عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
616 photos
51 videos
270 files
1.09K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
رؤيا الغيب في لغة الدين
د. عبد الجبار الرفاعي
لغة الدين المختصة بالغيب تعجز عن التعبير عن حقيقة الغيب بنحو تعكسه كما هو، وهذا العجز حكاية لعجز الإنسان عن تصور الحقيقة غير المحسوسة كما هي. يتصور الإنسان الغيب على شاكلته، لا على شاكلة الغيب، لأن إدراكه لا يتسع لحقيقة ما لا يُدرك بالحواس، كما يتصور الإنسان الغيب بكيفيته، لا بالكيفية التي عليها الغيب. إشراق الغيب رؤيا لا تبوح بما تكتنزه، وليس رؤية محسوسة تدل الإنسان على أبعاد صورتها، رؤيا لما لا يراه الإنسان ولا يسعه أن يحيط بحدوده.كل ما يقال عن الغيب يظل رمزيًا وتلميحيًا، لا يطابق ذات الغيب وما هو عليه. ما يكتب عن الغيب هو تقريب له بلغة الإنسان، لا لغة الغيب. لذلك تتكئ النصوص الدينية التي تتحدث عن الغيب على الرمز والمجاز، وتجنح إلى التعبير التمثيلي، فتستخدم لغة تشي بما وراءها، وتدعونا إلى التأمل في إشاراتها، لا التوقف عند دلالتها الحرفية. أية محاولة لتجسيد الغيب حسيًا، أو تحويله إلى صورة مرسومة بوضوح في العقل الكلامي، تعجز عن رسم صورة الغيب، ولا تكتنه معناه خارج الإشارة، وتفرغه من أثره في إثراء الروح، وايقاظ الضمير الأخلاقي. الغيب رؤيا لا تُمتلك، وليس بوسع الإنسان اكتشاف حدودها في ضوء المنطق الصوري، ولا تتسع لها مقولات علم الكلام. الغيب لمن يؤمن به، يبرق في البصيرة كضوء ساطع، يتذوق القلب ومضاته، ويعيش حالاته، وكل ما هو من جنس الحالات لا يمكن أن تتسع له الكلمات والمقولات الجاهزة. ما لم يتحرر العقل الديني من إسار الرؤية الكلامية والفقهية التي أحكمت قبضتها على فهم الغيب، يظل الغيب مجرد كلمات منطفئة، لا تفتح له أفقا على عوالم النور، ولا تسقي القلب ببهجة معانقة النور، وتعمل على خفض وتيرة قلقه الوجودي، وتعيد إليه سلامه، وللروح سكينتها.
إثر عجز الإنسان عن تصور الذات الإلهية كما هي، كانت لغة الدين المختصة بالغيب رمزية. الرموز لا تبوح بالمعنى، بل تؤشر إلى شيء مما يتذوقه الإنسان لحظة تجلي الغيب له، وغياب الإنسان في عالم الرؤيا عن أقواله، وكأن ما يحدث رؤية لمعان البرق في ليلة حالكة الظلام. لغة الإشارات لغة رمزية، يتذوقها من يتسامى من الحروف إلى الحالات، إنها لغة مشبعة بمعنى يبهج الإنسان الشغوف بالأنوار. اللغة الرمزية لا تصور الغيب كما هو، لكنها تلمح إليه، وتهمس به، وتشي بشهوده، إنها لغة لا تشرح بل توقظ، لا تفسّر بل تقودك للبصيرة. أي تعبير ديني عن الغيب مسعى لتصوير ما لا يمكن تصويره، واستيعاب ما لا يتسع وعاء الإنسان له، وترميز ما لا تدركه الحواس، ولا تبلغه اللغة العادية. لغة الغيب لا تستجيب لمقاييس البرهنة، ولا تخضع لموازين المحاججات العقلية، بل ترتوي من معين التذوق، وتستنير بما ينكشف للقلب في لحظة الصفاء من تجليات، وتنهل من إشراقة الروح حين تتخطى الحواس. تظل اللغة الدينية في تعبيرها عن الغيب محتجبة، لا تنفتح إلا لمن اتسعت آفاق رؤيا بصيرته، وتطهر من غشاوة الحرف، وتجاوز ظاهر الكلمات. حين تتجمد الرموز، وتختزل دلالاتها في معنى ظاهر، تفقد اللغة قدرتها على الإيحاء، ويتحول الغيب إلى مقولة كلامية بلا إيحاء، تعبر عنه لغة مقولات جاهزة، ويتحول التديّن إلى ممارسة شكلية لا أثر لها في تطهير النفس، ولا تهذيب الروح، ولا رعشة القلب، ولا بناء علاقة حب صافية بين الله والإنسان.
مصطلح "لغة الدين" غير متداول على نطاق واسع في الدراسات الدينية والفلسفية والألسنية العربية، على الرغم من كونه أحد الموضوعات المحورية في فلسفة الدين الحديثة. توطين هذا المفهوم في دراساتنا الدينية يوفر لنا مرآة نرى فيها نصوص الكتب السماوية من زاوية مغايرة للنظر المكرر إليها من الزاوية ذاتها، ويفتح لنا نافذة على فهم يتخطى الرؤية السطحية، عبر مقاربة ماهية هذه النصوص، وبيان ما إذا كانت تخضع لمنطق اللغة العرفية، أم أنها لغة تنفرد بمنطق داخلي خاص، تعبّر عن معانيها بطريقتها، وإن تشاركت ألفاظها مع ألفاظ اللغة المتداولة.
الكتب السماوية لا تتحدث بلغة رمزية في كل ما تتناوله، الرمزية تبرز حين تلامس هذه الكتب الحقائق الغيبية، فتصبح اللغة الدينية فيها مشحونة بالإشارة لا التصريح والإيضاح، وتلجأ إلى المجاز لا البيان الحرفي، إذ لا سبيل إلى التعبير عن الغيب إلا بلغة تتجاوز المعنى الظاهر للكلمات. أما حين تتناول الكتب السماوية موضوعات الطبيعة، وما فيها من كائنات، وتضاريس طبيعية، وجبال، وبحار، وأنهار، وجغرافيا مناخية، أو تتحدث عن النباتات والحيوانات، والكائنات التي تعيش على الأرض، أو تتحدث عن الطبيعة البشرية، وأحوالها، والكيفية المخلوقة فيها، وما يكتنفها من هشاشة، وقوة، وعن تكريم الإنسان، وإناطة مهمة الاستخلاف به، أو ما يتصل بأحوال القلوب، وتذبذب أحوال النفس، والعلاقات الاجتماعية، والقيم الروحية والأخلاقية، والعبادات والمعاملات، أو تستعرض أحوال الإنسان وحياته على الأرض فردًا وجماعة، فإن اللغة المستعملة في هذه الموارد للكتب السماوية لا تتجاوز دلالاتها العرفية، وتظل ألفاظها تشير إلى معانيها التي وضعت لها في الاستعمال المتعارف.
التمييز بين لغة الغيب بوصفها موضوعًا للغة الرمزية، وبين اللغة العرفية بوصفها موضوعًا للطبيعة وما فيها من كائنات وغيرها، وأحوال الإنسان وحياته الأرضية، في النصوص الدينية، ضرورة يفرضها فهم لغة الدين فهمًا ينأى عن التبسيط والتعميم، ويساعد على إدراك ما تنشده هذه اللغة من معانٍ تسعى إلى توصيلها، حسب اختلاف موضوعها. لا يصح تفسير اللغة الدينية التي تتحدث عن الغيب، كما تفسر ما يتحدث عن الأخلاق، أو المعاملات، أو أحوال الإنسان في الأرض، أو الطبيعة وغيرها. الغيب لا يُدرك بالحس، ولا تحيط به التجربة، ولا تشرحه اللغة العادية، بل يومئ إليه النص بإشارات لا يصح اختزالها بحرفية الألفاظ.
لغة الدين المختصة بالغيب بوصفها حكاية عن عوالمه، تخاطب روح الإنسان وقلبه وعواطفه ومشاعره، وتوقظ حواسه الباطنية، لذلك ينبغي البحث عن حضور آثارها في الشعور قبل غيره. لا تتحدث هذه اللغة عن الأشياء الملموسة إلا عندما تحاول رسم صورة لما هو مجردا، فتعمل على محاكاتها بالمحسوسات لتقريب المعنى المجرد بما هو ملموس،كما في آية النور: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [النور: 35]. التمثيل في هذه الآية لا يراد به رسم صورة بأشياء مادية لله، بل يراد به تقريب المعنى المجرد بصورة تتقبلها المخيلة، وتتهيأ له الذائقة الباطنية، وتستعد له البصيرة، ويتذوق نوره القلب. المجاز وسيلة لتهذيب الحس، وفتح الأفق على دلالات لا تختزلها العبارة، ولا تقدر اللغة العادية على القبض عليها. حين تتكلم الكتب السماوية عن الغيب، فإنها لا تتحدث عنه كما تتحدث عن الظواهر الطبيعية، وأحوال الإنسان وحياته الأرضية، بل تشير إلى الغيب بلغة الرمز، وتقربه بلغة المشابهة، وتدعونا لاكتشافه لا بوصفه معلومة، بل بوصفه شهودًا يشعر به الإنسان، ويتجلى لمن صفا قلبه، وأشرقت روحه لترى فيه نورًا لا يراه غيرها.
في ضوء ما تقدم لا يصح أن يُفهم الغيب فهمًا حرفيًا، ولا ينبغي تفسير دلالاته بأدوات تفسير تغلقه على معنى واحد، أو مقولات علم الكلام، وكأنه شيئًا محسوسًا، بل يحتاج تلقي الغيب إلى لغة شعورية، ورؤيا باطنية، وشوق لا ينطفئ لمعنى لا يحدّه شكل، ولا تحيط به صورة. أية محاولة لإغلاق دلالة الغيب على معنى واحد، تنفي عنه عمقه الدلالي وتعدد وتنوع تجلياته، وتحوّله إلى مجرد مفهوم لا يبوح بمعنى يعيشه شعور الإنسان، ويضئ بصيرته. الغيب في لغة الدين أفق رحب، لا يتجلى إلا بحدود ما تتسع له البصيره، ولا يُمتلك، أو تتكشف أبعاد صورته، بل يُشار إليه، ويتذقه القلب حالة الصفاء، وترتوي منه الروح كلما اشتاقت إلى النور، واشتد اشتياقها إلى تجليات الجمال الإلهي.


https://alsabaah.iq/116161-.html
تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية. الفصل الأول بعنوان: الإيمان يتكلم لغة واحدة، رابط التسجيل:
https://www.hindawi.org/books/13907429/1/