اليمن_تاريخ_وثقافة
11.7K subscribers
145K photos
352 videos
2.21K files
24.8K links
#اليمن_تاريخ_وثقافة ننشر ملخصات عن تاريخ وثقافة اليمن الواحد الموحد @taye5
@mao777 للتواصل
Download Telegram
على بابه الخشبي القديم. على اليسار يرتفع دار محمد نعمان، والد الأستاذ أحمد محمد نعمان. وإلى اليسار ما تبقى من "مدرسة ذُبْحَانْ". وفي الأسفل دارين آخرين من ديور "آل النعمان"، وفي الجهة الأخرى أكثر من دار.
في الماضي، كانت هذه المباني بمثابة قصور. وهي تعكس مدى النفوذ الذي كان يتمتع به "آل النعمان" في "الحُجَرِيَّة" وخارجها. ولإدراك حجم ذلك النفوذ، يكفي أن نُلقِي نظره على التعينات التي حَصَلُوا عليه، بفضل أحمد محمد نعمان، في "حركة 48م": لقد أُسندت وزارة الداخلية للشيخ محمد نعمان، ووزارة الزراعة لأحمد محمد نعمان، ووزارة الصحة للشيخ عبد الوهاب نعمان، كما تم إدخال عبدالله عبد الوهاب نعمان في قائمة الموظفين الشورين، حيث أسندت له وظيفة "سكرتير الأمن العام"، وتم تعيين الشيخ علي محمد نعمان "أميراً للواء رداع والبيضاء". في كتاب "رياح التغيير في اليمن"، قال أحمد محمد الشامي: إن إسناد "هذه المناصب" لـ"آل نعمان" "لفت نظر بعض الأحرار في صنعاء وغيرها". وتقتضي الإشارة هنا إلى أن أحداً منهم لم يُباشر عمله في تلك المناصب، بسبب فشل "حركة 48".
كان الشيخ عبد الوهاب نعمان "قائمقام الحُجَرِيَّة" (حاكمها) أيام العثمانيين. وبعد خروج هؤلاء من البلاد، عام 1918م، أقرَّهُ "الإِمَام" يحيى في موقعه. وعام 1923م، رفض عبد الوهاب نعمان "الأتاوات" التي فرضها عليه علي الوزير نائب "الإِمَام" يحيى على تعز. أخرج "الوزير" حملة عسكرية تم فيها نهب دار "عبد الوهاب". وعندما طلع الأخير، في العام ذاته، إلى صَنعاء، بطلب من يحيى حميد الدين، زار "الوزير" إلى منزله، وشاهد فيه قطع من الأثاث، وأشياء أخرى، تم نهبها من داره في "ذُبْحَانْ". وبعد "حركة 1948م"، تم اعتقاله، ثم أُعْدِمَ في "حَجَّة".
واستمر حضور "آل النعمان" في المشهد السياسي، بعد ثورة 26/ سبتمبر"، عبر شخصية أحمد محمد نعمان، الذي تدرج في مواقع حكومية عِدَّة حتى صار رئيساً للحكومة لمرتين؛ الأولى في 20/ أبريل/ 1965م (استقال بعد نحو شهرين وعشر أيام)، والثانية في عهد الرئيس القاضي عبد الرحمن الأرياني؛ منذ 3 /مايو حتى 24 /أغسطس عام 1971م. وفي حياته لمع نجم ابنه "محمد" ("النعمان الابن") حتى أصبح نائباً لرئيس الوزراء وزيراً للخارجية، ثم أُغتِلَ في 28/ يونيو/ 1974م، في بيروت. أمَّا "النعمان الأب"، فقد مات في 27/ سبتمبر/ 1996م.
"مدرسة ذُبْحَانْ" وتكفير المدرِّس "حَيدَرة"

على يسار دار أحمد محمد نعمان، شاهدت ما تبقى من أطلال "مدرسة ذُبْحَانْ"، أو "مدرسة الحُجَرِيَّة"، في تسمية أخرى. لقد تهدَّم جزء غير قليل من بناء هذه المدرسة، التي يُعتقد أنها بُنِيَت في عشرينات القرن الماضي. أما المسجد الواقع أمامها، فمازال صامداً رغم تقادم السنوات. لهذه المدرسة، والمدرس محمد أحمد حيدرة قِصة تستحق أن تُروى.
قال أحمد محمد نعمان، في مذكراته ("سيرة حياته الثقافية والسياسية"، مراجعة وتحرير: الدكتور علي محمد زيد): إنه أسس هذه المدرسة، و"نادي الإصلاح" في قريته، مشيراً إلى أن هذا كان "أول ناد في اليمن". وأوضح أن أخاه الأكبر "علي"، الذي كان "مستنيراً نوعاً ما" وكان يعمل مع "الإِمَام" يحيى كحاكم لـ"منطقة في حدود الإنكليز"، جاء من "عَدن" بالمدرِّس الشاب "حيدرة"، لكي يُعَلِّم تلاميذ قريته (نحو 70 تلميذاً) مادتي التاريخ والجغرافيا، اللتين دَرَسَهما في "عَدن" والخارج. لكن المُدَرِّس "حيدرة" اُعْتُقِلَ، في النصف الأول من ثلاثينات القرن الماضي، وتَمّ ترحيله من إلى مدينة عَدْن، بعد أن كُفِّرَ واتّهم بـ"الفسق" والزَّندقة"، بسبب عزفه للعود، وقوله للطلاب إن "الأرض كروية"!
يقول أحمد محمد نعمان، الذي كان يُدَرِّس الدين واللغة العربية في مدرسة القرية: "جاء هذا الأستاذ ودخلت إليه ورأيته بلباس لا يدُل على أنه عالم وإنما سوقي. (..) فتبيِّن لي فيما بعد بأن الأستاذ يعزف على العود، فقلت بأنه فاسق ويجب طرده من البلد، لأن بقاءه سيجلب كارثة على البلد وغضباً من السماء، وبالتالي لا بد من طرده. ولكن أخي لم يقبل بطرده، بل صَمّم على بقائه". يضيف: "كان الناس قد أخذوا يتفتحون بواسطة الصحف. وبقي الأستاذ حيدرة يُعَلِّم مادتي التاريخ والجغرافية. ومرة سمعته يُعَلِّمهم أن الأرض كروية، وهنا جَنّ جنوني ولم أعد أستطيع الصبر، كيف يقول ذلك والله سبحانه وتعالى قال: "والأرض بسطها للأنام". وهذا الزنديق الكافر يقول إن الأرض كروية وإن الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور". كيف ذلك؟". يستطرد "نعمان" (ص 32): "بعض الأولاد استهوتهم الدروس الجديدة، والبعض استنكروا هذه الدروس والأفكار ورفضوها، والبعض الآخر استجابوا لها". وفي الصفحة 52 من مذكراته، قال "نعمان" إن اليمنيين كانوا يرون، بما في ذلك رجال الدين منهم، أن "الأرض مُعَلَّقة على قرن ثور"!
كان "حيدرة" شاباً "متنوراً"، ومتعدّد المواهب: يكتب مسرحيات، يكتب الشعر، يعزف العود، يلحِّن. لقد ألّف نشيداً للطلاب يقول فيه:
"الوطن الوطن يا شباب اليمن ما له من ثمن
غير أرواحنا".
لعل ذلك كان أول محاولة لتربية الأطفال/ الطلاب على الوطنية وحُبّ الوطن في اليمن، بدلاً من المذهبية وحُبّ "الإِمَام" والدعاء له. ولعل "حيدرة" هو أول من أدخل الرياضة البدنية إلى "مدارس" البلاد المنغلقة والمعزولة عن العالم (الشمال). بعد أن فَشِلَ "نعمان" في طرد "حيدرة"، ومنع الطلاب من الذهاب إلى المدرسة، قال إن المدرِّس الشاب أخذ "الأولاد جبراً إلى المدرسة"، ثُمّ أخذ "يُعَلِّمهم الرياضة البدنية 1، 2، 3، بدلاً من أن يُدخلهم إلى المسجد ليُعَلِّمهم العبادة". تالياً، نَجَحَ "نعمان" في تحريض الآباء، ومَنَعَ بعضهم الأولاد عن الذهاب إلى المدرسة، لكن ذلك لم يؤد إلى التخلُّص بشكل نهائي من المدرِّس "الكافر" و"الفاسق".
عندما فشل "نعمان" في طرد "حيدرة"، لجأ إلى السلطات العليا: "كتبنا للسيد علي الوزير، نائب الإمام في لواء تَعِزّ آنذاك، وشرحنا له القضية. كان حاكم الشريعة الموجود محمد بن علي المجاهد من أنصاري. عَلِمنا مرة بأن الأستاذ ذهب ليعزف العود هو وجماعته، فصدر القرار باعتقاله. سُلِّم للعامل الموجود، فقال الحاكم: ما القصة؟ قال العامل: والله إن لم يُعاقب لا أبقى في هذا البلد ساعة واحدة، ولا أجلس في أرضي يُعصى الله فيها. يعزف العود! هذا غير ممكن. سفِّروه إلى عدن"(ص 32 – 33).
يقول "نعمان:" إن "الأولاد" رجعوا "إلى المدرسة"، وإن "الحكومة كانت تُقَرِّر لهم الأناشيد" مثل: "اعتزل ذكر الأغاني والغزل". بدلاً من تعليم أولئك الطلاب على حُبّ الوطن، تَمّ تعليمهم بأن الغَزَل "حَرام"، والأغاني "مُحَرَّمة"!
في الصفحة 33 من مذكراته، يقرّ "نعمان" بأن "حيدرة" لَحّن نشيد "الوطن الوطن.. يا شباب اليمن" "تلحيناً مناسباً". يضيف (ص 33 – 34): "كُنت بيني وبين نفسي مسروراً من ذلك، ولكن لا يمكن أن أتراجع أمام الناس الذين حرّضتهم، وأن أُغَيِّر رأيي بسهولة. أما في قرارة نفسي فكنت متضايقاً من الوضع، وكُنت مستريحاً لما يفعله الأستاذ حيدرة وأريد اللعب وقضاء الوقت معهم، لأنني كنت متعباً من المضايقات (..) أصبح المقصود عندي هو التّطلُّع ومعرفة الجديد، تعلُّم الجغرافيا والتاريخ وغير ذلك". وعندما تَغَيَّر "نعمان"، بعد أن وقع في يده كتابي "طبائع الاستبداد" و"هُدى الرسول"، استفاد من الكتب التي جاء بها "حيدرة" من "عَدن": "كانت الشعلة الثانية ماذا أعمل؟ من أين لي الكُتب؟ كان الأستاذ حيدرة قد جلب معه الكتب العديدة وتركها وذهب. ابتدأت أقرأ فيها (..). بقيت أقرأ وألتهم الكلمات وأُغَيِّب الفصول غيباً (..). أول شيء قمت به أن عملت لإعادة الأستاذ حيدرة. أعددت له المنزل وحشدنا الطلاب وأطلقنا لهم الحرية. وقمت أنا بتدريس اللغة العربية بأسلوب حديث
كيف استقبل الناس هذا التغيير؟". يرد "نعمان": "حدثت مقاومة لنا، ولكن التغيير عندما جاء من "النبي" كان وقعه خفيفاً عليهم، لأن "النبي" كَفَرَ بآياته الأولى والناس معه. بدأت أقنعهم. وهم بدورهم أخذوا يقتنعون. كنت أدخل المساجد وأتحدث معهم. وبدأنا نُهيئ الأمور لهم شيئاً فشيئاً، وإذا بمدرسة الحُجَريِّة تنشأ وتؤثر وتشتهر. ثم أنشأنا مكتبة، وبدأت الأمور تسير رويداً رويداً، إلى أن دخلنا في صراع مع الحكومة. كان لا بد من أن يحدثوا لنا فتنة، ولا بد من أن يفصلوا هذا البلد كما فُصِل لبنان وسوريا. جاء أحد أبناء الإمام إلى الحُجَريِّة (الأمير القاسم بن الإمام يحيى حميد الدين الذي زار الحُجَريِّة في سنة 1935م)، وقال: ذُبْحَان هذه ستكون كلبنان". وذهب إلى الإمام الذي أمر بسحب الأستاذ حيدرة، فأخرجوه حالاً، وأتوا بمعلمين آخرين إلى المدرسة". بعدها، تَمّ إغلاق هذه المدرسة، و"نادي الإصلاح". يؤكد "نعمان"، في الصفحة 131 من مذكراته، أن "علي الوزير"، أمير لواء تَغِزّ، حينها، أثار "ضَجّة" حول هذه المدرسة وأغلقها، بحُجّة أنها "تُعَلِّم أفكاراً عصرية وتُخرج الناس من عقائدهم وتُعَلِّمهم العلوم الجديدة، وأنها ضد الإمام". بالمجمل، تكشف قصة المُدَرِّس "حيدرة" تَطَرُّف وتَحَجُّر النظام "الإِمَامِيِّ".
يقول "نعمان": "وحينما خرجت أول بعثة مصرية في عهد الملك فؤاد إلى اليمن، سنة 1936م، زارت الحُجَرِيَّة، ورأت النادي والمدرسة، وكتبت شهادة بأن هذا من بواكير النهضة الموجودة في اليمن. وكان زميلنا في الحجرية محمد أحمد حيدرة".
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
بلال الطيب

الذئب الأسود.. وسلاطين اليمن

كان لسقوط قلعة المقاطرة «سبتمبر 1921م»، والتنكيل بسكان تلك الناحية؛ أثره البالغ في تنامي ردة فعل الغضب الشعبي تجاه السلطات الإمامية الغاشمة؛ بل أنَّ بعض المشايخ - ممن ساهموا في ذلك السقوط، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة - سيطرت عليهم عقدة الذنب، وبدأوا يفكرون جدياً في استقلال «اليمن الأسفل»، وخططوا في «فبراير» من العام «1923م» لاغتيال علي الوزير «أمير تعز»، إلا أن مُحاولتهم باءت بالفشل؛ بفعل الجواسيس الذين رافقوا تحركاتهم خطوة خطوة.

 

وقيل أنَّ أحمد بن علي باشا - «حاكم تعز» السابق - أرسل إلى علي الوزير مُحذراً بـ «إِنَّ»، وأنَّ الأخير فهم أنّ المغزى قوله تعالى في سورة الحجرات: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ»، فاحتاط للأمر، واجتهد في كشف خيوط المؤامرة حتى أخرها، وعن ذلك «الباشا» قال المؤرخ المجاهد - ناقل هذه القصة - أنَّه «كان من الحذر إلى الحد الذي يصعب معه أن يمسك أحد ما عليه حجة، وأنَّه كان دائماً يلعب على جميع الحبال، ومحل ثقة كل الأطراف، في كل معمعة أو مناورة».

 

كان الشيخ عبدالوهاب نعمان المُتبني الرئيس لتلك الحركة، وقائدها الفعلي، وقد اتهمته السلطات الإمامية حينها بدعمه لثوار المقاطرة، وبأنَّه استغل تذمر العامة من عملية إسقاطها، فأظهر طموحه السياسي بحكم قضاء الحجرية، وعزز ذلك بعقده اتفاقيات صداقة مع سلاطين الجنوب، وبتواصله المـُستمر مع عدد من مشايخ «اليمن الأسفل»، لحثهم على التخلص من «ابن الوزير»، وإعلان الاستقلال.

 

لم يشر الأستاذ محمد أحمد نعمان ورفيق دربه القاضي محمد محمود الزبيري إلى ذلك، وجاء في رسالتهما التي بعثاها - فيما بعد - إلى المناضل عبدالله بن علي الحكيمي: «وقد هربنا نحن إلى مصر خوفاً من صولة الأمير - يقصدان علي الوزير - في ذلك الحين، وعداه الذي نصبه لبني نعمان، رغم إخلاصهم له ولحكومة الإمام، غير أنَّه دخله الحسد عندما كان ينظر ما لهم من مكانة من قلوب الناس، وما هم عليه من رغد العيش، وطيب النعيم، خشي على نفسه أنَّ مكانتهم هذه قد تتحول يوماً إلى قلب الإمام، فيرفعه من تعز، ويودع إليهم إمارة تعز أو بلادهم الحجرية على الأقل، وكيف يمكنه تركها، وقد وجد فيها مرتعاً خصباً لا يمكنه تركه..».

 

وفي المقابل هناك من يرى بأنَّ الإمام يحيى هو من زرع الفتنة بين الشيخ عبدالوهاب نعمان، والأمير علي الوزير، ليكسر شوكة الأول، ويضعف شعبية الأخير، وقد وجه فعلاً بالقبض على «عبدالوهاب» قبل محاولة الاغتيال الفاشلة؛ والسبب الاتهامات السابق ذكرها، والتي وصلت إليه من قبل جواسيسه في الحجرية، الذين كانوا من بعض أبنائها.

 

الرواية الرسمية المتوكلية لم تؤكد ذلك أو تنفيه، قالت أنَّ الأمير استبقى الشيخ عبدالوهاب نعمان، وعدداً من المشايخ بالقرب منه، ولم يأذن لهم بمغادرة مدينة تعز حتى يدفعوا ما عليهم من متأخرات زكوية، وأنَّ الأخيرين حين طالت مدة احتجازهم، خططوا لجريمتهم تلك، وعزموا على اغتيال «أمير تعز» بعد خروجه من صلاة الجمعة في «جامع المُظفر»، وأنَّهم حاولوا لذات الغرض شراء ذمم بعض العسكر، وأنَّه على ألسن هؤلاء افتضح أمرهم.

 

أمام تلك الاستدلالات الماثلة، صارت الفرصة مواتية لعلي الوزير - «الذئب الأسود» هكذا كانوا يلقبونه - للقضاء على خصومه بضربة واحدة، وبالمكر والخديعة قبض عليهم، وكان الشيخ عبدالله يحيى الصبري «عامل صبر» - حسب رواية حفيده أمين علي الضباب - أول الضحايا، كونه من سكان «جبل صبر»، ومنزله قريب من «دار النصر».

 

تمَّ بعد ذلك القبض على الشيخ عبد الوهاب نعمان، والشيخ حمود عبد الرب «عامل العدين»، والشيخ أحمد بن حسن علي باشا من مشايخ العدين، وعبدالملك حسن بشر، وعبدالله يحيى عبد الجليل، وبعضاً من إخوانه وأولاده، والجنيد عبدالله النور «عامل جبل رأس»، وقد أتهم الأخير بأنه صاحب مشورة قتل الأمير بالسم بدلاً من الرصاص، وذكر المحققون أنهم وجدوا أداة الجريمة في متاعه.

 

اقتيد المتهمون إلى صنعاء مُكبلين بالأغلال، في رحلة أستمرت ثمانية أيام، وقيل يومين، لاقوا فيها الكثير من الأهوال، أشنعها تقريع العساكر، وسباب العوام، وهو أمرٌ نفاه أمين علي الضباب نقلاً عن الحاج محمد عبدالغفور الشهير بـ «الغفوري»، والذي رافق جده في رحلته تلك خطوة خطوة، ويحفظ لنا «الموروث التعزي» غنائية حزينة صورت ذلك المشهد، جاء فيها:

في ليلة الاثنين قد شدوا سلاطين اليمن

حمود عبد الرب وبن نعمان وأحمد بن حسن

والرابع الفخري ضرب سيطه إلى بندر عدن

 

وفي المقابل تبارى شعراء الإمامة في مدح «ذئبهم الأسود»، وقد سارع أحدهم بالقول:

ما زلت تختلب القلوب بفطنة

وقَفَتْ على سرِّ الغيوب المـُبهمِ

عما نواه الخارجون عن الهدى

من كل متسم بزي المـُسلمِ

تباً لرأي المارقين فإنه

رأي ابن ملجم في الإمام الأعظمِ

 

وجه الإمام يحيى بعد ذلك بـ «قبض دورهم، والاحتياط بما فيها، ليكون من ذلك تدارك ما في ذممهم من أموال ال
له»، - حد توصيف المؤرخ عبدالكريم مطهر - وكتب أحد الأحرار الأوائل - يرجح أنه أحمد محمد نعمان - مقالاً في جريدة «الشباب» المصرية، نقل فيه تفاصيل ذلك الجرم الإمامي، جاء فيه: «ولما فرغ أمير اللواء من القضاء على هؤلاء بعث جنوداً وقواداً إلى بيوتهم لأخذ جميع ما فيها حتى ملابس الأطفال، وأمر بإخراج نسائهم وأطفالهم مُجردين من كل شيء، وجعل البيوت ثكنات للجند، ونقل كل ما جل وقل، ولم يكتفوا بذلك؛ بل ظلوا ينقرون جدران البيوت ليخرجوا بقية الكنوز، ثم حفروا فناء الدور ولم يتحصلوا على شيء، وبعد هذا بعثوا في طلب من كان يخدم هؤلاء، وقد جاء بهم الجند إلى أمير تعز.. فأمر بتعذيبهم، والإغلاق عليهم بإصطبلات البهائم».

 

وبعد هذه الحادثة كان علي الوزير شديد الحذر والقلق، ويترجم كل حركة وسكنة بحضوره على أنها تستهدفه، وبمُبالغة لا تطاق، وعاشت مدينة تعز - تبعاً لذلك - أسوأ أيامها، ودفعت - كما أفاد المؤرخ المجاهد - ثمناً باهضاً من استقرارها، أمام عنت العساكر، واستضافتهم الإجبارية في المنازل، بغرض إرهاق الأهالي وإرهابهم.

 

خلف جدران «سجن القلعة» المُوحش، لقي «سلاطين اليمن» - كما أفاد عدد من المؤرخين - حتفهم، تساقطوا فيه الواحد تلو الآخر، ولم ينجوا من الموت سوى الشيخ عبدالوهاب نعمان، وذلك لبعض الوقت، أبقاه الإمام يحيى تحت ناظريه، وعينه عاملاً لبني مطر.

 

وفي رواية مُغايرة لما سبق، أفاد أمين علي الضباب أنَّ الإمام يحيى أطلق سراح جميع المُعتقلين، وذلك بعد مرور سنتين من اعتقالهم «1925م»، وأنَّ جده الشيخ عبدالله يحيى الصبري فضل البقاء في صنعاء، واستأذن الإمام في أن يبتني لنفسه غرفتين فوق سور «غمدان»، وأنَّه ظل فيهما حتى وفاته «1931م».

 

بالعودة إلى أخبار «الذئب الأسود»، فإنه صار بعد تخلصه من أولئك المشايخ حاكماً أوحداً للواء تعز، بدت طموحاته الاستقلالية تتبدى، وكان فقط ينتظر وفاة الإمام يحيى ليعلن عن ذلك، فضحت «وثائق بريطانية» استعداداته تلك، وكشفت أنَّه صارحهم برغبته بتدريب وتسليح «1,000» رجل صومالي، ليكونوا تحت إمرته، وذلك عند حلول اللحظة المـُـنتظرة، إلا أنَّ الإنجليز الباحثين حينها عن رضا الإمام رفضوا مقترحه وبشدة.

 

يقول المؤرخ الأكوع: «وبقي علي الوزير والياً على لواء تعز عشرين عاماً، جمع خلال حكمه ثروة طائلة، من مصادر شتى، ووجوه مُختلفة، وعاش عيشة الملوك، حتى حسده الإمام يحيى نفسه»، ليقلب له الأخير بعد ذلك ظهر المجن، عزله من منصبه، وشوه سمعته، ولم يسع «ابن الوزير» بعد ذلك سوى الرحيل شمالاً، ثم ما لبث أن عاد من السعودية مقر رحلته المؤقت، ولكنها كانت عودة خافتة، بعيدة عن متعة الحكم، ولِذة الإمارة.

 

ومن طريف ما يروى، أن عبدالوهاب نعمان، وعلي الوزير التقيا قبل قيام «الثورة الدستورية» في منزل الأخير، وأنَّ «الضيف» كان يُحدق وبقوة في أثاث المنزل الصنعاني، وتحفه الثمينة والنادرة، الأمر الذي أشعر «مضيفه» بالحرج؛ لأن معظم تلك الأثاث كانت من منهوبات داره العتيق في «تربة ذبحان»، وحين اقتيد الاثنان لساحة الإعدام بعد فشل تلك الثورة، نُقل عن عبدالوهاب نعمان قوله: «لقد هانت على نفسي محنتي، ما دام آل حميد الدين، وآل الوزير قد نكبوا معاً، حتى يريح الله العباد والبلاد منهما».

 

وقد رثى الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان والده قائلاً:

أبي ومن ذا زكيِّ الأصل مثل أبي

كأنه هو والأملاك إخوان

فإن يمت فأكفُ الأنبياء له

نعشُّ، وأجنحة الأملاك أكفان
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
صور من ذبحان الحجرية