عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
616 photos
51 videos
270 files
1.09K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
نماذج من اطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير المناقشة حول مشروع عبد الجبار الرفاعي في تجديد الفكر الديني، علما ما تمت مناقشته غيرها لم يتوفر تحت اليد. وهناك 10 اطروحات دكتوراه ورسالة ماجستير قيد الكتابة.
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الأول: (٣) الإنسانُ كائنٌ غريبٌ في العالَم، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/3/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية. الفصل الأول بعنوان:
3- نقاش إعلان المهندس المعماري رفعت الجادرجي عن إلحاده في مقابلة تلفزيونية قبل وفاته.

https://www.hindawi.org/books/13907429/4/
مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث

‏عبد الجبار الرفاعي
«فهمُ الدين وكيفيةُ قراءة نصوصه من أهمِّ العوامل الفاعلة في تحوُّلات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات والأفراد. الدينُ هو الحبل السُّري الذي يتغذَّى منه تكوينُ الفرد، وتقاليدُ المجتمع وأعرافُه وقيمُه وهويتُه، والبنيةُ اللاشعورية للمجتمع.»
يمثِّل هذا الكتاب إضافةً نوعية ومهمة لمسيرة تطوُّر الثقافة والفكر العربي؛ إذ يقدِّم لنا «عبد الجبار الرفاعي» خلاله قراءةً متعمِّقة لنخبة من المفكرين والفلاسفة الذين تناولوا قضية نقد الفكر الديني من زوايا فكرية وتفسيرية وصياغية متباينة. ويضُم هذا الكتاب بين دفتَيه نماذجَ فكريةً متنوعةً ومتميزة من المشرق والمغرب العربي؛ فمن المشرق، نجد المفكِّر العراقي البارز «علي الوردي»، وإلى جانبه أربعة فلاسفةٍ إيرانيين مرموقين هم «داريوش شايغان»، و«أحمد فرديد»، و«حسين نصر»، و«جلال آل أحمد»، ومن مصر المُفكِّرَين الكبيرَين «حسن حنفي» و«محمد عمارة»، بالإضافة إلى المُفكِّر السوري المتميز «جودت سعيد»، ومن المغرب، نجد المُفكِّر الجزائري الرائد «مالك بن نبي». وهذا التنوُّع الجغرافي والفكري يُضْفي على هذا العمل عُمقًا سياقيًّا ثريًّا.
رابط تحميل الكتاب:

https://www.hindawi.org/books/74264816/
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الأول: (٥) منشأ الحاجة للدين، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/5/
لغة الغيب لغة رمزية
د. عبد الجبار الرفاعي
كأننا في لغة الغيب أمام أستاذ فيزياء يشرح نظرية أينشتاين لتلميذ في الصف الأول الابتدائي، أو يحاول أن يفسر له أعقد المسائل الرياضية. في حالة كهذه، لا بد أن يتحدث الأستاذ بلغة تحاكي استعداد ذهن الطفل وإمكاناته في الفهم، فيلجأ إلى التعبير بكلمات مبسطة تعبّر عن رؤية الطفل المحدودة للعالم من حوله، كي تكون هذه الكلمات قادرة على إنتاج معنى يتناسب واستعداد ذهنه للتفكير والاستيعاب. هكذا تتنزل كلمة الله في أفق اللغة البشرية، لا لتنقل الحقيقة الغيبية كما هي في ذاتها، بل لتشير إلى شيء منها يمكن للإنسان أن يلتقطه. وما لغة الدين الحاكية عن الغيب إلا رموز وإشارات ومجازات وتشبيهلت، تنقل المعنى لا بصورته، بل بصيغة تمثيلية تفتح باب التذوق، وتحفز القلب على الحضور، وتستنهض البصيرة لتلمح ما وراء ظاهر العبارة. لأن هذه اللغة ليست مطابقة للغيب، فإن كل ما يُفهم من نصوصها يظل نسبيًا، مشروطًا بحدود اللغة، واستعداد المتلقي، وسعة مرايا قلبه. لا يُفهم النص الإلهي إلا بقدر ما تنفتح له الروح، وتتحرر القلوب من مضايق الرؤية الكلامية للغيب، وتتهيأ لالتقاط ما تشي به الكلمة من نور. إذا جمدت هذه اللغة في الحرف، وانغلقت على ظاهرها، وانطفأت رمزيتها، نضب فيها المعنى، وفقد النص قدرته على ملامسة المشاعر، وتحول البعد الغيبي في الدين إلى كلمات مفرغة من قدرتها على إرواء الروح، ومقولات مغلقة، وأوامر لا تترك مجالًا للمحبة، ولا توقظ ضميرًا، ولا تفتح أفقًا على الجمال. الدين لا يُعاش بعمق إلا حين تكون لغته نداءً للقلب، تمنحه المعنى الذي يبحث عنه في غربة الوجود، وتعيد إليه صلته بما وراء العالم المرئي، بما لا يُقال، لكنه يُذاق، ولا يُشرح، لكنه يُشهد في لحظة صفاء عميق.
يمكن التعرّف على شيء من ملامح الغيب وصفاته ومظاهره وتجلياته بما تتحدث به آيات القرآن والكتب المقدسة. الآيات القرآنية تتحدث عن الغيبيات بلغة رمزية، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغية تقريب ما لا صورة له بصورة المحسوس وخصائصه وصفاته. الصور المحسوسة يدركها الإنسان بالحواس، لكنه لا يعرف حقائق الغيبيات وذواتها لأنها لا صورة لها، وإن كان يمكن تشبيهها للذهن بالتمثيل بالأشياء المادية، وتقريب فهمها بالمحسوسات. وما هذا التمثيل إلا محاولة للشعور بالغيب بغية إيقاظ البصيرة، لا لعرض صورة لما لا صورة له. المجاز، والتمثيل، والتشبيه، والإشارة، ليست تفسيرات علمية، بل أدوات رمزية تستنفر الخيال، وتستحث القلب، وتدعو الإنسان إلى تأمل ما وراء الظاهر. الغيب لا يُحاط به، بل يُلمح، لا يُدرك بوصفه شيئًا ذا هيئة، بل يُذاق بوصفه حضورًا ينعكس على مرآة القلب، ويضيء البصيرة، ويبعث في الإنسان شعورًا تعجز الكلمات عن وصفه بدقة.
لغة الغيب حين تستعمل صورًا مادية للتعبير عنه، فإنها لا تهدف إلى تقديم صورة حقيقية لماهيته، بل تشير إليه في إطار ما يفهمه الإنسان، وتفتح له بابًا للتأويل والتذوق، وتمنحه لغة تؤنسه، وتقرب إليه المعنى، وإن لم تطابقه. الغيب لا يُقال كما هو، بل يُشار إليه، ويشهد الإنسان آثاره في حياته الروحية، ويشعر بحضوره في لحظات الصفاء والسكينة. كل قراءة حرفية لآيات الغيب تُغلق باب التأويل، وتُطفئ جذوة التذوق، وتختزل الغيب في صورة حسية، تفقده إيحائه ورؤيويته. الغيب، كما تقدمه الكتب المقدسة، أفق مفتوح، يعبر عن سعة وجودية، لا تستوعب شيئًا من تجلياته إلا حالات الروح. يظل الغيب دائمًا في حدود المعرفة الذوقية، حاضرًا في النداء، قريبًا بالروح، بعيدًا عن الإدراك العقلي.
كلمة الله حين تتجسد في لغة بشرية تلتبس بما هو بشري، فلا تنقل هذه اللغة كلمة الله كما هي، بل تشير إليها بما يتناسب مع وعاء اللغة وخصائصها المحدودة. إن كلمة الله لا يمكن أن تستوعبها اللغة البشرية ما لم تتنزل إلى عالم الإنسان المحسوس، فتتشكل معانيها بهيئة يمكن للغة البشرية أن تشير إليها بما يتلاءم وكيفيتها، حتى لو كانت تعجز عن البوح بحقيقتها. العجز ناتج عن ضيق ظرف الكلمات، وقصور الوعاء اللغوي البشري عن احتواء ما هو إلهي لا تحده حدود.
الرمز يتكفل بتزويد الإنسان بمعانٍ تضيق بها اللغة، فهو يغذي المتخيل ويتغذى منه. لغة الأديان، والآداب، والفنون، والأساطير، منجم الرموز، لذلك غدت لغتها من أثرى منابع توليد المعنى في حياة الإنسان. الحقائق الغيبية أسرار الوجود، والأسرار لا تنكشف كما هي، بل تعلن عن ذاتها بالرموز. الله لا يعلن عن نفسه إلا بالرموز، الله "غيب الغيوب". لأن الغيب لا يُدرك، فإن كل ما يُقال عن الله لا يمكن أن يكون إلا تمثلًا بشريًا، يحاول الاقتراب من صورته، من غير أن يدعي الإحاطة أو التطابق. لغة الغيب ليست مجرد أداة للتعبير عن الله من خلال إحالات رمزية، بل هي الوعاء الحي الذي يحتضن تنوع تصورات الإنسان عن الله، والأفق الرحب الذي تتشكل فيه التعددية الدينية بألوانها وأشكالها. إنها النسيج الذي ينسج منه البشر صورهم عن الذات الإلهية، متأثرين بتنوع الأديان، والثقافات، واختلاف العصور، وتباين السياقات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والنفسية، والروحية، فضلًا عن تطور المعارف والعلوم، وتنامي الوعي الإنساني. هذه التصورات عن الله، وإن كانت من صياغة العقل البشري، فإنها لا تطابق الذات الإلهية، بل تظل رموزًا، وصورًا، ومجازات، وتشبيهات، تشير إلى المطلق من دون أن تحيط به.كل تصور عن الله هو محاولة بشرية لتمثل الغيب، لكنه يبقى قاصرًا عن استيعاب ذات الله، فالله كما تشير الآية: "ليس كمثله شيء". تتنوع أسماء الله في مختلف اللغات والتعبيرات والكلمات، لكنها جميعًا تشير إلى الواحد الأحد.
هذه التعددية تعكس غنى اللغة البشرية في محاولتها للاقتراب من الغيب. لكن لغة الغيب ليست مجرد تعبير عن التنوع، بل هي أيضًا جسر يربط بين البشر في سعيهم المشترك نحو المعنى الأسمى. إنها تدعو إلى التأمل في حدود اللغة ذاتها، فكل كلمة أو رمز عن الله هو إشارة غير حصرية إليه. الدين، بوصف كتابه يتضمن لغة غيب، يتسع لتنوع وتعدد التصورات الإلهية في سياق هذه اللغة. لغة الغيب، في منظور فلسفة الدين، لا تعبّر عن الحقيقة المطلقة من خلال تعابير حرفية مغلقة، بل تلمح إليها بإشارات رمزية، وتفتح أفق التأويل لتعدد المعاني والصور والتجليات. تلك هي اللغة التي تستبطن الإيمان بوحدة المقصد الإلهي، رغم اختلاف الطرق وتنوع التعبيرات. وقد عبر جلال الدين الرومي عن هذا المعنى بلغة شعرية رمزية، حين قال: "المصابيح متنوعة، لكن النور واحد". المعتقدات ليست سوى مصابيح متعددة الأشكال، بينما نور الحقيقة الذي تستقي منه جميعها واحد. وقال ابن الفارض: "عباراتنا شتى وحسنك واحد، وكل إلى ذاك الجمال يشير"، مشيرًا إلى أن الجمال الإلهي يتجلى في صور متنوعة. لغة الغيب، بناء على رمزيتها، تصبح فضاء للتعددية، إذ لا تختزل الإله في صورة واحدة، ولا تزعم احتكار الحقيقة المطلقة، بل تدعونا إلى رؤيته في تجليات متعددة، بحسب استعداد المتلقي وقابليته الروحية والمعرفية، والسياقات الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية والزمانية.
في ضوء ذلك ينبثق الأصل المعرفي للتعددية الدينية؛ فطالما أن الله لا يُحاط به، ولا يُستنفد في صورة أو عقيدة أو تصور أو مذهب، فإن كل دين أو مذهب أو تجربة روحية إنما تشير إليه، وإن لم يكن بوسعها، في ضوء هذا الفهم، أن تحتكره. التعددية ليست نفيًا للحقيقة، بل إقرار بأن الحقيقة أوسع من أن تُحتكر، وأغنى من أن تُختزل، وأعمق من أن تُستنفد في قراءة واحدة أو صيغة واحدة، أو أن يؤدي إليها طريق واحد دون سواه من الطرق. في هذا السياق، تتولد التعددية الدينية لا من نزاع عقلي بين الأديان، بل من طبيعة اللغة الدينية الحاكية عن الغيب، ومن كون الحقيقة تنكشف فيها عبر المجاز والرمز والإشارة والتشبيه والتمثيل.
الحقيقة الإلهية، كما نبّه فلاسفة الدين والمتصوفة، لا تتسع لها عبارة، بل تتجلى في تنوع الصور، وانعكاسات المعنى في مرايا القلوب. من هنا، تكون التعددية في الرؤية إلى الله، وفي التعبير عنه، ثمرة أصيلة للغة الغيب، لا انحرافًا عنها. لا تُفهم لغة الغيب بوصفها خطابًا يقدم معاني حرفية مغلقة، بل هي نسيج رمزي، يعتمد الإشارة لا التقرير، والتلميح لا التصريح. وحين يدرك الإنسان أن الحديث عن الغيب ليس وصفًا مباشرًا، بل ترجمة رمزية لتجارب روحية وحالات شعورية وتأويلات بشرية، يتبين له أن هذه اللغة لا تنتج تصورًا واحدًا لله، بل تنفتح على تعددية الصور والتجليات والتجارب. إن تنوع التصورات الإلهية في التراث الديني ليس خروجًا عن الحقيقة، بل هو شاهد على ثراء لغة الغيب، وقدرتها على احتضان الاختلاف التأويلي المشروع، وفقًا لما يتيحه النص من إمكانات رمزية، وما تستجيب له الروح من معانٍ.
الدين حين ينفتح على الرمز، ويتحرر من وهم التعيين الصارم لمعاني الغيب، ويعي أن خطابه لا يتجاوز الإشارة ولا يملك تمثيل المطلق، يخرج من ضيق العبارة إلى سعة التجربة الروحية، ومن ادعاء الامتلاك الحصري للحقيقة إلى تواضع البحث عنها. يتخذ الإيمان آنذاك مضمونه الحقيقي، ليكون نداءً للروح، يروي القلب بالطمأنينة، والروح بالسكينة، لا مقولة مغلقة يُلقَّنها الإنسان، ولا عقيدة تُفرض بالقوة، ولا سلاحًا يُشهر في وجه المختلف. في هذا الأفق، لا تعود لغة الغيب أداة تطابق لفظي بين الدال والمدلول، بل تصير جسرًا رمزيًا إلى الغيب، يحيل إلى ما لا صورة له، ويوقظ ما خفي في أعماق الإنسان من أشواق الروح.
يتكلم الغيب بلسان المجاز، لا بعبارة صريحة، ويفصح بالرؤيا لا بالنظر، وبالبصيرة لا بالبصر. القرآن، في حديثه عن الغيب، يتحدث بلغة التقريب الرمزي، لأن الغيب ليس معطى مدركًا بالحواس، بل حضورًا يتذوقه القلب، وتشهده الروح ببصيرتها. ومثلما لا يستطيع الإنسان أن يرى ذاته إلا إذا انعكست في مرآة، لا يمكنه أن يبصر الغيب إلا إذا شعّ من الرمز إلى وجدانه. حينئذ، يتحول الدين من وسيلة قهر إلى نداء محبة، ويصير رسالة رحمة لا منصة قضاء، ويكون دعوة إلى التزكية لا إلى الهيمنة، وحقلًا للتعدد في الفهم، لا ساحة لإقصاء كل من لا يطابق الإنسان في صورة معتقده والألفاظ المعبرة عنه. وحين يصغي الإنسان إلى دلالة الغيب بوصفها رمزًا، يصير أكثر رحمة، وأقل شعورًا بالاستعلاء على المختلف في المعتقد، وأكثر إنسانية، وأبعد عن التوحش باسم الله.
نبّه بول تيليش، وغيره من فلاسفة الدين، إلى رمزية لغة الدين، وأن الرمز الديني لا يشرح الحقيقة، بل يشير إليها، ولا يملكها، بل يحيل عليها. وذهب بول ريكور إلى أن الرمز الديني لا يقدم وصفًا مباشرًا للحقيقة الإلهية، بل يفتح أفقًا للتأويل، ويحيل إلى الحقيقة عبر تأويل مستمر، لا عبر امتلاكها، ويشير إلى المعنى العميق دون أن يستنفده. ويرى جون هيك أن الرموز الدينية تعبيرات بشرية تشير إلى الحقيقة المطلقة، لكنها لا تتسع لها. وسار على هذا المنهج الرمزي عدد من فلاسفة الدين في الغرب. فتغنشتاين، خاصة في أعماله المتأخرة، يؤكد أن المعنى لا يوجد خارج اللغة، بل يتولد من "ألعاب اللغة" وسياقات استعمالها. ويرى أن اللغة الدينية لا تُستخدم لتقرير حقائق علمية، بل لتوجيه الحياة وتكوين رؤية للعالم، أي أنها رمزية تتجاوز الدلالة المباشرة. أما كارل ياسبرز، فيرى أن الحقيقة الإلهية لا تُدرك إلا بالتلميح والرمز، ويؤكد أن لغة الدين تتحقق من خلال الرموز التي تشير إلى ما لا يمكن الإمساك به مباشرة. ويُنبّه إلى أن هذه اللغة لا تُحيط بالحقيقة، بل تضيء أفقها، وتكشف حدود العقل الإنساني أمامها.
في التصوف المسيحي، كتب مايستر إيكهارت أن كل حديث عن الله هو حديث بالرمز، وكل صورة له ينبغي تجاوزها، لأن الحقيقة الإلهية لا تُقال، بل تُذاق، وهي ليست معلومة تُكتسب، بل حضور يتجلى في الصمت والذوق. وفي الإسلام تحدث المتصوفة وبعض الفلاسفة عن رمزية لغة الغيب، فشيخ الاشراق السهروردي تحدث عن الرمز النوري في التعبير عن الحقائق الغيبية، الأنوار في فلسفته ليست مجرد استعارات بل وسائط رمزية لتقريب الحقيقة الغيبية من الذهن والحدس. الرمز النوري مفهوم مركزي في فلسفته الإشراقية، التي تجمع بين الفلسفة والعرفان والرمزية. يستخدم السهروردي النور كرمز أساسي للتعبير عن الحقائق الغيبية، مستنداً إلى أن النور هو جوهر الوجود والحقيقة الإلهية. النور هو أصل الوجود، وأكثر المفاهيم وضوحاً وتجلياً. النور لا يحتاج إلى تعريف لأنه ظاهر بذاته، وكل شيء يُعرف من خلاله. الحقيقة الإلهية، التي يسميها "نور الأنوار"، هي المصدر الأعلى لكل وجود ومعرفة. السهروردي يقسم الأنوار إلى مراتب: النور الأعلى (الإلهي)، ثم الأنوار العقلية (الملائكية)، والأنوار النفسية، وصولاً إلى الأنوار المادية (كالشمس والنجوم). أما النفّري فيرى أن العبارة عاجزة عن استيعاب سعة الرؤية، وهذا ما يتكشف لنا من حياته الروحية ومواقفه في شهود الأنوار الإلهية، وتعبيراته عنها بلغة شذرية، في كتابه: "المواقف والمخاطبات". شذراته تلمح أكثر مما تصرح، وأن ما لا يُقال فيها أكثر مما يُقال، وبكون الصمت أصدق في التعبير عن الغيب من البيان. ويذهب جلال الدين الرومي إلى أن الكلمات لا تُدرك إلا بمقدار ما تهب الإنسان من ذوق داخلي، إذ يقول: "كل صورة رمز إلى معنى، وكل لفظ ظل لنور لا يُرى"، الرمز لا يشرح أو يطابق، بل يحيل إلى شيء أعمق لا يُدرك بالحس أو العقل وحده،كما النور لا يُدرك مباشرة بل يُستدل عليه بآثاره وظلاله، وفي ضوء ذلك يكون الرمز هو السبيل الوحيد للعبور في لغة الغيب من ظاهر العبارات إلى أفقها الغيبي.
في مؤلفات محيي الدين بن عربي نعثر على منجم واسع يتحدث عن رمزية لغة الغيب بتعبيرات ثمينة، فهو يرى أن اللغة التي تتحدث عن الله إنما هي رموز وإشارات إلى الحقيقة الإلهية، لا يمكن أن تتسع للتعبير عن الذات الإلهية إلا بحدودها كلغة بشرية، لأن الذات تتجاوز كل تصور بشري. ويذهب ابن عربي إلى أن الأسماء الإلهية مراتب للتجلي، فيقول: "فإن الأسماء كلها ليست إلا مراتب التجلي، والحق متعالٍ عنها في ذاته، فما يُعرف منه إلا ما تجلى به، وما تجلى به ليس هو في ذاته، بل هو صورته في مرايا القلوب". ويؤكد على أن: "كل ما يُقال في الحقّ من وصف أو اسم، فإنما هو إشارة إلى ما يتجلى منه، لا إلى ذاته، فإن الذات لا تُحاط، والعبارات عنها ظلال تُشير إلى النور". ويرى أن "الإنسان خُلق على صورة الحقّ، فهو مرآة لتجلياته، والأسماء التي يُعرف بها الحقّ ليست هي الحقّ في ذاته، بل هي مظاهر تجليه في العالم". وهنا يشرح ضيق اللغة والصورة عن أن تتسع للحق، لذلك ليست الصورة أو الكلمة إلا إشارة إليه: "والحق متجلٍّ في كل صورة، وكل صورة رمز له، لكن لا صورة تملكه، فإن اللغة حدود العقول، والحق بلا حدود". https://alsabaah.iq/116950-.html
ثناء على الثناء

عبدالهادي مهودر
صعبة كانت أسئلة الإمتحانات الوزارية هذا العام ، أسئلة اللغة العربية للسادس الإبتدائي صعبة جداً أليس كذلك ؟ لا أبداً كانت سهلة،لكنّ أسئلة الفيزياء واللغة الإنگليزية كانت صعبة ، أليس كذلك؟ لا أبداً بالعكس وسأحصل على درجة كاملة فيهما ، كانت هذه أمثلة على متابعتي لإبني وإبنتي في السادس الابتدائي والثالث المتوسط اللذين أدّيا إمتحانات البكلوريا هذا العام بتفوّق ، وقد راودني بعض الخجل من تقييمي لمستوى الأسئلة وتذكّرت جيلنا الذي كان يفرح بشهادة النجاح ولو كان بقرار وبين الجيل الجديد الذي تجاوز حلم النجاح إلى التفكير بالحصول على أعلى المعدلات والتنافس بين الأوائل وهو جيل يستحق الثناء ، كما يقول المفكّر الدكتور عبدالجبار الرفاعي في كتابه المهم ثناء على الجيل الجديد ، تداركت نفسي فنحن ضحايا طرائق التدريس التي لاتعلم حمَلة الشهادات العليا اللغة الإنگليزية على الرغم من نجاحهم في إمتحان الكفاءة بإعجوبة ، بيد أن هذا الجيل تعلّمها بسهولة في بدايات حياته الدراسية إلى جانب الفرنسية في بعض المدارس ، وبعض شباب اليوم تعلّموها عبر الدردشة في جهاز الموبايل ، مختلفون حتى أنهم بدؤوا بالمقلوب وتجاوزوا التدرج المنطقي في الكتابة واقتحموا كتابة الرواية،التي تهاب الأجيال السابقة الإقتراب من أسوارها، بعضهم يتواصل مع أصدقاء إفتراضيين ومجاميع في مختلف أنحاء العالم قرّبتهم اللغات الأجنبية والألعاب الألكترونية والإهتمامات المشتركة وأشياء لانفهمها في الرقميات والإتصالات التي حوّلت العالم إلى شاشة بحجم الكف، وأصبحنا نحن على مخارج العصر ، الفجوة بين جيلنا وجيل آباءنا ضيقة لكنها واسعة بين جيلنا وجيل أبناءنا بسعة العصر الرقمي والذكاء الإصطناعي وإيقاع التغيير المتسارع..مختلفون عنّا في الرؤية إلى العالم وتفسير القيم وفي كيفية تلقي المعارف والعلوم و في كل شيء تقريباً،كما يقول الرفاعي ، فما الذي يفرضه الواقع الجديد على الآباء ؟ يجيب الدكتور الرفاعي بحزم : عليهم الكف عن إنتاج نسخ متشابهة وألّا يورطوهم في الحياة أكثر مما ورطوهم ، التساؤلات مهمة وكثيرة،وقطعاً لاتكفي هذه العجالة لعرضها ولا تكفي للثناء على ثناء الرفاعي الذي بات يفضّل الشباب كأصدقاء على المحاربين القدامى ويرى أجمل صورة للغد في أحلام الشباب من أصدقائه وأن أجمل أصدقائه من تتفاعل كيمياء روحيهما معاً ، جعلنا الله من إحدى الروحين،مع أن كتاب الثناء يلطّف المؤاخذات على الجيل الجديد إنحيازاً من الكاتب فيبريء ساحتهم ويلقي بالمسؤولية على التشدد وفقه التكفير الذي دفعهم عن الدين والتديّن،لأن مايجذبهم الصورة المضيئة لله غير تلك الصورة التي صنعتها الفرق المتفرقة،والمؤكد أن هذا الجيل أكثر حظاً من سابقه الذي جانبه الحظ ولازمه البؤس ، فهو جيل يستطيع أن يشتري ويأكل ويلبس ويسافر ويوجه أسئلة صعبة ويرفض ويتمرد ولايقتنع ولايُملى عليه ويناقش ولاينفّذ.
https://alsabaah.iq/117019-.html
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الثاني: (١) الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقَى الأضدادِ، رابط التسجيل:

https://www.hindawi.org/books/13907429/7/
تمت مناقشة رسالة ماجستير بعنوان: "آفاق فلسفة الدين عربيا: عبد الجبار الرفاعي انموذجا"، في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، بجامعة ابن خلدون، في مدينة تيارت، غربي الجزائر، يوم 16-6-2025، المقدمة من الطالبة: بلبية فريحة.
هذه الرسالة تسلسل 25 من اطروحات الدكتوراه والماجستير المناقشة حول مشرع #عبدالجبار_الرفاعي لتجديد الفكر الديني، وهناك 10 قيد الكتابة في عدة جامعات عربية واجنبية.
اللغة بوصفها أفقًا لرؤية العالم
د. عبد الجبار الرفاعي
اللغة ليست قوالب فارغة، ولا وعاءً محايدًا يُملأ بأي معنى، إنها طاقة خلاقة، ترسم خارطة الذهن، وتوجه مسارات التفكير، وتعيد تشكيل الوعي. ليست اللغة أداةً محايدة لنقل الأفكار، بل هي بوصلة الفهم، ومِرآة الإدراك، ومَعبر لرؤية الذات والعالم. تسهم اللغة في صوغ هويتنا، وتشكيل علاقتنا بالعالم، وتحديد موقعنا فيه.كلّ تحول في اللغة يواكبه تحوّل في التفكير، اللغة لا تنقل المعنى فحسب، بل تساهم في خلقه. إنها ليست ظلًا للواقع، وإنما شريك في تشييده، وتلوين ملامحه، وإنتاج صورته في أذهاننا. الرؤية التي تشكّلها اللغة ليست مغلقة أو نهائية، بل تتسع وتضيق تبعًا لتحولات الوعي، وتجدد المفاهيم، وتنوع الألسنة، وثراء الحياة الروحية والأخلاقية والمعرفية والعاطفية والجمالية. حدود اللغة حدود الفكر، الفكر لا يتخطّى ما لا تعبّر عنه اللغة. الواقع لا ينعكس تلقائيًا في اللغة، كما أن اللغة لا تنشأ من فراغ. العلاقة بينهما جدلية تفاعلية، كلٌّ منهما يُعيد إنتاج وتشكيل الآخر. تتغذى اللغة من التجربة، وتغذي الوعي، وتعيد رسم صورة العالم في ذهن الإنسان. ليست اللغة أداةً ثانوية نلجأ إليها بعد تبلور الفكرة، بل هي المعمل الذي يعمل على المساهمة بتشكيل المفاهيم والرؤى والأفكار، إنها مهد المعنى، ومسرح تشكّل الرؤية. ليست اللغة انعكاسًا خالصًا للعالم، بل هي شريك في صناعة رؤيتنا له.
تصوّراتنا عن الزمان والماضي والحاضر والمستقبل، والمكان، ومختلف المعطيات في الواقع المعيش وما نتطلع أن يكون عليه غدًا، ليست مرآة تعكس صورة محايدة عنها، بل هي مشروطة بلغة الدين والاسطورة والعلم والمعرفة والثقافة التي ننتمي إليها. مثلًا مفهوم الزمن الدائري يعكس رؤية للكون متكررة، تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ. الزمن في بعض الثقافات القديمة لم يكن يُرى بوصفه خطًّا يمتد من ماضٍ إلى حاضر ثم مستقبل، بل كان يُتصوَّر دائرةً مغلقة، تعود فيها الأحداث وتتكرر في نسقٍ أبدي. في هذا الفهم، لا تتجه الحياة نحو غاية نهائية، بل تسلك مسارًا دائريًا، تبدأ من حيث انتهت، وتنتهي من حيث بدأت. ينبع هذا التصور من معاينة الطبيعة، فالفصول تتعاقب، والنهار يعقبه الليل، والموت يتبعه ميلاد، والكون كله يُرى بوصفه مسرحًا لدورات أبدية من التجدد والانبعاث. هذا التكرار المنتظم أوحى للإنسان القديم أن الزمن لا يتحرك إلى الأمام، بل يدور حول نفسه. لذلك تشكّل وعيه الزمني في إطار هذه الدورات، لا في أفق التقدم أو التطور. وكان للغة أثر عميق في انتاج هذا التصور الذي يرسم تفسير الحياة والمصير، حيث تُفهم الكوارث والخلاص، والموت والمصير، لا كمراحل منفصلة، بل كمحطات في دورة كونية كبرى، يتجلى فيها معنى الوجود بوصفه عودةً أبدية، لا سيرًا إلى مستقبل مغاير.
بينما يؤسس تصور الزمن الخطي في العصر الحديث لفهمٍ تطوّري للأحداث، ونظرة متسلسلة للتاريخ. إذ تشكَّل تصور الزمن الخطي في العصر الحديث بوصفه وعيًا جديدًا بالزمن، يرى الأحداث تتتابع في خط متصاعد لا يعود إلى نقطة البدء، بل يمضي إلى الأمام على نحو متواصل، ما أفضى إلى نشوء فهم تطوّري للتاريخ، يقوم على التراكم، والتقدم، والتحول المستمر. هذا التصور انبثق من تحوّل جذري في رؤية الإنسان للعالم، حين لم يعد الواقع يُقرأ من خلال الأسطورة أو الميتافيزيقا، بل من خلال العقل والعلم والتجربة. ولّد هذا التحوّل إحساسًا بأن الحياة قابلة للتغيير، وأن المستقبل ليس تكرارًا للماضي، بل أفقًا مفتوحًا للإنجاز. في هذا الفهم، لم يعد الزمن دورانًا يعيد إنتاج ذاته، بل صار مسارًا يُبنى بالتجربة، ويتشكّل بالوعي، ويتجه نحو غاية قابلة للتحقيق. وهكذا نشأ وعي حديث بالتاريخ بوصفه سيرةً للتقدم البشري، لا سلسلة من التكرارات، وصار الزمن الخطي خلفيةً لفكرة الإنسان الفاعل، القادر على تجاوز ما كان، وصناعة ما سيكون. هذا الاختلاف في تصور الزمان والماضي والحاضر والمستقبل، والمكان، ومختلف المعطيات في الواقع المعيش، وما نتطلع أن يكون عليه غدًا، ليس مجرّد اختلاف لغوي، بل هو اختلاف في الوعي بالذات، وتفسير الحياة، وتأويل المصير الإنساني.
مثلما تسهم اللغة في صياغة تصوراتنا عن الزمان والمكان، وما كان وما سيكون، فإنها تتجلى في الذكاء الاصطناعي بكيفية أخرى مغايرة لما مضى. هذا الذكاء لا يعيد تشكيل أدوات التعبير فحسب، بل يُعيد تكوين بنية الوعي، ويستولد أنماطًا جديدة من التفكير، ويغيّر شروط إنتاج اللغة والمعنى. لم تعد اللغة محصورة في التفاعل الإنساني المباشر، بل باتت تُنتَج في بيئة رقمية هجينة، تتداخل فيها النصوص والصور والرموز والإشارات، وتتدخل فيها الخوارزميات بوصفها وسيطًا جديدًا لصياغة المعنى. يفرض العصر الرقمي على اللغة إيقاعًا مختلفًا، يتناغم مع منطق السرعة، واختزال الزمن، وتكثيف التعبير، ويؤسس لوعي لغوي يتلاءم مع لحظة لم تعد تتسع فيها اللغة الغارقة بالفائض اللفظي، ولا تحتمل غزارة المرادفات والمحسنات البديعية. في هذا السياق، تُعاد صياغة لغة الإنسان على نحو مستمر، بنحو تتناغم مع منطق السرعة، وتكثيف المعنى، واختزال الزمن، وتواكب التحول العميق في أنماط الإدراك والتفكير والتواصل، وتحاكي متطلبات العيش في عالم لا يكفّ عن التبدل. وما دامت اللغة كائنًا حيًا يتفاعل مع الواقع، فإنها تغدو مرآةً لتجارب الإنسان في كل تحولاته، وعدسةً تتكشف من خلالها رؤيته المتجددة للعالم، بوصفها امتدادًا لوعيه، وتجسيدًا لصورته عن ذاته في أفق تكنولوجي جديد. في هذا السياق، تُعاد صياغة لغة الإنسان باستمرار، لتواكب الإيقاع المتغيّر للعالم، وتحاكي تحوّلاته العميقة. وفي ضوء هذا التفاعل المستمر بين اللغة والواقع، تغدو اللغة مرآةً تنعكس فيها التجارب الوجودية والروحية والأخلاقية والعاطفية والجمالية للإنسان، وعدسةً تتكشف من خلالها رؤيته للعالم، بما هي رؤية نابعة من صميم وعيه، ومجسدة لصورة ذاته في مرآة اللغة.
لم يَعُد اختزالُ اللغة بوصفها أداةً تواصليةً محضة مقبولًا في نظر جماعة من الفلاسفة، منذ أن أدركوا أن اللغة ليست مجرد قناة تمرّر المعاني، بل هي حقلٌ خلاق ينتج المعنى، ويعيد تشكيل الوعي، ويؤسس لرؤية الإنسان للعالم.كان الفيلسوف والشاعر واللاهوتي الألماني يوهان غوتفريد #هردر (Johann Gottfried Herder)، "1744–803"، أول من نبّه إلى أن اللغة ليست أداةً محايدةً لنقل المعنى، بل هي أفقُ الرؤية.كلُّ أمة، كما يرى، تُبصر العالم بلغتها، وتنشأ رؤيتُها للعالم من داخل نسيج لغوي يعكس روحها، ويعبّر عن ذاكرتها وهويتها. في رسالته عن أصل اللغة سنة 1772، بيّن أن اللغة لا تعكس الواقع، بل تبتكر صورته، وتصوغ رؤية الإنسان للعالم، وتحدّد ما يمكن أن يُقال.
ثم جاء الفيلسوف، واللساني، والدبلوماسي الألماني، فيلهلم فون #همبولت (Wilhelm von Humboldt)، "1767 – 1835"، فاستلهم من هردر هذا الوعي، ووسعه في إطار فلسفة لغوية شاملة، ذهب فيها إلى أن كل لغة تحمل رؤيةً خاصةً للعالم، مؤكدًا أن اللغة ليست مرآةً، بل عنصر مبدع للفكر، وقوة تكوّن الإنسان من داخله. اللغة في نظر همبولت ليست وسيلة لنقل الفكر فحسب، بل هي قوة خالقة للفكر ذاته، وأن الإنسان لا يُدرك العالم إلا من خلال اللغة التي يتكلمها، لأنها تصوغ رؤيته وتُنتج تجربته للوجود. همبولت من أوائل من وعى أن اللغة لا تعكس الفكر فقط، بل تصوغه وتنتجه، وأن الإنسان لا يُبصر العالم إلا من خلال اللغة التي يتكلمها، إذ ترسم كل لغة أفقًا خاصًا للوجود، وتخط خارطة الرؤية، وتكوّن الصورة الذهنية للعالم. لا تمثل اللغة عند همبولت أداةً محايدة تنقل ما سبق تكوينه في الذهن، بل هي الفضاء الذي تُصاغ فيه الأفكار ذاتها، والمجال الذي تتشكل فيه خبرة الإنسان بالواقع. ليست اللغة وعاءً جامدًا للفكر، بل هي كيانٌ حيّ، يتغذى من التجربة، ويعيد إنتاجها بصيغة رمزية تفتح الوعي على معنى العالم ومكان الإنسان فيه. ومن هنا، فإن اختلاف اللغات لا يعود إلى تنوع الكلمات أو القواعد فقط، بل إلى اختلاف الرؤى التي تُنتجها كل لغة للعالم.كل لغة تتضمن رؤية ضمنية للعالم، وتُنتج تصورًا خاصًا بها للوجود والإنسان والله. وهذا ما يجعل للغة وظيفة تكوينية لا مجرد تواصلية. يتكلم الإنسان بلغته، لكن لغته في الوقت نفسه تتكلم فيه، تشكله، وتبني صورته عن نفسه وعن محيطه.