صراع الأجيال بين الآباء والأبناء في كتاب: ثناء على الجيل الجديد
حسين كاظم
من بين جميع المفكرين العرب المعاصرين، يتميز المفكر العراقي الدكتور عبدالجبار الرفاعي لا بتجربته الدينية والفكرية وحضوره في الساحة الثقافية حسب، بل ويتميز أيضًا بإنتاجه الغزير، وشخصيته الأخاذة التي تبرز في كتبه بروزًا واضحًا، فتأسر قراءه وتجعلهم يزجون بأنفسهم في عوالمه حتى النهاية.
ومن بين جميع كتبه، لفت نظري عنوان في معرض الكويت الدولي للكتاب، عام 2024: "ثناء على الجيل الجديد"!
أذلك حقيقي؟ هل ثمة أحد من "جيل الآباء" يكتب كتابًا بهذا العنوان الصريح؟ "ثناء على الجيل الجديد"؟ حقًّا؟
ومنذ بداية الكتاب، نجد الرفاعي يتحدث عن تمرده على جيله وخروجه عن سربه تجاه موقفه من "الجيل الجديد"، إذ بينما يذم غالبية الكبار هذا الجيل، يُقرّ الرفاعي بأنه يرى نفسه أقرب إلى "الجيل الجديد" من جيله هو. بل وهو ينتقد جيله قائلا بأن "تشبث الآباء وقبضتهم الحديدية على مواقع قيادة الدول المختلفة وتأسيس الحكومات، وإجهاضهم لأية محاولة تسعى لتمكين الجيل الجديد من قيادة المؤسسات والمنظمات والأحزاب" هي إحدى أعمق عوامل مأزق السياسة والثقافة والتربية والتعليم في مجتمعاتنا.
وبالفعل، فإنا نرى الازدراء العميق الذي يحمله غالبية جيل الكبار تجاه الجيل الجديد، حتى في الوسط الثقافي؛ حيث لا يقدّر أغلب المثقفين الكبار إلا أقرانهم، ولا يعترفون إلا بمن هم في مثل أعمارهم غالبًا، بينما يتنكرون للمثقفين والكتّاب من جيل الطليعة، ولا يتعاملون معهم إلا باستعلاء، ولا ينظرون إليهم على أنهم أنداد ونظراء، بل على أنهم طفيليون صغار ليسوا بكفاءة أن يكونوا أندادا لهم. وهذا أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي تنشأ بين الجيلين، وإلى ابتعاد أحدهما عن الآخر أكثر فأكثر، حتى يصبح التعاطي والتفاهم بينهما مستحيلًا، أو شبه مستحيل! وهذا بحد ذاته كفيلٌ بأن يتسبب في عدم تقدير الطليعة للكبار، كما أن هؤلاء الأخيرين لا يقدّرون الطليعة!
يؤكد الدكتور الرفاعي على اشتداد حاجة جيل الآباء للتقدير والاحترام مع تقدمهم في العمر، وعلى ضرورة أن يلبي الجيل الجديد احتياجهم هذا. ولكنّنا نجده، في السياق نفسه تقريبًا، وكأنه "يهجو" جيل الآباء!
فهو يورد مثلًا كيف أن هذا الجيل يتهم الجيل الجديد بأنه "لا يعرف ما يريد"، ويُبرز ذاته على أنه "جيل يعرف ما يريد"، ومن ثمّ يقلب الطاولة كلّيًّا عليه، ويرى بأنه "يُخطئ مرتين": الأولى هي عندما يتهم الجيل الجديد بأنه لا يعرف ما يريد، والثانية هي عندما يدعي بأنه جيل يعرف ما يريد.
ولتوضيح ذلك، فإنه يقول أن عقل الشباب اليوم أنضج، وفهمهم للحياة أعمق، وعالمهم أكثر تركيبًا وتعقيدًا، في مقابل العالم البسيط الذي عاشه الآباء. هذا فيما يخصّ الخطأ الأول. أما فيما يخص الخطأ الثاني، فهو يقول: "كيف يعرف ذلك الجيل ]أي جيل الآباء[ ما يريد، وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟! فقد أنسته الأساطيرُ المؤسسة لمتخيله الثوري ذاتَه. كان جيل الآباء مولعًا بيوتوبيات الخلاص للكل، والحرية للكل، وانصهار الكل في واحد. كان يحسب أن تغيير العالم تنجزه مجموعة شعارات وأناشيد تعبوية تنشد تجييش الجماهير وخروجها إلى الشارع تهتف بـ«الروح بالدم نفديك يا...». هذه النزعة قادت ذلك الجيل لأن تسعبده أصنام مختلفة؛ كل منها يظهر على المسرح الاجتماعي بقناعه الخاص، فتارة يصير رجل صنما، وأخرى تصير أيديولوجيا صنما، وثالثة تصير هوية طائفية صنما، ورابعة يصير كتاب صنما: كل صنم منها يستعبد من على شاكلته (..). الكثير من الآباء مولع بعبادة الأصنام البشرية، إن لم يجد صنما في الماضي يخضع له ويستعبده، ينحت من أحد رجال السياسة أو الدين أو الفكر أو الأدب صنما. الكثير من الأبناء مولع بتحطيم الأصنام البشرية، لذلك يصعب ترويضهم على العبودية".
بهذه الطريقة، يقلب الدكتور الرفاعي الطاولة على جيل الآباء: ليس الجيل الجديد هو الذي لا يعرف ما يريد، بل أنتم الذين لا تعرفون ماذا تريدون، من بعد أن تخطفتكم الأيديولوجيات واستعبدتكم الأصنام التي يأبى الجيل الجديد الركوع إليها!
ومن ثم نجده ينصب مفارقة بين ولع جيل الآباء بالحزن والبحث عن كل ما ترتسم فيه ملامح الموت، في مقابل حب الجيل الجديد للحياة وإقباله عليها. ومن أجمل المفارقات التي يبرزها الرفاعي، في سياق آخر، هي المفارقة التي تنطوي على مستوى خطر الغضب الذي كان يستعر في جيل الآباء، في مقابل مستوى خطر الغضب المضطرم في جيل الأبناء، قائلًا بأن غضب الآباء كان أخطر بكثير، لسبب بسيط هو أنه كان غضبًا مكبوتًا مقموعًا، في مقابل غضب الأبناء المُعبّر عنه بشتى الوسائل، والتي ليست أقلها: وسائل التواصل الاجتماعي!
لا ريب في أنه ثمة فجوة بين الجيلين. ولكن السؤال: ما أهمية الوعي بهذه الفجوة هاهنا؟ ولماذا علينا أن نتوقف عندها؟
حسين كاظم
من بين جميع المفكرين العرب المعاصرين، يتميز المفكر العراقي الدكتور عبدالجبار الرفاعي لا بتجربته الدينية والفكرية وحضوره في الساحة الثقافية حسب، بل ويتميز أيضًا بإنتاجه الغزير، وشخصيته الأخاذة التي تبرز في كتبه بروزًا واضحًا، فتأسر قراءه وتجعلهم يزجون بأنفسهم في عوالمه حتى النهاية.
ومن بين جميع كتبه، لفت نظري عنوان في معرض الكويت الدولي للكتاب، عام 2024: "ثناء على الجيل الجديد"!
أذلك حقيقي؟ هل ثمة أحد من "جيل الآباء" يكتب كتابًا بهذا العنوان الصريح؟ "ثناء على الجيل الجديد"؟ حقًّا؟
ومنذ بداية الكتاب، نجد الرفاعي يتحدث عن تمرده على جيله وخروجه عن سربه تجاه موقفه من "الجيل الجديد"، إذ بينما يذم غالبية الكبار هذا الجيل، يُقرّ الرفاعي بأنه يرى نفسه أقرب إلى "الجيل الجديد" من جيله هو. بل وهو ينتقد جيله قائلا بأن "تشبث الآباء وقبضتهم الحديدية على مواقع قيادة الدول المختلفة وتأسيس الحكومات، وإجهاضهم لأية محاولة تسعى لتمكين الجيل الجديد من قيادة المؤسسات والمنظمات والأحزاب" هي إحدى أعمق عوامل مأزق السياسة والثقافة والتربية والتعليم في مجتمعاتنا.
وبالفعل، فإنا نرى الازدراء العميق الذي يحمله غالبية جيل الكبار تجاه الجيل الجديد، حتى في الوسط الثقافي؛ حيث لا يقدّر أغلب المثقفين الكبار إلا أقرانهم، ولا يعترفون إلا بمن هم في مثل أعمارهم غالبًا، بينما يتنكرون للمثقفين والكتّاب من جيل الطليعة، ولا يتعاملون معهم إلا باستعلاء، ولا ينظرون إليهم على أنهم أنداد ونظراء، بل على أنهم طفيليون صغار ليسوا بكفاءة أن يكونوا أندادا لهم. وهذا أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي تنشأ بين الجيلين، وإلى ابتعاد أحدهما عن الآخر أكثر فأكثر، حتى يصبح التعاطي والتفاهم بينهما مستحيلًا، أو شبه مستحيل! وهذا بحد ذاته كفيلٌ بأن يتسبب في عدم تقدير الطليعة للكبار، كما أن هؤلاء الأخيرين لا يقدّرون الطليعة!
يؤكد الدكتور الرفاعي على اشتداد حاجة جيل الآباء للتقدير والاحترام مع تقدمهم في العمر، وعلى ضرورة أن يلبي الجيل الجديد احتياجهم هذا. ولكنّنا نجده، في السياق نفسه تقريبًا، وكأنه "يهجو" جيل الآباء!
فهو يورد مثلًا كيف أن هذا الجيل يتهم الجيل الجديد بأنه "لا يعرف ما يريد"، ويُبرز ذاته على أنه "جيل يعرف ما يريد"، ومن ثمّ يقلب الطاولة كلّيًّا عليه، ويرى بأنه "يُخطئ مرتين": الأولى هي عندما يتهم الجيل الجديد بأنه لا يعرف ما يريد، والثانية هي عندما يدعي بأنه جيل يعرف ما يريد.
ولتوضيح ذلك، فإنه يقول أن عقل الشباب اليوم أنضج، وفهمهم للحياة أعمق، وعالمهم أكثر تركيبًا وتعقيدًا، في مقابل العالم البسيط الذي عاشه الآباء. هذا فيما يخصّ الخطأ الأول. أما فيما يخص الخطأ الثاني، فهو يقول: "كيف يعرف ذلك الجيل ]أي جيل الآباء[ ما يريد، وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟! فقد أنسته الأساطيرُ المؤسسة لمتخيله الثوري ذاتَه. كان جيل الآباء مولعًا بيوتوبيات الخلاص للكل، والحرية للكل، وانصهار الكل في واحد. كان يحسب أن تغيير العالم تنجزه مجموعة شعارات وأناشيد تعبوية تنشد تجييش الجماهير وخروجها إلى الشارع تهتف بـ«الروح بالدم نفديك يا...». هذه النزعة قادت ذلك الجيل لأن تسعبده أصنام مختلفة؛ كل منها يظهر على المسرح الاجتماعي بقناعه الخاص، فتارة يصير رجل صنما، وأخرى تصير أيديولوجيا صنما، وثالثة تصير هوية طائفية صنما، ورابعة يصير كتاب صنما: كل صنم منها يستعبد من على شاكلته (..). الكثير من الآباء مولع بعبادة الأصنام البشرية، إن لم يجد صنما في الماضي يخضع له ويستعبده، ينحت من أحد رجال السياسة أو الدين أو الفكر أو الأدب صنما. الكثير من الأبناء مولع بتحطيم الأصنام البشرية، لذلك يصعب ترويضهم على العبودية".
بهذه الطريقة، يقلب الدكتور الرفاعي الطاولة على جيل الآباء: ليس الجيل الجديد هو الذي لا يعرف ما يريد، بل أنتم الذين لا تعرفون ماذا تريدون، من بعد أن تخطفتكم الأيديولوجيات واستعبدتكم الأصنام التي يأبى الجيل الجديد الركوع إليها!
ومن ثم نجده ينصب مفارقة بين ولع جيل الآباء بالحزن والبحث عن كل ما ترتسم فيه ملامح الموت، في مقابل حب الجيل الجديد للحياة وإقباله عليها. ومن أجمل المفارقات التي يبرزها الرفاعي، في سياق آخر، هي المفارقة التي تنطوي على مستوى خطر الغضب الذي كان يستعر في جيل الآباء، في مقابل مستوى خطر الغضب المضطرم في جيل الأبناء، قائلًا بأن غضب الآباء كان أخطر بكثير، لسبب بسيط هو أنه كان غضبًا مكبوتًا مقموعًا، في مقابل غضب الأبناء المُعبّر عنه بشتى الوسائل، والتي ليست أقلها: وسائل التواصل الاجتماعي!
لا ريب في أنه ثمة فجوة بين الجيلين. ولكن السؤال: ما أهمية الوعي بهذه الفجوة هاهنا؟ ولماذا علينا أن نتوقف عندها؟
والجواب: يكاد التفاهم بين الجيلين أن ينعدم بفعل هذه الفجوة. ومن هذا المنطلق تبرز أهمية دراستها: كي يفهم كل جيلٍ الجيلَ الآخر، وليفتح قنوات التفاهم والاحترام بينهما، الأمر الذي من شأنه أن يجعل حياة كلّ منهما أكثر سلامًا وصحةً نفسيةً، وأعظم عطاءً وإثمارًا.
على جيل الآباء أن يقدّر الجيل الجديد ويعترف بفضائله ويحترم استقلاله وعقله، تمامًا كما على الجيل الجديد أن يحترم جيل الآباء ويقدّر تجربته ويفهمها. وهذا هو السبيل الأوحد من أجل تقدم حقيقيٍّ في العلاقة بين الجيلين.
حسين كاظم
5 ديسمبر 2024
https://www.alayam.com/online/culture/1080996/News.html
على جيل الآباء أن يقدّر الجيل الجديد ويعترف بفضائله ويحترم استقلاله وعقله، تمامًا كما على الجيل الجديد أن يحترم جيل الآباء ويقدّر تجربته ويفهمها. وهذا هو السبيل الأوحد من أجل تقدم حقيقيٍّ في العلاقة بين الجيلين.
حسين كاظم
5 ديسمبر 2024
https://www.alayam.com/online/culture/1080996/News.html
Alayam.com
صراع الأجيال بين الآباء والأبناء
من بين جميع المفكرين العرب المعاصرين، يتميز المفكر العراقي الدكتور عبدالجبار الرفاعي، لا بتجربته الدينية والفكرية وحضوره في الساحة الثقافية وحسب، بل يتميز أيضً
الحُبّ يهزم قلقَ الموت
د. عبد الجبار الرفاعي
أثرُ العاطفة والمحبّة والأخلاق في التربية والتعليم أكبرُ من أثر العقل، إذا أراد أحد الأبوين وهكذا المعلّم التأثيرَ الاستثنائي في أبنائه وتلامذته عليه أن يبدأ بالحديث إلى قلوبهم. داخل كلّ إنسان طفلٌ صغير يتوق بشغف إلى الاعتراف والثناء والحُبّ، ولو كان ذلك مجرد تحية أو كلمة امتنان صادقة من أيّ شخص صادق. عندما تصلني رسائل من أشخاص لا أعرفهم، أحرص دائمًا على الرد عليها، تكريمًا لمبادرة المرسِل وامتنانًا لتواصله وتحيته. أنا أُدرك جيدًا قيمة العطاء المعنوي وتأثيره العميق في بناء العلاقات الإنسانية وترسيخها، العطاء يخلق جسورًا من الاحترام والمودة بين القلوب.
أي إنسان مهما كان قويًا، وإن تنكر لحاجته، لا يستطيع أن يستغنى عن الصلة الوجودية بالله ليحتمي من الاغتراب الميتافيزيقي، ومَن يتيه في طريقه إلى الله يتوكأ على مطلقٍ متخيَّل بديلًا عن الله. كذلك لا يستطيع الإنسان الاستغناء عن صلة معنوية تمنح حياته معنىً بالإنسان الآخر. الحُبّ أعذب تعبير عن الصلة المعنوية بالإنسان الآخر، المهم نوع الإنسان الآخر الذي نتواصل معه، أكثر الناس غير قادرين على العطاء العاطفي والإلهام الروحي، لذلك ينبغي أن ينتقي الإنسان أولئك الأخلاقيين القادرين على منح حياته أعذب معانيها. الحُبّ الأخلاقي الأصيل لا ترتقي إليه إلا القلوب السليمة من الأمراض.
تتجلّى قوّةُ الحُبّ في البناء لا في الهدم، وفي قدرتِه الفريدةِ على تنمية العلاقات الإنسانية السليمة وترسيخها. الحُبّ يمتلك طاقةً خلّاقةً تُعزّز أسس الحياة الأصيلة، وتكرّسُ استمرارها بنبضٍ متدفِق، ينجذب الإنسان لمَنْ يُسمِعه نداء قلبه. الحُبّ هو الكيمياء المشتركة التي تجعل القلوب تتحقّق بطورٍ وجوديّ أشبه بضوءٍ لا يشوبه ظلام. إنه أساسُ الحياة الأصيلة وجذرها الأعمق.كما تهزم إرادة الحياة والإنجاز والعطاء قلقَ الموت، الحُبّ يهزم قلقَ الموت أيضًا.
يموت كلُّ معنىً جميل في حياة الإنسان لحظة يموت الحُبّ في الأرض. عبر الاستثمار بالحُبّ في التربية والتعليم والثقافة والإعلام وخطب الجمعة والوعظ الديني، وتكريس الحُبّ بوصفه قيمة ملهِمة للعيش المشترك، يتمكن الإنسان من خفض الآثار الفتاكة لغريزة العدوان، وما يتوالد عنها من كراهيات وحروب. قلّما يحضر الحُبّ في سياساتنا وإعلامنا وثقافتنا وكتاباتنا وفنوننا وآدابنا وتديننا ومنابرنا وأحاديثا ونقاشاتنا، على الرغم من أن الحُبّ أسمى معاني الحياة وأعذب ما تهبه للإنسان.
إنتاج الحُبّ أصعب أنماط إنتاج المعنى العذب في حياة الإنسان، مَن يمنحك الحُبّ يمنحك أجمل شيء لأنه يمنحك معنى الحياة، من يسلبك الحُبّ يسلبك معنى الحياة. الحُبّ شحيح في مجتمعاتنا،كثير من وسائل الإعلام وتطبيقات وسائل التواصل تثير الضغائن والأحقاد، وتفجّر المكبوتات التاريخية، وتنبش ما هو مودع في الذاكرة العتيقة، وتثير ما هو مكبوت في اللاشعور الجمعي من صراعات وحروب الطوائف، وتسمّم الفضاء العام بروائحه المميتة. مَن يتحدّث عن الحُبّ والعيش المشترك والسلام المجتمعي ويكتب في هذه الموضوعات يعيش غريبًا، بل إن بعضهم يرى كتابته وحديثه مستهجنًا.
الاستثمار في الحُبّ يجعل الحياة تتسع لقبول المختلِف والعيش معه بسلام، تعزيز الحُبّ وإثراؤه بالتربية والتعليم والإعلام والثقافة والمنابر والوعظ الديني تعزيزٌ وإثراء للسلام المجتمعي والعالمي. تضيق الحياة كلّما ضاقت مساحة الحُبّ في قلب الإنسان، مثلما تكتئب الحياة كلّما ضاق فضاء الأمل والحلم والمتخيَّل في ذهن الإنسان. الحنان هو المرآة التي تعكس شعورَ الإنسان العميق باحتياجات الآخرين العاطفية، وهو تعبير نبيل عن تحسّس آلامهم ومعاناتهم. الحنان يمثل أسمى تجليات سخاء الروح وإنفاقها للمعنى، هذا النوع من الإنفاق يحتاجه كلُّ إنسان، وهو أثمن بكثير من إنفاق المال، لأنه يؤسّس البنية الضرورية للمودة والتعاطف والتراحم في حياة أي مجتمع. إنفاق المعنى يفيض بأصدق أنماط السخاء الأخلاقي الذي يحتاجه كلُّ إنسان، خاصةً في لحظات المرضِ والحرمان والأسى. أسخى الأرواح وأكرمها هي الأرواح التي تحتفل بنجاحات الآخرين، تفرح لفرحهم، وتحزن لحزنهم. القلب الذي يبتهج بسعادة الإنسان، وإن كان بعيدًا عنه، هو قلب يعيش بالحُبّ وللحُبّ، هذا القلب يحتفل دائمًا لحظة يسكب حُبّه بأوعية الكلمات الصادقة ويسر بها أيّ إنسان.
د. عبد الجبار الرفاعي
أثرُ العاطفة والمحبّة والأخلاق في التربية والتعليم أكبرُ من أثر العقل، إذا أراد أحد الأبوين وهكذا المعلّم التأثيرَ الاستثنائي في أبنائه وتلامذته عليه أن يبدأ بالحديث إلى قلوبهم. داخل كلّ إنسان طفلٌ صغير يتوق بشغف إلى الاعتراف والثناء والحُبّ، ولو كان ذلك مجرد تحية أو كلمة امتنان صادقة من أيّ شخص صادق. عندما تصلني رسائل من أشخاص لا أعرفهم، أحرص دائمًا على الرد عليها، تكريمًا لمبادرة المرسِل وامتنانًا لتواصله وتحيته. أنا أُدرك جيدًا قيمة العطاء المعنوي وتأثيره العميق في بناء العلاقات الإنسانية وترسيخها، العطاء يخلق جسورًا من الاحترام والمودة بين القلوب.
أي إنسان مهما كان قويًا، وإن تنكر لحاجته، لا يستطيع أن يستغنى عن الصلة الوجودية بالله ليحتمي من الاغتراب الميتافيزيقي، ومَن يتيه في طريقه إلى الله يتوكأ على مطلقٍ متخيَّل بديلًا عن الله. كذلك لا يستطيع الإنسان الاستغناء عن صلة معنوية تمنح حياته معنىً بالإنسان الآخر. الحُبّ أعذب تعبير عن الصلة المعنوية بالإنسان الآخر، المهم نوع الإنسان الآخر الذي نتواصل معه، أكثر الناس غير قادرين على العطاء العاطفي والإلهام الروحي، لذلك ينبغي أن ينتقي الإنسان أولئك الأخلاقيين القادرين على منح حياته أعذب معانيها. الحُبّ الأخلاقي الأصيل لا ترتقي إليه إلا القلوب السليمة من الأمراض.
تتجلّى قوّةُ الحُبّ في البناء لا في الهدم، وفي قدرتِه الفريدةِ على تنمية العلاقات الإنسانية السليمة وترسيخها. الحُبّ يمتلك طاقةً خلّاقةً تُعزّز أسس الحياة الأصيلة، وتكرّسُ استمرارها بنبضٍ متدفِق، ينجذب الإنسان لمَنْ يُسمِعه نداء قلبه. الحُبّ هو الكيمياء المشتركة التي تجعل القلوب تتحقّق بطورٍ وجوديّ أشبه بضوءٍ لا يشوبه ظلام. إنه أساسُ الحياة الأصيلة وجذرها الأعمق.كما تهزم إرادة الحياة والإنجاز والعطاء قلقَ الموت، الحُبّ يهزم قلقَ الموت أيضًا.
يموت كلُّ معنىً جميل في حياة الإنسان لحظة يموت الحُبّ في الأرض. عبر الاستثمار بالحُبّ في التربية والتعليم والثقافة والإعلام وخطب الجمعة والوعظ الديني، وتكريس الحُبّ بوصفه قيمة ملهِمة للعيش المشترك، يتمكن الإنسان من خفض الآثار الفتاكة لغريزة العدوان، وما يتوالد عنها من كراهيات وحروب. قلّما يحضر الحُبّ في سياساتنا وإعلامنا وثقافتنا وكتاباتنا وفنوننا وآدابنا وتديننا ومنابرنا وأحاديثا ونقاشاتنا، على الرغم من أن الحُبّ أسمى معاني الحياة وأعذب ما تهبه للإنسان.
إنتاج الحُبّ أصعب أنماط إنتاج المعنى العذب في حياة الإنسان، مَن يمنحك الحُبّ يمنحك أجمل شيء لأنه يمنحك معنى الحياة، من يسلبك الحُبّ يسلبك معنى الحياة. الحُبّ شحيح في مجتمعاتنا،كثير من وسائل الإعلام وتطبيقات وسائل التواصل تثير الضغائن والأحقاد، وتفجّر المكبوتات التاريخية، وتنبش ما هو مودع في الذاكرة العتيقة، وتثير ما هو مكبوت في اللاشعور الجمعي من صراعات وحروب الطوائف، وتسمّم الفضاء العام بروائحه المميتة. مَن يتحدّث عن الحُبّ والعيش المشترك والسلام المجتمعي ويكتب في هذه الموضوعات يعيش غريبًا، بل إن بعضهم يرى كتابته وحديثه مستهجنًا.
الاستثمار في الحُبّ يجعل الحياة تتسع لقبول المختلِف والعيش معه بسلام، تعزيز الحُبّ وإثراؤه بالتربية والتعليم والإعلام والثقافة والمنابر والوعظ الديني تعزيزٌ وإثراء للسلام المجتمعي والعالمي. تضيق الحياة كلّما ضاقت مساحة الحُبّ في قلب الإنسان، مثلما تكتئب الحياة كلّما ضاق فضاء الأمل والحلم والمتخيَّل في ذهن الإنسان. الحنان هو المرآة التي تعكس شعورَ الإنسان العميق باحتياجات الآخرين العاطفية، وهو تعبير نبيل عن تحسّس آلامهم ومعاناتهم. الحنان يمثل أسمى تجليات سخاء الروح وإنفاقها للمعنى، هذا النوع من الإنفاق يحتاجه كلُّ إنسان، وهو أثمن بكثير من إنفاق المال، لأنه يؤسّس البنية الضرورية للمودة والتعاطف والتراحم في حياة أي مجتمع. إنفاق المعنى يفيض بأصدق أنماط السخاء الأخلاقي الذي يحتاجه كلُّ إنسان، خاصةً في لحظات المرضِ والحرمان والأسى. أسخى الأرواح وأكرمها هي الأرواح التي تحتفل بنجاحات الآخرين، تفرح لفرحهم، وتحزن لحزنهم. القلب الذي يبتهج بسعادة الإنسان، وإن كان بعيدًا عنه، هو قلب يعيش بالحُبّ وللحُبّ، هذا القلب يحتفل دائمًا لحظة يسكب حُبّه بأوعية الكلمات الصادقة ويسر بها أيّ إنسان.
بعض الناس لا يكترث بفاجعة الآخرين، فلو حدثت كارثة طبيعية ونكبة لمجتمع آخر يبتهج، وربما يشعر بأنه ومجتمعه لا يتقدّم إلا بانحطاط المجتمعات المتقدّمة في العالم. وكأنه لا يعلم أن تقدّم أي مجتمع يتوقف على بناء قدراته باستثمار مكامن القوة لدية على وفق المناهج العلمية للتنمية الحديثة، فضلا عن أن حاضر الإنسانية ومصيرها مشترَك، ما يعني أن نكبة أيّ مجتمع هي نكبة للإنسانية بأسرها، وأن تطور أيّ مجتمع هو تطور تنعكس مكاسبه على الإنسانية بأسرها. يتقدم المجتمع إن كان يفكّر تفكيرًا علميًا يواكب ما تنجزه العلوم والمعارف والتكنولوجيات المتقدمة في بناء وتعزيز مختلف مؤسساته وبناء دولته الحديثة، ويوظِّف مكاسب الحقوق والحريات في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، بوصفها رأسمالًا كونيًا مشتركًا لا يختصّ بمن أنجزه، بل يمكن أن تستثمره أيّة دولة تتخلص من الاستبداد والحكم الشمولي، وكان إنسانها قادرًا على الانفتاح على المختلِف، وتجاوز العناصر المعطلة في تراثه، والتحرّر من انغلاق هويته وتصلبها وعجزها عن استيعاب الجديد وتوظيفه في البناء والتنمية.
مَن لا يشعر بآلام الإنسانِ، مات في داخله اللهُ والإنسان. شعور الإنسان بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الإنسان الآخر يفرضها الضمير الأخلاقي السليم، يؤنب الإنسانَ الأخلاقي ضميرُه عند ارتكابه خطأ أو تجاوزا أو خطيئة بحقّ أيّ إنسان. حقوق الإنسان وحمايةُ كرامته وحرياته هي حقوقُ الله. الطريق لا يصل إلى الله إلا عبر احترام الإنسان وتكريمه، وحماية حقوقه وحرياته. يتراءى التقصيرُ بحقّ الله عندما يرتكب الإنسان خطأ أو تجاوزا أو خطيئة تنتهك حقوقَ الإنسان وحرياته. بعض الناسِ يتهرب من أية مسؤولية أخلاقية تجاه الغير، يترقب تضحيةَ الكلّ من أجله، من دون مكافأة أحدٍ حتى بكلمة شكر. التهربُ من المسؤولية ضربٌ من خيانة الضمير الأخلاقي، تحمّلُ المسؤولية ضربٌ من التضحية،كلُّ تضحيةٍ تمنحُ الإنسانَ معنى جديدًا لحياته لا يتذوقه خارجَها. التضحية بكلِّ مستوياتها وأنواعها وتعبيراتها تُسعِد مَنْ يضحّي، سواء أكانت التضحيةُ بإنفاق المال أو الجهدِ أو الراحة أو الوقت، أو الشفقة على أنين الضحايا والبؤساء والصبرِ الطويل على إغاثتهم ماديًا وعاطفيًا، أو غير ذلك من المبادرات الإنسانية لإسعاد الغير. تحمّلُ المسؤولية ينتقل بالإنسانِ إلى طورٍ أخلاقي أنبل، لأنه يتقاسمُ حياتَه مع إنسان آخر، ويسهم بجعل العالَم الذي يلتقي فيه الجميع أجمل. تحمّلُ المسؤولية تجاه العائلة والمجتمع والوطن والطبيعة وغيرها من أسمى ما تتجلى فيه إنسانيةُ الإنسان. ما يواجه الإنسانَ الأخلاقي من متاعبَ وآلام من أجل إسعاد الغير لا يرهقُه بل يشعرُه بالرضا والغبطة.
قدرات الإنسان أضعف من تحمل آلام الحياة الموجعة ومراراتها. التضامن الروحي والأخلاقي في العائلة والمجتمع يعزّز قدرات الفرد والمجتمع على تحمل الآلام، ويثري الأمن العائلي والمجتمعي، بما يمكّنهم من عبور تلك الآلام والمرارات بلا جروح أبدية نازفة، لكن مثل هذا التضامن أضحى قليلاً في مجتمعنا. أتذوق روحيا وأخلاقيا نكهة التضامن مع كلّ مَن يتألم في هذا العالم. أن تزور مريضا أو تهاتفه، أو تفرّج عن مكروب، تثري حياتك قبل أن تثري حياته، تمتلك حياتك معنى لم تمتلكه من قبل. لحظة زيارتك يشعر المريض أنه مازال هناك ما يستحقّ العيش من أجله في هذا العالم، يفيض عليك هذا المريض طاقة إيجابية، تؤثر في الشفاء من آلامك قبل شفائه من آلامه. لكلمة المحبّة الرحيمة الدافئة مفعول سحري يداوي جروح الروح. الكلمة الآسرة تأسر الروح، الكلمة العنيفة تجرح الروح.
#عبدالجبار_الرفاعي #الحب https://alsabaah.iq/108543-.html
مَن لا يشعر بآلام الإنسانِ، مات في داخله اللهُ والإنسان. شعور الإنسان بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الإنسان الآخر يفرضها الضمير الأخلاقي السليم، يؤنب الإنسانَ الأخلاقي ضميرُه عند ارتكابه خطأ أو تجاوزا أو خطيئة بحقّ أيّ إنسان. حقوق الإنسان وحمايةُ كرامته وحرياته هي حقوقُ الله. الطريق لا يصل إلى الله إلا عبر احترام الإنسان وتكريمه، وحماية حقوقه وحرياته. يتراءى التقصيرُ بحقّ الله عندما يرتكب الإنسان خطأ أو تجاوزا أو خطيئة تنتهك حقوقَ الإنسان وحرياته. بعض الناسِ يتهرب من أية مسؤولية أخلاقية تجاه الغير، يترقب تضحيةَ الكلّ من أجله، من دون مكافأة أحدٍ حتى بكلمة شكر. التهربُ من المسؤولية ضربٌ من خيانة الضمير الأخلاقي، تحمّلُ المسؤولية ضربٌ من التضحية،كلُّ تضحيةٍ تمنحُ الإنسانَ معنى جديدًا لحياته لا يتذوقه خارجَها. التضحية بكلِّ مستوياتها وأنواعها وتعبيراتها تُسعِد مَنْ يضحّي، سواء أكانت التضحيةُ بإنفاق المال أو الجهدِ أو الراحة أو الوقت، أو الشفقة على أنين الضحايا والبؤساء والصبرِ الطويل على إغاثتهم ماديًا وعاطفيًا، أو غير ذلك من المبادرات الإنسانية لإسعاد الغير. تحمّلُ المسؤولية ينتقل بالإنسانِ إلى طورٍ أخلاقي أنبل، لأنه يتقاسمُ حياتَه مع إنسان آخر، ويسهم بجعل العالَم الذي يلتقي فيه الجميع أجمل. تحمّلُ المسؤولية تجاه العائلة والمجتمع والوطن والطبيعة وغيرها من أسمى ما تتجلى فيه إنسانيةُ الإنسان. ما يواجه الإنسانَ الأخلاقي من متاعبَ وآلام من أجل إسعاد الغير لا يرهقُه بل يشعرُه بالرضا والغبطة.
قدرات الإنسان أضعف من تحمل آلام الحياة الموجعة ومراراتها. التضامن الروحي والأخلاقي في العائلة والمجتمع يعزّز قدرات الفرد والمجتمع على تحمل الآلام، ويثري الأمن العائلي والمجتمعي، بما يمكّنهم من عبور تلك الآلام والمرارات بلا جروح أبدية نازفة، لكن مثل هذا التضامن أضحى قليلاً في مجتمعنا. أتذوق روحيا وأخلاقيا نكهة التضامن مع كلّ مَن يتألم في هذا العالم. أن تزور مريضا أو تهاتفه، أو تفرّج عن مكروب، تثري حياتك قبل أن تثري حياته، تمتلك حياتك معنى لم تمتلكه من قبل. لحظة زيارتك يشعر المريض أنه مازال هناك ما يستحقّ العيش من أجله في هذا العالم، يفيض عليك هذا المريض طاقة إيجابية، تؤثر في الشفاء من آلامك قبل شفائه من آلامه. لكلمة المحبّة الرحيمة الدافئة مفعول سحري يداوي جروح الروح. الكلمة الآسرة تأسر الروح، الكلمة العنيفة تجرح الروح.
#عبدالجبار_الرفاعي #الحب https://alsabaah.iq/108543-.html
جريدة الصباح
الحُبُّ يهزمُ قلقَ الموت » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي أثرُ العاطفة والمحبّة والأخلاق في التربية والتعليم أكبرُ من أثر العقل، إذا أراد أحد الأبوين وهكذا المعلّم التأثيرَ الاستثنائي في أبنائه وتلامذته عليه أن يبدأ بالحديث إلى قلوبهم. داخل كلّ إنسان طفلٌ صغير يتوق بشغف إلى الاعتراف والثناء…
مساء السبت 18-1-2025 في ندوة تحدثت فيها عن كتاب: #مسرات_القراءة_ومخاض_الكتابة وتجربتي في #القراءة بوصفها ابتهاجا و #الكتابة بوصفها ولادة ومخاضا.
امتناني للأصدقاء الكرام الأستاذ حسين المخزومي، والدكتور عمر السراي، والأستاذ علي الفواز، وكافة الحضور الكرام.
امتناني للأصدقاء الكرام الأستاذ حسين المخزومي، والدكتور عمر السراي، والأستاذ علي الفواز، وكافة الحضور الكرام.
المنصة الخاصة بأعمال الدكتور عبد الجبار الرفاعي على مؤسسة هنداوي:
https://www.hindawi.org/contributors/81287234/
https://www.hindawi.org/contributors/81287234/
www.hindawi.org
كتب ومؤلفات عبد الجبار الرفاعي | مؤسسة هنداوي