عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
616 photos
51 videos
270 files
1.09K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
هذه الرؤية تتردد أصداؤها في مقولات لاحقة لفلاسفة، مثل الفيلسوف النمساوي لودفيغ #فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein)، "1889 – 1951"، الذي شكّلت أعماله منعطفًا حاسمًا في فلسفة المعنى، إذ بدأت رؤيته من تصور منطقي صارم للغة في عمله المبكر "رسالة منطقية فلسفية"، حيث رأى أن اللغة تكتسب معناها من قابليتها لتصوير الواقع، وأن الجملة ذات المعنى هي التي تماثل حالة واقعية ممكنة. لكن هذه الرؤية تغيّرت بعمق في كتاباته المتأخرة، وخصوصًا في "تحقيقات فلسفية"، حيث تخلى عن فكرة المعنى بوصفه تطابقًا بين اللغة والعالم، وذهب إلى أن المعنى لا يسكن الكلمات بذاتها، بل ينبثق من طريقة استعمالها في الحياة اليومية. في هذا الإطار، صاغ عبارته الشهيرة: "حدود لغتي هي حدود عالمي"، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يُدرك العالم إلا من خلال اللغة التي يفكر ويتكلم بها، وأن ما لا يمكن التعبير عنه بوضوح لا يمكن التفكير فيه أو تشكيل وعي حيّ به. المعنى لا يُفهم خارج سياق الاستعمال، ولا يستقر في الكلمات بوصفها رموزًا ثابتة، بل يُنتَج داخل ما سمّاه "ألعاب اللغة" (Sprachspiele)، أي الأنشطة المختلفة التي تُمارَس فيها اللغة، مثل الوعد، والسؤال، والاعتذار، والتعليم، والدعاء، وغيرها. كل "لعبة لغوية" تمثّل نظامًا خاصًا من المعاني، محكومًا بقواعد ضمنية يتشاركها المتكلمون. وهكذا، يتحوّل المعنى من كونه علاقة ثابتة بين الكلمة والشيء، إلى كونه فعلًا بشريًا حيًا، لا يُفهم إلا في ضوء الممارسة والسياق والتفاعل. وبذلك تتحول اللغة من أداة لنقل الفكر إلى أفق لتكوّن الفكر ذاته، ومجال تتشكل فيه رؤية الإنسان للعالم.
أما مارتن #هايدغر (Martin Heidegger)، "1889 – 1976"، فقد أعاد التفكير في معنى الكينونة من منظور أنطولوجي جذري، إذ جعل فيه اللغة ليست أداةً للتعبير أو وسيلةً للتواصل فحسب، بل شرطًا أساسيًا لانكشاف الوجود وظهور المعنى. يرى هايدغر أن الفهم الإنساني لا يُختزل في نشاط ذهني مجرد أو عملية تمثيل معرفي داخلي، بل هو نمط من الوجود في العالم، حيث لا يكون الإنسان كائنًا مفصولًا عن العالم، بل مندمجًا فيه منذ البداية، في علاقة حية ومباشرة مع ما حوله. نحن لا نفهم العالم من خارجه، بل من داخل اندماجنا العملي به، بوصفنا كائنات منخرطة في شؤون الحياة، نتعامل مع الأدوات، وننشغل بالآخرين، ونتحرك ضمن أفق من التوقعات والغايات والماضي الشخصي. هذا الانخراط العملي هو ما يتيح للفهم أن يحدث بوصفه انكشافًا للوجود؛ فالكائنات لا تُفهم بوصفها موضوعات منفصلة، بل تتجلى لنا في ضوء علاقاتنا بها، وفي سياق استخدامنا لها، ومعانيها بالنسبة لنا. الفهم، بهذا المعنى، ليس تصورًا نظريًا لما هو موجود، بل هو طريقة في ظهور الموجود من داخل علاقة وجودية بين الإنسان والعالم. ما يجعل الفهم ممكنًا ليس قدرة الإنسان على التفكير الذهني فحسب، بل كونه كائنًا مهمومًا، منشغلًا بوجوده، قلقًا على مصيره، لا يعيش على هامش العالم بل في صلبه. الفهم عند هايدغر هو شكل من أشكال انكشاف الوجود، حيث ينكشف الوجود للكائن الإنساني بوصفه منفتحًا عليه ومشاركًا فيه، لا بوصفه مراقبًا خارجيًا. في هذا السياق، قال عبارته الشهيرة: "اللغة بيت الكينونة" (Die Sprache ist das Haus des Seins). لا تعني هذه العبارة أن اللغة تحيط بالكائنات أو تصفها وحسب، بل إن الإنسان لا يسكن العالم إلا باللغة، وأن الكلمة، في نظره، ليست مجرد إشارة لشيء خارجي، بل حدث وجودي يوقظ الكينونة، ويضيء المعنى، ويفتح أفقًا لفهم الذات والعالم. في تصور هايدغر، ما لا يُقال لا يُفهم، وما لا يظهر في اللغة يظل محجوبًا عن الحضور. ليست اللغة إضافة على الفكر، بل هي التي تمنحه إمكانية الظهور، وتُهيئ للكينونة أن تُقال. الإنسان لا يملك اللغة، بل تسكنه اللغة، ويقترب من الوجود بقدر ما تُنير له اللغة طريق الرؤية. وهكذا، تتحوّل اللغة إلى بيت يؤوي فيه الإنسان وجوده، ومجال تتجلى فيه الحقيقة، ومرآة ينعكس فيها المعنى. بهذه الرؤية، تتجاوز اللغة وظيفتها الأداتية إلى أن تغدو أفقًا للكينونة، ومجالًا لانكشاف الوجود، ومرآةً لتجليات المعنى، حيث لا يدرك الإنسان نفسه والعالم إلا بقدر ما تتجلى له اللغة بوصفها بيتًا للوجود.
وعمل أحد أبرز فلاسفة التأويل في القرن العشرين، وأقصد هانز غيورغ #غادامير (Hans-Georg Gadamer) "1900–2002"، في عمله الأهم "الحقيقة والمنهج"، على إعادة بناء مفهوم الفهم، منتقدًا التصورات التي اختزلت المعرفة في قواعد علمية صارمة. إذ يرى غادامير أن الفهم لا يتم خارج التاريخ، بل هو دائمًا مشروط بتاريخية الوعي، بما ينطوي عليه من تحيزات ومسبقات تشكل أفق المتلقي وتوجّه تأويله. الفهم، بحسب غادامير، لا يحدث من خلال استنطاق المعنى بمعزل عن الذات، بل يتولد من تفاعل "أفق القارئ" مع "أفق النص"، وهذا التفاعل يولد ما يسميه "تلاقي الآفاق"، حيث ينبثق المعنى من الحوار بين الماضي والحاضر، بين النص والتجربة، بين اللغة والحياة. اللغة عند غادامير ليست أداة محايدة تنقل المعنى، بل هي الحقل الذي يتكشف فيه المعنى ويتجلى من خلاله الوجود. الإنسان لا يقف خارج اللغة، بل يسكنها، وكل فهم للواقع مشروط باللغة التي نتكلم بها. التأويل إذن لا يتم من موقع حيادي، بل هو انخراط كلي في حوار حيّ مع النص، ومع التقليد الذي ننتمي إليه. من هنا لا تكون الحقيقة شيئًا يُمتلك، بل شيئًا يتجلى في الحوار، بوصفه فعلًا وجوديًا لا معرفيًا فقط. تلتقي رؤية غادامير مع تصورات فيلهلم فون همبولت، الذي رأى أن كل لغة ترسم تصورًا خاصًا للعالم، وأن الإنسان لا يبصر الوجود إلا من داخل لغته، كما تتلاقى مع تأويلية أستاذه هايدغر في اعتبار اللغة بيت الكينونة، ومع فلسفة فيتغنشتاين المتأخرة التي تؤكد أن المعنى لا يوجد خارج الاستعمال، بل يُولد في ألعاب اللغة وسياقاتها. بهذه الرؤية، تتحول اللغة من أداة وصف إلى أفق للفهم، ويتحوّل التأويل من تقنية إلى حدث وجودي، يتخلق فيه المعنى في كل لحظة لقاء حيّ بين النص والقارئ.
تتردد أصداء هذه الرؤية أيضًا في أعمال لاحقة لفلاسفة مثل، الفيلسوف الفرنسي بول #ريكور (Paul Ricoeur)، "1913 – 2005"، الذي يذهب إلى أن الرمز والاستعارة في اللغة ليسا زينة، بل أدوات توليد المعنى، مما يجعل اللغة مصدرًا للفكر لا مجرد ناقل له. ولدى عالم اللسانيات الأميركي، #بنيامين_لي_وورف (Benjamin Lee Whorf)، "1897 – 1941"، الذي يرى أن بنية اللغة تؤثر في بنية الفكر والإدراك، وهي صيغة حديثة لفكرة همبولت عن "رؤية العالم من خلال اللغة". وكذلك نقرأ هذه الرؤية في مؤلفات فلاسفة لغة آخرين.
تلتقي هذه الرؤية للغة مع ما تنهض به فلسفة الدين التأويلية، في سعيها الدؤوب إلى تحرير لغة الدين من أسر المعجم التراثي، وتخليصها من القوالب التي عطلت رؤيا لغة الغيب، وتعطلت معها منابع الذوق والحدس والمشاهدة. لا تنظر فلسفة الدين إلى لغة الغيب بوصفها مجرد ناقل للحقيقة، بل ترى فيها أفقًا ييتشكل فيه المعنى، ومسارًا تتجلى فيه تجارب القلب، وتشفّ من خلالها تجليات الحضور الإلهي. في ضوء هذه الرؤية، لا تُختزل اللغة الدينية في الوظيفة التقريرية أو الإخبارية، بل تُبعث فيها الحياة الروحية بوصفها حقلًا من الرمز، ومجالًا للتعبير عن مكاشفات الروح، وتجليات الغيب، وتذوق نكهة المحبة في مقام الحضرة الإلهية، وتجليات الجمال الإلهي في الوجود. لا تعود اللغة سلطة تُلقِّن، بل تتحول إلى رؤية تُلهِم، وتوقظ القلب، وتفتح بصيرة المتلقي على عوالم تتجاوز حدود العبارة، وتتسع لما لا يُقال، وما لا يُختصر في المنطق الجدلي. بذلك تخرج اللغة من ضيق المعنى الحرفي إلى سعة التأويل، ومن التصور المغلق إلى الانفتاح على التجربة الروحية الحية، فتصير اللغة أفقًا يتخلّق فيه المعنى، لا حجابًا يحجبه، وتغدو علاقة الإنسان بالله علاقة إشراق نورانية، لا إملاءً وتلقينًا، ومجالًا لتذوق المحبة والرحمة والسلام والجمال.

https://jabbaralrefae.com/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a8%d9%88%d8%b5%d9%81%d9%87%d8%a7-%d8%a3%d9%81%d9%82%d9%8b%d8%a7-%d9%84%d8%b1%d8%a4%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85/
الدين لا يُقاس بكثرة الممنوعات، بل بعمق المحبة والرحمة والسكينة

الدكتورة نور الزيدي

في حياتنا نمرّ بلحظات تغيّرنا من الأعماق، وتعيد تشكيل علاقتنا مع الله، لا بالخوف والرهبة، بل بالمحبة والانس والسكينة...
ومن أجمل نعم الله عليّ، أنني عثرت على فكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، فكان كالنور الذي بدّد ضباب الحيرة، كان سببًا في إشعال النور في داخلي...
إلى المفكر الكبير الدكتور عبد الجبار الرفاعي، مع المحبة والامتنان...
أكتب لك لا لأجماملك، بل لأعترف لك بجميلٍ لا يُنسى، وفضلٍ لا يُقّدر بثمن.
كنت أبحث عن الله.. لكنني كثيرًا ماوقعتُ في فخّ الخوف، والرهبة، والدين الملوث بالقلق والذنوب، حتى جاءتني
كتاباتك فتحت لي بابًا مختلفًا، بابًا فيه الله محبة، فيه الدين سكينة، فيه التقوى ليست خوفًا مَرَضيا، بل شوقًا وسلامًا داخليًا.
بكلماتك أدركت أن الإيمان ليس سلاسل تُقيد الروح، بل محبة تحرّر القلب.
تعلمت منك أن الدين لا يُقاس بكثرة الممنوعات، بل بعمق المحبة والرحمة والطمأنينة والسكينة،
وأن الطريق إلى الله ل ايُعبّد بالخوف، بل بالشوق والحبّ والسلام الداخلي.
تعلمت منك يادكتور أن أحبّ الله لا أن ارتعب منه، أن اشتاق له لا أهرب منه، أن اراه في الجمال، في الرحمة، في التسامح، لا في العنف والتكفير.
تعلمت منك أن الإيمان لايُبنى عبر جلد الذات، بل عبر معرفة الذات، وفهم معنى الوجود.
لكل من يبحث عن الله... لا تكتفِ بالسماع، اقرأ، وتفكر، وأقرأ لعبد الجبار الرفاعي، فستجد الله كما لم تعرفه من قبل... حبيبًا لا جلاّدًا.
شكرًا لأنك كنت مفتاحًا لنقلة روحية في داخلي،
وشكرًا لأنك جعلتني أؤمن أن الدين يمكن أن يكون نورًا لا سيفًا، ورفقًا لا قسوة.
نصيحة من قلب ذاق لذة الطمأنينة :
لكل من أرهقه الدين الموروث القاسي، اقرأ لعبد الجبار الرفاعي...
ستجدون الله كما لم تعرفوه من قبل، حبيبًا قريبًا، لا مخيفًا ولا بعيدًا

الدكتورة نور الزيدي
https://www.facebook.com/100013063454027/posts/pfbid02wSK5AJ5EdBPwEtnhFSvmmYeHosz12HoJ5V1xrWdsrkYDUUeZr5FWjwMjMxpEcD9Fl/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الثاني: (٢) الحاجة للكراهية، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/8/
لغة الغيب في سياق مقولات الخلاص الكلامية
د. عبد الجبار الرفاعي
تسيّدت الحياةَ الدينية في الإسلام، منذ العصور التي تلت عصر البعثة، لغةٌ مشبعة برؤية المتكلمين، وأحكامٌ تستمد مشروعيتها من الفقه المؤسَّس على تلك الرؤية. لذلك يحضر في الذهن، عند التفكير في أي واقعة أو موقف أو فعل، معجمٌ محكوم بمقولات كلامية، ومشحون بدلالات فقهية. حين يواجه المسلم حادثةً ما، أو يريد أن يتخذ موقفًا معينًا، يتبادر إلى ذهنه السؤال: هل هذا حلال أو حرام؟ من دون أن يفكر غالبًا في دلالات الموقف الأخلاقية، أو معطياته الروحية، أو آثاره الجمالية. هكذا يغيب البُعد الأخلاقي في التفكير الديني، ويُقصى البُعد الروحي، ولا يتذوق الإنسان تجليات الله في الوجود. وتختزل العلاقة بالدين إلى منظومة أوامر ونواهٍ، يُختبر فيها الفعل بمعيار الحِلّ والحرمة، لا بأثره في الضمير، أو أثره في بناء الحياة الروحية، أو مساهمته في الحياة الأخلاقية.
تتكرر مفردات هذا المعجم في اللغة الدينية المتداولة في التعليم الديني، وخطب الجمعة، والدروس الدينية، ومنابر المساجد، ووسائل الإعلام والتواصل التي تتحدث في قضايا دينية، حتى غدت لغة الغيب أسيرة لذلك المعجم، مغلقة في حدوده، لا دلالة لها خارج مداراته. ما إن يُذكر الغيب أو أي شأن ديني، حتى يتداعى إلى ذهن المتلقي قاموس مألوف، تشبّع فيه لاوعيه الفردي والجمعي. قلّما يتخطى المتكلم أو الكاتب في الدين هذا المعجم، كذلك تلبث المعاني التي تتبادر إلى وعي المتلقي رهينة للدلالات المشبع فيها ذهنه.
في الحياة اليومية، حين يتحدث المسلم عن مسألة دينية، فإنه يعيد إنتاج المفاهيم ذاتها التي صاغها المعجم الكلامي، ويتحدث بلغته، سواء في أقواله أو في كتاباته، إن لم يمده وعيه الظاهر، تستفيق في وعيه الباطن مفردات ذلك المعجم. وحتى عندما يكتب كاتب يتوخى التعبير عن تجربة إيمانية، أو تأمل روحي، أو قلق وجودي، فإنه غالبًا ما يعيد تدوير مفردات ذلك المعجم، ويستنطق مفاهيمه، ويتكلم بلسانه، من غير أن يتحرر من رؤيته، ولو كانت تجربته الإيمانية تستدعي لغة مغايرة، أكثر إنصاتًا لنداء القلب، وأشد قربًا من
أشواق الروح إلى الأنوار الإلهية، وأرحب انفتاحًا على مكاشفات المعنى.
عند تأمل اللغة المتداولة في الكتابات العربية حول الدين، نلحظ أنها مشبعة بمقولات المتكلمين، ومقيدة بتراث جدلي مشروط بسياقاته التاريخية، ما يجعلها محدودة الدلالة، وأقل قابلية للتعبير عن أعماق التجربة الإيمانية. هذا النمط من الاستعمال يفقر لغة الغيب من طاقتها الرمزية، ويضيّق أفقها في الكشف عما تنطوي عليه آيات الغيب من إشارات وإيحاءات تتجاوز ظاهر المعنى. اللغة التي تشكلت في أفق الرؤية الكلامية غالبًا ما تعيد إنتاج المفاهيم ذاتها، ولا ترى في آيات الغيب إلا ما تسمح به أدوات علم الكلام التقليدي، ويُستعمل المصطلح الديني في الغالب في سياق هذا الأفق، الذي يحجب إمكانات الإيحاء، ويقفل نوافذ التأمل، ويختزل الدين في معايير الجدل وتفصيلات الأحكام.
قلّما تُستمد معاني المفاهيم الدينية من قيم القرآن التي تنير القلب، أو يُنظر إلى الآيات الحاكية عن الغيب بوصفها إشارات إلى أعماق التجربة الروحية، لا مجرد موضوعات للجدل الكلامي. اللغة التي رسّخها المتكلمون، وإن كانت اجتهادًا بشريًا في قراءة النصوص، لكنها ترسّبت في الوعي الفردي والجمعي في الحياة الإسلامية، واستحوذت على الفضاء الديني، حتى غدت تفهم كما لو أنها هي الدين نفسه. بذلك تعطلت دلالات كثير من الآيات الحاكية عن الغيب، وتجمدت في قوالب تلك اللغة، وانحسرت منابع التأمل، وخفَت الشعور بمعنى يتجاوز ظاهر اللفظ، وتراجع الوعي بما يشكّل جوهر التجربة الدينية. وانحسر حضور أسماء الله الحسنى، بوصفها ترسم صورة جميلة لله مشبعة بالرحمة والمحبة والجمال واللطف والعفو والمغفرة والسلام، وتغيّب أثرها في بناء الوعي الروحي. وبدلًا من ذلك غلبت على أسمائه، في التصور العام، دلالات التسلط والعقوبة والعذاب، ولم يتجلَ كما تشير إليه أسماؤه في هذه المعاني، وما تمنحه من طمأنينة للقلب وسكينة للروح.
تحوّلت أسماء الله الحسنى من رموز يتجلى من خلالها الحضور الإلهي، وتضيء بها مسالك القلب، وتنفتح بها نوافذ الوعي الروحي، إلى مفاهيم مغلقة تُشرح بمنطق الجدل، وتضيق دلالاتها في حدود المحاججات الكلامية، فخبت إشراقتها، وتراجعت طاقتها الرمزية في إنعاش الروح، وتنوير الضمير، واستنهاض الإيمان الحي. وبدلًا من أن تُفهم هذه الأسماء بوصفها شواهد على الرحمة والجمال والمحبة والسلام، غلب عليها المعنى السلطوي، وانحسرت صورتها في ضمير المؤمن إلى هيئة قاضٍ يعاقب ويعذب، وغابت عن هذه الأسماء صورة الله بوصفه الملاذ الآمن للمحبين، والملجأ الحميم للمنكسرين، والنور الذي تتضمّد به جراحات القلوب. وعلى الرغم الحضور الكثيف لأسماء الله الحسنى وصفاته، وما يتصل بالغيب في آيات الكتاب الكريم، فإن اللغة الدينية المتداولة، المشبعة برؤية المتكلمين للغيب والقوالب المسبوكة فيها هذه الرؤية، تحجب دلالات هذه الأسماء، وتكفّ إشاراتها عن الإيحاء، وتغلق نوافذها الرمزية، فلا تعود تنبض بالمعنى، ولا تُلهم القلب، ولا تسقي التجربة الروحية. ويتراجع بشكل كبير بعدها التأويلي، ويتآكل أفقها في بناء الإيمان، وتفقد قابليتها على وصل الإنسان بربه، والانعتاق من غربته الوجودية.
مادام مضمون لغة الدين في الإسلام لا يتجاوز علم الكلام، فإن تعريف الدين ومفهومه وحدوده ووظيفته في الحياة، وأدوات تفسير القرآن والسُّنة، ودراسة وتدريس علوم الدين، ودراسة التراث وتفسيره، تظل حبيسة رؤية المتكلم، ولا تتسع لاستيعاب الدلالات العميقة في آيات الغيب وتجلياتها على القلب. اللغة التي يُعاد من خلالها إنتاج صورة الله في وعي المسلم وتترسب في لاوعيه لا تستلهم دلالات نور الله في القرآن، لذلك لا تخاطب القلب، ولا توقظ الإحساس، ولا تهتم بالتذوق، بل تكرّر معجمًا كلاميًا موروثًا، جرّد لغة الغيب من طاقتها الإيحائية، وأضعف أثرها في الحياة الباطنية للإنسان. هذا المعجم، الذي تكرسه المؤسسة الدينية، وتسوده مقولات الكلام التقليدي، ولا تخرج عن اطار فهمه المبسط أدبيات الإسلام السياسي، لا يفسح المجال لتأويل يتجاوز ظاهر اللفظ، ولا يسمح بفهم الدين بوصفه تجربة حيّة تستجيب لما يعانيه الإنسان من ظمأ وجودي، وتخفض غربته الميتافيزيقية، وتعيد إليه شيئًا من الطمأنينة، وتنقذه من القلق الوجودي، واضمحلال المعنى.
مقولات انحصار الخلاص بفرقة واحدة، كما صاغها علم الكلام التقليدي، ترسّبت في اللاوعي الفردي والجمعي، وأعادت تشكيل وعي المسلم بالدين، حتى غدت مرجعيةً ضمنية يُحتكم إليها في تفسير النصوص الدينية، وتأويل الغيب، وإنتاج الأحكام. تلك المقولات عطّلت تبلور التصورات التي لا تتناغم مع منطق "الفرقة الناجية"، وأعاقت القراءة الرمزية والتأويل الروحي للآيات التي تتحدث عن الغيب والمصير والنجاة. بفعل هذا الإرث الكلامي، تشكّل وعيٌ ديني يعجز عن الانفتاح على إمكانات التعدد الديني، ويختزل صور الله في صورة أحادية محتكرة، محجوبة في إطار فرقة واحدة، لا ترى في الدين معنى خارج ما تراه هي، ولا تعترف بالخلاص خارج حدودها. لكن حين تُفسر آيات الغيب في سياقها القرآني، وبعيدًا عن إسقاطات مقولات المتكلمين الانحصارية، تتبدى هذه الآيات مصدرًا حيويًا لإنتاج تصورات رحبة عن الله، تتسع لاحتضان تنوع التجارب الدينية، وتبعث رؤية تحرر الخلاص من الانحصار بالفرقة الناجية، وتعيده إلى رؤية رحمانية، تتسع فيها الرحمة لكل شيء، كما تنص على ذلك الآيات القرآنية. لغة الغيب، كما تجلت في القرآن، لا تنتج تصورًا واحدًا لله، بل تنفتح على تصورات متنوعة، تتلون بأفق المتلقي، وبيئه، ومختلف المعطيات السائدة فيها، وتتجلى بقدر ما يتأهل القلب لاستقبالها. كلُّ قراءة تتذوق هذا البُعد الرؤيوي في لغة الغيب، تكتشف أن النص القرآني نداءٌ للرحمة، ودعوة للاعتراف بإنسانية المختلف، وإقرارٌ بتنوع سبل الهداية إلى الله.
انسداد آفاق التعددية الدينية، واحتكار الخلاص بفرقة واحدة، يفضي إلى تعطيل مختلف أنماط التعددية في المجتمع. انسداد آفاق التعددية الدينية يساهم في تجفيف روافد التعددية السياسية، والثقافية، واحتكار المجال العام، ولا يثري التنوع والتعدد في المجتمع، ولا يبنني أرضية لتوالد حق المواطن في أن يكون مختلفًا. حين تتجذر مقولات الفرقة الناجية في وعي الجماعة، ينغلق مفهوم الحقيقة على تصور أحادي، ويجري استبعاد أية رؤية أو تفسير لا ينسجم مع معتقد الجماعة. التعددية في المجال العام لا يمكن أن تنمو في بيئة يتسلّط فيها فكر ديني إقصائي، يحتكر الحقيقة بفهمه، ويختزل النصوص الدينية في تأويل واحد، ويعجز عن الاعتراف بالمساواة الإنسانية مع المختلف في معتقده. احتكار الخلاص يؤسّس نظامًا لإنتاج المعنى يحتكر الحق في رؤية الجماعة وفهمها، ويمنحها احتكار تمثيل الإرادة الإلهية، وتكليفها ضمنيًا بمحاسبة المخالفين ومصادرة حريتهم. إن تفكيك بنية هذا الاحتكار يبدأ من إعادة تأويل آيات الغيب بوصفها نداءً للرحمة، وشهادة على تنوع سبل الهداية، وإقرارًا بتعدد وجوه الإيمان، وتجليات الحضور الإلهي. لذلك فإن تحرير لغة الغيب من أسر مقولات الخلاص الانحصاري، يُعد شرطًا لتوليد وعي جديد، ينفتح على رحابة الحياة، وكرامة الإنسان وحريته، وحقه في أن يكون ذاته، بلا وصاية، ولا قسر، ولا إكراه.
حين تنغلق اللغة الدينية على مقولات الخلاص الكلامية، يغيب البعد الوجودي في لغة الغيب، ويتلاشى الأفق الذي كانت تنفتح من خلاله لغة الغيب الإلهية على إشارات لا تُدرك بالعبارة، بل تتذوقها الروح، ويتدفق بها ضوء البصيرة. وحين يغلق النص على التفسير الحرفي، وتنحبس دلالاته في قوالب المتكلمين، ينحسر إشعاع لغة الغيب، ويتراجع أثرها في القلب، وتتعطل قابليتها على بث الحياة الروحية في أعماق الإنسان. الكلمات الإلهية لا تنكشف للروح وتتجلى للقلب إلا بمقدار ما تنفتح عليها بصيرة القارئ، ويتأهل لتذوق أنوارها القلب، وتتهيأ لتلقي اشراقاتها الروح.
ما لم تتحرر لغة الغيب من أسر المعجم الكلامي، وتعاد قراءتها بوصفها إشراقات تتكشف فيها الرحمة والمحبة والجمال والسلام، وتستنير بتجربة الإيمان الحي، سيبقى حضور الله باهتًا في وعي الإنسان، ويتحول الدين إلى سلسلة ممنوعات تصادر عليه شيئًا مما تتطلبه طبيعته البشرية من احتياجات، وتعجز عن أن تروي ظمأ قلبه، ولا تضيء ضميره، ولا تنقذه من غربته الوجودية. هناك حاجة ملحّة اليوم تتمثل في استعادة البُعد الرمزي للغة الغيب، وإحياء إشاراتها التي توقظ الشعور بحضور الله، وتبعث على التأمل، وتلهم الروح طمأنينة تستدعي شهود أنوار الله بوصفه الحبيب، والجميل، والرحمن الرحيم، والسلام، والملاذ الذي لا يخذل من لاذ به. الدين الذي لا يداوي جراح قلب الإنسان، وقلقه المرير، ولا يروي عطش المعنى، ولا يمنح الإنسان بصيص أمل في الغربة الموحشة للوجوده، يظل غريبًا عن مقاصد الوحي، وبعيدًا عن أهداف رسالة الأنبياء. https://alsabaah.iq/117510-.html
صدر حديثًا عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة ببغداد كتابي: #الهرمنيوطيقا بوصفها منهجا للتفسير عند #أمين_الخولي.
هذه الفقرات جميعها مقتبسة من كتاب: مسرات القراءة ومخاض الكتابة، د. عبد الجبار الرفاعي. اختارها: د. يحيى جاد.

1- وظيفة الكاتب : كَشْفُ الأزمات والمشكلات التربوية والتعليمية والأخلاقية والروحية والمعرفية في الحياة، والإعلان عنها، ومحاولة اقتراح معالجات لها [..].

2- الكاتب الحقيقي يفكر أكثر مما يقرأ، يقرأ 1000 صفحة، ثم يفكر بتريث، ليكتب صفحة واحدة، وهذا هو الكاتب الذي تَفْرِض كتابَتُهُ حُضورَها الأبدي في المكتبة [..].

3- الكتابة يغذيها التساؤل، والتفكير النقدي، والقراءة المتواصلة، والتأمل العميق، وغربلة وتمحيص الآراء، والشجاعة في إعلانِ أخطاء كتابته وبيانِ ثغراتها وتعريةِ أوهامه.

4- ما يعرفه الكاتب يضمحل بمرور الأيام ما لم يُثْرِهِ على الدوام بما هو جديد.

5- يبقى الكاتب كاتباً ما دام يتساءل ويفكر ويقرأ ويتعلم ويطور تجربته الكتابية، فإذا شعر أنه استغنى بما لديه، وكف عن القراءة والتعلم والتفكير، لم يعد كاتباً [..].

6- بَعْدَ صناعة الاسم، يَكُفُّ بعضُ الكُتاب عن التزود بالمزيد من المعارف، وإثراء وتطوير مهاراته الكتابية !

7- الشهرة تصنع هالةً وسلطةً تَخْضَع لها النفوسُ طوعاً، فتُسَوِّقُ الشهرةُ كتابةَ الكاتب بشكل واسع، وإنْ كانت رديئة !

8- لا أستطيع الحُكْمَ على كتاب قبل أن أقرأه، لا أعتمد ما يقوله خصوم الكاتب، ولا عُشاقه [..].

9- النقد العلمي يتعذر أن يتفهمه مَن تنتقده؛ إذ ليس من السهل إبداءُ أيةِ ملاحظةٍ نقديةٍ مباشِرَةٍ لكتابةِ كاتبٍ في مجتمعاتنا،

10- غالباً ما تكون ضريبة هذه الملاحظةُ فادحةً، تتصدع فيها الصداقات مهما كانت راسخة، وربما تضمحل علاقات تاريخية بشكل متسارع على أثر نقد علمي !
11- لذلك، تقع الكتابات المسماة نقديةً بين حدين :
- فهي إما تصفية حساب مع مَن يريد أحدهم أَنْ يَهْجُوَه ويزدريه، ومثل هذه الكتابة ليست من النقد في شيء، وإن كان كاتبها يسميها نقداً.
- وإما تتضخم وتتراكم وتطغى كلمات المديح المُجَوَّفة كمطر منهمر لِمَن لا يستحق. ويَبْرَعُ في صياغتها بعضُ الشعراء والكُتاب، ووعاظُ السلطات السياسية والدينية، ويُضيف إليها ويسقيها كلَّ مرةٍ بكلماتٍ مثيرة للدهشة ومبالغات مُضْجِرة !

12- تتكرر كثيراً عبارة "الاختلاف لا يفسد للود قضية"، يرددها كثيرون غالباً، ويَسُوقُونها كأنها من البداهات، غيرَ أنَّ معظمَ مَن يُرَددها يَخُونُها !

13- يحتاج "الإنصاتُ إلى النقدِ العلمي والحوارِ" إلى تربيةٍ وتهذيبٍ متواصلَيْن؛ حتى تتقبله الذات،

14- لكي تتجذرَ أخلاقياتُ النقد ينبغي أن تبدأ التربيةُ عليه منذ الطفولة داخل العائلة،

15- وظيفة الأبوين بناءُ وعيِ الطفل على الحق في الاختلاف، والحق في الخطأ، والحق في الاعتراف بالخطأ، والحق في أن له حقوقاً -بوصفه إنساناً حراً- في حرية التفكير وإبداء رأيه الصريح، وإن كان مختلفاً عن رأي أبويه وعائلته،

16- تضاف هذه الحقوق التربوية إلى حقوقه في الاحترام والاهتمام والأمان والعيش الكريم والرعاية،

17- يجب أن تبدأ تربيته على هذه الحقوق منذ طفولته المبكرة، وتترسخ في المراحل الدراسية المختلفة، من الروضة إلى آخر مرحلة في الدراسات العليا [..]، وإلا، فلن نتعلمَ ونعملَ بتقاليد "الإنصات إلى النقد العلمي والحوار" التي تغربل الآراء وتُمَحصها، وتَختبر مصداقيتها في الواقع !

18- مَن يتربى على هذه الحقوق والنقد العلمي : يكون قادراً على نقد ذاته، ومراجعة وثوقياته، في محطات حياته المختلفة، والتحرر منها إن كانت غير مُبَرْهَنة.

19- بَعْدَ الفراغِ من قراءة كتاب استثنائي، يُدَلِّلُ عقلياً بصرامةٍ على ما يسوقه من أفكار وآراء، تتزحزح يقينيات القارئ الذكي، الذي يمتلك شجاعةً عقليةً لنقدِ ذاته وغربلةِ معتقداته وأفكاره ورؤاه، ويَرى يقينياته غير المُبَرْهَنة تنهار، وشيئاً من قناعاته الموروثة تُمحى، وتحل محلها قناعاتٌ مُبَرْهَنة، وعندئذ تتبدل رؤيته للعالَم، ويشعر كأنه وُلد من جديد !

20– أحيانًا نرى إنساناً عبقرياً في "منطقةٍ يَقِظَةٍ" مِن عقله، وعلى الضد مِن ذلك في "منطقةٍ نائمةٍ" مِن عقله، فتُدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لـ "عقله اليَقِظ" للاستدلال بها على أوهام "عقله النائم" !

21- تفسيرُ "المراوغاتِ الذهنية" و"الثغراتِ المنطقية" في تفكير العباقرة يتطلب الانتباهَ لوجود هذه "الحالة الذهنية" المشار إليها أعلاه، وهذا هو الذي يجعل بعضَ الفلاسفة يبدأون بمقدماتٍ عقليةٍ وينتهون إلى نتائج غيرِ معقولة !

https://www.facebook.com/1771381500/posts/pfbid02nDqndZA7jqJ8wPvLNpsnxZ5ht12mErcAD5D7LJPscdT4HS4n9U2CgdsqjKeaAQKCl/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الثاني: (٤) الحُبُّ والرؤيةُ الجمالية للعالَم، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/10/
تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب
د. عبد الجبار الرفاعي
حين يتجمد معنى لغة الغيب في حرفيته، وتنغلق مجازاته، ويتحول إلى فهم كلامي جدلي، لا يترك للقلب مساحته في الشهود، ولا يفتح للروح بصيرتها في التفاعل مع المعنى. لغة الدين الحاكية عن الغيب لا تنطق بذاتها، بل تتكلم عبر قارئها، وتتجلى في ضوء وعيه وبصيرته، وتشرق بمرآة القلب الذي يتذوقها. ليست الدلالة في الحرف بحدّ ذاته، بل فيما يشع من المعنى وراء الحرف، ولا تكون الدلالة في ظاهر القول، بل فيما يفيض منه على روح الإنسان وقلبه. لغة الغيب إشراق نوراني، لا يُلمس بالحواس، بل يُعاش بالشعور، ويجري تذوقه في لحظة تتحقق فيها الكلمة بحضورها كضوء، وتتحول العبارة إلى مرآة لما وراءها. الأسماء والصفات الإلهية حاضرة بكثافة في لغة الغيب، لكن قراءتها في سياق كلامي تغلق نوافذ البصيرة وتحجبها عن استلهام ما يفيضه معناها.
عندما تُفسَّر أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية في سياقات المعجم الكلامي، تنطفئ دلالاتها، وتفقد قدرتها على إيقاظ المشاعر، واستنهاض الوجدان، وإلهام الإنسان المحبة والسلام. ويتحول مدلول اسم الله من كونه نداءً يتدفق من خلاله أسمى ما في الإنسان، إلى رمز سلطوي يُحمَّل بدلالات الترهيب والعقوبة والعذاب. ويمسي الكلام الإلهي من دعوة إلى الرحمة والجمال والطمأنينة والسكينة والسلام، إلى خطاب مشبع بالتسلط، منزوعة منه الحميمية والدفء والعفو والمغفرة. ما لم تتحرر لغة الغيب من أسر هذا المعجم المتراكم عبر السنين في اللاشعور الجمعي، وتُبعث فيها الدلالات الرؤيوية المنبعثة من إشراقات الأسماء الحسنى والصفات الإلهية، سيظل حضور الله في الشعور الديني محصورًا في صورة الحاكم المتسلط، لا الحبيب المحب، والرحمن الرحيم، والجميل الذي يتذوق الإنسان تجلياته المضيئة في الوجود، وينصت إلى صوته يتردد في أستغاثات وآهات الضحايا، ويشرق نوره في أعماق كيان البؤساء.
استحواذ الرؤية الكلامية على معاني النصوص الدينية أبعد الدين عن رسالته، وضيّق مجاله في بناء صلة بالله تستلهم أسمائه وصفاته وتجلياته الرحمانية، حتى غدت هذه الصلة، في المخيال الجمعي، مصدرًا لتغذية الخوف، وتكريس كابوس العقاب، بدلًا من أن تكون علاقة مفعمة بالمحبة والرحمة والسلام والطمأنينة. لم تعد أسماء الله تنبض بما تبثه من نور، وما تفيضه من سكينة، وما توقظه من شعور عميق بمعنى الحياة والوجود، بل استُهلكت في الجدل، وتخشبت في الحرف، وخبا فيها وهج اثراء الصلة بالله، ودفء الصلة الحميمة بمحبته ورحمته.
الدين لا يحقق حضوره في حياة الإنسان إلا حين ينعش في كيانه المعنى الروحي، ويوقظ ضميره الأخلاقي، ويغذي ذائقته الجمالية، ويعيد إليه إحساسه بغبطة الحياة بشهود النور الإلهي. عندما يختزل الدين في حدود المقولات الكلامية، تنطفئ الأنوار الرحمانية المنبثة بلغة الغيب، ويتحوّل إلى عبء ثقيل، بدلًا من أن يكون رسالة حب ورحمة وسلام وشفاء. الحياة الروحية لا تتكرس في مناخ يغيب فيه حضور الله بوصفه ملاذًا للمحب، ومصدرًا للطمأنينة، ومرفأً لسكينة الروح المتعبة.كما لا تنبعث القيم الأخلاقية من خطاب يحاصر الإنسان بالممنوعات، ويثقله بالوعيد والتهديد، بدلًا من أن يرشده بلطف ورفق إلى الخير، ويستنهض في أعماقه النداء الأخلاقي.
لا يشرق الجمال من لغة تصف الله بعبارات تقريرية جافة، لا تتصل بمشاعر الإنسان، ولا ينصت فيها إلى صوت الله، ولا يشهد أنواره. لغة كهذه تغلق أبواب التأمل، وتطفئ جذوة الشوق، ولا تتيح للإنسان تذوق النور الإلهي في لحظات الصفاء ونداءات القلب. إن استعادة وظيفة الدين بوصفه مسارًا لتتسامي بالنفس، وإنقاذ الإنسان من ظمئه الأنطولوجي وغربته الميتافيزيقية، لا تتم إلا بإحياء الأفق الرؤيوي للغة الغيب، تلك اللغة التي يستفيق بها ضمير الإنسان، وتستنهض وعيه، وتوقظ فيه الإحساس بالدهشة، وتبني صلة حيّة بينه وبين ربه، لا عبر الرهبة، بل من خلال المحبة والرحمة والعطف والرفق والسلام. اللغة التي ينبعث منها معنى يشد الإنسان إلى الله، ويضيء له درب النجاة، ويمنحه القدرة على استعادة ذاته في عالم يضج بالصخب، ويقسو فيه العيش، هي وحدها القادرة على مداواة القلب المنهك، وإنقاذ الإنسان من التيه، وإعادته إلى مكانته في الوجود.
لا يمكن استعادة حضور الله في قلب الإنسان إلا بتجديد تفسير لغة الغيب والأسماء الحسنى والصفات الإلهية الجمالية خارج أفق التراث المتراكم حول دلالاتها لدى المتكلمين، وتحريرها من أسر المعجم الكلامي، وإيقاظ دلالاتها التي تكرس الإيمان، وإحياء رمزيتها، وإزاحة الحجب التي تراكمت على تلك الأسماء والصفات، والانتباه إليها بوصفها منبعًا لما يمنح الحياة معناها، ويوقظ فيها الإحساس العميق بحضور بالله في الوجود. عندها فقط يمكن أن نستنطق هذه الأسماء في سياقها القرآني، ونفهمها بوصفها منارات للهداية، وشفاءً للروح، ومصدرًا لبناء علاقة محبة بين الإنسان والله، تتجلى فيها الرحمة قبل العقاب، والسلام قبل التسلط، والصلة الحميمة قبل الرهبة.
إعادة تأويل لغة الغيب ليست رفاهية يمكن تأجيلها، بل ضرورة ملحّة، لأن الدين لا يُعاش بعمق إلا إذا تحدّث بلغة تخاطب مشاعر الإنسان، وتسكن إليها روحه، وتعبر عن آلامه، وتفهم معاناته، وتجيبه بإغاثة ظمئه الوجودي، لا بلغة موروثة غريبة عن متطلباته الروحية واحتياجاته الوجودية. يفقد الدين أثره حين يصبح مرآة تنعكس عليها الرؤية الكلامية، ولا يسعف الإنسان في غربته، ولا يضيء عتمة وجوده، ولا يمنحه سلام الباطن.
اللغة الكلامية، بما هي لغة مقولات اعتقادية، لا تتسع للمعنى الغيبي الذي ترمز إليه آيات القرآن، ولا تحتمل طاقة الإيحاء الكامنة في أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية، ولا تفتح أفقًا للحياة الإيمانية الحيّة، والتعددية الدينية. لا تنتج هذه اللغة تدينًا ينبض بالسلام، بل تدينًا مسكونًا بالخوف، يفتقر إلى الدفء، وتشح فيه منابع الرحمة والمحبة والرفق والعفو والمغفرة والسلام الباطني، واحترام المختلف في المعتقد.
تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب لا تنتهي للاعتقاد بأن مَن يعتقد بمقولات فرقة كلامية معينة هو الوكيل الوحيد لله، والناطق الحصري باسمه في الأرض، وأنه هو فقط من له الحق بامتلاك الحقيقة دون سواه، بل تمنحه تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب رؤية فسيحة تسمح له بقبول تعددية المعتقَد واحترام الآخَر المختلف، بوصف الآخر مظهرًا وجوديًا لاسم من الأسماء الإلهية المتنوعة، فتكون التعددية في الأرض انعكاسًا لتعددية الأسماء في العالم الربوبي. الأسماء الإلهية مرآة تتجلى فيها الأنوار الإلهية بحسب استعداد القلب وصفاء الروح للتلقي. لأن لغة الغيب لغة رمزية رحبة، فإن الرؤية لله في سياقها تتنوع، وهكذا تتنوع الطرق إلى الله وتتعدد، كذلك تتنوع أنماط عبادة الله وتتعدد بحسب الأديان والمعتقدات. التعددية الدينية ليست نقيضًا لوحدانية الله، بل هي نتيجة لتعدد الطرق إليه، وتعدد تجلياته، وتنوع صوره في قلب الإنسان. حين تكون اللغة دالةً على الغيب، لا يمكن أن تنغلق على تأويل واحد، لذلك يختلف تلقيها، كما يتنوع تفسيرها، وتتعدد فيها طرق الصلة بالله، وتتنوع منازل الأرواح ومشاهدات القلوب. لا تعني التعددية الدينية تعدد الحقيقة، بل تعني تعدد الطرق إلى الحقيقة الواحدة، وتنوع طرائق تلقيها.كلُّ تجربة روحية صادقة مرآة ينعكس فيها شيء من اشراقات النور الإلهي، وكلما كانت تلك التجربة مشبعة بالمحبة والرحمة والرفق والعفو والسلام،كانت أسرع إلى شهود الأنوار الإلهية.
موضوعات الغيب في القرآن تشكّل ركنًا أساسيًا في الإيمان، إذ يفتتح القرآن وصف المتقين بقوله: "الذين يؤمنون بالغيب" (البقرة: 3). الغيب في القرآن ليس غيابًا عدميًا، بل هو شهود نوراني لعالم ما وراء المادة. يظهر في القرآن تقابل واضح بين عالم الغيب الغائب عن الحس، وعالم الشهادة المحسوس. تتصدر لغة الغيب كلمات: الله، والأسماء الحسنى، والصفات الجمالية والحلالية، والعرش والكرسي، واللوح المحفوظ. لا تتوفر لدي معطيات دقيقة حول المساحة التي تحتلها موضوعات الغيب ولغته في القرآن، غير أن بعض التقديرات تذهب إلى حضوره بحدود 30٪ من آياته، ويعد الغيب من أوسع المحاور التي تتناولها آياته. أحاول أن أشير إلى كثافة حضور الله، وأسمائه الحسنى، وصفاته، في سياق آيات الكتاب الكريم، ولا أتحدث عن موضوعات الغيب الأخرى في الكتاب مثل القيامة واليوم الآخر، بغية التدليل على أن محاولات تفسير هذه الآيات في ضوء الرؤية الكلامية تخرجها من سياقها، ولا تضيء دلالاتها، ولا تفتح أفقًا للإطلالة على ما تنشده من بناء الإيمان وتكريسه، وإثراء الحياة الروحية، خلافًا لما لو فسرناها في ضوء رؤيتنا لآيات الغيب في سياقها القرآني.
يتكرر لفظ الجلالة "الله" في القرآن الكريم 2699 مرة. إجمالي 2699 مرة يتضمن 114 مرة في البسملة، و2585 مرة في غير البسملة. أما إجمالي تكرار أسماء الله الحسنى فيبلغ أكثر من 1800 مرة تقريبًا، حسب اختلاف طرق العد الدقيقة والتكرار في السياق. الأسماء الجمالية في القرآن هي: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، اللطيف، الحليم، الكريم، الأكرم، الغفور، الغفار، العفو، الشكور، التواب، البر، الودود، الوهاب، الجواد، الحفي، الجميل، الصبور، النافع، المجيد، القريب، المجيب، الولي، الهادي، النصير، الوكيل، الكفيل، الحافظ، الحسيب، الكافي، الرازق، الفتاح، الباسط، المعطي، البديع، النور، الواسع، الحي، القيوم.
أما الأسماء الجلالية فهي: الله، الأحد، الصمد، الإله، الملك، المالك، مالك يوم الدين، العزيز، الجبار، المتكبر، القهار، القادر، القدير، المقتدر، القوي، المتين، العظيم، العلي، الأعلى، الكبير، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحق، الحكم، الحسيب، الشهيد، الرقيب، الحفيظ، المقيت، القائم، المنتقم، سريع الحساب، ذو الطول، ذو الجلال والإكرام، الغني، المغني، المانع، القابض، المذل، العدل، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، المحيط، البصير، السميع، العليم، الخبير. "الله" هو الاسم الأعظم الجامع لسائر الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا يُطلق إلا على الحقّ جلّ شأنه، وهو الاسم الأصل الذي ترجع إليه بقية الأسماء والصفات. وقد ورد في القرآن الكريم 60 اسمًا من أسماء الله الحسنى بصيغة الاسم الصريح.
ما ورد في القرآن الكريم من الصفات هي 81 صفة إلهية صريحة، تنوعت صيغها بين الاسم، والفعل، والجملة الوصفية والخبرية، فعبرت عن ذات الله وصفاته بأشكال متعددة. وما ورد بصيغة الاسم المباشر، في آيات القرآن: الرحمن، الرحيم، الغفور، العفو، التواب، الحليم، اللطيف، الكريم، الودود، الشكور، البر، القريب، المجيب، السلام، الهادي، العليم، السميع، البصير، الخبير، العزيز، الحكيم، العدل، الحق، القدير، الوكيل، الرقيب، الشهيد، القوي، المتين، الغني، الرازق، الفتاح، الوهاب، الحسيب، الحميد، الوارث، البديع، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحي، القيوم، الله، ذو الجلال والإكرام... وغيرها، وقد بلغ عددها 60 صفة. ومن الصفات ما ورد بصيغة الفعل، أو الجملة الوصفية أو الخبرية، في القرآن، مثل: كتب على نفسه الرحمة، وسعت رحمته كل شيء، يغفر الذنوب جميعا، يعفو عن كثير، لا يعجل بالعقوبة، يحب المحسنين، يحب التوابين، يحب المتطهرين، يدعو إلى دار السلام، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ما توسوس به النفس، يعلم السر وأخفى، غافر الذنب وقابل التوب، قريب مجيب، لطيف بعباده، رزّاق ذو القوة المتين، أرحم الراحمين، أحسن كل شيء خلقه، أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد...، وغير ذلك، وقد بلغ عدد هذه الصفات 21 صفة. مادام الله واحدًا في ذاته، متعددًا في تجلياته.
https://jabbaralrefae.com/%d8%aa%d8%ac%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%84%d9%87%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%8a%d8%a8/
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
المتحدث العلامة الشيخ ريان توفيق أحد أبرز علماء الموصل.
التجديد في الفكر الإسلامي المعاصرالدكتور عبد الجبار الرفاعي(أنموذجا)

د. جواد كاظم سماري, مروة احمد حسن فرحان


https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2024/12/16/a0545d0a57749728061f8be72a739ec4.pdf
كتبت في نقد اسلمة المعرفة فصلين في مؤلفاتي، الأول في كتاب الدين والنزعة الإنسانية، بعنوان: (إسلامية المعرفة ايديولوجيا وليست معرفة)، وهي ورقة قدمتها سنة 2006 في المؤتمر الذي عقده المعهد العالمي للفكر الإسلامي في اسطنبول، بمناسبة مرور 25 سنة على تأسيسه، وكانت هي الورقة الوحيدة النقدية، انزعج المؤسسون، باستثناء الشيخ طه جابر العلواني رحمه الله الذي حثني على نشر الورقة، وقال ضروري هؤلاء ينصتون إلى صوتك. يقصد جماعته في المعهد.
‏الفصل الآخر في كتاب: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، بعنوان:
"عندما يتجاوز الدينُ حدودَه: أنسنة الإسلاميات لا أسلمة الإنسانيات".
غواية الكتابة

د. عبد الجبار الرفاعي
غوايةُ الكتابة واحدةٌ من نتائج غير محسوبة لعصر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. صار الهوسُ بالكتابة والنشر، بلا موهبة، ولا قراءة مكثفة، ولا تفكير صبور،كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوينٍ علمي. إذ يورث الحضورُ في تطبيقات وسائل التواصل إدمانَ الشهرة، وينهل هذا الإدمان أحياناً ما نهله الوهم من إدمان الهيروئين أوهامًا وتهويمًا في الفراغ ، مثلما أفرغ قناعُ السلطة المفاجئة على أشخاص إدمانًا من نوعٍ آخر، فيسعى مَن عمل سنوات طويلة من حياته مسؤولًا في سلطة، أو تنظيمٍ سياسي، بدولة أو مدينة صغيرة أو كبيرة، إلى حضور آخر في ميدان الأدب والثقافة والفن في الهزيع الأخير من عمره، يجهل أو يتجاهل أن الإنتاج الفكري والأدبي والفني متعذر تماماً بلا تكوينٍ مستمر وتفكيرٍ متأمل وتراكمٍ طويل لقراءات تتواصل العمرَ كلِّه. وإن أثبتت فوضى لا صدفة فيها إمكان أن يجد المرء نفسه في مواقع متقدمة من العمل السياسي، بلا تأهيلٍ سياسي واجتماعي وثقافي وبلا تجارب وخبرات، فيصل إلى مراكز متقدّمة بسرعة خاطفة؛ لمجرد الانخراط بجماعات سباق الامتيازات. تبقى مثل هذه الخروقات عصيّةً ولا تجد لها موطئ قدم في ضفاف الأدب والثقافة. التكوين الفكري، دائماً، يفرض سياقاتٍ فردية، تحتاج بدورها إلى قراءاتٍ تتسع لعمر الإنسان كلِّه، وتفكيرٍ مزمن ومران يوميّ على الكتابة، مضافاً إلى سياحةٍ متواصلة في الثقافات والآداب والفنون والمعارف والعلوم، وشغفٍ بالكتاب وولعٍ لا ينطفئ بالمطالعة. لا تتراكم الثقافاتُ والآداب والفنون والمعارف والعلوم وتتفاعل إلا في رحلة العمر الممتدة ومحطاته المتنوعة، ولا تتخصب وتنضج إلا ببطءٍ وزمن مديد.
موضةُ الرواية اليوم تستخفُ بمختلف أشكال الكتابة سواها، بعد أن تحولت إلى هوسٍ صاخب يثيرُ الغثيان. سألني شخصٌ ممن تقدم به العمرُ، لا شغف له بالقراءة، ولا علاقة له بالكتاب والمكتبات، أنه يريد أن يبدأ بكتابة رواية فماذا يفعل؟
قلت له: الكتابة الإبداعية لا تولد بقرار، أنا لستُ روائيًا ولا ناقدًا، ولم أجرؤ حتى اليوم على كتابة رواية. الرواية من أثمن أجناس الكتابة وأغناها وأصعبها احترافًا. ليست الروايةُ تكديسَ ألفاظ أو حكايات مبعثرة، الرواية تتطلب من الكاتب موهبةً ومهارة لن تكونا طيّعتين إلا بعد تراكمٍ معرفي وجمالي واسع وعميق، ومطالعاتٍ غزيرة لأعظم الروائيين العالمين والعرب، وتمارين شاقة على الكتابة تصل حدَّ الانهاك. تتناغم في فضاء الرواية أجناسٌ كتابية وفنون ومعارف متنوعة، ما يحتاج معها الروائي، مضافًا إلى الموهبة، ثقافةً موسوعية يلتقي فيها مختلفُ أنواع الثقافات والآداب والفنون والمعارف، وشغفًا مبكرًا بالمطالعات المتنوعة. ليس هناك نصٌّ يبدأ من لا شيء، النصُّ المكثّفُ نسيجٌ يحيلُ إلى ما يختزنه الكاتبُ من نصوص قرأها في مراحل متوالية من حياته. تتجلى براعةُ الكاتب في استلهام ما يمده به الخزّانُ المترسب من قراءاته في أعماقه، وقدرته على الابداع.
كاتب الرواية المبدع يحتاج مدةً طويلة من القراءة وزيارات ميدانية، والتشبع بمناخات أماكن وأزمنة أحداث روايته وأبطالها. بعض الكتّاب يمضي مدة طويلة في التحضير لعمله الروائي أحيانًا، ربما يتطلب التحضيرُ للرواية عدة سنوات. قرأت لأمبرتو إيكو أنه أمضى ثمان سنوات من أجل كتابة بندول فوكو، يقول: "في الفترة التي كنت أحضّر فيها لكتابة روايتي بندول فوكو، قضيت ليالي بأكملها أتجول في ردهات معهد الفنون والحرف في باريس، حيث تدور بعض أحداث القصة، إلى أن يغلق أبوابه. ومن أجل وصف تجوال كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد إلى ساحة ليفوج، ثم إلى برج إيفل، قضيت ليالي كثيرة أتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً، أهمس في مسجل مدوناً ملاحظاتي حول ما أرى، ولكي لا أخطئ في أسماء الأزقة والمدارات" . ويحتاج كاتب الرواية إلى اعتكاف طويل وعزلة وتفرغ بعيدًا عن الناس ومشاغل الحياة اليومية. يكتب الروائي الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق: "لمدة ثلاثين عامًا كنت أقضي معدل عشر ساعات يوميًا وحدي في غرفة، أجلس إلى مكتبي. وإذا أحصيت فقط العمل الجيد الذي يمكن نشره، فإن معدل اليومي سيكون أقل كثيرًا من نصف صفحة. فمعظم ما أكتبه لا يرقى إلى ما أرى أنه المعيار القياسي للجودة في نظري... لكي أكتب جيدًا، لابد أولاً أن أشعر بالملل حتى الجنون، ولكي أشعر بالملل حتى الجنون، لا بد أن أدخل فى الحياة" .
قوة الرواية تعكسها قدرتها على تصوير نشيج صوت الإنسان المعذَّب المكبوت للقراء، بلغة عذبة واضحة مقتصدة مكتفية بذاتها، ذلك الصوت الذي يتصاعد فيبلغ حد الصراخ المختنق بالأسى، مما اكتوت بمرارته هي، وما نكتوي فيه نحن، من تقاليد وأعراف متشددة، فرضها في مجتمعاتنا التعصب الموروث، ولبثت تتراكم وتترسب لعدة قرون، وترسبت داخل الإنسان بعقد نفسية،كان ضحاياها في مختلف العصور الطفولة والمرأة والرقيق وكل البؤساء المقهورين، ممن تعرضوا للتمييز والاضطهاد والتعسف والإقصاء، على أساس العرق واللون أو الدين أو الجنس. قوة الكتابة السردية في قدرتها على البوح بما نقوله في السر، وما لا نستطيع التعبير عنه بلساننا، وكشفها لمأساة الإنسان وغربته وقلقه الوجودي، وتشريحها لبنية الاستعباد وتعبيراته المتنوعة في التربية والتعليم والثقافة واللغة والقيم المجتمعية السائدة، وحضوره في السلطة والعائلة والمدرسة والمؤسسة والمجتمع.
الروائي الحاذق لا يقف عند القراءة والتخيّل، بل يجد نفسَه يتقمّص أدوارَ أبطال روايته ومواقفهم، ويتموضع في أماكنها وأزمنة حوادثها، وينصهر بوقائعها، يعيش الأحداثَ ويتماهى مع الشخصيات ويسكن الأماكنَ وتسكنه. لفرط شغف الروائي يقع في فضاء الحدث ويتلبّس به كأنه هو مَن عاشه، ويلبث فيه مادام يفكر ويتخيل ويكتب عمله، لا يستطيع أن ينفكّ عنه في اليقظة، وعادة ما يلاحقه في نومه وأحلامه وكوابيسه. لا يمكنه نسيانُ حضور شخصيات روايته، يتوحّد معها إلى حدٍّ تتغلّب مشاعرهم على مشاعره وينعكس صدى انفعالاتِهم ومواقفهم في انفعالاته ومواقفه، تقول الروائية جاكلين ويلسون: "أتحول إلى الشخصية الرئيسية في رواياتي، ونادرًا ما أدرك أن أصابعي تكتب على لوحة المفاتيح، بسبب إحساسي بكل مشاعر تلك الشخصية من عينيها... ولطالما ذهبت إلى النوم وأنا أفكر في شخصياتي، وعندما استيقظ أجد تلك الشخصيات في رأسي، فأكون على استعداد للكتابة مرةً أخرى" . لفرط اندكاكه بكلِّ شيء في روايته ربما يأخذ الروائي شيئًا من كلِّ شيءٍ فيها إلى المستقبل، ولعمق تقمّصه لكلِّ التفاصيل وما يقع فيها تكون شخصيتُه حالةَ الكتابة كأنها صورةُ رواياته ورواياتِه صورةُ شخصيته. يتحدث نجيب محفوظ عن كمال عبد الجواد بطل ثلاثيته فيقول: "الأزمة الفكرية الخاصة بكمال هي أزمتي... التطور العقلي لكمال أذكر انني مررت به خطوة خطوة" .
تفرض الكتابةُ على الذهن أن يفكر بعمق في كلّ كلمة، اللغة ليست أداةَ تواصل فقط،كلّ كلمة تستبطن، منذ نشأتها وعبر رحلتها الطويلة، معاني مستترة وأخرى مندثرة. تطويعُ لغة الكتابة أشدُّ امتحانات كلِّ كاتب، غالباً ما تظهرُ حذاقةُ الكاتب في القدرة على الاستمرار بتغذّية الذهن بكلماتٍ يسطعُ ألقُها ويرتسمُ معناها بذهن القارئ، وبراعته في حرصه على عدم استنفاد ما تختزنه ذاكرتُه من هذا النوع من الكلمات. لغة الكتابة الجيدة صافية، أفكارها واضحة، أسلوبها يتقن اقتصادَ الألفاظ، لا تغرقه كلماتٌ لا تقول شيئًا. تكتب الروائية إيزابيل الليندي: "أنا أصحح إلى حد الإنهاك، وفي النهاية أستسلم. الرواية دائمًا غير منتهية تمامًا، ودائمًا ما أفترض بأنها يمكن أن تكون أفضل، ولكنني أبذل قصارى جهدي... أن تستعبدك حكاية فهذا مرض. إنني أحملُ القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، في جميع الأوقات. كلُّ شيء أراه، كل شيء يحدث، يشعرني بأن الكون يتحدث معي لأنني أوصل القصة... لا أزال خائفة من امتناع قدرتي عن الكتابة. الأمر أشبه بابتلاع الرمل، إنه مروّع" .
‏ يرى الروائي المبدعُ صورةَ العالم في أصغر الأشياء في عينه وأقصاها عنه، يرى كهلًا في طفل، يرى غابةً في شجرة، يرى جبلًا في صخرة، يرى شلالًا في قطرة، يمكن أن يرى في أصغر شيء كلَّ شيء. المبدعُ يتحسّس ما لا يتحسّسه غيرُه، وينفعل بما لا ينفعل به غيرُه، ويتألم بما لا يؤلم غيرَه، ويكتئب بما لا يكتئب به غيرُه، ويبتهج بما لا يبهج غيرُه.كأنه يرى جزئيات كلّ شيء وذراته بمجهرٍ يضيء التفاصيلَ الهامشية بما يعجز عن رؤيته غيرُه.كلُّ قصة مادة ثرية لتأليف رواية ترسم لنا شيئًا من تجليات أعماق النفس الإنسانية، وتكشف ملامحَ صورة الإنسان ومختلف أحواله وهواجسه وقلقه وتناقضاته، والعالَم الذي يعيش فيه. حياةُ كلّ إنسان قصةٌ بل سلسلةُ قصص لا تكرّرها حياةُ إنسان آخر.‏كلُّ شيء في هذا العالم قصة، الكتابُ قصة، القصيدةُ قصة، الكلمةُ قصة، البذرةُ قصة، النبتةُ قصة، الوردةُ قصة، الشجرةُ قصة.كلُّ علاقة لإنسان بإنسان، كلُّ حدث، كلُّ نجاح، كلُّ فشل،كلُّ حزن، كلُّ فرح، كلُّ شيء مهما كان قصة تتسم بفرادة. تحكي كلُّ قصةٍ تميّز هذا الكائن واختلاف أحواله ومواقفه وانفعالاته وأفعاله. يقول يونغ: "في بعض الأحيان تستطيع شجرةٌ إخبارك أكثر مما تستطيع الكتبُ إخبارك به" .