غِرَاسُ السَّلَفِ 📚
2.59K subscribers
1.87K photos
49 videos
26 files
150 links
قال شيخُ الإسلامِ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ سُفيانُ بنُ سعيدٍ الثَّوريُّ: "إنِ استطعتَ ألَّا تحكَّ رأسَك إلَّا بأثَرٍ فافْعَلْ!".

بوت القناة: @G_Salafi_bot
Download Telegram
هذا الشَّيخُ لا أجِدُ ما أسمِّيهِ به إلَّا قولَ: بقيَّةِ السَّلَفِ!
ما شاء اللهُ، اللَّهُمَّ بارِكْ..
جالستُه وحضرتُ له دُروسًا؛ ما وجدتُه إلَّا بحرًا لا ساحلَ له، وبحرًا لا يُنزَفُ، وبحرًا لا تُكَدِّرُه الدِّلاءُ!
حفظه اللهُ ونفعنا بعِلمِه..
ترجمةٌ غريبةٌ في "سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ" لأبي عبدِ اللهِ الذَّهَبيِّ:

من عادةِ الإمامِ الذَّهبيِّ أن يُتَرجِمَ لكلِّ عَلَمٍ على حِدَةٍ، فإذا كان للمُتَرجَمِ له أبٌ أو ابنٌ أو أخٌ عَلَمٌ مِثلُه؛ يذكُرُه مُلحَقًا بالأوَّلِ، فيقولُ بعد انتهاءِ التَّرجمةِ: وأبوه، وابنه، وأخوه..

وهنا نجدُه ترجمَ لأَخَوَينِ معًا، فقال:

الأخَوانِ الشَّاعِرانِ المُحسِنانِ: أبو بكرٍ مُحمَّدٌ، وأبو عُثمانَ سعيدٌ، ابنا هاشمِ بنِ وَعْكةَ بنِ عُرامِ بنِ عُثمانَ بنِ بِلالٍ المَوصِليَّانِ الخالِدِيَّانِ.

كانا كفَرَسَي رِهانٍ في قُوَّةِ الذَّكَاءِ، وسُرعةِ النَّظمِ وجَودَتِه، يتشاركانِ في القصيدةِ الواحدةِ.

ومُحَمَّدٌ هو الأكبرُ، قدم دِمشقَ في صُحبةِ سيفِ الدَّولةِ، وهما من خواصِّ شُعَرائِه، اشتركا في شيءٍ كثيرٍ.
وكانَ سَرِيٌّ الرَّفَّاءُ يهجوهما ويهجوانِه.

ونظمَ فيهما أبو إسحاقَ الصَّابيُّ:
أرى الشَّاعِرَينِ الخالِدِيَّينِ سَيَّرا ** قصائدَ يفنى الدَّهرُ وهيَ تُخَلَّدُ
هما لاجتِماعِ الفضلِ رُوحٌ مُؤلَّفٌ ** ومعناهما من حيثُ ما شئتَ مُفرَدُ

قال النَّديمُ في كتابِ "الفِهرَسْت": كانا سَرِيعَي البديهةِ، قال لي أبو بكرٍ منهما: إنِّي أحفظُ ألفَ سَمَرٍ، كلُّ سَمَرٍ في نحوِ مائةِ ورقةٍ.
قال: وكانا مع ذلك إذا استحسنا شيئًا غصَبَاهُ صاحبَهُ حيًّا كان أو ميتًا، كذا كانَتْ طِباعُهُما.
ولهما من الكُتبِ: كِتابُ "أخبارِ المَوصِلِ"، و"أخبارِ أبي تمَّامٍ"، وغيرِ ذلك من الأدَبيَّاتِ.

سِيَرُ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٦ / ٣٨٦ - ٣٨٧ ) -بتصرُّفٍ-.

وذكَرَهُما الثَّعالبيُّ في "يتيمةِ الدَّهرِ" فقال: إنْ هذانِ لَساحرانِ، يغربانِ بما يجلبانِ، ويُبدِعانِ فيما يصنعانِ، وكان ما يجمعُهما من أُخوَّةِ الأدبِ مِثلَ ما يَنظمُهما من أُخوَّةِ النَّسَبِ، فهما في المُوافَقةِ والمُساعَدةِ يَحيَيانِ برُوحٍ واحدةٍ، ويشتركانِ في قَرضِ الشِّعرِ وينفردانِ، ولا يكادانِ في الحَضَر والسَّفَرِ يفترقانِ، وكانا في التَّساوي والتَّشابُكِ، والتَّشاكُلِ والتَّشارُكِ كما قال أبو تمَّامٍ:
رَضِيعَيْ لِبانٍ شَرِيكَي عنانٍ ** عَتِيقَيْ رِهانٍ حَلِيفَيْ صفاءِ
بل كما قال البُحتريُّ:
كالفَرقَدَينِ إذا تأمَّلَ ناظرٌ ** لم يَعلُ مَوضِعُ فَرقَدٍ عن فَرقَدِ
بل كما قال أبو إسحاقَ الصَّابيُّ فيهما:
أرى الشَّاعِرَينِ الخالِدِيَّينِ سَيَّرا ** قصائدَ يفنى الدَّهرُ وهيَ تُخَلَّدُ
جواهرُ من أبكارِ لفظٍ وعونِه ** يُقصِّرُ عنها راجزٌ ومُقصِّدُ
تنازعَ قومٌ فيهما وتناقَضُوا ** ومرَّ جِدالٌ بَينهم يتردَّدُ
فطائفةٌ قالَتْ سعيدٌ مُقدَّمٌ ** وطائفةٌ قالَتْ لهم بل مُحمَّدُ
وصارُوا إلى حُكمي فأصلحتُ بينهم ** وما قلتُ إلَّا بالَّتي هي أرشدُ
هما في اجتِماعِ الفضلِ زوجٌ مُؤلَّفٌ ** ومعناهما من حيثُ يثبتُ مُفرَدُ
كذا فَرقَدا الظَّلماءِ لمَّا تَشَاكَلا ** علا أشكلا هل ذاك أم ذاك أمجدُ
فزوجُهما ما مِثلُهُ في اتِّفاقِهِ ** وفَردُهُما بينَ الكواكبِ أوحَدُ
فقامُوا على صُلحٍ وقال جميعُهم ** رضينا وساوى فَرقَدَ الأرضِ فَرقَدُ

قال الثَّعالبيُّ: وما أعدلَ هذه الحُكومةَ من أبي إسحاقَ! فما منهما إلَّا مُحسِنٌ ينظمُ في سلكِ الإبداعِ ما فاقَ وراقَ، ويُكاثرُ بمحاسِنِه وبدائِعِه الأفرادِ من شُعَراءِ الشَّامِ والعِراقِ.

انظُرْ يتيمةَ الدَّهرِ ( ٢ / ٢١٤ - ٢١٥ ) للثَّعالبيِّ.

وقولُ الذَّهبيِّ: "وكانَ سَرِيٌّ الرَّفَّاءُ يهجوهما ويهجوانِه":
هو أبو الحسنِ السَّرِيُّ بنُ أحمدَ الرَّفَّاءُ الكِنديُّ الموصليُّ.
كان بينه وبين الخالِديَّينِ هجاءٌ وشرٌّ وعداوةٌ.

وقد جمع الدّكتور سامي الدّهّان ديوانَ الأخَوَينِ الخالِدِيَّينِ، وهو مطبوعٌ في دار صادر.
أبو بكرٍ مُحمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ سَهلٍ الرَّمليُّ، الإمامُ الشَّهيدُ القُدوةُ، المعروفُ بابْنِ النَّابُلسيِّ:

قال الحافظُ أبو ذرٍّ الهَرَويُّ: سجَنَهُ بنو عُبَيدٍ، وصَلَبُوهُ على السُّنَّةِ، سمعتُ الدَّارَقُطنيُّ يذكُرُه ويبكي ويقولُ: كان يقولُ وهو يُسلَخُ: ( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ).

قال ابنُ الجوزيِّ: أقام جوهرٌ القائدُ لأبي تميمٍ صاحبِ مِصرَ أبا بكرٍ النَّابُلسيَّ، فقال له: بَلَغَنا أنَّكَ قلتَ: إذا كان مع الرجلِ عشرةُ أسهُمٍ، وجبَ أن يرميَ في الرُّومِ سَهمًا، وفينا تِسعةً.
قال: ما قلتُ هذا، بل قلتُ: إذا كان معه عشرةُ أسهُمٍ، وجبَ أن يرميَكم بتِسعةٍ، وأن يرميَ العاشرَ فيكم أيضًا؛ فإنَّكم غيَّرتُم المِلَّةَ، وقَتَلتُم الصَّالحينَ، وادَّعَيتُم نُورَ الإلهيَّةِ.
فشَهَرَهُ ثم ضرَبَهُ، ثم أمرَ يَهوديًّا فسَلَخَهُ.

قال مَعمَرُ بنُ أحمدَ بنِ زِيادٍ الصُّوفيُّ: أخبرني الثِّقةُ، أنَّ أبا بكرٍ سُلِخَ من مَفرِقِ رأسِه حتَّى بُلِغَ الوجهُ، فكان يذكرُ اللهَ ويصبرُ حتَّى بلغَ الصَّدرَ فرَحِمَهُ السَّلَّاخُ، فوكَزَهُ بالسِّكِّينِ مَوضِعَ قلبِه فقضى عليه.
وأخبرني الثِّقةُ أنَّه كان إمامًا في الحديثِ والفِقهِ، صائِمَ الدَّهرِ، كبيرَ الصَّولةِ عند العامَّةِ والخاصَّةِ، ولمَّا سُلخَ كان يُسمَعُ من جسدِه قِراءةُ القُرآنِ.

يُنظَرُ: المُنتَظَمُ ( ١٤ / ٢٤٥ - ٢٤٦ ) لابنِ الجوزيِّ، وتاريخُ دِمشقَ ( ٥١ / ٤٩ - ٥١ ) لابنِ عساكرَ، وسِيَرُ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٦ / ١٤٨ - ١٥٠ ) والعِبَرُ في خَبَرِ مَن غَبَرَ ( ٢ / ١١٦ ) كِلاهُما للذَّهبيِّ، والبِدايةُ والنِّهايةُ ( ١٥ / ٣٦٦ - ٣٦٧ ) لابنِ كثيرٍ، والوافي بالوَفَياتِ ( ٢ / ٣٣ - ٣٤ ) للصَّفَديِّ، وحُسنُ المُحاضَرةِ في تاريخِ مصرَ والقاهرةِ ( ١ / ٥١٥ ) للسُّيوطيِّ.

وقال الذَّهبيُّ عقبَ ترجمتِه: "لا يُوصَفُ ما قلبَ هؤلاءِ العُبَيديَّةُ الدِّينَ ظهرًا لبطنٍ، واستولوا على المغربِ، ثم على مِصرَ والشَّامِ، وسبُّوا الصَّحابةَ".

وقولُ ابنِ الجوزيِّ: "أقام جوهرٌ القائدُ لأبي تميمٍ صاحبِ مِصرَ أبا بكرٍ النَّابُلسيَّ":
جوهرٌ هذا هو ابن عبدِ اللهِ الصّقلّيّ الرّوميّ، رافضيٌّ شيعيٌّ، باطنيٌّ، وكان من القُوَّادِ في أيِّام الفاطِميِّينَ، وهو قائدُ جُيوشِ أبي تميمٍ هذا.
وأبو تميمٍ هو المُعِزُّ لدِينِ اللهِ مَعَدُّ بنُ إسماعيلَ العُبَيديُّ الرَّافضيُّ.
القاضي النُّعمانُ بنُ مُحمَّدِ بنِ منصورٍ القيروانيُّ المغربيُّ الرَّافضيُّ الباطنيُّ (تـ ٣٦٣ هـ):

قال الذَّهبيُّ في السِّير ( ١٦ / ١٥٠ - ١٥١ ): "العلَّامةُ، المارِقُ، قاضي الدَّولةِ العُبَيديَّةِ، كان مالكيًّا، فارتدَّ إلى مذهبِ الباطنيَّةِ، وصنَّفَ له أُسَّ الدَّعوةِ، ونبذَ الدِّينَ وراءَ ظهرِه، وألَّفَ في المناقبِ والمثالبِ، وردَّ على أَئمَّةِ الدِّينِ، وانسلخَ من الإسلامِ، فسُحقًا له وبُعدًا، ونافقَ الدَّولةَ لا بل وافَقَهُم، وكان مُلازِمًا للمُعزِّ أبي تميمٍ مُنشِئِ القاهرةِ.
وله يدٌ طُولى في فُنونِ العُلومِ والفِقهِ والاختلافِ، ونَفَسٌ طويلٌ في البحثِ، فكان عِلمُه وبالًا عليه.
وصنَّفَ في الرَّدِّ على أبي حنيفةَ في الفِقهِ، وعلى مالكٍ، والشَّافعيِّ، وانتصرَ لفِقهِ أهلِ البيتِ، وله كِتابٌ في اختلافِ العُلَماءِ، وكُتبُه كِبارٌ مُطوَّلةٌ، وكان وافرَ الحِشمةِ، عظيمَ الحُرمةِ، في أولادِه قُضاةٌ وكُبَراءٌ.
وانتقلَ إلى غيرِ رِضوانِ اللهِ بالقاهرةِ في رجبٍ سنةَ ثلاثٍ وسِتِّينَ وَثلاثِ مائةٍ". اهـ

وقال في العِبَرِ ( ٢ / ١٧٧ ): "النُّعمانُ بنُ مُحمَّدِ بنِ منصورٍ القيروانيُّ، الشِّيعيُّ ظاهرًا، الزِّنديقُ باطنًا، قاضي قُضاةِ الدَّولةِ العُبَيديَّةِ، صنَّفَ كتابَ "ابتداءِ الدَّعوةِ"، وكتابًا في فقهِ الشِّيعةِ، وكُتُبًا كثيرةً تدلُّ على انسِلاخِه من الدِّينِ، يُبَدِّلُ فيها معانيَ القُرآنِ ويُحَرِّفُها". اهـ
هم بيَّتونا بالوتيرِ هُجَّدًا ** وقتلونا رُكَّعًا وسُجَّدا

اللهم عليك باليهودِ.. فإنهم لا يُعجزونك، اللهم الْعَنْهم، وألقِ في قلوبِهم الرعبَ، وخالِفْ بين كلمتِهم.. واجعلْ تدبيرَهم في تدميرِهم، وكيدَهم في نُحورِهم.

اللهم سلّمْ أهلَنا في غزةِ واحفَظْهم، وأنزِلْ عليهم نصرَك المؤزَّر، وارحَمْ شهداءَهم، واشْفِ جرحاهم، وداوِ مرضاهم..

حسبنا اللهُ ونعم الوكيلُ
١٠ مُحرَّم / عاشوراء 🌿

"وأمَّا صِيامُ يومِ عاشوراءَ فإنَّه -أي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان يتحرَّى صومَهُ على سائرِ الأيَّامِ، ولمَّا قَدِمَ المدينةَ وجدَ اليهودَ تصومُه وتُعظِّمُه فقال: نحنُ أحقُّ بمُوسى منكم، فصامَهُ وأمرَ بصِيامِه، وذلك قبلَ فرضِ رمضانَ، فلمَّا فُرِضَ رمضانُ قال: مَن شاءَ صامَهُ، ومَن شاءَ تَرَكَهُ".
زادُ المعادِ ( ٢ / ٦٣ ).

- فضلُ صومِهِ:
روى مُسلِمٌ ( ١١٦٢ ) عن أبي قتادةَ الأنصاريِّ قال: وسُئِلَ -أي رسولُ اللهِ- عن صومِ يومِ عاشوراءَ؟
فقال: "يُكفِّرُ السَّنَةَ الماضيةَ".

وفي روايةٍ عندَ مُسلِمٍ أيضًا: "وصيامُ يومِ عاشوراءَ أحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السَّنَةَ التي قبلَهُ".

وروى البُخاريُّ ( ٢٠٠٦ ) واللَّفظُ له، ومُسلِمٌ ( ١١٣٢ ) عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: "ما رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتحرَّى صيامَ يومٍ فضَّلَهُ على غيرِه إلَّا هذا اليومَ؛ يومَ عاشوراءَ، وهذا الشَّهرَ". يعني شهرَ رمضانَ.

ولفظُ مُسلِمٍ: "ما علمتُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صامَ يومًا يطلبُ فَضْلَهُ على الأيَّامِ إلَّا هذا اليومَ، ولا شهرًا إلَّا هذا الشَّهرَ".

- مراتبُ صيامِ عاشوراءَ:
قال الإمامُ ابنُ قيِّمِ الجوزيَّةِ في زادِ المعادِ ( ٢ / ٧٢ ): "فمراتبُ صومِه ثلاثةٌ: أكملُها: أن يُصامَ قبلَهُ يومٌ وبعدَهُ يومٌ.
ويلي ذلك: أن يُصامَ التَّاسِعُ والعاشِرُ، وعليه أكثرُ الأحاديثِ.
ويلي ذلك: إفرادُ العاشِرِ وحدَهُ بالصَّومِ". اهـ

وقال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في فتحِ الباري ( ٥ / ٤٣٦ ): "وعلى هذا فصِيامُ عاشوراءَ على ثلاثِ مراتبَ: أدناها: أن يُصامَ وحدَهُ.
وفوقَهُ: أن يُصامَ التَّاسِعُ معه.
وفوقَهُ: أن يُصامَ التَّاسعُ والحادي عشرَ".

كما أنَّه لا يُكرَهُ إفرادُه بالصَّومِ كما قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ وغيرُه.
شِدَّةُ حِرصِ السَّلَفِ على اغتِنامِ صومِ يومِ عاشوراءَ:

قال أبو جَبَلةَ: كنتُ معَ ابنِ شِهابٍ [الزُّهري] في سَفَرٍ فصامَ يومَ عاشوراءَ، فقِيلَ له: تصومُ يومَ عاشوراءَ في السَّفَرِ وأنتَ تُفطِرُ في رمضانَ؟
قال: "إنَّ رمضانَ له عِدَّةٌ من أيَّامٍ أُخَرَ، وإنَّ عاشوراءَ تفوتُ".

رواه البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ ( ٥ / ٣٣٥ برقم ٣٥١٨ ).
وذكَرَهُ الذَّهَبيُّ في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ٥ / ٣٤٢ )، وابنُ رَجَبٍ في لطائفِ المعارفِ ( ص١٣٣ ) وقال: "وكان طائفةٌ من السَّلَفِ يصومونَ عاشوراءَ في السَّفَرِ، منهم: ابنُ عبَّاسٍ، وأبو إسحاقَ السَّبيعيُّ، والزُّهريُّ وقال: رمضانُ له عِدَّةٌ..".
قال ابن رجبٍ: "وكلُّ ما رُوِيَ في فضلُ الاكتحالِ في يومِ عاشوراءَ والاختضابِ والاغتسالِ فيه؛ فموضوعٌ لا يصحُّ".
غِرَاسُ السَّلَفِ 📚
Photo
ابنُ المُقرِئِ ( تـ ٣٨١ هـ ).

صاحبُ الرِّحلةِ الواسعةِ الجوَّالُ الإمامُ الحافظُ: أبو بكرٍ مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ بنِ عليِّ بنِ عاصمِ بنِ زاذانَ الأصبهانيُّ.

روى عن أبي يعلى الموصليِّ، وأبي بكرٍ الباغَنديِّ، وأبي القاسمِ البَغَويِّ، وأبي جعفرٍ الطَّحَاويِّ، وأبي عَرُوبةَ الحرَّانيِّ، وخلقٍ كثيرٍ.

وروى عنه أبو الشَّيخِ الأصبهانيُّ -وهو أكبرُ منه-، وأبو نُعَيمٍ الأصبهانيُّ، وابنُ مَردَويهِ، والسَّهميُّ، وخلقٌ سواهم.

وكان كثيرَ الرِّحلةِ والتَّطوافِ في طلبِ العلمِ؛ قال أبو طاهرٍ أحمدُ بنُ محمودٍ: سمعتُ أبا بكرِ بنَ المُقرِئِ يقولُ: "طُفتُ الشَّرقَ والغربَ أربعَ مرَّاتٍ".

وقال رحمه اللهُ: "مَشَيتُ بسببِ نُسخةِ مُفضَّلِ بنِ فَضالةَ سبعينَ مرحلةً، ولو عُرِضَتْ على خبَّازٍ برغيفٍ لم يَقبَلْها".

وقال الذَّهبيُّ: "سمع ابنُ المُقرِئِ الحديثَ في نَحوٍ من خمسينَ مدينةً".

ومُعجَمُه هذا جمُّ الفوائدِ، بديعُ الفرائدِ والعوائدِ، جمع فيه أحاديثَ شُيوخِهِ مُرَتَّبينَ على حُروفِ المُعجَمِ، وبدأ بمَن اسمُه مُحمَّدٌ تشريفًا وإجلالًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

قال ابنُ المُقرِئِ: "هذا كتابٌ جمعتُ فيه أسماءَ المُحدِّثينَ الذين سمعتُ منهم بالحِجازِ ومكَّةَ والمدينةِ ومِصرَ والشَّامِ والعِراقِ وغيرِ ذلكَ، وأخرجتُ عن كلِّ شيخٍ حديثًا أو أكثرَ على حُروفِ الهجاءِ؛ لأقفَ على عدَدِهم، فبدأتُ بمَن اسمُه مُحمَّدٌ إجلالًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ". اهـ

وللعُلَماءِ اهتِمامٌ بالغٌ بهذا السِّفرِ الجليلِ.

انظُرْ ترجمتَهُ في أخبارِ أصبهانَ ( ٢ / ٢٩٧ ) لأبي نُعَيمٍ، وسِيَرِ الأعلامِ ( ١٦ / ٣٩٨ - ٤٠٢ ) وتذكرةِ الحُفَّاظِ ( ٣ / ٩٧٣ - ٩٧٥ ) كلاهما للذَّهبيِّ.
قال أبو بكرٍ البرقانيُّ: "كان الدَّارقُطنيُّ يُملي عليَّ العِلَلَ من حِفظِه".

وقال الخطيبُ البغداديُّ: سألتُ البرقانيَّ: قلتُ له: هل كان أبو الحسنِ الدَّارَقُطنيُّ يُملي عليكَ العِلَلَ من حِفظِه؟ فقال: نعم، أنا الذي جمعتُها، وقرأها النَّاسُ من نُسخَتي.

قال الذَّهبيُّ -تعقيبًا- في السِّير ( ١٦ / ٤٥٥ ): "إن كان كتابُ العِلَلِ الموجودُ قد أملاه الدَّارَقُطنيُّ من حِفظِه كما دلَّتُ عليه هذه الحِكايةُ؛ فهذا أمرٌ عظيمٌ، يُقضى به للدَّارَقُطنيِّ أنَّه أحفظُ أهلِ الدُّنيا، وإن كان قد أملى بعضَهُ من حِفظِه، فهذا مُمكِنٌ". اهـ

وقال في تاريخِ الإسلامِ ( ٨ / ٥٧٨ - ٥٧٩ ) تعقيبًا أيضًا: "وهذا شيءٌ مُدهِشٌ؛ كَونُه كان يُملي العِلَلَ من حِفظِه، فمن أراد أن يعرفَ قَدرَ ذلك؛ فلْيُطالِعْ كتابَ العِلَلِ للدَّارَقُطنيِّ، ليعرفَ كيف كان الحُفَّاظُ". اهـ

وقال أيضًا في تذكرةِ الحُفَّاظِ ( ٣ / ٩٩٣ - ٩٩٤ ): "هنا يُخضَعُ للدَّارقُطنيِّ ولسِعَةِ حِفظِه الجامعِ لقُوَّةِ الحافظةِ، ولقُوَّةِ الفهمِ والمعرفةِ، وإذا شئتَ أن تبيَّنَ براعةَ هذا الإمامِ الفَردِ؛ فطالِعْ العِلَلَ له، فإنَّكَ تندهشُ ويطولُ تعجُّبُكَ". اهـ
قال الذَّهبيُّ في السِّيَرِ ( ١٧ / ٣١٩ - ٣٢٠ ) عندَ ترجمةِ الخطَّاطِ ابنِ البَّوابِ: "الكِتابةُ مُسَلَّمةٌ لابنِ البوَّابِ، كما أنَّ أقرأَ الأُمَّةِ أُبَيُّ بنُ كعبٍ، وأقضاهم عليٌّ، وأفرَضَهم زيدٌ، وأعلَمَهم بالتَّأويلِ ابنُ عبَّاسٍ، وأمِينَهم أبو عُبَيدةَ، وعابِرَهم مُحمَّدُ بنُ سِيرِينَ، وأصدَقَهم لهجةً أبو ذرٍّ، وفقيهَ الأُمَّةِ مالِكٌ، ومُحدِّثَهم أحمدُ بنُ حنبلٍ، ولُغَويَّهم أبو عُبَيدٍ، وشاعِرَهم أبو تمَّامٍ، وعابِدَهم الفُضَيلُ، وحافِظَهم سُفيانُ الثَّوريُّ، وأخباريَّهم الواقديُّ، وزاهِدَهم معروفٌ الكَرخيُّ، ونَحوِيَّهم سِيبَوَيه، وعَرُوضِيَّهم الخليلُ، وخطيبَهم ابنُ نُباتةَ، ومُنشِئَهم القاضي الفاضِلُ، وفَارِسَهم خالدُ بنُ الوليدِ، رحمهم اللهُ". اهـ
الذَّهبيُّ يقصفُ ولا يُبالي :)

قال في تاريخِ الإسلامِ ( ٨ / ٨٣٨ ): أخبرني أحمدُ بن سلامةَ كتابةً، عن الطَّرَسُوسيِّ، عن ابنِ طاهرٍ الحافظِ قال: سمعتُ أبا الفتحِ عبدَ الوهَّابِ الشِّيرازيَّ بالرَّيِّ يقولُ: سمعتُ أبا حيَّانَ التَّوحيديَّ يقولُ: "أُناسٌ مَضَوْا تحتَ التَّوهُّم، وظنُّوا أنَّ الحقَّ معهم، وكان الحقُّ وراءَهم".

قال الذَّهبيُّ: "مِثلُكَ يا مُعثَّرُ، بل أنتَ حاملُ لِوائِهم".

ورواه أيضًا في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٧ / ١٢١ - ١٢٢ ) وعلَّقَ عليه التَّعليقَ نفسَه.

وأبو حيَّانَ التَّوحيديُّ هو عليُّ بنُ مُحمَّدِ بنِ العبَّاسِ البغداديُّ، صُّوفيٌّ فلسفيٌّ، وقد اتُّهِمَ بالزَّندقةِ وسُوءِ الاعتِقادِ.
تأسرُني تلبيةُ الصَّحابةِ -رضوانُ اللهِ عليهم- لنِداءاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ!

- أبو ذرٍّ الغِفاريُّ: يا أبا ذرٍّ، فقلتُ: لبَّيكَ وسَعدَيكَ يا رسولَ اللهِ، وأنا فِداؤُكَ.

- بلالُ بنُ رباحٍ: ..ثم قال: يا بِلالُ، قم، فثار بلالٌ من تحتِ سَمُرةٍ كأنَّ ظِلَّهُ ظِلُّ طائرٍ فقال: لبَّيكَ وسَعدَيكَ وأنا فِداؤُكَ.

- مُعاذُ بنُ جبلٍ: قال: يا مُعاذُ، قال: لبَّيكَ يا رسولَ اللهِ وسَعدَيكَ.

- أبو هُرَيرةَ: يا أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: لبَّيكَ رسولَ اللهِ وسَعدَيكَ.

- أبو طلحةَ الأنصاريُّ: يا نبيَّ اللهِ، جعَلَني اللهُ فِداءَكَ، هل أصابَكَ من شيءٍ؟.

- الأنصارُ: يا معشرَ الأنصارِ، قالوا: لبَّيكَ يا رسولَ اللهِ وسَعدَيكَ، لبَّيكَ نحنُ بين يدَيكَ.

- وفدُ عبدِ القيسِ لمَّا أتَوْا نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالوا: يا نبيَّ اللهِ، جعَلَنا اللهُ فِداءَكَ، ماذا يصلُحُ لنا من الأشربةِ؟.
ابنُ الفَرَضيِّ:
الإمامُ الحافظُ الفقيهُ الأديبُ الشَّهيدُ أبو الوليدِ عبدُ اللهِ بنُ مُحمَّدِ بنِ يُوسفَ القُرطُبيُّ الأندَلُسيُّ، صاحبُ كتابِ "تاريخِ عُلَماءِ الأندلُسِ".

أخذ عنه ابنُ حزمٍ، وابنُ عبدِ البرِّ وقال فيه: "كان فقيهًا عالِمًا في جميعِ فُنونِ العِلمِ في الحديثِ وعِلمِ الرِّجالِ، وله تواليفُ حِسانٌ، وكان صاحبي ونظيري، أخذتُ معه عن أكثرِ شُيوخِه، وأدركَ من الشُّيوخِ ما لم أُدرِكْه أنا، وكان بيني وبينه في السِّنِّ نحوٌ من خمسَ عشرةَ سنةً، صحبتُه قديمًا وحديثًا، وكان حسَنَ الصُّحبةِ والمُعاشَرةِ، حسنَ اللِّقاءِ، قَتَلَتْه البَربَرُ في سَنةِ الفِتنةِ، وبقي في دارِه ثلاثةَ أيَّامٍ مقتولًا، وحضرتُ جنازتَه عفا اللهُ عنه". اهـ

قال الحُمَيديُّ في جذوةِ المُقتَبَسِ ( ص٣٦٧ ): أخبرني أبو مُحمَّدٍ عليُّ بنُ أحمدَ قال: أخبرني أبو الوليدِ ابنُ الفَرَضيِّ قال: تعلَّقتُ بأستارِ الكعبةِ، وسألتُ اللهَ الشَّهادةَ، ثم انحرفتُ وفكَّرتُ في هَولِ القتلِ، فنَدِمتُ وهَمَمتُ أن أرجعَ فأستقيلَ اللهَ ذلك، فاستحييتُ.
قال أبو مُحمَّدٍ: فأخبرني مَن رآهُ بين القتلى، فدنا منه، فسَمِعَهُ يقولُ بصوتٍ ضعيفٍ وهو في آخرِ رَمَقٍ: "لا يُكلَمُ أحدٌ في سبيلِ اللهِ، واللهُ أعلمُ بمَن يُكلَمُ في سبيلِه، إلَّا جاء يومَ القيامةِ وجُرحُه يَثعَبُ دمًا، اللَّونُ لونُ الدَّمِ، والرِّيحُ رِيحُ المِسكِ"، كأنَّه يُعيدُ على نفسِه الحديثَ الواردَ في ذلكَ، قال: ثم قضى نَحبَهُ على إثرِ ذلكَ. اهـ

استُشهِدَ رحمه اللهُ سنةَ ( ٤٠٣ هـ ) أيَّامَ غزوِ البَربَرِ قُرطُبةَ.

وقولُ الحُمَيديِّ: "أخبرني أبو مُحمَّدٍ عليُّ بنُ أحمدَ": هو الإمامُ ابنُ حزمٍ الظَّاهريُّ.

وذكَرَ هذا الخبرَ: الضَّبِّيُّ في بُغيةِ المُلتَمِسِ ( ص٤٣٤ )، وابنُ خاقانَ في مَطمَحِ الأنفُسِ ( ص٢٨٥ )، وابنُ بَشكُوالَ في الصِّلةِ ( ١ / ٣٤٠ )، وابنُ خلِّكانَ في الوَفَياتِ ( ٣ / ١٠٦ )، وابنُ سعيدٍ في المُغرِبِ في حُلى المَغرِبِ ( ١ / ١٠٣ )، والذَّهبيُّ في سِيَرِ الأعلامِ ( ١٧ / ١٧٩ ) وفي تاريخِه ( ٩ / ٦٠ ) وفي تذكرةِ الحُفَّاظِ ( ٣ / ١٠٧٧ - ١٠٧٨ )، وابنُ كثيرٍ في تاريخِه ( ١٥ / ٥٥١ )، وابنُ عبدِ الهادي في طبقاتِ عُلَماءِ الحديثِ ( ٣ / ٢٧٥ )، والصَّفَديُّ في الوافي ( ١٧ / ٢٨٦ )، والمَقّريُّ في نفحِ الطِّيبِ ( ٢ / ١٣٠ )، وصدّيق حسن خان في التَّاجِ المُكلَّلِ ( ص٤٩ ).

ولابنِ الفَرَضيِّ شعرٌ عَذبٌ رائقٌ كعادةِ أهلِ الأندَلُسِ؛ فمنه قولُه لأهلِه أيَّامَ رِحلَتِه في طلبِ العِلمِ وقد تغرَّبَ عنهم:

مَضَتْ لي شُهورٌ مُنذُ غِبتُم ثلاثةٌ
وما خِلْتُني أبقى إذا غِبتُمُ شَهرا

وما لي حياةٌ بعدَكم أستَلِذُّها
ولو كان هذا لم أكُن في الهوى حُرّا

ولم يُسْلِني طُولُ التَّنائي هواكمُ
بلى زادني وَجدًا وجدَّدَ لي ذِكرا

يُمثِّلُكم لي طُولُ شَوقي إليكمُ
ويُدنيكُمُ حتَّى أُناجِيَكُم سِرّا

سأستَعتِبُ الدَّهرَ المُفرِّقَ بيننا
وهل نافِعِي أن صِرتُ أستَعتِبُ الدَّهرا

أُعَلِّلُ نفسي بالمُنى في لِقائِكم
وأستَسهِلُ البَرَّ الذي جُبتُ والبَحرَا

ويُؤنِسُني طيُّ المراحلِ دُونَكم
أروحُ على أرضٍ وأغدو على أُخرى

وتاللهِ ما فارقتُكم عن قِلَىً لكم
ولكنَّها الأقدارُ تجري كما تُجرى

رَعَتْكُم من الرَّحمنِ عَينٌ بصيرةٌ
ولا كشَفَتْ أيدي الرَّدى عنكمُ سِترا

وله أيضًا:

أسيرُ الخطايا عندَ بابِكَ واقِفُ
على وجَلٍ ممَّا به أنتَ عارِفُ

يخافُ ذُنوبًا لم يغِبْ عنكَ غَيبُها
ويرجوكَ فيها فهو راجٍ وخائِفُ

ومَن ذا الذي يرجو سِواكَ ويتَّقي
وما لكَ في فصلِ القضاءِ مُخالِفُ

فيا سيِّدي لا تُخزِني في صحيفتي
وإذا نُشِرَتْ يومَ الحِسابِ الصَّحائِفُ

وكن مُؤنِسي في ظُلمةِ القبرِ عندما
يصُدُّ ذوو القُربى ويجفو المُؤالِفُ

لئن ضاقَ عنِّي عَفوُكَ الواسِعُ الذي
أُرَجِّي لإسرافي فإنِّي لَتالِفُ
قال الإمامُ أبو بكرٍ الخطيبُ البغداديُّ في الجامعِ لأخلاقِ الرَّاوي ( ١ / ٤٨٢ - ٤٨٣ ): "وكتب معي أبو بكرٍ البرقانيُّ إلى أبي نُعَيمٍ أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ الأصبهانيِّ الحافظِ كتابًا يقولُ في فصلٍ منه: وقد نفذَ إلى ما عندك عمدًا مُتَعمِّدًا أخونا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عليِّ بنِ ثابتٍ -أيَّدَه اللهُ وسَلَّمَه- ليقتبسَ من عُلُومِكَ، ويستفيدَ من حديثِكَ، وهو -بحمدِ اللهِ- ممَّن له في هذا الشَّأنِ سابِقةٌ حَسَنةٌ، وقدَمٌ ثابِتٌ، وفَهمٌ به حسنٌ، وقد رحل فيه وفي طَلَبِه، وحصل له منه ما لم يحصُلْ لكثيرٍ من أمثالِه الطَّالِبِينَ له، وسيظهرُ لك منه عند الاجتماعِ من ذلك، مع التَّورُّعِ والتَّحفُّظِ وصِحَّةِ التَّحصيلِ ما يحسُنُ لديك موقعُه، وتَجمُلُ عندك منزلتُه، وأنا أرجو إذا صحَّتْ لديك منه هذه الصِّفةُ أن تُلِينَ له جانِبَكَ، وأن تتوفَّرَ له، وتحتملَ منه ما عساه يُورِدُه من تثقيلٍ في الاستِكثارِ، أو زيادةٍ في الاصطِبارِ، فقِدَمًا حمل السَّلَفُ من الخَلَفِ ما رُبَّما ثَقُلَ، وتوفَّروا على المُستَحقِّ منهم بالتَّخصيصِ والتَّقديمِ والتَّفضيلِ ما لم يَنَلُه الكلُّ منهم". اهـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذكرَ الخطيبُ هذا الكلامَ -متفاخرًا بكلامِ شيخِه وحُقَّ له- في آخرِ بابِ: "جوازِ الأثَرَةِ بالرِّوايةِ لأهلِ المعرفةِ والدِّرايةِ" بعد أن أوردَ بعضَ الآثارِ عن السَّلَفِ في استِئثارِ قومٍ بالعِلمِ دُونَ آخَرِينَ.

وذكَرَ هذا الكلامَ في ترجمةِ الخطيبِ: ابنُ عساكرَ في تاريخِ دمشقَ ( ٥ / ٣٦ )، وياقوتُ في مُعجَمِ الأُدَباءِ ( ١ / ٣٩٥ )، والذَّهَبيُّ في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٨ / ٢٧٦ - ٢٧٧ ) وفي تاريخِ الإسلامِ ( ١٠ / ١٧٨ ).

وكانَتْ رِحلَتُه إلى أصبهانَ سنةَ ( ٤٢١هـ ) قاصِدًا الحافظَ أبا نُعَيمٍ الأصبهانيَّ صاحبَ كتابِ "حِليةِ الأولياءِ"، وكان أبو نُعَيمٍ أكبرَ عُلَماءِ أصبهانَ يومئذٍ، وليأخذَ أيضًا عمَّن بقيَ فيها من المُسنِدِينَ الكِبارِ.
وقد استوعبَ الخطيبُ أكثرَ ما عند أبي نُعَيمٍ من مرويَّاتٍ، بالسَّماعِ أو الإجازةِ، وقد ظهر ذلك في الكمِّ الكبيرِ الذي ساقَهُ من الأسانيدِ عن أبي نُعَيمٍ في "تاريخِ بغدادَ" وغيرِه من كُتُبِه.

وطوَّفَ الخطيبُ رحمه اللهُ البلادَ في طلَبِ العِلمِ؛ فرحل إلى البصرةِ، والكُوفةِ، وعُكبَرا، والأنبارِ، والشَّامِ، ومكَّةَ، والحِجازِ، وخُراسانَ، ونيسابورَ، وأصبهانَ، ودِينَوَرَ، وهمذانَ، والرَّيِّ، والنَّهروانِ، وغيرِ ذلكَ.

وكان قد شاورَ شيخَه البرقانيَّ في الرِّحلةِ إلى مصرَ، ليسمعَ من ابنِ النَّحَّاسِ، فأشار عليه بالرِّحلةِ إلى نيسابورَ التي كانَتْ تزخرُ بكِبارِ المُحدِّثينَ آنذاك، فضلًا عن المُدُنِ المُجاوِرَةِ لها، وعلَّلَ البرقانيُّ ذلك بقولِه: "إنَّكَ إن خرجتَ إلى مصرَ إنَّما تخرجُ إلى واحدٍ، إن فاتَكَ ضاعَتْ رِحلَتُكَ، وإن خرجتَ إلى نيسابورَ ففيها جماعةٌ، إن فاتَكَ واحدٌ أدركتَ مَن بقيَ".
فخرجَ الخطيبُ إلى نيسابورَ.

قلتُ: وهو رأيٌ وجيهٌ؛ إذ كان ابنُ النَّحَّاسِ آنَذاك في الثَّانيةِ والتِّسعينَ من عُمُرِه.
وقد أدركَ الخطيبُ في نيسابورَ أصحابَ أبي العبَّاسِ الأصمِّ وتلاميذَه.

وكتبَ الكثيرَ، وتقدَّمَ في هذا الشَّأنِ، وجمعَ وصنَّفَ وصحَّحَ، وعلَّلَ وجرَّحَ، وعدَّلَ وأرَّخَ وأوضحَ، وصار أحفظَ أهلِ عَصرِه على الإطلاقِ.

وروى عن خلقٍ كثيرٍ، وينزلُ إلى أن يرويَ عن تلاميذِه، كنصرِ بنِ إبراهيمَ المقدسيِّ، وأبي عبدِ اللهِ الحُمَيديِّ، وابنِ ماكولا، وابنِ خيرونَ، والرَّوَّاسيِّ، وغيرِهم.

وروى عنه من شُيوخِه: أبو بكرٍ البرقانيُّ، وأبو القاسمِ الأزهريُّ.
قال الإمامُ أبو مُحمَّدٍ ابنُ حزمٍ الظَّاهِريُّ الأندَلُسيُّ القُرطُبيُّ:

مُنايَ من الدُّنيا عُلومٌ أبُثُّها
وأنشُرُها في كلِّ بادٍ وحاضِرِ

دُعاءٌ إلى القُرآنِ والسُّنَنِ التي
تَناسى رجالٌ ذِكرَها في المحاضِرِ

وألزَمُ أطرافَ الثُّغورِ مُجاهِدًا
إذا هَيعةٌ ثارَتْ فأوَّلُ نافِرِ

لِألْقى حِمامي مُقبِلًا غيرَ مُدبِرٍ
بسُمرِ العوالي والرِّقاقِ البواتِرِ

كِفاحًا مع الكُفَّارِ في حَومَةِ الوغى
وأكرَمُ موتٍ للفتى قَتْلُ كافِرِ

فيا ربِّ لا تجعلْ حِمامي بغَيرِها
ولا تَجعَلَنِّي من قَطِينِ المقابِرِ

ذكرَ الأبياتَ كاملةً الذَّهبيُّ في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٨ / ٢٠٦ ).
وذكرَ أوَّلَ بيتَينِ منها: الحُمَيديُّ في جذوةِ المُقتبسِ ( ص٤٥١ )، وابنُ بَشكوالَ في الصِّلَةِ ( ٢ / ٣٢ )، والذَّهبيُّ في تاريخِ الإسلامِ ( ١٠ / ٨١ ).
قال القاضي مُحمَّدُ بنُ مُحمَّدٍ الماهانيُّ: "إمامانِ ما اتَّفقَ لهما الحجُّ: أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وقاضي القُضاةِ أبو عبدِ اللهِ الدَّامَغانيُّ؛ أمَّا أبو إسحاقَ فكان فقيرًا، ولو أرادَ الحجَّ لحملوه على الأعناقِ إلى مكَّةَ، وأمَّا الدَّامَغانيُّ لو أرادَهُ لأمكَنَهُ على السُّندُسِ والإستَبْرَقِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخَبَرُ في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٨ / ٤٥٥ ) وتاريخِ الإسلامِ ( ١٠ / ٣٨٤ - ٣٨٥ ) للذَّهبيِّ، وفي طَبَقاتِ الشَّافعيَّةِ ( ٤ / ٢٢٧ ) للسُّبكيِّ.

ومعنى الأثَرِ: أنَّ الشِّيرازيَّ والدَّامَغانيَّ كانا فقيرَينِ، وكانا مُعظَّمَينِ عند العُلَماءِ والنَّاسِ، فلو طلبا الحجَّ، لحملوهما إلى مكَّةَ على الأعناقِ؛ لجلالَتِهما وعِظَمِ قَدرِهما.

وأبو إسحاقَ هو الشَّيخُ الإمامُ القُدوةُ المُجتَهِدُ العالِمُ الأُصوليُّ إبراهيمُ بنُ عليِّ بنِ يُوسفَ الشِّيرازيُّ، إمامُ الشَّافعيَّةِ في وقتِه بلا نِزاعٍ.

والدَّامَغانيُّ هو مُفتي العِراقِ وقاضي القُضاةِ الإمامُ العلَّامةُ البارِعُ أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ عليِّ بنِ مُحمَّدِ بنِ الحُسَينِ الدَّامَغانيُّ، من كبارِ عُلَماءِ الحنفيَّةِ.

وكان القاضي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَريُّ الشَّافعيُّ يقولُ: "الدَّامَغانيُّ أعرفُ بمذهبِ الشَّافعيِّ من كثيرٍ من أصحابِنا".
Audio
🔊

قصيدةٌ رائِقةٌ وعظيَّةٌ سُنِّيَّةٌ للإمامِ الخطيبِ أبي مُحمَّدٍ عبدِ القاهِرِ بنِ عبدِ الواحِدِ التَّبريزيِّ.
رواها عنه تلميذُه الإمامُ الذَّهبيُّ في مُعجَمِ شُيوخِه الكبيرِ ( ١ / ٤٠٩ - ٤١٠ ).