩-٣٢٠.
٩ المصدر السابق، ص٨٨؛ نهاية الدراية، ج١، ص١٦٥.
١٠ المصدر السابق، ص١٤٥.
١١ المصدر السابق، ص٧٦–٧٨.
١٢ المصدر السابق، ص٩١، ٣٤٢.
١٣ المصدر السابق، ص٨٨–٩٠ و٣٠٠.
١٤ الشريف المرتضى: الذخيرة في علم الكلام، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، قُم، مؤسسة النشر الإسلامي، ص٢٢٣.
١٥ نور الدين بو ثوري: «مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد»، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٠م، ص٣٦.
١٦ محمد حمزة: إسلام المجدِّدين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٧م، ص٤٦.
١٧ أحد فرامرز قراملكي: مناهج البحث في الدراسات الدينية، ترجمة: سرمد الطائي، بيروت، معهد المعارف الحكمية، ٢٠٠٤م، ص٨٥.
١٨ عبد الكريم سروش: القبض والبسط في الشريعة، ترجمة: د. دلال عباس، بيروت، دار الجديد، ٢٠٠٢م، ص٩٦ و١٠٢ و١١٩ و١٢٤.
١٩ مرتضى المطهري: الاجتهاد في الإسلام، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، طهران، مؤسسة البعثة، ص٢٧.
٢٠ محمد عابد الجابري: وجهة نظر نحو إعادة بناء الفكر العربي المعاصر، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ١٩٩٢م، ص٦٦.
٢١ عبد الكريم سروش: مصدر سابق، ص١٩٨-١٩٩ و٢٠٣-٢٠٤.
٢٢ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، مصدر سابق، ج١، ص٢٠٧–٢١٠.
٢٣ محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: محمود عباس، القاهرة، ١٩٥٥م، ص١٤٤.
٢٤ عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠١م، ص٩١.
٢٥ محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٩٠، ١٩٧.
٢٦ عبد الكريم سروش: مدارا ومديريت، طهران، صراط، ص٤٠٨–٤١٢.
٢٧ محمد مجتهد شبستري: هرمونتك، كتاب وسنت، طهران، طرح نو، ص٨٧.
٢٨ محمد مجتهد شبستري: المصدر السابق، ص٢١٠–٢١٥. https://www.hindawi.org/books/74738615/4/
٨ محمد كاظم الخراساني: مصدر سابق، ص٣١٩-٣٢٠.
٩ المصدر السابق، ص٨٨؛ نهاية الدراية، ج١، ص١٦٥.
١٠ المصدر السابق، ص١٤٥.
١١ المصدر السابق، ص٧٦–٧٨.
١٢ المصدر السابق، ص٩١، ٣٤٢.
١٣ المصدر السابق، ص٨٨–٩٠ و٣٠٠.
١٤ الشريف المرتضى: الذخيرة في علم الكلام، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، قُم، مؤسسة النشر الإسلامي، ص٢٢٣.
١٥ نور الدين بو ثوري: «مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد»، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٠م، ص٣٦.
١٦ محمد حمزة: إسلام المجدِّدين، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠٧م، ص٤٦.
١٧ أحد فرامرز قراملكي: مناهج البحث في الدراسات الدينية، ترجمة: سرمد الطائي، بيروت، معهد المعارف الحكمية، ٢٠٠٤م، ص٨٥.
١٨ عبد الكريم سروش: القبض والبسط في الشريعة، ترجمة: د. دلال عباس، بيروت، دار الجديد، ٢٠٠٢م، ص٩٦ و١٠٢ و١١٩ و١٢٤.
١٩ مرتضى المطهري: الاجتهاد في الإسلام، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، طهران، مؤسسة البعثة، ص٢٧.
٢٠ محمد عابد الجابري: وجهة نظر نحو إعادة بناء الفكر العربي المعاصر، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ١٩٩٢م، ص٦٦.
٢١ عبد الكريم سروش: مصدر سابق، ص١٩٨-١٩٩ و٢٠٣-٢٠٤.
٢٢ عبد الجبار الرفاعي: محاضرات في أصول الفقه، مصدر سابق، ج١، ص٢٠٧–٢١٠.
٢٣ محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: محمود عباس، القاهرة، ١٩٥٥م، ص١٤٤.
٢٤ عبد المجيد الشرفي: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠١م، ص٩١.
٢٥ محمد إقبال: مصدر سابق، ص١٩٠، ١٩٧.
٢٦ عبد الكريم سروش: مدارا ومديريت، طهران، صراط، ص٤٠٨–٤١٢.
٢٧ محمد مجتهد شبستري: هرمونتك، كتاب وسنت، طهران، طرح نو، ص٨٧.
٢٨ محمد مجتهد شبستري: المصدر السابق، ص٢١٠–٢١٥. https://www.hindawi.org/books/74738615/4/
www.hindawi.org
المَرْجِعِيَّاتُ الكلاميَّة وأثرُها في الاستنباطِ الفقهيِّ | الدين والنزعة الإنسانية | مؤسسة هنداوي
هل يستحق الجيل الجديد الثناء؟ بروين حبيب قبل أكثر من سنة كتبت في جريدتنا هذه مقالا بعنوان «عبد الجبار الرفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود»، تناولت فيه كتابه «مسرات القراءة ومخاض الكتابة»، وفي قراءتي للكتاب استوقفتني فكرة بدت لي مفاجئة، حتى لا أقول غريبة، عن موقف الرفاعي من جيل الشباب، كتبت عنها «عبد الجبار الرفاعي الذي نشأ في بيئة تقليدية محافظة، وقضى سنوات طويلة من عمره دارسا ومدرسا للعلوم الدينية وهو حاصل على ماجستير في علم الكلام ودكتوراه في الفلسفة الإسلامية، يملك مرونة فكرية متسامحة مع الجيل الجديد وآليات اكتسابه للمعرفة»، ولم أركز عليها كثيرا باعتبار أن مقالي كان عن كتابه المخصص للقراءة والكتابة، لذلك كنت سعيدة بصدور كتاب له يشي عنوانه «ثناء على الجيل الجديد»، بأن ما تناوله باقتضاب في كتابه السابق قد استوى مؤلفا مستقلا.....يعي الرفاعي أن هذه العتبة النصية الأولى، أي العنوان ستفاجئ قارئيه، بل وتستفز مجايليه الذين «يكابدون صراعا مع الأبناء»، وهو حال الكثيرين، كما أنها تحمل مقابلها الضمني اللامنطوق الذي قد يرد على ذهن هؤلاء القراء، أي «هجاء الجيل القديم»، رغم أن مديح جيل لا يستدعي بالضرورة ذم الجيل المقابل له. ويمكن للجملتين اللتين افتتح بهما المؤلف كتابه، أن تكونا إضاءة أولى على المقصود من العنوان، فقد جاء فيهما «تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي.. تعلمت من تلامذتي أكثر من أساتذتي»، وعن هؤلاء الأبناء والتلامذة قدم لنا عبد الجبار الرفاعي كتابه، في مقدمة وسبعة فصول متفاوتة الطول، ما له تعلق بموضوع الكتاب هما الفصلان الأول بعنوان، «ثناء على الجيل الجديد» والثاني بعنوان «التربية خيارها الحصانة لا المنع» مضافا إليهما الفصل السادس بعنوان «أمية الأساتذة الثقافية والرقمية»، الذي كنت أفضل أن يأخذ مكانه الطبيعي بعد الفصلين الأولين لارتباطه العضوي بهما.
في مقدمة الكتاب يوضح لنا الكاتب أنه لا يريد «أن يكون محاميا عن جيل يتميز بالجرأة والوضوح والمباشرة في التعبير عن ذاته وهمومه»، بل يعتبر ما كتبه محاولة منه لتفسير مميزات جيل الأبناء، التي أهلتهم للتفوق على آبائهم، فهذه الفكرة يقينية عند الكاتب، يبدأ بها ويعيد، ولا يحتاج للدوران حولها، بل يعلنها قطعية بأن جذوة الشباب تلهمه أكثر من حكمة الشيوخ. ويورد في الفصل الأول -الذي استعار منه الكتاب عنوانه والمجزأ إلى خمسة أجزاء – مقارنة بين الجيلين محسومة سلفا للجيل الجديد، الذي يراه الكاتب نسيجا مركبا معقدا، أسئلته صعبة تشبه عالمه، في حين أسئلة أسلافه بسيطة، فهذا الجيل واقعي لا يصدق الأوهام ولا يتشبث بالأحلام، ولا يصل إلى اليقين بسهولة، مقابل آبائه الرومانسيين الحالمين المولعين بعبادة الأصنام البشرية، من زعامات دينية وسياسية، وأعتقد أن هذه النقطة ليست بالضرورة ذات لونين أسود وأبيض، ولعل منطقتها الرمادية أوسع مساحة، فللجيل الجديد -الذي يراه الرفاعي مولعا بتحطيم الأصنام- أصنامه أيضا من فنانين ونجوم سينما ومؤثرين.... يرجع عبد الجبار الرفاعي هذا التفوق لجيل الأبناء على جيل الآباء إلى الفجوة التي أحدثتها التكنولوجيا في العقود الأخيرة، ويرى أن الفجوة بين جيله وجيل آبائه ضيقة، في حين أنها بين جيله وجيل أبنائه واسعة بسعة العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، ويعطي مثالا عن حفيدته ذات العشر سنوات، التي تستهلك وقتها منذ أن تفيق صباحا في وسائل التواصل ومواقع الإنترنت ليختصر الفرق بينهما بهذه الجملة الموجزة «تدهشني سميراميس حين تتحدث بما تعلمته من اليوتوب ووسائل التواصل، تعرف أشياء ما زلت أجهل كثيرا منها». فالتكنولوجيا الحديثة التي تجلت في مختلف وسائل التواصل وفي تطبيقات الذكاء الاصطناعي مؤخرا، هي التي صنعت هذه الهوة الرقمية التي تتسع بسرعة ضوئية بين الجيلين: جيل ورقي تقليدي في طريقه إلى الانقراض، وجيل رقمي يمتلك «مهارات متنوعة في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي واستخداماتها المتنوعة، في تأمين متطلبات حياته المختلفة»، دون أن يقع الكاتب في فخ الإعجاب الأعمى غير المشروط بالعصر الرقمي، فقد يحمل في ثناياه حربا نووية شاملة، أو أوبئة غامضة مميتة وما وباء كوفيد منا ببعيد، أو تغيرات مناخية تجاوزت الاحتباس الحراري إلى «الغليان الحراري العالمي»، أو عبث علماء الوراثة بالجينات وإنتاج كائن غريب متوحش يقضي على الإنسان، أو تطوير أنظمة الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى مستوى يفوق إمكانية الإنسان على تسييرها والسيطرة عليها والتحكم فيها.
في مقدمة الكتاب يوضح لنا الكاتب أنه لا يريد «أن يكون محاميا عن جيل يتميز بالجرأة والوضوح والمباشرة في التعبير عن ذاته وهمومه»، بل يعتبر ما كتبه محاولة منه لتفسير مميزات جيل الأبناء، التي أهلتهم للتفوق على آبائهم، فهذه الفكرة يقينية عند الكاتب، يبدأ بها ويعيد، ولا يحتاج للدوران حولها، بل يعلنها قطعية بأن جذوة الشباب تلهمه أكثر من حكمة الشيوخ. ويورد في الفصل الأول -الذي استعار منه الكتاب عنوانه والمجزأ إلى خمسة أجزاء – مقارنة بين الجيلين محسومة سلفا للجيل الجديد، الذي يراه الكاتب نسيجا مركبا معقدا، أسئلته صعبة تشبه عالمه، في حين أسئلة أسلافه بسيطة، فهذا الجيل واقعي لا يصدق الأوهام ولا يتشبث بالأحلام، ولا يصل إلى اليقين بسهولة، مقابل آبائه الرومانسيين الحالمين المولعين بعبادة الأصنام البشرية، من زعامات دينية وسياسية، وأعتقد أن هذه النقطة ليست بالضرورة ذات لونين أسود وأبيض، ولعل منطقتها الرمادية أوسع مساحة، فللجيل الجديد -الذي يراه الرفاعي مولعا بتحطيم الأصنام- أصنامه أيضا من فنانين ونجوم سينما ومؤثرين.... يرجع عبد الجبار الرفاعي هذا التفوق لجيل الأبناء على جيل الآباء إلى الفجوة التي أحدثتها التكنولوجيا في العقود الأخيرة، ويرى أن الفجوة بين جيله وجيل آبائه ضيقة، في حين أنها بين جيله وجيل أبنائه واسعة بسعة العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، ويعطي مثالا عن حفيدته ذات العشر سنوات، التي تستهلك وقتها منذ أن تفيق صباحا في وسائل التواصل ومواقع الإنترنت ليختصر الفرق بينهما بهذه الجملة الموجزة «تدهشني سميراميس حين تتحدث بما تعلمته من اليوتوب ووسائل التواصل، تعرف أشياء ما زلت أجهل كثيرا منها». فالتكنولوجيا الحديثة التي تجلت في مختلف وسائل التواصل وفي تطبيقات الذكاء الاصطناعي مؤخرا، هي التي صنعت هذه الهوة الرقمية التي تتسع بسرعة ضوئية بين الجيلين: جيل ورقي تقليدي في طريقه إلى الانقراض، وجيل رقمي يمتلك «مهارات متنوعة في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي واستخداماتها المتنوعة، في تأمين متطلبات حياته المختلفة»، دون أن يقع الكاتب في فخ الإعجاب الأعمى غير المشروط بالعصر الرقمي، فقد يحمل في ثناياه حربا نووية شاملة، أو أوبئة غامضة مميتة وما وباء كوفيد منا ببعيد، أو تغيرات مناخية تجاوزت الاحتباس الحراري إلى «الغليان الحراري العالمي»، أو عبث علماء الوراثة بالجينات وإنتاج كائن غريب متوحش يقضي على الإنسان، أو تطوير أنظمة الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى مستوى يفوق إمكانية الإنسان على تسييرها والسيطرة عليها والتحكم فيها.
القدس العربي
هل يستحق الجيل الجديد الثناء؟ | بروين حبيب
قبل أكثر من سنة كتبت في جريدتنا هذه مقالا بعنوان «عبد الجبار الرفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود»، تناولت فيه كتابه «مسرات القراءة ومخاض الكتابة»، وفي قراءتي للكتاب استوقفتني فكرة بدت لي مفاجئة، حتى لا أقول غريبة، عن موقف الرفاعي من جيل الشباب، كتبت عنها «عبد…
ولكن هذه المخاوف لا تلغي ما أحدثته التكنولوجيا الحديثة في حياتنا من تحسينات استفاد منها جيل الشباب أكثر من غيرهم لأنهم ولدوا في أحضانها، فقد أزالت الطبقيات بمختلف أنواعها من «طبقية العلاقات الاجتماعية» وأنزلت الأرستقراطية من برجها العاجي، بل أخرجت مفهوم الثراء من معناه التقليدي المتوارث وأصبح إنجاز تطبيق واحد يعود على صاحبه بثروة كان السابقون يجمعونها عبر أجيال كاملة، كما أزالت طبقية التعليم بالكم الذي يصعب تصوره من المعلومات المتاحة مجانا وسبل التعلم المتطورة وغير التقليدية، ما جعل الكاتب يقول «لست متشائما في المستقبل الثقافي للجيل الجديد، لأن الثقافة اليوم تشهد ازدهارا في القراءة والكتابة والتداول الواسع لما ينشر ويكتب بوسائل وأساليب وكيفيات بديلة».
يضيء الرفاعي في كتابه على موضوع عجز نظام التربية والتعليم الموروث عن مجاراة جيل يستقي معارفه من العالم الرقمي قبل الأسرة والمدرسة «ففي أغلب البلاد العربية ينتمي العقل الذي يدير العملية التربوية والتعليمية إلى عصر لم تظهر فيه وسائل التواصل ولا الذكاء الاصطناعي»، ويعطي أمثلة عن مديري مؤسسات تربوية يعانون من أمية ثقافية رقمية ولا يمتلكون مهارات التعامل مع وسائل التواصل، بل بعضهم لا يمتلك بريدا إلكترونيا في عصر أصبحت ثقافته ثقافة رقمية، حيث منصات التواصل وتطبيقاتها تجاوزت دور الكتاب التقليدي في التربية والتعليم والتكوين المعرفي، زيادة على أن العملية التربوية بشكلها الحالي تقوم على المنع، في حين يرى الرفاعي أن خيارها الأفضل هو الحصانة. والأمر نفسه ينطبق على التدين عند الجيل الجديد، فالجيل الجديد لا يتجاوب مع «دين علم الكلام القديم» الذي اتسعت فيه مساحة الحظر على حساب الإباحة، وشاع فيه التشدد المحرم للفنون السمعية البصرية، فهو جيل كما يلخص الرفاعي نظرته إلى الدين «ليس ضد الله هو ضد الصورة الكئيبة التي رسمتها السلفية المتشددة»، لذلك انجذب إلى الصورة المضيئة لله في دين العرفاء، وهذا ما يفسر شيوع مقولات كبار الصوفية مثل، جلال الدين الرومي وابن عربي في منشورات الشباب ورواج الروايات التي تضيء حياة هؤلاء العرفانيين، مثل روايتيْ «قواعد العشق الأربعون» و»موت صغير»... ومع هذا تكفي الفصول المتعلقة بالجيل الجديد لتعطينا نظرة وافية عن مفكر استطاع تجاوزَ ثقافته الدينية التراثية التي استهلكت عقودا من عمره، وتجاوزَ محيطه بعقليته التقليدية اجتماعيا وفكريا وحتى سياسيا، لينظر بانفتاح كبير وأحيانا شديد التفاؤل إلى جيل يصفه جاهلوه بالتفاهة والرداءة، في حين نظر إليه رجل آخر يدعى علي بن أبي طالب قبل أربعة عشر قرنا نظرة مستقبلية حين قال «لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». https://www.alquds.co.uk/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d8%ad%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a1%d8%9f/ .
يضيء الرفاعي في كتابه على موضوع عجز نظام التربية والتعليم الموروث عن مجاراة جيل يستقي معارفه من العالم الرقمي قبل الأسرة والمدرسة «ففي أغلب البلاد العربية ينتمي العقل الذي يدير العملية التربوية والتعليمية إلى عصر لم تظهر فيه وسائل التواصل ولا الذكاء الاصطناعي»، ويعطي أمثلة عن مديري مؤسسات تربوية يعانون من أمية ثقافية رقمية ولا يمتلكون مهارات التعامل مع وسائل التواصل، بل بعضهم لا يمتلك بريدا إلكترونيا في عصر أصبحت ثقافته ثقافة رقمية، حيث منصات التواصل وتطبيقاتها تجاوزت دور الكتاب التقليدي في التربية والتعليم والتكوين المعرفي، زيادة على أن العملية التربوية بشكلها الحالي تقوم على المنع، في حين يرى الرفاعي أن خيارها الأفضل هو الحصانة. والأمر نفسه ينطبق على التدين عند الجيل الجديد، فالجيل الجديد لا يتجاوب مع «دين علم الكلام القديم» الذي اتسعت فيه مساحة الحظر على حساب الإباحة، وشاع فيه التشدد المحرم للفنون السمعية البصرية، فهو جيل كما يلخص الرفاعي نظرته إلى الدين «ليس ضد الله هو ضد الصورة الكئيبة التي رسمتها السلفية المتشددة»، لذلك انجذب إلى الصورة المضيئة لله في دين العرفاء، وهذا ما يفسر شيوع مقولات كبار الصوفية مثل، جلال الدين الرومي وابن عربي في منشورات الشباب ورواج الروايات التي تضيء حياة هؤلاء العرفانيين، مثل روايتيْ «قواعد العشق الأربعون» و»موت صغير»... ومع هذا تكفي الفصول المتعلقة بالجيل الجديد لتعطينا نظرة وافية عن مفكر استطاع تجاوزَ ثقافته الدينية التراثية التي استهلكت عقودا من عمره، وتجاوزَ محيطه بعقليته التقليدية اجتماعيا وفكريا وحتى سياسيا، لينظر بانفتاح كبير وأحيانا شديد التفاؤل إلى جيل يصفه جاهلوه بالتفاهة والرداءة، في حين نظر إليه رجل آخر يدعى علي بن أبي طالب قبل أربعة عشر قرنا نظرة مستقبلية حين قال «لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». https://www.alquds.co.uk/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d8%ad%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a1%d8%9f/ .
القدس العربي
هل يستحق الجيل الجديد الثناء؟ | بروين حبيب
قبل أكثر من سنة كتبت في جريدتنا هذه مقالا بعنوان «عبد الجبار الرفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود»، تناولت فيه كتابه «مسرات القراءة ومخاض الكتابة»، وفي قراءتي للكتاب استوقفتني فكرة بدت لي مفاجئة، حتى لا أقول غريبة، عن موقف الرفاعي من جيل الشباب، كتبت عنها «عبد…
الحريّة منزعًا أصيلاً في فكر الرفاعي
د. وسام حسين العبيدي
لا يخرج قارئ #عبدالجبار_الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو الهدف والغاية من بعثة الأنبياء والمرسلين، وبهذا لا بدّ من أنْ يكون النصُّ الديني في خدمة القيم الإنسانية لدى الإنسان، وليس العكس، بما وجدناه عند كثير من الذين أرادوا قلب المعادلة، عبر تأويلات تعسّفت بالنص الديني، وأبعدته عن غايته الأساس، بما آل إليه حال كثير من الجماعات والمذاهب والتيارات على مدى التاريخ، كان لأصحابها قراءاتهم للمدوّنة الدينية، بما ينسجم وتطلّعات تلك الجماعة أو ذلك المذهب، وكانت النتيجة أنْ صُودِر النص الديني من غايته الأساس في رفع مناسيب القيم الأخلاقية لدى البشر، والارتقاء بنزعاتهم لما فيه خير الإنسان بغضِّ النظر عن انتماءاتهم أو توجّهاتهم، وهنا يطرق الرفاعي نواقيس الخطر في كتابه المهم "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" بالتحذير من هذه القضية، عبر منافذ عدّة، كان أولها في مبحثٍ بعنوان: (الرحمة الإلهية مفتاح فهم القرآن) بادئًا بالقول فيه: "الرحمةُ صوتُ الله، ومعيار إنسانية الدين. لا يُؤتي الدينُ ثمارَهُ ما لم يكن تجربةً إيمانيةً تنبضُ فيها روح المؤمن بالرحمة. الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين، فكلُّ دينٍ مفرغٍ من الرحمة يفتقد رسالته الإنسانية" (ص: 17) وهذه الخلاصة التي يُقدمها لنا الرفاعي تُمثِّل الأساس الذي يُعوِّل عليه في تحريك المشهد المُلبّد بغيوم التباغض المُعلن عنها أو المخفيّ في قراءات ممثِّلي الجماعات الدينية والمذهبيّة – أيًّا كان ذلك الدين أو المذهب - ومن خلال تلك القراءات الأحادية، يتخندق كلُّ جماعةٍ بما لديهم من متاريس خطابيّة تؤثِّل وجودهم على حساب نسف المختلف عنهم، من دون مراعاة لأثر التجربة الفرديّة في تلقّي التعاليم الدينية، وبعبارةٍ أخرى: إنَّ إقصاء "الرحمة" وتمثّلاتها الدلالية: التسامح، التعايش، السِلْم، قبول الآخر، محدودية فهم الإنسان، ونسبية الوعي، على مستوى خطاب ممثِّلي الجماعات والمذاهب في المجال الديني، سببٌ في بقاء الدين غير فاعلٍ على المستوى التطبيقي عند هذه الجماعات، وجعله محدود المجال، الأمر الذي آل إليه حال كثير من المجتمعات المتديّنة، من تفشّي الأمراض الأخلاقية من كذبٍ ونفاق، وشهادة زور، ومن دجل، ومن طائفية وتعصّب مذهبي مقيت عند الأعم الأغلب من أتباع الأديان والمذاهب؛ لتجرُّد الدين من أهمِّ رسالة يُبشِّر بها ويدعو الناس إلى اعتناقها متمثِّلةً بالرحمة، وبافتقادها يخبرنا الرفاعي، أنَّ الدين يفتقد رسالته الإنسانية، التي من دونها لا يكون سوى خطابٍ يدعو إلى الكراهية وإلى العنف، وإلى نبذ الآخر المختلف، وإلى الانكماش حول الفهم السلفي للمتن الديني لقرونٍ خلت، بوصفه الأصل وما عداه فهو الخروج والضلال..! ومن هذا المنطلق، تناول الرفاعي بإسهابٍ وتفصيلٍ منطق "الفرقة الناجية" بوصفه أحد أبرز إفرازات إقصاء الرحمة وتمثّلاته الدلالية في الخطاب الديني، هذا المنطق الذي استدعاه وتبنّاه الأصوليون – لا بالمعنى الفقهي – المتشدِّدون، واعتاشوا على فتاته، وغيّبوا في طيّاته كلَّ موردٍ يُتيح فرصةً للآخر المختلف عنهم بشرعية الوجود قبالتهم، وذلك بعودة الرفاعي إلى المتن الأصل متمثّلا بالقرآن الكريم، بالدرجة الأساس، وهذه الإحالة تضمن لصاحبها عدم الوقوع "في شباك التفسيرات والمرويّات المتراكمة، وأنْ يعتمد القرآن مرجعيةً يستكشف في هديها صورة الله، ومنطق الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها" (ص: 28) وهذه العودة لا يُفهم منها الانكفاء على أدوات التفسير التي تبنّاها السلف من المفسِّرين، وسار على نهجهم كثير من المعاصرين، وإلا لم تكن النتيجة بأفضل مما توصّل إليه السلف، من غلبة "لغة العنف على لغة الرحمة، وأهدر كثيرون من مفسري القرآن وفقهاء الإسلام كل هذا الرصيد الدلالي المكثّف للرحمة، وصارت فاعلية دلالة آية السيف في القرآن مضافًا إلى ما تتسع له مصنّفات الحديث من روايات تعضِّد مضمونها، هي الأشد أثرًا والأوسع حضورًا في القول والفعل في الحياة السياسية لمجتمعات عالم الإسلام" (ص: 28) بل العودة بفهم لا يُشيح النظر عن المعارف الإنسانية التي أخذت حيّزها في ساحة الفكر، إيمانًا منه بأنَّ الخطاب الديني خطابٌ ينتمي لكل عصر، من حيث الفهم والتلقّي، ولا ينتهي فهمه عند من نزل عليهم ذلك الخطاب، وإلا عاش غريبًا بعيدًا عن هموم الناس وإيقاع الحياة المتطوِّر.
د. وسام حسين العبيدي
لا يخرج قارئ #عبدالجبار_الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو الهدف والغاية من بعثة الأنبياء والمرسلين، وبهذا لا بدّ من أنْ يكون النصُّ الديني في خدمة القيم الإنسانية لدى الإنسان، وليس العكس، بما وجدناه عند كثير من الذين أرادوا قلب المعادلة، عبر تأويلات تعسّفت بالنص الديني، وأبعدته عن غايته الأساس، بما آل إليه حال كثير من الجماعات والمذاهب والتيارات على مدى التاريخ، كان لأصحابها قراءاتهم للمدوّنة الدينية، بما ينسجم وتطلّعات تلك الجماعة أو ذلك المذهب، وكانت النتيجة أنْ صُودِر النص الديني من غايته الأساس في رفع مناسيب القيم الأخلاقية لدى البشر، والارتقاء بنزعاتهم لما فيه خير الإنسان بغضِّ النظر عن انتماءاتهم أو توجّهاتهم، وهنا يطرق الرفاعي نواقيس الخطر في كتابه المهم "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" بالتحذير من هذه القضية، عبر منافذ عدّة، كان أولها في مبحثٍ بعنوان: (الرحمة الإلهية مفتاح فهم القرآن) بادئًا بالقول فيه: "الرحمةُ صوتُ الله، ومعيار إنسانية الدين. لا يُؤتي الدينُ ثمارَهُ ما لم يكن تجربةً إيمانيةً تنبضُ فيها روح المؤمن بالرحمة. الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين، فكلُّ دينٍ مفرغٍ من الرحمة يفتقد رسالته الإنسانية" (ص: 17) وهذه الخلاصة التي يُقدمها لنا الرفاعي تُمثِّل الأساس الذي يُعوِّل عليه في تحريك المشهد المُلبّد بغيوم التباغض المُعلن عنها أو المخفيّ في قراءات ممثِّلي الجماعات الدينية والمذهبيّة – أيًّا كان ذلك الدين أو المذهب - ومن خلال تلك القراءات الأحادية، يتخندق كلُّ جماعةٍ بما لديهم من متاريس خطابيّة تؤثِّل وجودهم على حساب نسف المختلف عنهم، من دون مراعاة لأثر التجربة الفرديّة في تلقّي التعاليم الدينية، وبعبارةٍ أخرى: إنَّ إقصاء "الرحمة" وتمثّلاتها الدلالية: التسامح، التعايش، السِلْم، قبول الآخر، محدودية فهم الإنسان، ونسبية الوعي، على مستوى خطاب ممثِّلي الجماعات والمذاهب في المجال الديني، سببٌ في بقاء الدين غير فاعلٍ على المستوى التطبيقي عند هذه الجماعات، وجعله محدود المجال، الأمر الذي آل إليه حال كثير من المجتمعات المتديّنة، من تفشّي الأمراض الأخلاقية من كذبٍ ونفاق، وشهادة زور، ومن دجل، ومن طائفية وتعصّب مذهبي مقيت عند الأعم الأغلب من أتباع الأديان والمذاهب؛ لتجرُّد الدين من أهمِّ رسالة يُبشِّر بها ويدعو الناس إلى اعتناقها متمثِّلةً بالرحمة، وبافتقادها يخبرنا الرفاعي، أنَّ الدين يفتقد رسالته الإنسانية، التي من دونها لا يكون سوى خطابٍ يدعو إلى الكراهية وإلى العنف، وإلى نبذ الآخر المختلف، وإلى الانكماش حول الفهم السلفي للمتن الديني لقرونٍ خلت، بوصفه الأصل وما عداه فهو الخروج والضلال..! ومن هذا المنطلق، تناول الرفاعي بإسهابٍ وتفصيلٍ منطق "الفرقة الناجية" بوصفه أحد أبرز إفرازات إقصاء الرحمة وتمثّلاته الدلالية في الخطاب الديني، هذا المنطق الذي استدعاه وتبنّاه الأصوليون – لا بالمعنى الفقهي – المتشدِّدون، واعتاشوا على فتاته، وغيّبوا في طيّاته كلَّ موردٍ يُتيح فرصةً للآخر المختلف عنهم بشرعية الوجود قبالتهم، وذلك بعودة الرفاعي إلى المتن الأصل متمثّلا بالقرآن الكريم، بالدرجة الأساس، وهذه الإحالة تضمن لصاحبها عدم الوقوع "في شباك التفسيرات والمرويّات المتراكمة، وأنْ يعتمد القرآن مرجعيةً يستكشف في هديها صورة الله، ومنطق الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها" (ص: 28) وهذه العودة لا يُفهم منها الانكفاء على أدوات التفسير التي تبنّاها السلف من المفسِّرين، وسار على نهجهم كثير من المعاصرين، وإلا لم تكن النتيجة بأفضل مما توصّل إليه السلف، من غلبة "لغة العنف على لغة الرحمة، وأهدر كثيرون من مفسري القرآن وفقهاء الإسلام كل هذا الرصيد الدلالي المكثّف للرحمة، وصارت فاعلية دلالة آية السيف في القرآن مضافًا إلى ما تتسع له مصنّفات الحديث من روايات تعضِّد مضمونها، هي الأشد أثرًا والأوسع حضورًا في القول والفعل في الحياة السياسية لمجتمعات عالم الإسلام" (ص: 28) بل العودة بفهم لا يُشيح النظر عن المعارف الإنسانية التي أخذت حيّزها في ساحة الفكر، إيمانًا منه بأنَّ الخطاب الديني خطابٌ ينتمي لكل عصر، من حيث الفهم والتلقّي، ولا ينتهي فهمه عند من نزل عليهم ذلك الخطاب، وإلا عاش غريبًا بعيدًا عن هموم الناس وإيقاع الحياة المتطوِّر.
الحرية المعرفية في فهم الدين
من هذا المنطلق، دعا الرفاعي إلى التحرُّر من غلالة الفهم السلفي للخطاب الديني، مؤمنًا بقدرة المعارف الإنسانية وأثرها – فيما لو اضطلع الحكماء من الباحثين الذين قتلوا القديم فهمًا وانطلقوا منه لفهم المعاصر من المعارف والعلوم الحديثة – في استيلاد دلالات أُخَر لم يلتفت إليها السلف، وهذه الرغبة تكرّرت لدى الرفاعي في أكثر من مواطن من كتابه سالف الذكر. هذه الحرية المعرفية في فهم الدين لدى الرفاعي، لم تتأتَّ لديه إلا بعد قطعه شوطًا طويلاً مع المعارف التراثية في فهم الخطاب الديني وتلقّيه مثّلت حاضنته الأولى الحوزة، وبعد سبره تلك المعارف، لم يقف مكتوفَ الأيدي، بل انطلق يباشر ما جدَّ من معارف حديثة في ميدان الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والفكر العربي وتطبيقها في المجال الديني، منطلقًا في رؤيته تلك، أنَّ "أبديّة أيِّ نصٍّ مقدّسٍ تعني أنَّه نصٌّ ذو كثافةٍ دلالية، إذ تتعدَّدُ وتتنوَّعُ دلالاته تبعًا لتنوُّعِ ظروف الإنسان وأنماط حياته، وتبعًا لتنوُّع وتعدُّد سياقات التلقّي في العصور المختلفة. وإنَّ الخلطَ بين سياقات عصر البعثة وعصرنا يُخرِج القرآنَ من حياتنا، ذلك أنَّ سياقات تنزيله جاءت لتلبية احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مُجدَّدًا على الحياة، لتلبية احتياجات إنسان اليوم للمعنى الديني" (ص213) وإذ يُقرِّر الرفاعيُّ لنا هذه الحقيقة التي يؤمن بها، فهو في الوقت نفسه لا ينسى الضريبة التي تعرَّض لها أولئك الباحثون ممّن تناولوا النصَّ الدينيّ، عبر أدوات البحث التي استجدّت بفعل تطوُّر المعارف الإنسانية وتشعُّبها وتعمُّق مباحثها، فقد "واجهت مقاومة عنيفة، إذ نعتَها بعضهم بالعدوان على أمجاد الأمّة، ومحاولة طمس ماضيها المُشرِق، وجرى التشهير بكلِّ باحثٍ عَمَد إلى إفشاء أسرار عمليّات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشف عن محاولات حذف وإقصاء معتقدات لا تتناغم مع الآيديولوجيا التبجيلية التسلّطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمّش والمسكوت عنه، أو فضح سطوة وقمع السائد والمتغلِّب في التراث، وهكذا فإنَّ كلَّ قراءةٍ للنصِّ الديني تتخطّى التفسيرات المُغلقة القديمة لا تمرُّ من دون ضريبة" (ص212). ولا يخفى ما نتحصّله عبر هذا المقتبس من احتجاجٍ بليغ يضعه الرفاعي بين يدينا، على أولئك الذين تمثّلوا موقف الدفاع الأعمى عن التراث، بما تسبّبَ في هدر مساحة العقل والتفكير العقلاني في النص الديني، في الوقت نفسه يكون مثل هذا الموقف "المتزمِّت" سببًا لقطع أوردة سيرورة النص وإدامة تفاعله مع المتلقّي، بحكم ما أُحيطَ به من قراءات احتكرت دلالته دون سواها، وهي في كل الأحوال تبقى قراءاتٍ مرتهنة لظرفها التاريخي. وإذا أردنا القبض على فكرة الكتاب الرئيسة من بحوثه التي تعدّدت، بمقتضى كون بعضها تمّ نشره فيما سبق منفردًا بوصفها أوراق مؤتمرات، فإنَّ فكرة الحرّية/ التحرُّر لم تُغادر مبحثًا واحدًا من مباحث هذا الكتاب، إذ نجدها تلوحُ لنا في كل مبحثٍ عبر تمثُّلاتٍ متنوّعة، يظهر بعضها بصورة مباشرة عبر دعوته إلى ضرورة "الرحمة الإلهية بوصفها مفتاح فهم القرآن" ولا يخفى أنَّ تبنّي هذه الفكرة يدعو للتحرُّر من العصبية التي تحيط كل جماعة من الجماعات الدينية، فالرحمة في حال تبنّيها تكسح ما تكلّسَ من قراءة ضيّقة للنصِّ الديني، وحصر دلالته الرحيبة بهذه الجماعة أو تلك، بإبطال الأحكام التي تفوِّض الحقّ والأولوية بفهم النص الديني، وإحلال الآخر المختلف مقامًا يليق بإنسانيته على أقل تقدير.
من هذا المنطلق، دعا الرفاعي إلى التحرُّر من غلالة الفهم السلفي للخطاب الديني، مؤمنًا بقدرة المعارف الإنسانية وأثرها – فيما لو اضطلع الحكماء من الباحثين الذين قتلوا القديم فهمًا وانطلقوا منه لفهم المعاصر من المعارف والعلوم الحديثة – في استيلاد دلالات أُخَر لم يلتفت إليها السلف، وهذه الرغبة تكرّرت لدى الرفاعي في أكثر من مواطن من كتابه سالف الذكر. هذه الحرية المعرفية في فهم الدين لدى الرفاعي، لم تتأتَّ لديه إلا بعد قطعه شوطًا طويلاً مع المعارف التراثية في فهم الخطاب الديني وتلقّيه مثّلت حاضنته الأولى الحوزة، وبعد سبره تلك المعارف، لم يقف مكتوفَ الأيدي، بل انطلق يباشر ما جدَّ من معارف حديثة في ميدان الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والفكر العربي وتطبيقها في المجال الديني، منطلقًا في رؤيته تلك، أنَّ "أبديّة أيِّ نصٍّ مقدّسٍ تعني أنَّه نصٌّ ذو كثافةٍ دلالية، إذ تتعدَّدُ وتتنوَّعُ دلالاته تبعًا لتنوُّعِ ظروف الإنسان وأنماط حياته، وتبعًا لتنوُّع وتعدُّد سياقات التلقّي في العصور المختلفة. وإنَّ الخلطَ بين سياقات عصر البعثة وعصرنا يُخرِج القرآنَ من حياتنا، ذلك أنَّ سياقات تنزيله جاءت لتلبية احتياجات إنسان الأمس في عصر البعثة، وهي تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مُجدَّدًا على الحياة، لتلبية احتياجات إنسان اليوم للمعنى الديني" (ص213) وإذ يُقرِّر الرفاعيُّ لنا هذه الحقيقة التي يؤمن بها، فهو في الوقت نفسه لا ينسى الضريبة التي تعرَّض لها أولئك الباحثون ممّن تناولوا النصَّ الدينيّ، عبر أدوات البحث التي استجدّت بفعل تطوُّر المعارف الإنسانية وتشعُّبها وتعمُّق مباحثها، فقد "واجهت مقاومة عنيفة، إذ نعتَها بعضهم بالعدوان على أمجاد الأمّة، ومحاولة طمس ماضيها المُشرِق، وجرى التشهير بكلِّ باحثٍ عَمَد إلى إفشاء أسرار عمليّات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشف عن محاولات حذف وإقصاء معتقدات لا تتناغم مع الآيديولوجيا التبجيلية التسلّطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمّش والمسكوت عنه، أو فضح سطوة وقمع السائد والمتغلِّب في التراث، وهكذا فإنَّ كلَّ قراءةٍ للنصِّ الديني تتخطّى التفسيرات المُغلقة القديمة لا تمرُّ من دون ضريبة" (ص212). ولا يخفى ما نتحصّله عبر هذا المقتبس من احتجاجٍ بليغ يضعه الرفاعي بين يدينا، على أولئك الذين تمثّلوا موقف الدفاع الأعمى عن التراث، بما تسبّبَ في هدر مساحة العقل والتفكير العقلاني في النص الديني، في الوقت نفسه يكون مثل هذا الموقف "المتزمِّت" سببًا لقطع أوردة سيرورة النص وإدامة تفاعله مع المتلقّي، بحكم ما أُحيطَ به من قراءات احتكرت دلالته دون سواها، وهي في كل الأحوال تبقى قراءاتٍ مرتهنة لظرفها التاريخي. وإذا أردنا القبض على فكرة الكتاب الرئيسة من بحوثه التي تعدّدت، بمقتضى كون بعضها تمّ نشره فيما سبق منفردًا بوصفها أوراق مؤتمرات، فإنَّ فكرة الحرّية/ التحرُّر لم تُغادر مبحثًا واحدًا من مباحث هذا الكتاب، إذ نجدها تلوحُ لنا في كل مبحثٍ عبر تمثُّلاتٍ متنوّعة، يظهر بعضها بصورة مباشرة عبر دعوته إلى ضرورة "الرحمة الإلهية بوصفها مفتاح فهم القرآن" ولا يخفى أنَّ تبنّي هذه الفكرة يدعو للتحرُّر من العصبية التي تحيط كل جماعة من الجماعات الدينية، فالرحمة في حال تبنّيها تكسح ما تكلّسَ من قراءة ضيّقة للنصِّ الديني، وحصر دلالته الرحيبة بهذه الجماعة أو تلك، بإبطال الأحكام التي تفوِّض الحقّ والأولوية بفهم النص الديني، وإحلال الآخر المختلف مقامًا يليق بإنسانيته على أقل تقدير.
تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة
أما المبحث الذي يليه، فكان بعنوان: "تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة" فهو أيضًا يتحرّر من التصورات السلفية لمفهوم الدولة، مستفيدًا من توصّلات المعارف الحديثة، وفي مقدمتها علم الاجتماع السياسي، بأن الدولة "ظاهرة حيّة، تنمو وتتطوّر مفاهيمها، ويُعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوُّعها عبر الزمان" (ص: 46)، بما يفرض على الباحث إعادة النظر في المُسلّمات، وإخضاعها لمشرط البحث وأداوته الإجرائية، بعيدًا عن النظرة الطوباوية التي انطلق منها كبار فقهاء العصر الحديث في تصدِّيهم لعرض هذا المفهوم، ولما كانت الدولة لدى الرفاعي "ظاهرة اجتماعية مركّبة، إنها أهم وأعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان، فقد احتاجت البشرية، من خلال مسيرتها الطويلة في تاريخها، إلى آلاف التجارب الفاشلة، حتى استطاعت أن تبتكر ظاهرة الدولة" (ص: 45)، وهو تصوُّرٌ ينطلق من حيثيات التاريخ ووقائعه، وما أدلى به علم الاجتماع بهذا الشأن، في حين تجد التصور التوفيقي المخالف لهذا الطرح ينطلق من قامة شامخة متمثّلة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر في حديثه عن مفهوم الدولة، بأنها "ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال" (الإسلام يقود الحياة: 3- 4)، بما يفرض على الباحث المنصف عبر هذا التصوُّر، التوصل لما استنتجه الراحل فالح عبد الجبار، بأن "منشأ الدولة ليس اجتماعيًّا، بل سماويًّا، وأنّها ليست أصيلة، بل مستحدثة" (المادية والفكر الديني – نظرة نقدية: 40)، وهذا الاستنتاج بعيدٌ كل البعد عن الواقع التاريخي أو ما يقرّه علم الاجتماع في هذا الشأن. ولو لم يكن الرفاعي متحرّرًا في وعيه، وفي اطّلاعه المعرفي خارج أروقة الدرس الديني التقليدي، لما كان له أنْ يُغادر تصوّر مدرسة الصدر الفكرية، بما له من ثقلٍ معرفيٍّ في هذا الوسط، ناهيك عن خارجه، ولكان له أنْ يكتفي بترديد مقولاته، إن لم نفترض ترسيخ تلك المقولات والتدليل على صوابها لا أكثر.
في الحاجة إلى إنسانية إيمانية
في المبحث الذي يليه، كان العنوان: (في الحاجة إلى إنسانية إيمانية) لم يُغادر الرفاعي تلك النزعة – الحُرّية الفكرية – في استجلاء قراءةٍ جديدة لـ "أنسنة الدين" تختلف عن سابقيه الذين تناولوا الدين كأيّة ظاهرة بشريّة مقطوعة الصلة عن طبيعة وجود البشر، وتنصيب الإنسان بديلاً لله في كل شيء، في قبال الطرف الذي ينسى قيمة الإنسان ويُقصي كينونته ومتطلّبات تلك الكينونة البشرية على حساب الدين، تتمثّل قراءته لهذا المفهوم، بإنقاذ/ تحرير "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، بعد ضياعه في دينٍ سياسيٍّ لا يعرف الكثير عن هذا المعنى ولا يسعى لامتلاكه، ودينٍ فقهيٍّ يختزل الدين في مدوّنة أحكام قانونيةٍ تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودينٍ كلاميٍّ يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومُحاججات عقيمة تُميت القلب وتُطفئ شعلة الروح" (ص: 74) ونظرةُ الرفاعي في استجلاء هذا المفهوم – أنسنة الدين – تحاول أنْ توازن بين الطرفين، بأنْ تنشد دينًا لا يقطع الصلة بالله، مثلما لا يجهل الطبيعة البشرية، وهو في ذلك البحث يقف منتقدًا "النزعة الاستصحابية" لدى الكثير من دارسي القرآن الكريم، ممّن انشغل بالتفسيرات والتأويلات القديمة له، على حساب الرجوع للنص القرآني، بما صار استيعابها وهضمها الهمَّ الأساسي لأولئك الدارسين، متناسين "أنَّ كل هذه القراءات هي هوامشٌ وشروحٌ واجتهادات الآباء في فهم النص وتفسيره، وهي ليست إلا تمثّلات بشريةً للقرآن تنتمي لأفقها التاريخي، حدودُها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكلُّ ما كان يسود العصر الذي أُنتِجت في فضائه" (ص: 78) بما أدى ذلك المآل – بحسب تعبيره- إلى نسيان الإنسان، بإنتاج قراءة مغلقة للنصوص الدينية، لم تكتف بنفي الإنسان وإقصائه باسم الله، بل أقصت مكانة الحياة الدنيا والتمتع بها باسم الآخرة، ونفت العمران البشري باسم العبادة، والذات باسم التكليف، والاخلاق باسم الفقه، والحريّات باسم العبودية لله، وحقوق الإنسان باسم حقوق الله، منتهيًا ذلك النفي بمحو الصورة الروحانية والرحمانية لله باسم التمسُّك بدين السَلَف ومُحاربة البِدَع والمستحدثات.
أما المبحث الذي يليه، فكان بعنوان: "تناغم القانون والقيم في الدولة الحديثة" فهو أيضًا يتحرّر من التصورات السلفية لمفهوم الدولة، مستفيدًا من توصّلات المعارف الحديثة، وفي مقدمتها علم الاجتماع السياسي، بأن الدولة "ظاهرة حيّة، تنمو وتتطوّر مفاهيمها، ويُعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوُّعها عبر الزمان" (ص: 46)، بما يفرض على الباحث إعادة النظر في المُسلّمات، وإخضاعها لمشرط البحث وأداوته الإجرائية، بعيدًا عن النظرة الطوباوية التي انطلق منها كبار فقهاء العصر الحديث في تصدِّيهم لعرض هذا المفهوم، ولما كانت الدولة لدى الرفاعي "ظاهرة اجتماعية مركّبة، إنها أهم وأعمق وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان، فقد احتاجت البشرية، من خلال مسيرتها الطويلة في تاريخها، إلى آلاف التجارب الفاشلة، حتى استطاعت أن تبتكر ظاهرة الدولة" (ص: 45)، وهو تصوُّرٌ ينطلق من حيثيات التاريخ ووقائعه، وما أدلى به علم الاجتماع بهذا الشأن، في حين تجد التصور التوفيقي المخالف لهذا الطرح ينطلق من قامة شامخة متمثّلة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر في حديثه عن مفهوم الدولة، بأنها "ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال" (الإسلام يقود الحياة: 3- 4)، بما يفرض على الباحث المنصف عبر هذا التصوُّر، التوصل لما استنتجه الراحل فالح عبد الجبار، بأن "منشأ الدولة ليس اجتماعيًّا، بل سماويًّا، وأنّها ليست أصيلة، بل مستحدثة" (المادية والفكر الديني – نظرة نقدية: 40)، وهذا الاستنتاج بعيدٌ كل البعد عن الواقع التاريخي أو ما يقرّه علم الاجتماع في هذا الشأن. ولو لم يكن الرفاعي متحرّرًا في وعيه، وفي اطّلاعه المعرفي خارج أروقة الدرس الديني التقليدي، لما كان له أنْ يُغادر تصوّر مدرسة الصدر الفكرية، بما له من ثقلٍ معرفيٍّ في هذا الوسط، ناهيك عن خارجه، ولكان له أنْ يكتفي بترديد مقولاته، إن لم نفترض ترسيخ تلك المقولات والتدليل على صوابها لا أكثر.
في الحاجة إلى إنسانية إيمانية
في المبحث الذي يليه، كان العنوان: (في الحاجة إلى إنسانية إيمانية) لم يُغادر الرفاعي تلك النزعة – الحُرّية الفكرية – في استجلاء قراءةٍ جديدة لـ "أنسنة الدين" تختلف عن سابقيه الذين تناولوا الدين كأيّة ظاهرة بشريّة مقطوعة الصلة عن طبيعة وجود البشر، وتنصيب الإنسان بديلاً لله في كل شيء، في قبال الطرف الذي ينسى قيمة الإنسان ويُقصي كينونته ومتطلّبات تلك الكينونة البشرية على حساب الدين، تتمثّل قراءته لهذا المفهوم، بإنقاذ/ تحرير "المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، بعد ضياعه في دينٍ سياسيٍّ لا يعرف الكثير عن هذا المعنى ولا يسعى لامتلاكه، ودينٍ فقهيٍّ يختزل الدين في مدوّنة أحكام قانونيةٍ تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودينٍ كلاميٍّ يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومُحاججات عقيمة تُميت القلب وتُطفئ شعلة الروح" (ص: 74) ونظرةُ الرفاعي في استجلاء هذا المفهوم – أنسنة الدين – تحاول أنْ توازن بين الطرفين، بأنْ تنشد دينًا لا يقطع الصلة بالله، مثلما لا يجهل الطبيعة البشرية، وهو في ذلك البحث يقف منتقدًا "النزعة الاستصحابية" لدى الكثير من دارسي القرآن الكريم، ممّن انشغل بالتفسيرات والتأويلات القديمة له، على حساب الرجوع للنص القرآني، بما صار استيعابها وهضمها الهمَّ الأساسي لأولئك الدارسين، متناسين "أنَّ كل هذه القراءات هي هوامشٌ وشروحٌ واجتهادات الآباء في فهم النص وتفسيره، وهي ليست إلا تمثّلات بشريةً للقرآن تنتمي لأفقها التاريخي، حدودُها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكلُّ ما كان يسود العصر الذي أُنتِجت في فضائه" (ص: 78) بما أدى ذلك المآل – بحسب تعبيره- إلى نسيان الإنسان، بإنتاج قراءة مغلقة للنصوص الدينية، لم تكتف بنفي الإنسان وإقصائه باسم الله، بل أقصت مكانة الحياة الدنيا والتمتع بها باسم الآخرة، ونفت العمران البشري باسم العبادة، والذات باسم التكليف، والاخلاق باسم الفقه، والحريّات باسم العبودية لله، وحقوق الإنسان باسم حقوق الله، منتهيًا ذلك النفي بمحو الصورة الروحانية والرحمانية لله باسم التمسُّك بدين السَلَف ومُحاربة البِدَع والمستحدثات.
وهكذا شأن المباحث الأخرى من هذا الكتاب، لم يكن الرفاعي فيها إلا صاحب قراءةٍ تنبع من فهمه الإنساني للدين، مُتحرِّرًا فيها من غلالة الفهم السلفي لتلك المقولات والمفاهيم والقضايا الإشكالية التي عالجها السابقون، وكأنَّه أراد أنْ يقول لنا في كلِّ مباحث كتابه الجليل في فكرته، أنَّ اغتراب الدين لم يكن من أصل الدين، بل من الفهم الأحادي للدين، عبر مقولاتٍ لا تخرج من ظرفها التاريخي، ولا تصمد لتكون متراسًا لصدِّ كلِّ قراءةٍ تغاير ذلك التوجُّه السَلفي، لبُعدها عن روح النصِّ، بما شكّلت تلك القراءات حاجزًا يحول بين الدين والغاية التي ينبغي له أنْ يؤدّيها، ونتج عنها ذلك الاغتراب، فحاول مؤلِّف الكتاب أنْ يؤسِّسَ فهمًا للدين لا يُكرِّر ما تداولته الدراسات الحديثة "الناقمة" على الدين، ورؤيتها له بأنّه "وهم" أو "مُخدِّر" أو "تراث" أو "مرحلة من مراحل الوعي البشري" في الوقت الذي لا يُعيد تبني المقولات الوثوقية للسلف في فهم الدين، باحتكارهم تمثيل الله في الأرض، وأنّهم المخوّلون الحصريّون للتحدّث باسمه، ومن هذا المنطلق يُطلق الرفاعي دعوته لهؤلاء "إلى أنْ يكفّوا عن مطاردة الناس باسم الله، وانتهاك كراماتهم، والتضحية بحقوقهم وحرياتهم، باسم الدفاع عن الله، وحماية الدين والتديّن (فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين) وقد خلق الناس أحرارًا، والحرّية ضرورةٌ دينية، يفرضها انبعاث حياة روحية وأخلاقية صادقة لا يُلوِّثها نفاق، وهي شرطٌ لكل تديُّنٍ حر" (ص: 14) وبهذا يتأكّد للقارئ أنَّ الحرّية الفكريّة كانت الرائد الأساس في فهم الرفاعي للدين وبيان غاياته وأهدافه، بما ينسجم وتطلّعات الإنسان ومحدودية فهمه، وارتهانه لظرف الزمان والمكان، وما يُمثِّل وجوده الإنساني والفكري، من خلال الانفتاح على المناهج الحديثة في العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية وتطبيقها على فهم الدين وقراءة النصوص الدينية، وهذا بحسب رأيي ما كان يدعو الرفاعي لتحقيقه في فهمنا للدين وإنقاذه من غربته التي تزداد يومًا بعد آخر، بفعل سوء فهم التعامل البشري معه بين إفراطٍ وتفريط.
https://al-aalem.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%B2%D8%B9%D9%8B%D8%A7-%D8%A3%D8%B5%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A/
https://al-aalem.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%B2%D8%B9%D9%8B%D8%A7-%D8%A3%D8%B5%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A/
Al-Aalem
الحريّة منزعًا أصيلاً في فكر الرفاعي
الرحمة بوصلةٌ تُوجِّهُ أهداف الدين لا يخرج قارئ عبد الجبار الرفاعي في كتاباته التي تخصُّ حقل الدين والتفكير في قضاياه وإشكالياته، إلا بكلِّ ما يُعزِّز الجانب الإنساني، وأعني بالجانب الإنساني، ذلك الذي ينتصر للإنسان بوصفه القيمة العليا في هذا الوجود، وهو…