تسجيل صوتي لكتاب الدين والكرامة الإنسانية، عبد الجبار الرفاعي. الفصل الثاني: (٤) الحُبُّ والرؤيةُ الجمالية للعالَم، رابط التسجيل:
https://www.hindawi.org/books/13907429/10/
https://www.hindawi.org/books/13907429/10/
www.hindawi.org
(٤) الحُبُّ والرؤيةُ الجمالية للعالَم | الدين والكرامة الإنسانية | مؤسسة هنداوي
تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب
د. عبد الجبار الرفاعي
حين يتجمد معنى لغة الغيب في حرفيته، وتنغلق مجازاته، ويتحول إلى فهم كلامي جدلي، لا يترك للقلب مساحته في الشهود، ولا يفتح للروح بصيرتها في التفاعل مع المعنى. لغة الدين الحاكية عن الغيب لا تنطق بذاتها، بل تتكلم عبر قارئها، وتتجلى في ضوء وعيه وبصيرته، وتشرق بمرآة القلب الذي يتذوقها. ليست الدلالة في الحرف بحدّ ذاته، بل فيما يشع من المعنى وراء الحرف، ولا تكون الدلالة في ظاهر القول، بل فيما يفيض منه على روح الإنسان وقلبه. لغة الغيب إشراق نوراني، لا يُلمس بالحواس، بل يُعاش بالشعور، ويجري تذوقه في لحظة تتحقق فيها الكلمة بحضورها كضوء، وتتحول العبارة إلى مرآة لما وراءها. الأسماء والصفات الإلهية حاضرة بكثافة في لغة الغيب، لكن قراءتها في سياق كلامي تغلق نوافذ البصيرة وتحجبها عن استلهام ما يفيضه معناها.
عندما تُفسَّر أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية في سياقات المعجم الكلامي، تنطفئ دلالاتها، وتفقد قدرتها على إيقاظ المشاعر، واستنهاض الوجدان، وإلهام الإنسان المحبة والسلام. ويتحول مدلول اسم الله من كونه نداءً يتدفق من خلاله أسمى ما في الإنسان، إلى رمز سلطوي يُحمَّل بدلالات الترهيب والعقوبة والعذاب. ويمسي الكلام الإلهي من دعوة إلى الرحمة والجمال والطمأنينة والسكينة والسلام، إلى خطاب مشبع بالتسلط، منزوعة منه الحميمية والدفء والعفو والمغفرة. ما لم تتحرر لغة الغيب من أسر هذا المعجم المتراكم عبر السنين في اللاشعور الجمعي، وتُبعث فيها الدلالات الرؤيوية المنبعثة من إشراقات الأسماء الحسنى والصفات الإلهية، سيظل حضور الله في الشعور الديني محصورًا في صورة الحاكم المتسلط، لا الحبيب المحب، والرحمن الرحيم، والجميل الذي يتذوق الإنسان تجلياته المضيئة في الوجود، وينصت إلى صوته يتردد في أستغاثات وآهات الضحايا، ويشرق نوره في أعماق كيان البؤساء.
استحواذ الرؤية الكلامية على معاني النصوص الدينية أبعد الدين عن رسالته، وضيّق مجاله في بناء صلة بالله تستلهم أسمائه وصفاته وتجلياته الرحمانية، حتى غدت هذه الصلة، في المخيال الجمعي، مصدرًا لتغذية الخوف، وتكريس كابوس العقاب، بدلًا من أن تكون علاقة مفعمة بالمحبة والرحمة والسلام والطمأنينة. لم تعد أسماء الله تنبض بما تبثه من نور، وما تفيضه من سكينة، وما توقظه من شعور عميق بمعنى الحياة والوجود، بل استُهلكت في الجدل، وتخشبت في الحرف، وخبا فيها وهج اثراء الصلة بالله، ودفء الصلة الحميمة بمحبته ورحمته.
الدين لا يحقق حضوره في حياة الإنسان إلا حين ينعش في كيانه المعنى الروحي، ويوقظ ضميره الأخلاقي، ويغذي ذائقته الجمالية، ويعيد إليه إحساسه بغبطة الحياة بشهود النور الإلهي. عندما يختزل الدين في حدود المقولات الكلامية، تنطفئ الأنوار الرحمانية المنبثة بلغة الغيب، ويتحوّل إلى عبء ثقيل، بدلًا من أن يكون رسالة حب ورحمة وسلام وشفاء. الحياة الروحية لا تتكرس في مناخ يغيب فيه حضور الله بوصفه ملاذًا للمحب، ومصدرًا للطمأنينة، ومرفأً لسكينة الروح المتعبة.كما لا تنبعث القيم الأخلاقية من خطاب يحاصر الإنسان بالممنوعات، ويثقله بالوعيد والتهديد، بدلًا من أن يرشده بلطف ورفق إلى الخير، ويستنهض في أعماقه النداء الأخلاقي.
لا يشرق الجمال من لغة تصف الله بعبارات تقريرية جافة، لا تتصل بمشاعر الإنسان، ولا ينصت فيها إلى صوت الله، ولا يشهد أنواره. لغة كهذه تغلق أبواب التأمل، وتطفئ جذوة الشوق، ولا تتيح للإنسان تذوق النور الإلهي في لحظات الصفاء ونداءات القلب. إن استعادة وظيفة الدين بوصفه مسارًا لتتسامي بالنفس، وإنقاذ الإنسان من ظمئه الأنطولوجي وغربته الميتافيزيقية، لا تتم إلا بإحياء الأفق الرؤيوي للغة الغيب، تلك اللغة التي يستفيق بها ضمير الإنسان، وتستنهض وعيه، وتوقظ فيه الإحساس بالدهشة، وتبني صلة حيّة بينه وبين ربه، لا عبر الرهبة، بل من خلال المحبة والرحمة والعطف والرفق والسلام. اللغة التي ينبعث منها معنى يشد الإنسان إلى الله، ويضيء له درب النجاة، ويمنحه القدرة على استعادة ذاته في عالم يضج بالصخب، ويقسو فيه العيش، هي وحدها القادرة على مداواة القلب المنهك، وإنقاذ الإنسان من التيه، وإعادته إلى مكانته في الوجود.
د. عبد الجبار الرفاعي
حين يتجمد معنى لغة الغيب في حرفيته، وتنغلق مجازاته، ويتحول إلى فهم كلامي جدلي، لا يترك للقلب مساحته في الشهود، ولا يفتح للروح بصيرتها في التفاعل مع المعنى. لغة الدين الحاكية عن الغيب لا تنطق بذاتها، بل تتكلم عبر قارئها، وتتجلى في ضوء وعيه وبصيرته، وتشرق بمرآة القلب الذي يتذوقها. ليست الدلالة في الحرف بحدّ ذاته، بل فيما يشع من المعنى وراء الحرف، ولا تكون الدلالة في ظاهر القول، بل فيما يفيض منه على روح الإنسان وقلبه. لغة الغيب إشراق نوراني، لا يُلمس بالحواس، بل يُعاش بالشعور، ويجري تذوقه في لحظة تتحقق فيها الكلمة بحضورها كضوء، وتتحول العبارة إلى مرآة لما وراءها. الأسماء والصفات الإلهية حاضرة بكثافة في لغة الغيب، لكن قراءتها في سياق كلامي تغلق نوافذ البصيرة وتحجبها عن استلهام ما يفيضه معناها.
عندما تُفسَّر أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية في سياقات المعجم الكلامي، تنطفئ دلالاتها، وتفقد قدرتها على إيقاظ المشاعر، واستنهاض الوجدان، وإلهام الإنسان المحبة والسلام. ويتحول مدلول اسم الله من كونه نداءً يتدفق من خلاله أسمى ما في الإنسان، إلى رمز سلطوي يُحمَّل بدلالات الترهيب والعقوبة والعذاب. ويمسي الكلام الإلهي من دعوة إلى الرحمة والجمال والطمأنينة والسكينة والسلام، إلى خطاب مشبع بالتسلط، منزوعة منه الحميمية والدفء والعفو والمغفرة. ما لم تتحرر لغة الغيب من أسر هذا المعجم المتراكم عبر السنين في اللاشعور الجمعي، وتُبعث فيها الدلالات الرؤيوية المنبعثة من إشراقات الأسماء الحسنى والصفات الإلهية، سيظل حضور الله في الشعور الديني محصورًا في صورة الحاكم المتسلط، لا الحبيب المحب، والرحمن الرحيم، والجميل الذي يتذوق الإنسان تجلياته المضيئة في الوجود، وينصت إلى صوته يتردد في أستغاثات وآهات الضحايا، ويشرق نوره في أعماق كيان البؤساء.
استحواذ الرؤية الكلامية على معاني النصوص الدينية أبعد الدين عن رسالته، وضيّق مجاله في بناء صلة بالله تستلهم أسمائه وصفاته وتجلياته الرحمانية، حتى غدت هذه الصلة، في المخيال الجمعي، مصدرًا لتغذية الخوف، وتكريس كابوس العقاب، بدلًا من أن تكون علاقة مفعمة بالمحبة والرحمة والسلام والطمأنينة. لم تعد أسماء الله تنبض بما تبثه من نور، وما تفيضه من سكينة، وما توقظه من شعور عميق بمعنى الحياة والوجود، بل استُهلكت في الجدل، وتخشبت في الحرف، وخبا فيها وهج اثراء الصلة بالله، ودفء الصلة الحميمة بمحبته ورحمته.
الدين لا يحقق حضوره في حياة الإنسان إلا حين ينعش في كيانه المعنى الروحي، ويوقظ ضميره الأخلاقي، ويغذي ذائقته الجمالية، ويعيد إليه إحساسه بغبطة الحياة بشهود النور الإلهي. عندما يختزل الدين في حدود المقولات الكلامية، تنطفئ الأنوار الرحمانية المنبثة بلغة الغيب، ويتحوّل إلى عبء ثقيل، بدلًا من أن يكون رسالة حب ورحمة وسلام وشفاء. الحياة الروحية لا تتكرس في مناخ يغيب فيه حضور الله بوصفه ملاذًا للمحب، ومصدرًا للطمأنينة، ومرفأً لسكينة الروح المتعبة.كما لا تنبعث القيم الأخلاقية من خطاب يحاصر الإنسان بالممنوعات، ويثقله بالوعيد والتهديد، بدلًا من أن يرشده بلطف ورفق إلى الخير، ويستنهض في أعماقه النداء الأخلاقي.
لا يشرق الجمال من لغة تصف الله بعبارات تقريرية جافة، لا تتصل بمشاعر الإنسان، ولا ينصت فيها إلى صوت الله، ولا يشهد أنواره. لغة كهذه تغلق أبواب التأمل، وتطفئ جذوة الشوق، ولا تتيح للإنسان تذوق النور الإلهي في لحظات الصفاء ونداءات القلب. إن استعادة وظيفة الدين بوصفه مسارًا لتتسامي بالنفس، وإنقاذ الإنسان من ظمئه الأنطولوجي وغربته الميتافيزيقية، لا تتم إلا بإحياء الأفق الرؤيوي للغة الغيب، تلك اللغة التي يستفيق بها ضمير الإنسان، وتستنهض وعيه، وتوقظ فيه الإحساس بالدهشة، وتبني صلة حيّة بينه وبين ربه، لا عبر الرهبة، بل من خلال المحبة والرحمة والعطف والرفق والسلام. اللغة التي ينبعث منها معنى يشد الإنسان إلى الله، ويضيء له درب النجاة، ويمنحه القدرة على استعادة ذاته في عالم يضج بالصخب، ويقسو فيه العيش، هي وحدها القادرة على مداواة القلب المنهك، وإنقاذ الإنسان من التيه، وإعادته إلى مكانته في الوجود.
لا يمكن استعادة حضور الله في قلب الإنسان إلا بتجديد تفسير لغة الغيب والأسماء الحسنى والصفات الإلهية الجمالية خارج أفق التراث المتراكم حول دلالاتها لدى المتكلمين، وتحريرها من أسر المعجم الكلامي، وإيقاظ دلالاتها التي تكرس الإيمان، وإحياء رمزيتها، وإزاحة الحجب التي تراكمت على تلك الأسماء والصفات، والانتباه إليها بوصفها منبعًا لما يمنح الحياة معناها، ويوقظ فيها الإحساس العميق بحضور بالله في الوجود. عندها فقط يمكن أن نستنطق هذه الأسماء في سياقها القرآني، ونفهمها بوصفها منارات للهداية، وشفاءً للروح، ومصدرًا لبناء علاقة محبة بين الإنسان والله، تتجلى فيها الرحمة قبل العقاب، والسلام قبل التسلط، والصلة الحميمة قبل الرهبة.
إعادة تأويل لغة الغيب ليست رفاهية يمكن تأجيلها، بل ضرورة ملحّة، لأن الدين لا يُعاش بعمق إلا إذا تحدّث بلغة تخاطب مشاعر الإنسان، وتسكن إليها روحه، وتعبر عن آلامه، وتفهم معاناته، وتجيبه بإغاثة ظمئه الوجودي، لا بلغة موروثة غريبة عن متطلباته الروحية واحتياجاته الوجودية. يفقد الدين أثره حين يصبح مرآة تنعكس عليها الرؤية الكلامية، ولا يسعف الإنسان في غربته، ولا يضيء عتمة وجوده، ولا يمنحه سلام الباطن.
اللغة الكلامية، بما هي لغة مقولات اعتقادية، لا تتسع للمعنى الغيبي الذي ترمز إليه آيات القرآن، ولا تحتمل طاقة الإيحاء الكامنة في أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية، ولا تفتح أفقًا للحياة الإيمانية الحيّة، والتعددية الدينية. لا تنتج هذه اللغة تدينًا ينبض بالسلام، بل تدينًا مسكونًا بالخوف، يفتقر إلى الدفء، وتشح فيه منابع الرحمة والمحبة والرفق والعفو والمغفرة والسلام الباطني، واحترام المختلف في المعتقد.
تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب لا تنتهي للاعتقاد بأن مَن يعتقد بمقولات فرقة كلامية معينة هو الوكيل الوحيد لله، والناطق الحصري باسمه في الأرض، وأنه هو فقط من له الحق بامتلاك الحقيقة دون سواه، بل تمنحه تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب رؤية فسيحة تسمح له بقبول تعددية المعتقَد واحترام الآخَر المختلف، بوصف الآخر مظهرًا وجوديًا لاسم من الأسماء الإلهية المتنوعة، فتكون التعددية في الأرض انعكاسًا لتعددية الأسماء في العالم الربوبي. الأسماء الإلهية مرآة تتجلى فيها الأنوار الإلهية بحسب استعداد القلب وصفاء الروح للتلقي. لأن لغة الغيب لغة رمزية رحبة، فإن الرؤية لله في سياقها تتنوع، وهكذا تتنوع الطرق إلى الله وتتعدد، كذلك تتنوع أنماط عبادة الله وتتعدد بحسب الأديان والمعتقدات. التعددية الدينية ليست نقيضًا لوحدانية الله، بل هي نتيجة لتعدد الطرق إليه، وتعدد تجلياته، وتنوع صوره في قلب الإنسان. حين تكون اللغة دالةً على الغيب، لا يمكن أن تنغلق على تأويل واحد، لذلك يختلف تلقيها، كما يتنوع تفسيرها، وتتعدد فيها طرق الصلة بالله، وتتنوع منازل الأرواح ومشاهدات القلوب. لا تعني التعددية الدينية تعدد الحقيقة، بل تعني تعدد الطرق إلى الحقيقة الواحدة، وتنوع طرائق تلقيها.كلُّ تجربة روحية صادقة مرآة ينعكس فيها شيء من اشراقات النور الإلهي، وكلما كانت تلك التجربة مشبعة بالمحبة والرحمة والرفق والعفو والسلام،كانت أسرع إلى شهود الأنوار الإلهية.
موضوعات الغيب في القرآن تشكّل ركنًا أساسيًا في الإيمان، إذ يفتتح القرآن وصف المتقين بقوله: "الذين يؤمنون بالغيب" (البقرة: 3). الغيب في القرآن ليس غيابًا عدميًا، بل هو شهود نوراني لعالم ما وراء المادة. يظهر في القرآن تقابل واضح بين عالم الغيب الغائب عن الحس، وعالم الشهادة المحسوس. تتصدر لغة الغيب كلمات: الله، والأسماء الحسنى، والصفات الجمالية والحلالية، والعرش والكرسي، واللوح المحفوظ. لا تتوفر لدي معطيات دقيقة حول المساحة التي تحتلها موضوعات الغيب ولغته في القرآن، غير أن بعض التقديرات تذهب إلى حضوره بحدود 30٪ من آياته، ويعد الغيب من أوسع المحاور التي تتناولها آياته. أحاول أن أشير إلى كثافة حضور الله، وأسمائه الحسنى، وصفاته، في سياق آيات الكتاب الكريم، ولا أتحدث عن موضوعات الغيب الأخرى في الكتاب مثل القيامة واليوم الآخر، بغية التدليل على أن محاولات تفسير هذه الآيات في ضوء الرؤية الكلامية تخرجها من سياقها، ولا تضيء دلالاتها، ولا تفتح أفقًا للإطلالة على ما تنشده من بناء الإيمان وتكريسه، وإثراء الحياة الروحية، خلافًا لما لو فسرناها في ضوء رؤيتنا لآيات الغيب في سياقها القرآني.
إعادة تأويل لغة الغيب ليست رفاهية يمكن تأجيلها، بل ضرورة ملحّة، لأن الدين لا يُعاش بعمق إلا إذا تحدّث بلغة تخاطب مشاعر الإنسان، وتسكن إليها روحه، وتعبر عن آلامه، وتفهم معاناته، وتجيبه بإغاثة ظمئه الوجودي، لا بلغة موروثة غريبة عن متطلباته الروحية واحتياجاته الوجودية. يفقد الدين أثره حين يصبح مرآة تنعكس عليها الرؤية الكلامية، ولا يسعف الإنسان في غربته، ولا يضيء عتمة وجوده، ولا يمنحه سلام الباطن.
اللغة الكلامية، بما هي لغة مقولات اعتقادية، لا تتسع للمعنى الغيبي الذي ترمز إليه آيات القرآن، ولا تحتمل طاقة الإيحاء الكامنة في أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية، ولا تفتح أفقًا للحياة الإيمانية الحيّة، والتعددية الدينية. لا تنتج هذه اللغة تدينًا ينبض بالسلام، بل تدينًا مسكونًا بالخوف، يفتقر إلى الدفء، وتشح فيه منابع الرحمة والمحبة والرفق والعفو والمغفرة والسلام الباطني، واحترام المختلف في المعتقد.
تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب لا تنتهي للاعتقاد بأن مَن يعتقد بمقولات فرقة كلامية معينة هو الوكيل الوحيد لله، والناطق الحصري باسمه في الأرض، وأنه هو فقط من له الحق بامتلاك الحقيقة دون سواه، بل تمنحه تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب رؤية فسيحة تسمح له بقبول تعددية المعتقَد واحترام الآخَر المختلف، بوصف الآخر مظهرًا وجوديًا لاسم من الأسماء الإلهية المتنوعة، فتكون التعددية في الأرض انعكاسًا لتعددية الأسماء في العالم الربوبي. الأسماء الإلهية مرآة تتجلى فيها الأنوار الإلهية بحسب استعداد القلب وصفاء الروح للتلقي. لأن لغة الغيب لغة رمزية رحبة، فإن الرؤية لله في سياقها تتنوع، وهكذا تتنوع الطرق إلى الله وتتعدد، كذلك تتنوع أنماط عبادة الله وتتعدد بحسب الأديان والمعتقدات. التعددية الدينية ليست نقيضًا لوحدانية الله، بل هي نتيجة لتعدد الطرق إليه، وتعدد تجلياته، وتنوع صوره في قلب الإنسان. حين تكون اللغة دالةً على الغيب، لا يمكن أن تنغلق على تأويل واحد، لذلك يختلف تلقيها، كما يتنوع تفسيرها، وتتعدد فيها طرق الصلة بالله، وتتنوع منازل الأرواح ومشاهدات القلوب. لا تعني التعددية الدينية تعدد الحقيقة، بل تعني تعدد الطرق إلى الحقيقة الواحدة، وتنوع طرائق تلقيها.كلُّ تجربة روحية صادقة مرآة ينعكس فيها شيء من اشراقات النور الإلهي، وكلما كانت تلك التجربة مشبعة بالمحبة والرحمة والرفق والعفو والسلام،كانت أسرع إلى شهود الأنوار الإلهية.
موضوعات الغيب في القرآن تشكّل ركنًا أساسيًا في الإيمان، إذ يفتتح القرآن وصف المتقين بقوله: "الذين يؤمنون بالغيب" (البقرة: 3). الغيب في القرآن ليس غيابًا عدميًا، بل هو شهود نوراني لعالم ما وراء المادة. يظهر في القرآن تقابل واضح بين عالم الغيب الغائب عن الحس، وعالم الشهادة المحسوس. تتصدر لغة الغيب كلمات: الله، والأسماء الحسنى، والصفات الجمالية والحلالية، والعرش والكرسي، واللوح المحفوظ. لا تتوفر لدي معطيات دقيقة حول المساحة التي تحتلها موضوعات الغيب ولغته في القرآن، غير أن بعض التقديرات تذهب إلى حضوره بحدود 30٪ من آياته، ويعد الغيب من أوسع المحاور التي تتناولها آياته. أحاول أن أشير إلى كثافة حضور الله، وأسمائه الحسنى، وصفاته، في سياق آيات الكتاب الكريم، ولا أتحدث عن موضوعات الغيب الأخرى في الكتاب مثل القيامة واليوم الآخر، بغية التدليل على أن محاولات تفسير هذه الآيات في ضوء الرؤية الكلامية تخرجها من سياقها، ولا تضيء دلالاتها، ولا تفتح أفقًا للإطلالة على ما تنشده من بناء الإيمان وتكريسه، وإثراء الحياة الروحية، خلافًا لما لو فسرناها في ضوء رؤيتنا لآيات الغيب في سياقها القرآني.
يتكرر لفظ الجلالة "الله" في القرآن الكريم 2699 مرة. إجمالي 2699 مرة يتضمن 114 مرة في البسملة، و2585 مرة في غير البسملة. أما إجمالي تكرار أسماء الله الحسنى فيبلغ أكثر من 1800 مرة تقريبًا، حسب اختلاف طرق العد الدقيقة والتكرار في السياق. الأسماء الجمالية في القرآن هي: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، اللطيف، الحليم، الكريم، الأكرم، الغفور، الغفار، العفو، الشكور، التواب، البر، الودود، الوهاب، الجواد، الحفي، الجميل، الصبور، النافع، المجيد، القريب، المجيب، الولي، الهادي، النصير، الوكيل، الكفيل، الحافظ، الحسيب، الكافي، الرازق، الفتاح، الباسط، المعطي، البديع، النور، الواسع، الحي، القيوم.
أما الأسماء الجلالية فهي: الله، الأحد، الصمد، الإله، الملك، المالك، مالك يوم الدين، العزيز، الجبار، المتكبر، القهار، القادر، القدير، المقتدر، القوي، المتين، العظيم، العلي، الأعلى، الكبير، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحق، الحكم، الحسيب، الشهيد، الرقيب، الحفيظ، المقيت، القائم، المنتقم، سريع الحساب، ذو الطول، ذو الجلال والإكرام، الغني، المغني، المانع، القابض، المذل، العدل، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، المحيط، البصير، السميع، العليم، الخبير. "الله" هو الاسم الأعظم الجامع لسائر الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا يُطلق إلا على الحقّ جلّ شأنه، وهو الاسم الأصل الذي ترجع إليه بقية الأسماء والصفات. وقد ورد في القرآن الكريم 60 اسمًا من أسماء الله الحسنى بصيغة الاسم الصريح.
ما ورد في القرآن الكريم من الصفات هي 81 صفة إلهية صريحة، تنوعت صيغها بين الاسم، والفعل، والجملة الوصفية والخبرية، فعبرت عن ذات الله وصفاته بأشكال متعددة. وما ورد بصيغة الاسم المباشر، في آيات القرآن: الرحمن، الرحيم، الغفور، العفو، التواب، الحليم، اللطيف، الكريم، الودود، الشكور، البر، القريب، المجيب، السلام، الهادي، العليم، السميع، البصير، الخبير، العزيز، الحكيم، العدل، الحق، القدير، الوكيل، الرقيب، الشهيد، القوي، المتين، الغني، الرازق، الفتاح، الوهاب، الحسيب، الحميد، الوارث، البديع، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحي، القيوم، الله، ذو الجلال والإكرام... وغيرها، وقد بلغ عددها 60 صفة. ومن الصفات ما ورد بصيغة الفعل، أو الجملة الوصفية أو الخبرية، في القرآن، مثل: كتب على نفسه الرحمة، وسعت رحمته كل شيء، يغفر الذنوب جميعا، يعفو عن كثير، لا يعجل بالعقوبة، يحب المحسنين، يحب التوابين، يحب المتطهرين، يدعو إلى دار السلام، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ما توسوس به النفس، يعلم السر وأخفى، غافر الذنب وقابل التوب، قريب مجيب، لطيف بعباده، رزّاق ذو القوة المتين، أرحم الراحمين، أحسن كل شيء خلقه، أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد...، وغير ذلك، وقد بلغ عدد هذه الصفات 21 صفة. مادام الله واحدًا في ذاته، متعددًا في تجلياته.
https://jabbaralrefae.com/%d8%aa%d8%ac%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%84%d9%87%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%8a%d8%a8/
أما الأسماء الجلالية فهي: الله، الأحد، الصمد، الإله، الملك، المالك، مالك يوم الدين، العزيز، الجبار، المتكبر، القهار، القادر، القدير، المقتدر، القوي، المتين، العظيم، العلي، الأعلى، الكبير، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحق، الحكم، الحسيب، الشهيد، الرقيب، الحفيظ، المقيت، القائم، المنتقم، سريع الحساب، ذو الطول، ذو الجلال والإكرام، الغني، المغني، المانع، القابض، المذل، العدل، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، المحيط، البصير، السميع، العليم، الخبير. "الله" هو الاسم الأعظم الجامع لسائر الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا يُطلق إلا على الحقّ جلّ شأنه، وهو الاسم الأصل الذي ترجع إليه بقية الأسماء والصفات. وقد ورد في القرآن الكريم 60 اسمًا من أسماء الله الحسنى بصيغة الاسم الصريح.
ما ورد في القرآن الكريم من الصفات هي 81 صفة إلهية صريحة، تنوعت صيغها بين الاسم، والفعل، والجملة الوصفية والخبرية، فعبرت عن ذات الله وصفاته بأشكال متعددة. وما ورد بصيغة الاسم المباشر، في آيات القرآن: الرحمن، الرحيم، الغفور، العفو، التواب، الحليم، اللطيف، الكريم، الودود، الشكور، البر، القريب، المجيب، السلام، الهادي، العليم، السميع، البصير، الخبير، العزيز، الحكيم، العدل، الحق، القدير، الوكيل، الرقيب، الشهيد، القوي، المتين، الغني، الرازق، الفتاح، الوهاب، الحسيب، الحميد، الوارث، البديع، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحي، القيوم، الله، ذو الجلال والإكرام... وغيرها، وقد بلغ عددها 60 صفة. ومن الصفات ما ورد بصيغة الفعل، أو الجملة الوصفية أو الخبرية، في القرآن، مثل: كتب على نفسه الرحمة، وسعت رحمته كل شيء، يغفر الذنوب جميعا، يعفو عن كثير، لا يعجل بالعقوبة، يحب المحسنين، يحب التوابين، يحب المتطهرين، يدعو إلى دار السلام، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ما توسوس به النفس، يعلم السر وأخفى، غافر الذنب وقابل التوب، قريب مجيب، لطيف بعباده، رزّاق ذو القوة المتين، أرحم الراحمين، أحسن كل شيء خلقه، أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد...، وغير ذلك، وقد بلغ عدد هذه الصفات 21 صفة. مادام الله واحدًا في ذاته، متعددًا في تجلياته.
https://jabbaralrefae.com/%d8%aa%d8%ac%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%84%d9%87%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%8a%d8%a8/
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
المتحدث العلامة الشيخ ريان توفيق أحد أبرز علماء الموصل.
التجديد في الفكر الإسلامي المعاصرالدكتور عبد الجبار الرفاعي(أنموذجا)
د. جواد كاظم سماري, مروة احمد حسن فرحان
https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2024/12/16/a0545d0a57749728061f8be72a739ec4.pdf
د. جواد كاظم سماري, مروة احمد حسن فرحان
https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2024/12/16/a0545d0a57749728061f8be72a739ec4.pdf
كتبت في نقد اسلمة المعرفة فصلين في مؤلفاتي، الأول في كتاب الدين والنزعة الإنسانية، بعنوان: (إسلامية المعرفة ايديولوجيا وليست معرفة)، وهي ورقة قدمتها سنة 2006 في المؤتمر الذي عقده المعهد العالمي للفكر الإسلامي في اسطنبول، بمناسبة مرور 25 سنة على تأسيسه، وكانت هي الورقة الوحيدة النقدية، انزعج المؤسسون، باستثناء الشيخ طه جابر العلواني رحمه الله الذي حثني على نشر الورقة، وقال ضروري هؤلاء ينصتون إلى صوتك. يقصد جماعته في المعهد.
الفصل الآخر في كتاب: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، بعنوان:
"عندما يتجاوز الدينُ حدودَه: أنسنة الإسلاميات لا أسلمة الإنسانيات".
الفصل الآخر في كتاب: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، بعنوان:
"عندما يتجاوز الدينُ حدودَه: أنسنة الإسلاميات لا أسلمة الإنسانيات".
غواية الكتابة
د. عبد الجبار الرفاعي
غوايةُ الكتابة واحدةٌ من نتائج غير محسوبة لعصر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. صار الهوسُ بالكتابة والنشر، بلا موهبة، ولا قراءة مكثفة، ولا تفكير صبور،كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوينٍ علمي. إذ يورث الحضورُ في تطبيقات وسائل التواصل إدمانَ الشهرة، وينهل هذا الإدمان أحياناً ما نهله الوهم من إدمان الهيروئين أوهامًا وتهويمًا في الفراغ ، مثلما أفرغ قناعُ السلطة المفاجئة على أشخاص إدمانًا من نوعٍ آخر، فيسعى مَن عمل سنوات طويلة من حياته مسؤولًا في سلطة، أو تنظيمٍ سياسي، بدولة أو مدينة صغيرة أو كبيرة، إلى حضور آخر في ميدان الأدب والثقافة والفن في الهزيع الأخير من عمره، يجهل أو يتجاهل أن الإنتاج الفكري والأدبي والفني متعذر تماماً بلا تكوينٍ مستمر وتفكيرٍ متأمل وتراكمٍ طويل لقراءات تتواصل العمرَ كلِّه. وإن أثبتت فوضى لا صدفة فيها إمكان أن يجد المرء نفسه في مواقع متقدمة من العمل السياسي، بلا تأهيلٍ سياسي واجتماعي وثقافي وبلا تجارب وخبرات، فيصل إلى مراكز متقدّمة بسرعة خاطفة؛ لمجرد الانخراط بجماعات سباق الامتيازات. تبقى مثل هذه الخروقات عصيّةً ولا تجد لها موطئ قدم في ضفاف الأدب والثقافة. التكوين الفكري، دائماً، يفرض سياقاتٍ فردية، تحتاج بدورها إلى قراءاتٍ تتسع لعمر الإنسان كلِّه، وتفكيرٍ مزمن ومران يوميّ على الكتابة، مضافاً إلى سياحةٍ متواصلة في الثقافات والآداب والفنون والمعارف والعلوم، وشغفٍ بالكتاب وولعٍ لا ينطفئ بالمطالعة. لا تتراكم الثقافاتُ والآداب والفنون والمعارف والعلوم وتتفاعل إلا في رحلة العمر الممتدة ومحطاته المتنوعة، ولا تتخصب وتنضج إلا ببطءٍ وزمن مديد.
موضةُ الرواية اليوم تستخفُ بمختلف أشكال الكتابة سواها، بعد أن تحولت إلى هوسٍ صاخب يثيرُ الغثيان. سألني شخصٌ ممن تقدم به العمرُ، لا شغف له بالقراءة، ولا علاقة له بالكتاب والمكتبات، أنه يريد أن يبدأ بكتابة رواية فماذا يفعل؟
قلت له: الكتابة الإبداعية لا تولد بقرار، أنا لستُ روائيًا ولا ناقدًا، ولم أجرؤ حتى اليوم على كتابة رواية. الرواية من أثمن أجناس الكتابة وأغناها وأصعبها احترافًا. ليست الروايةُ تكديسَ ألفاظ أو حكايات مبعثرة، الرواية تتطلب من الكاتب موهبةً ومهارة لن تكونا طيّعتين إلا بعد تراكمٍ معرفي وجمالي واسع وعميق، ومطالعاتٍ غزيرة لأعظم الروائيين العالمين والعرب، وتمارين شاقة على الكتابة تصل حدَّ الانهاك. تتناغم في فضاء الرواية أجناسٌ كتابية وفنون ومعارف متنوعة، ما يحتاج معها الروائي، مضافًا إلى الموهبة، ثقافةً موسوعية يلتقي فيها مختلفُ أنواع الثقافات والآداب والفنون والمعارف، وشغفًا مبكرًا بالمطالعات المتنوعة. ليس هناك نصٌّ يبدأ من لا شيء، النصُّ المكثّفُ نسيجٌ يحيلُ إلى ما يختزنه الكاتبُ من نصوص قرأها في مراحل متوالية من حياته. تتجلى براعةُ الكاتب في استلهام ما يمده به الخزّانُ المترسب من قراءاته في أعماقه، وقدرته على الابداع.
كاتب الرواية المبدع يحتاج مدةً طويلة من القراءة وزيارات ميدانية، والتشبع بمناخات أماكن وأزمنة أحداث روايته وأبطالها. بعض الكتّاب يمضي مدة طويلة في التحضير لعمله الروائي أحيانًا، ربما يتطلب التحضيرُ للرواية عدة سنوات. قرأت لأمبرتو إيكو أنه أمضى ثمان سنوات من أجل كتابة بندول فوكو، يقول: "في الفترة التي كنت أحضّر فيها لكتابة روايتي بندول فوكو، قضيت ليالي بأكملها أتجول في ردهات معهد الفنون والحرف في باريس، حيث تدور بعض أحداث القصة، إلى أن يغلق أبوابه. ومن أجل وصف تجوال كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد إلى ساحة ليفوج، ثم إلى برج إيفل، قضيت ليالي كثيرة أتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً، أهمس في مسجل مدوناً ملاحظاتي حول ما أرى، ولكي لا أخطئ في أسماء الأزقة والمدارات" . ويحتاج كاتب الرواية إلى اعتكاف طويل وعزلة وتفرغ بعيدًا عن الناس ومشاغل الحياة اليومية. يكتب الروائي الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق: "لمدة ثلاثين عامًا كنت أقضي معدل عشر ساعات يوميًا وحدي في غرفة، أجلس إلى مكتبي. وإذا أحصيت فقط العمل الجيد الذي يمكن نشره، فإن معدل اليومي سيكون أقل كثيرًا من نصف صفحة. فمعظم ما أكتبه لا يرقى إلى ما أرى أنه المعيار القياسي للجودة في نظري... لكي أكتب جيدًا، لابد أولاً أن أشعر بالملل حتى الجنون، ولكي أشعر بالملل حتى الجنون، لا بد أن أدخل فى الحياة" .
د. عبد الجبار الرفاعي
غوايةُ الكتابة واحدةٌ من نتائج غير محسوبة لعصر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. صار الهوسُ بالكتابة والنشر، بلا موهبة، ولا قراءة مكثفة، ولا تفكير صبور،كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوينٍ علمي. إذ يورث الحضورُ في تطبيقات وسائل التواصل إدمانَ الشهرة، وينهل هذا الإدمان أحياناً ما نهله الوهم من إدمان الهيروئين أوهامًا وتهويمًا في الفراغ ، مثلما أفرغ قناعُ السلطة المفاجئة على أشخاص إدمانًا من نوعٍ آخر، فيسعى مَن عمل سنوات طويلة من حياته مسؤولًا في سلطة، أو تنظيمٍ سياسي، بدولة أو مدينة صغيرة أو كبيرة، إلى حضور آخر في ميدان الأدب والثقافة والفن في الهزيع الأخير من عمره، يجهل أو يتجاهل أن الإنتاج الفكري والأدبي والفني متعذر تماماً بلا تكوينٍ مستمر وتفكيرٍ متأمل وتراكمٍ طويل لقراءات تتواصل العمرَ كلِّه. وإن أثبتت فوضى لا صدفة فيها إمكان أن يجد المرء نفسه في مواقع متقدمة من العمل السياسي، بلا تأهيلٍ سياسي واجتماعي وثقافي وبلا تجارب وخبرات، فيصل إلى مراكز متقدّمة بسرعة خاطفة؛ لمجرد الانخراط بجماعات سباق الامتيازات. تبقى مثل هذه الخروقات عصيّةً ولا تجد لها موطئ قدم في ضفاف الأدب والثقافة. التكوين الفكري، دائماً، يفرض سياقاتٍ فردية، تحتاج بدورها إلى قراءاتٍ تتسع لعمر الإنسان كلِّه، وتفكيرٍ مزمن ومران يوميّ على الكتابة، مضافاً إلى سياحةٍ متواصلة في الثقافات والآداب والفنون والمعارف والعلوم، وشغفٍ بالكتاب وولعٍ لا ينطفئ بالمطالعة. لا تتراكم الثقافاتُ والآداب والفنون والمعارف والعلوم وتتفاعل إلا في رحلة العمر الممتدة ومحطاته المتنوعة، ولا تتخصب وتنضج إلا ببطءٍ وزمن مديد.
موضةُ الرواية اليوم تستخفُ بمختلف أشكال الكتابة سواها، بعد أن تحولت إلى هوسٍ صاخب يثيرُ الغثيان. سألني شخصٌ ممن تقدم به العمرُ، لا شغف له بالقراءة، ولا علاقة له بالكتاب والمكتبات، أنه يريد أن يبدأ بكتابة رواية فماذا يفعل؟
قلت له: الكتابة الإبداعية لا تولد بقرار، أنا لستُ روائيًا ولا ناقدًا، ولم أجرؤ حتى اليوم على كتابة رواية. الرواية من أثمن أجناس الكتابة وأغناها وأصعبها احترافًا. ليست الروايةُ تكديسَ ألفاظ أو حكايات مبعثرة، الرواية تتطلب من الكاتب موهبةً ومهارة لن تكونا طيّعتين إلا بعد تراكمٍ معرفي وجمالي واسع وعميق، ومطالعاتٍ غزيرة لأعظم الروائيين العالمين والعرب، وتمارين شاقة على الكتابة تصل حدَّ الانهاك. تتناغم في فضاء الرواية أجناسٌ كتابية وفنون ومعارف متنوعة، ما يحتاج معها الروائي، مضافًا إلى الموهبة، ثقافةً موسوعية يلتقي فيها مختلفُ أنواع الثقافات والآداب والفنون والمعارف، وشغفًا مبكرًا بالمطالعات المتنوعة. ليس هناك نصٌّ يبدأ من لا شيء، النصُّ المكثّفُ نسيجٌ يحيلُ إلى ما يختزنه الكاتبُ من نصوص قرأها في مراحل متوالية من حياته. تتجلى براعةُ الكاتب في استلهام ما يمده به الخزّانُ المترسب من قراءاته في أعماقه، وقدرته على الابداع.
كاتب الرواية المبدع يحتاج مدةً طويلة من القراءة وزيارات ميدانية، والتشبع بمناخات أماكن وأزمنة أحداث روايته وأبطالها. بعض الكتّاب يمضي مدة طويلة في التحضير لعمله الروائي أحيانًا، ربما يتطلب التحضيرُ للرواية عدة سنوات. قرأت لأمبرتو إيكو أنه أمضى ثمان سنوات من أجل كتابة بندول فوكو، يقول: "في الفترة التي كنت أحضّر فيها لكتابة روايتي بندول فوكو، قضيت ليالي بأكملها أتجول في ردهات معهد الفنون والحرف في باريس، حيث تدور بعض أحداث القصة، إلى أن يغلق أبوابه. ومن أجل وصف تجوال كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد إلى ساحة ليفوج، ثم إلى برج إيفل، قضيت ليالي كثيرة أتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً، أهمس في مسجل مدوناً ملاحظاتي حول ما أرى، ولكي لا أخطئ في أسماء الأزقة والمدارات" . ويحتاج كاتب الرواية إلى اعتكاف طويل وعزلة وتفرغ بعيدًا عن الناس ومشاغل الحياة اليومية. يكتب الروائي الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق: "لمدة ثلاثين عامًا كنت أقضي معدل عشر ساعات يوميًا وحدي في غرفة، أجلس إلى مكتبي. وإذا أحصيت فقط العمل الجيد الذي يمكن نشره، فإن معدل اليومي سيكون أقل كثيرًا من نصف صفحة. فمعظم ما أكتبه لا يرقى إلى ما أرى أنه المعيار القياسي للجودة في نظري... لكي أكتب جيدًا، لابد أولاً أن أشعر بالملل حتى الجنون، ولكي أشعر بالملل حتى الجنون، لا بد أن أدخل فى الحياة" .
قوة الرواية تعكسها قدرتها على تصوير نشيج صوت الإنسان المعذَّب المكبوت للقراء، بلغة عذبة واضحة مقتصدة مكتفية بذاتها، ذلك الصوت الذي يتصاعد فيبلغ حد الصراخ المختنق بالأسى، مما اكتوت بمرارته هي، وما نكتوي فيه نحن، من تقاليد وأعراف متشددة، فرضها في مجتمعاتنا التعصب الموروث، ولبثت تتراكم وتترسب لعدة قرون، وترسبت داخل الإنسان بعقد نفسية،كان ضحاياها في مختلف العصور الطفولة والمرأة والرقيق وكل البؤساء المقهورين، ممن تعرضوا للتمييز والاضطهاد والتعسف والإقصاء، على أساس العرق واللون أو الدين أو الجنس. قوة الكتابة السردية في قدرتها على البوح بما نقوله في السر، وما لا نستطيع التعبير عنه بلساننا، وكشفها لمأساة الإنسان وغربته وقلقه الوجودي، وتشريحها لبنية الاستعباد وتعبيراته المتنوعة في التربية والتعليم والثقافة واللغة والقيم المجتمعية السائدة، وحضوره في السلطة والعائلة والمدرسة والمؤسسة والمجتمع.
الروائي الحاذق لا يقف عند القراءة والتخيّل، بل يجد نفسَه يتقمّص أدوارَ أبطال روايته ومواقفهم، ويتموضع في أماكنها وأزمنة حوادثها، وينصهر بوقائعها، يعيش الأحداثَ ويتماهى مع الشخصيات ويسكن الأماكنَ وتسكنه. لفرط شغف الروائي يقع في فضاء الحدث ويتلبّس به كأنه هو مَن عاشه، ويلبث فيه مادام يفكر ويتخيل ويكتب عمله، لا يستطيع أن ينفكّ عنه في اليقظة، وعادة ما يلاحقه في نومه وأحلامه وكوابيسه. لا يمكنه نسيانُ حضور شخصيات روايته، يتوحّد معها إلى حدٍّ تتغلّب مشاعرهم على مشاعره وينعكس صدى انفعالاتِهم ومواقفهم في انفعالاته ومواقفه، تقول الروائية جاكلين ويلسون: "أتحول إلى الشخصية الرئيسية في رواياتي، ونادرًا ما أدرك أن أصابعي تكتب على لوحة المفاتيح، بسبب إحساسي بكل مشاعر تلك الشخصية من عينيها... ولطالما ذهبت إلى النوم وأنا أفكر في شخصياتي، وعندما استيقظ أجد تلك الشخصيات في رأسي، فأكون على استعداد للكتابة مرةً أخرى" . لفرط اندكاكه بكلِّ شيء في روايته ربما يأخذ الروائي شيئًا من كلِّ شيءٍ فيها إلى المستقبل، ولعمق تقمّصه لكلِّ التفاصيل وما يقع فيها تكون شخصيتُه حالةَ الكتابة كأنها صورةُ رواياته ورواياتِه صورةُ شخصيته. يتحدث نجيب محفوظ عن كمال عبد الجواد بطل ثلاثيته فيقول: "الأزمة الفكرية الخاصة بكمال هي أزمتي... التطور العقلي لكمال أذكر انني مررت به خطوة خطوة" .
تفرض الكتابةُ على الذهن أن يفكر بعمق في كلّ كلمة، اللغة ليست أداةَ تواصل فقط،كلّ كلمة تستبطن، منذ نشأتها وعبر رحلتها الطويلة، معاني مستترة وأخرى مندثرة. تطويعُ لغة الكتابة أشدُّ امتحانات كلِّ كاتب، غالباً ما تظهرُ حذاقةُ الكاتب في القدرة على الاستمرار بتغذّية الذهن بكلماتٍ يسطعُ ألقُها ويرتسمُ معناها بذهن القارئ، وبراعته في حرصه على عدم استنفاد ما تختزنه ذاكرتُه من هذا النوع من الكلمات. لغة الكتابة الجيدة صافية، أفكارها واضحة، أسلوبها يتقن اقتصادَ الألفاظ، لا تغرقه كلماتٌ لا تقول شيئًا. تكتب الروائية إيزابيل الليندي: "أنا أصحح إلى حد الإنهاك، وفي النهاية أستسلم. الرواية دائمًا غير منتهية تمامًا، ودائمًا ما أفترض بأنها يمكن أن تكون أفضل، ولكنني أبذل قصارى جهدي... أن تستعبدك حكاية فهذا مرض. إنني أحملُ القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، في جميع الأوقات. كلُّ شيء أراه، كل شيء يحدث، يشعرني بأن الكون يتحدث معي لأنني أوصل القصة... لا أزال خائفة من امتناع قدرتي عن الكتابة. الأمر أشبه بابتلاع الرمل، إنه مروّع" .
يرى الروائي المبدعُ صورةَ العالم في أصغر الأشياء في عينه وأقصاها عنه، يرى كهلًا في طفل، يرى غابةً في شجرة، يرى جبلًا في صخرة، يرى شلالًا في قطرة، يمكن أن يرى في أصغر شيء كلَّ شيء. المبدعُ يتحسّس ما لا يتحسّسه غيرُه، وينفعل بما لا ينفعل به غيرُه، ويتألم بما لا يؤلم غيرَه، ويكتئب بما لا يكتئب به غيرُه، ويبتهج بما لا يبهج غيرُه.كأنه يرى جزئيات كلّ شيء وذراته بمجهرٍ يضيء التفاصيلَ الهامشية بما يعجز عن رؤيته غيرُه.كلُّ قصة مادة ثرية لتأليف رواية ترسم لنا شيئًا من تجليات أعماق النفس الإنسانية، وتكشف ملامحَ صورة الإنسان ومختلف أحواله وهواجسه وقلقه وتناقضاته، والعالَم الذي يعيش فيه. حياةُ كلّ إنسان قصةٌ بل سلسلةُ قصص لا تكرّرها حياةُ إنسان آخر.كلُّ شيء في هذا العالم قصة، الكتابُ قصة، القصيدةُ قصة، الكلمةُ قصة، البذرةُ قصة، النبتةُ قصة، الوردةُ قصة، الشجرةُ قصة.كلُّ علاقة لإنسان بإنسان، كلُّ حدث، كلُّ نجاح، كلُّ فشل،كلُّ حزن، كلُّ فرح، كلُّ شيء مهما كان قصة تتسم بفرادة. تحكي كلُّ قصةٍ تميّز هذا الكائن واختلاف أحواله ومواقفه وانفعالاته وأفعاله. يقول يونغ: "في بعض الأحيان تستطيع شجرةٌ إخبارك أكثر مما تستطيع الكتبُ إخبارك به" .
الروائي الحاذق لا يقف عند القراءة والتخيّل، بل يجد نفسَه يتقمّص أدوارَ أبطال روايته ومواقفهم، ويتموضع في أماكنها وأزمنة حوادثها، وينصهر بوقائعها، يعيش الأحداثَ ويتماهى مع الشخصيات ويسكن الأماكنَ وتسكنه. لفرط شغف الروائي يقع في فضاء الحدث ويتلبّس به كأنه هو مَن عاشه، ويلبث فيه مادام يفكر ويتخيل ويكتب عمله، لا يستطيع أن ينفكّ عنه في اليقظة، وعادة ما يلاحقه في نومه وأحلامه وكوابيسه. لا يمكنه نسيانُ حضور شخصيات روايته، يتوحّد معها إلى حدٍّ تتغلّب مشاعرهم على مشاعره وينعكس صدى انفعالاتِهم ومواقفهم في انفعالاته ومواقفه، تقول الروائية جاكلين ويلسون: "أتحول إلى الشخصية الرئيسية في رواياتي، ونادرًا ما أدرك أن أصابعي تكتب على لوحة المفاتيح، بسبب إحساسي بكل مشاعر تلك الشخصية من عينيها... ولطالما ذهبت إلى النوم وأنا أفكر في شخصياتي، وعندما استيقظ أجد تلك الشخصيات في رأسي، فأكون على استعداد للكتابة مرةً أخرى" . لفرط اندكاكه بكلِّ شيء في روايته ربما يأخذ الروائي شيئًا من كلِّ شيءٍ فيها إلى المستقبل، ولعمق تقمّصه لكلِّ التفاصيل وما يقع فيها تكون شخصيتُه حالةَ الكتابة كأنها صورةُ رواياته ورواياتِه صورةُ شخصيته. يتحدث نجيب محفوظ عن كمال عبد الجواد بطل ثلاثيته فيقول: "الأزمة الفكرية الخاصة بكمال هي أزمتي... التطور العقلي لكمال أذكر انني مررت به خطوة خطوة" .
تفرض الكتابةُ على الذهن أن يفكر بعمق في كلّ كلمة، اللغة ليست أداةَ تواصل فقط،كلّ كلمة تستبطن، منذ نشأتها وعبر رحلتها الطويلة، معاني مستترة وأخرى مندثرة. تطويعُ لغة الكتابة أشدُّ امتحانات كلِّ كاتب، غالباً ما تظهرُ حذاقةُ الكاتب في القدرة على الاستمرار بتغذّية الذهن بكلماتٍ يسطعُ ألقُها ويرتسمُ معناها بذهن القارئ، وبراعته في حرصه على عدم استنفاد ما تختزنه ذاكرتُه من هذا النوع من الكلمات. لغة الكتابة الجيدة صافية، أفكارها واضحة، أسلوبها يتقن اقتصادَ الألفاظ، لا تغرقه كلماتٌ لا تقول شيئًا. تكتب الروائية إيزابيل الليندي: "أنا أصحح إلى حد الإنهاك، وفي النهاية أستسلم. الرواية دائمًا غير منتهية تمامًا، ودائمًا ما أفترض بأنها يمكن أن تكون أفضل، ولكنني أبذل قصارى جهدي... أن تستعبدك حكاية فهذا مرض. إنني أحملُ القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، في جميع الأوقات. كلُّ شيء أراه، كل شيء يحدث، يشعرني بأن الكون يتحدث معي لأنني أوصل القصة... لا أزال خائفة من امتناع قدرتي عن الكتابة. الأمر أشبه بابتلاع الرمل، إنه مروّع" .
يرى الروائي المبدعُ صورةَ العالم في أصغر الأشياء في عينه وأقصاها عنه، يرى كهلًا في طفل، يرى غابةً في شجرة، يرى جبلًا في صخرة، يرى شلالًا في قطرة، يمكن أن يرى في أصغر شيء كلَّ شيء. المبدعُ يتحسّس ما لا يتحسّسه غيرُه، وينفعل بما لا ينفعل به غيرُه، ويتألم بما لا يؤلم غيرَه، ويكتئب بما لا يكتئب به غيرُه، ويبتهج بما لا يبهج غيرُه.كأنه يرى جزئيات كلّ شيء وذراته بمجهرٍ يضيء التفاصيلَ الهامشية بما يعجز عن رؤيته غيرُه.كلُّ قصة مادة ثرية لتأليف رواية ترسم لنا شيئًا من تجليات أعماق النفس الإنسانية، وتكشف ملامحَ صورة الإنسان ومختلف أحواله وهواجسه وقلقه وتناقضاته، والعالَم الذي يعيش فيه. حياةُ كلّ إنسان قصةٌ بل سلسلةُ قصص لا تكرّرها حياةُ إنسان آخر.كلُّ شيء في هذا العالم قصة، الكتابُ قصة، القصيدةُ قصة، الكلمةُ قصة، البذرةُ قصة، النبتةُ قصة، الوردةُ قصة، الشجرةُ قصة.كلُّ علاقة لإنسان بإنسان، كلُّ حدث، كلُّ نجاح، كلُّ فشل،كلُّ حزن، كلُّ فرح، كلُّ شيء مهما كان قصة تتسم بفرادة. تحكي كلُّ قصةٍ تميّز هذا الكائن واختلاف أحواله ومواقفه وانفعالاته وأفعاله. يقول يونغ: "في بعض الأحيان تستطيع شجرةٌ إخبارك أكثر مما تستطيع الكتبُ إخبارك به" .
تكتب سفيتلانا أليكسيفيتش الحائزة على جائزة نوبل سنة 2015: "اخترت نوعا تتكلم فيه الأصوات البشرية تلقائياً من غير وسيط... لا أسجل التاريخ المجرد والحقائق الجافة، أنا أكتب تاريخ المشاعر الإنسانية، ما يفكر به الناس، وما يسمعونه أو يبتكرونه خلال وقوع الأحداث، ما يؤمنون به أو ما لا يثقون به، ما يتوهمونه، والآمال والمخاوف التي يمرون بها... لقد استغرقت ثلاث أو أربع سنوات لكتابة كل واحد من كتبي. أنا أصادف وأسجل لقاءاتي مع ٥٠٠-٧٠٠ شخص في كل كتاب. التاريخ الذي أكتبه يضم عدة أجيال، يبدأ من ذكريات الناس الذين عاصروا ثورة ١٩١٧ ومروا بالحروب وبكولاك ستالين، ووصلوا إلى وقتنا الراهن سالمين. هذه هي حكاية الروح الروسية السوفييتية" .
لا يجد الكاتبُ نفسَه على حالة واحدة حين يكتب، ربما يكتب نصًا لحظة توهجٍ ما لن يعود قادرًا على كتابة ما يشبهه في لحظة آتية. الكاتبُ الحقيقي مبدع، الإبداع اختراقٌ للقوانين المتعارَفة للكتابة وخروجٌ على الطرق المرسومة من قبل، ومغادرةٌ للأساليب المملة. أحيانًا يعجب الكاتبَ نصٌّ، ينزلق قلمَه عندما يحاول تقليده، لا هو ارتقى إلى لغته، ولا استطاع أن ينتج نصَّه الخاص. أحيانًا يحاول أن يستأنف محاكاةَ نصِّه الذي أنتجه كما هو مرةً أخرى، فيجد قلمَه يعاند تكرارَ التجربة مهما حاول أن يكرهَه على ذلك.
النصُّ كائن حيّ يختلف باختلاف مثابرة وموهبة ولغة وعصر وحالة مَن يكتبه. لو كان الكاتبُ يكرّرُ ما يكتبُه غيرُه ويطابقُه، لأصبحت الكتابةُ نسخةً واحدة، ولما تمايز كاتبٌ عن كاتبٍ وإبداعٌ عن إبداع، ولصار كلُّ الروائيين دوستويفسكي، وكلُّ الفلاسفة إيمانويل كانط، وكلُّ العرفاء النفّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، وكلُّ الأدباء العرب الجاحظ وطه حسين ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف.
https://alzawraapaper.com/content.php?id=378860
لا يجد الكاتبُ نفسَه على حالة واحدة حين يكتب، ربما يكتب نصًا لحظة توهجٍ ما لن يعود قادرًا على كتابة ما يشبهه في لحظة آتية. الكاتبُ الحقيقي مبدع، الإبداع اختراقٌ للقوانين المتعارَفة للكتابة وخروجٌ على الطرق المرسومة من قبل، ومغادرةٌ للأساليب المملة. أحيانًا يعجب الكاتبَ نصٌّ، ينزلق قلمَه عندما يحاول تقليده، لا هو ارتقى إلى لغته، ولا استطاع أن ينتج نصَّه الخاص. أحيانًا يحاول أن يستأنف محاكاةَ نصِّه الذي أنتجه كما هو مرةً أخرى، فيجد قلمَه يعاند تكرارَ التجربة مهما حاول أن يكرهَه على ذلك.
النصُّ كائن حيّ يختلف باختلاف مثابرة وموهبة ولغة وعصر وحالة مَن يكتبه. لو كان الكاتبُ يكرّرُ ما يكتبُه غيرُه ويطابقُه، لأصبحت الكتابةُ نسخةً واحدة، ولما تمايز كاتبٌ عن كاتبٍ وإبداعٌ عن إبداع، ولصار كلُّ الروائيين دوستويفسكي، وكلُّ الفلاسفة إيمانويل كانط، وكلُّ العرفاء النفّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، وكلُّ الأدباء العرب الجاحظ وطه حسين ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف.
https://alzawraapaper.com/content.php?id=378860
جريدة الزوراء العراقية
غــــواية الكتـابـــة
غوايةُ الكتابة واحدةٌ من نتائج غير محسوبة لعصر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. صار الهوسُ بالكتابة والنشر، بلا موهبة، ولا قراءة مكثفة، ولا تفكير صبور،كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوينٍ علمي. إذ يورث الحضورُ في
[](https://jabbaralrefae.com/tag/%25D9%2581%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%2581%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AF%25D9%258A%25D9%2586/)
علم الكلام الجديد، في رؤية الرفاعي، يستند إلى الثالوث الفلسفي الذي وضعه في هذه الثلاثية: 1. الظمأ الأنطولوجي، 2. الاغتراب الميتافيزيقي، 3. الإنسانية الإيمانية.
فالظمأ الأنطولوجي هو الدافع الأساسي للتفكير الديني، حيث يمثل السؤال الوجودي الأول الذي يحرك الإنسان نحو البحث عن المعنى. والاغتراب الميتافيزيقي هو التحدي الذي يواجه هذا البحث، نتيجة الأدلجة والانحراف عن الجوهر الروحي للدين. أما فضاء الإنسانية الإيمانية فهو الحل، حيث يتم استعادة الدين كتجربة وجودية تحرر الإنسان من الاغتراب وتروي ظمأه الأنطولوجي.
يؤسس الرفاعي علم الكلام الجديد على مبدأ نقد ترحيل الدين إلى الأيديولوجيا، وإعادة الاعتبار للعقل والتجربة الإنسانية في التفكير الديني. ركز على الوحي كظاهرة ميتافيزيقية تتفاعل مع الواقع الاجتماعي والإنساني. ويسعى علم الكلام الجديد لدى الرفاعي إلى تحرير الفكر الديني من الجزمية والقمعية والإكراه، وإعادة صياغته كمشروع مفتوح يحترم تعددية الرؤى وتنوع الطرق إلى الحقيقة.[](https://jabbaralrefae.com/tag/%25D9%2581%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%2581%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AF%25D9%258A%25D9%2586/)
الخلاصة: الثالوث الفلسفي لتجديد الفكر الديني الذي وضعه ال الرفاعي:
يشكل الظمأ الأنطولوجي نقطة البداية، كتعبير عن النزوع الإنساني الأصيل نحو الله. حيث يؤدي فقدان الصلة بالله، بفعل الأدلجة، إلى الاغتراب الميتافيزيقي، الذي يترك الإنسان في فراغ وجودي. يقدم الرفاعي فضاء الإنسانية الإيمانية كأفق للارتواء، حيث يستعيد الدين دوره كمصدر للمعنى والكرامة، متجاوزًا القيود الأيديولوجية. هذا الثالوث – الظمأ، الاغتراب، والإنسانية الإيمانية – يشكل أساس علم الكلام الجديد، الذي يهدف إلى تجديد التفكير الديني عبر نهج فلسفي يجمع بين العقل والروح، والوحي والتجربة الإنسانية، في سعي دائم نحو الحقيقة النسبية التي تتعدد وجوهها بتعدد زوايا النظر إليها.
هكذا، يقدم الرفاعي مشروعًا فلسفيًا عميقًا يعيد الدين إلى أصله الأنطولوجي، ويحرره من قيود الأيديولوجيا، ويؤسس لتفكير ديني يحترم كرامة الإنسان وحريته في البحث عن المعنى.[](https://jabbaralrefae.com/tag/%25D9%2581%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%2581%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AF%25D9%258A%25D9%2586/)[](https://www.hindawi.org/contributors/81287234/)[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
علم الكلام الجديد، في رؤية الرفاعي، يستند إلى الثالوث الفلسفي الذي وضعه في هذه الثلاثية: 1. الظمأ الأنطولوجي، 2. الاغتراب الميتافيزيقي، 3. الإنسانية الإيمانية.
فالظمأ الأنطولوجي هو الدافع الأساسي للتفكير الديني، حيث يمثل السؤال الوجودي الأول الذي يحرك الإنسان نحو البحث عن المعنى. والاغتراب الميتافيزيقي هو التحدي الذي يواجه هذا البحث، نتيجة الأدلجة والانحراف عن الجوهر الروحي للدين. أما فضاء الإنسانية الإيمانية فهو الحل، حيث يتم استعادة الدين كتجربة وجودية تحرر الإنسان من الاغتراب وتروي ظمأه الأنطولوجي.
يؤسس الرفاعي علم الكلام الجديد على مبدأ نقد ترحيل الدين إلى الأيديولوجيا، وإعادة الاعتبار للعقل والتجربة الإنسانية في التفكير الديني. ركز على الوحي كظاهرة ميتافيزيقية تتفاعل مع الواقع الاجتماعي والإنساني. ويسعى علم الكلام الجديد لدى الرفاعي إلى تحرير الفكر الديني من الجزمية والقمعية والإكراه، وإعادة صياغته كمشروع مفتوح يحترم تعددية الرؤى وتنوع الطرق إلى الحقيقة.[](https://jabbaralrefae.com/tag/%25D9%2581%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%2581%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AF%25D9%258A%25D9%2586/)
الخلاصة: الثالوث الفلسفي لتجديد الفكر الديني الذي وضعه ال الرفاعي:
يشكل الظمأ الأنطولوجي نقطة البداية، كتعبير عن النزوع الإنساني الأصيل نحو الله. حيث يؤدي فقدان الصلة بالله، بفعل الأدلجة، إلى الاغتراب الميتافيزيقي، الذي يترك الإنسان في فراغ وجودي. يقدم الرفاعي فضاء الإنسانية الإيمانية كأفق للارتواء، حيث يستعيد الدين دوره كمصدر للمعنى والكرامة، متجاوزًا القيود الأيديولوجية. هذا الثالوث – الظمأ، الاغتراب، والإنسانية الإيمانية – يشكل أساس علم الكلام الجديد، الذي يهدف إلى تجديد التفكير الديني عبر نهج فلسفي يجمع بين العقل والروح، والوحي والتجربة الإنسانية، في سعي دائم نحو الحقيقة النسبية التي تتعدد وجوهها بتعدد زوايا النظر إليها.
هكذا، يقدم الرفاعي مشروعًا فلسفيًا عميقًا يعيد الدين إلى أصله الأنطولوجي، ويحرره من قيود الأيديولوجيا، ويؤسس لتفكير ديني يحترم كرامة الإنسان وحريته في البحث عن المعنى.[](https://jabbaralrefae.com/tag/%25D9%2581%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%2581%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AF%25D9%258A%25D9%2586/)[](https://www.hindawi.org/contributors/81287234/)[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
أسس فلسفة عبد الجبار الرفاعي الدينية في سياق مؤلفاته الأساسية:
تتجلى في أعمال الرفاعي الرئيسية رؤيته لتجديد الفكر الديني في الإسلام، وهذه الأعمال هي: *الدين والظمأ الأنطولوجي*، *الدين والاغتراب الميتافيزيقي*، *الدين والكرامة الإنسانية*، *الدين والنزعة الإنسانية*، و*مقدمة في علم الكلام الجديد*، التي تشكل نسيجًا معرفيًا عميقًا يسعى إلى إعادة تأسيس التفكير الديني على أسس أنطولوجية وروحية واخلاقية وجمالية، متجاوزًا الأطر الأيديولوجية التقليدية. في هذا النص، سنستكشف كيف يتفاعل "الظمأ الأنطولوجي" مع "الاغتراب الميتافيزيقي"، وكيف يجدان ارتواءهما في "فضاء الإنسانية الإيمانية"، وكيف يشكل هذا الثالوث الأساس الذي اشتق منه الرفاعي رؤيته لتأسيس علم الكلام الجديد، بنهج فلسفي دقيق وعميق.
الظمأ الأنطولوجي: العطش إلى الارتواء من المقدس
في كتاب *الدين والظمأ الأنطولوجي*، يعرّف الرفاعي الظمأ الأنطولوجي بأنه "الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود"، وهو عطش كينوني ينبع من أعماق الإنسان بوصفه كائنًا ميتافيزيقيًا يبحث عن معنى لوجوده. هذا الظمأ ليس مجرد رغبة عابرة، بل هو نزوع وجودي أصيل يعكس توق الإنسان إلى تجاوز الحدود المادية والحسية للعالم، نحو استكشاف "معنى المعنى"، أي الدلالات العميقة التي تمنح الحياة تماسكًا وغائية. يرى الرفاعي أن الدين، في جوهره، هو استجابة لهذا الظمأ، حيث يوفر إطارًا ميتافيزيقيًا يربط الإنسان بالمقدس، ويعيد صياغة وجوده في أفق روحي وأخلاقي وجمالي.[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
الظمأ الأنطولوجي، إذن، هو حالة وجودية دائمة، تنشأ من وعي الإنسان بمحدودية وجوده الزمني، وتوقّه إلى ما هو أبعد من الظواهر الحسية. إنه تعبير عن الحاجة إلى الانتماء إلى مطلق الوجود، كي يتجاوز الفردية والعزلة، وتفتح أمام الإنسان أفقًا للمعنى يتجاوز السطحي والعابر.
الاغتراب الميتافيزيقي: فقدان الصلة بالله:
في كتاب *الدين والاغتراب الميتافيزيقي*، يعالج الرفاعي الاغتراب الميتافيزيقي كنتيجة لانفصال الإنسان عن أصله الأنطولوجي، أي عن الله، الذي يروي اتصاله به ظمأه الوجودي. هذا الاغتراب يتولد عندما يتم ترحيل الدين من مجاله الأنطولوجي – حيث يعمل كمصدر للمعنى والانتماء – إلى المجال الأيديولوجي، حيث يصبح أداة للتنميط والتدجين. يرى الرفاعي أن الأيديولوجيا الدينية، التي تفرض أنماطًا جزمية من التفكير والسلوك، تحجب الحقيقة وتُفقر الدين من طاقته الروحية، مما يؤدي إلى إحساس الإنسان بالعزلة والضياع في عالم فقد تماسكه الدلالي.[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
الاغتراب الميتافيزيقي، في هذا السياق، هو حالة من الفراغ الروحي الناتج عن فقدان الصلة بالمقدس، حيث يجد الإنسان نفسه محاصرًا في عالم مادي يفتقر إلى العمق الميتافيزيقي. هذا الاغتراب يتفاقم بفعل الأدلجة، سواء كانت دينية أو علمانية، التي تحاول فرض إجابات جاهزة على الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى، مما يعطل العقل ويمنع الإنسان من استكشاف الحقيقة بنفسه.
فضاء الإنسانية الإيمانية: الارتواء بالمعنى عبر الصلة بالله
في كتابي: *الدين والكرامة الإنسانية* و*الدين والنزعة الإنسانية*، إذ يقدم الرفاعي "فضاء الإنسانية الإيمانية" كحل للظمأ الأنطولوجي والاغتراب الميتافيزيقي. هذا الفضاء هو أفق وجودي يجمع بين البعد الروحي للدين والبعد الجمالي للوجود، حيث يتم استعادة كرامة الإنسان ككائن يحمل في داخله نزوعًا إلى الاتصال بالله، ولكنه في الوقت ذاته يتمتع بحرية العقل والضمير. الإنسانية الإيمانية، كما يراها الرفاعي، هي التوازن بين التسليم بالوحي كمصدر للمعنى، والتأكيد على الإنسان كفاعل أخلاقي ومعرفي يسعى إلى تحقيق وجوده في إطار روحي وأخلاقي.[](https://www.hindawi.org/contributors/81287234/)
في هذا الفضاء، يرتوي الظمأ الأنطولوجي عبر استعادة الصلة بالله، ليس كمجرد طقوس أو أيديولوجيا، بل كتجربة وجودية عميقة تعيد للإنسان إحساسه بالانتماء إلى الكون وإلى الإله. كما يتم التغلب على الاغتراب الميتافيزيقي من خلال تحرير الدين من الأطر الأيديولوجية، وإعادته إلى دوره الأصلي كمصدر للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي. إذ يؤكد الرفاعي أن الدين، في هذا الفضاء، يصبح حياة في أفق المعنى، تتجاوز القمع والإكراه وتستجيب لحاجة الإنسان إلى الكرامة والحرية.[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
علم الكلام الجديد: في التأسيس الفلسفي للثالوث في كتاب *مقدمة في علم الكلام الجديد*، يضع الرفاعي إطارًا منهجيًا لتأسيس علم الكلام الجديد كمشروع فلسفي يهدف إلى إعادة بناء التفكير الديني. ينطلق هذا العلم من إدراك أن الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى – مثل معنى الوجود، وطبيعة الإله، ومصير الإنسان – لا تملك إجابات نهائية، بل تتطلب تجديدًا مستمرًا في ضوء تطور الوعي البشري. يرى الرفاعي أن الحقيقة واحدة في ذاتها، لكن معرفتها نسبية، تتعدد بتعدد زوايا النظر إليها.
تتجلى في أعمال الرفاعي الرئيسية رؤيته لتجديد الفكر الديني في الإسلام، وهذه الأعمال هي: *الدين والظمأ الأنطولوجي*، *الدين والاغتراب الميتافيزيقي*، *الدين والكرامة الإنسانية*، *الدين والنزعة الإنسانية*، و*مقدمة في علم الكلام الجديد*، التي تشكل نسيجًا معرفيًا عميقًا يسعى إلى إعادة تأسيس التفكير الديني على أسس أنطولوجية وروحية واخلاقية وجمالية، متجاوزًا الأطر الأيديولوجية التقليدية. في هذا النص، سنستكشف كيف يتفاعل "الظمأ الأنطولوجي" مع "الاغتراب الميتافيزيقي"، وكيف يجدان ارتواءهما في "فضاء الإنسانية الإيمانية"، وكيف يشكل هذا الثالوث الأساس الذي اشتق منه الرفاعي رؤيته لتأسيس علم الكلام الجديد، بنهج فلسفي دقيق وعميق.
الظمأ الأنطولوجي: العطش إلى الارتواء من المقدس
في كتاب *الدين والظمأ الأنطولوجي*، يعرّف الرفاعي الظمأ الأنطولوجي بأنه "الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود"، وهو عطش كينوني ينبع من أعماق الإنسان بوصفه كائنًا ميتافيزيقيًا يبحث عن معنى لوجوده. هذا الظمأ ليس مجرد رغبة عابرة، بل هو نزوع وجودي أصيل يعكس توق الإنسان إلى تجاوز الحدود المادية والحسية للعالم، نحو استكشاف "معنى المعنى"، أي الدلالات العميقة التي تمنح الحياة تماسكًا وغائية. يرى الرفاعي أن الدين، في جوهره، هو استجابة لهذا الظمأ، حيث يوفر إطارًا ميتافيزيقيًا يربط الإنسان بالمقدس، ويعيد صياغة وجوده في أفق روحي وأخلاقي وجمالي.[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
الظمأ الأنطولوجي، إذن، هو حالة وجودية دائمة، تنشأ من وعي الإنسان بمحدودية وجوده الزمني، وتوقّه إلى ما هو أبعد من الظواهر الحسية. إنه تعبير عن الحاجة إلى الانتماء إلى مطلق الوجود، كي يتجاوز الفردية والعزلة، وتفتح أمام الإنسان أفقًا للمعنى يتجاوز السطحي والعابر.
الاغتراب الميتافيزيقي: فقدان الصلة بالله:
في كتاب *الدين والاغتراب الميتافيزيقي*، يعالج الرفاعي الاغتراب الميتافيزيقي كنتيجة لانفصال الإنسان عن أصله الأنطولوجي، أي عن الله، الذي يروي اتصاله به ظمأه الوجودي. هذا الاغتراب يتولد عندما يتم ترحيل الدين من مجاله الأنطولوجي – حيث يعمل كمصدر للمعنى والانتماء – إلى المجال الأيديولوجي، حيث يصبح أداة للتنميط والتدجين. يرى الرفاعي أن الأيديولوجيا الدينية، التي تفرض أنماطًا جزمية من التفكير والسلوك، تحجب الحقيقة وتُفقر الدين من طاقته الروحية، مما يؤدي إلى إحساس الإنسان بالعزلة والضياع في عالم فقد تماسكه الدلالي.[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
الاغتراب الميتافيزيقي، في هذا السياق، هو حالة من الفراغ الروحي الناتج عن فقدان الصلة بالمقدس، حيث يجد الإنسان نفسه محاصرًا في عالم مادي يفتقر إلى العمق الميتافيزيقي. هذا الاغتراب يتفاقم بفعل الأدلجة، سواء كانت دينية أو علمانية، التي تحاول فرض إجابات جاهزة على الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى، مما يعطل العقل ويمنع الإنسان من استكشاف الحقيقة بنفسه.
فضاء الإنسانية الإيمانية: الارتواء بالمعنى عبر الصلة بالله
في كتابي: *الدين والكرامة الإنسانية* و*الدين والنزعة الإنسانية*، إذ يقدم الرفاعي "فضاء الإنسانية الإيمانية" كحل للظمأ الأنطولوجي والاغتراب الميتافيزيقي. هذا الفضاء هو أفق وجودي يجمع بين البعد الروحي للدين والبعد الجمالي للوجود، حيث يتم استعادة كرامة الإنسان ككائن يحمل في داخله نزوعًا إلى الاتصال بالله، ولكنه في الوقت ذاته يتمتع بحرية العقل والضمير. الإنسانية الإيمانية، كما يراها الرفاعي، هي التوازن بين التسليم بالوحي كمصدر للمعنى، والتأكيد على الإنسان كفاعل أخلاقي ومعرفي يسعى إلى تحقيق وجوده في إطار روحي وأخلاقي.[](https://www.hindawi.org/contributors/81287234/)
في هذا الفضاء، يرتوي الظمأ الأنطولوجي عبر استعادة الصلة بالله، ليس كمجرد طقوس أو أيديولوجيا، بل كتجربة وجودية عميقة تعيد للإنسان إحساسه بالانتماء إلى الكون وإلى الإله. كما يتم التغلب على الاغتراب الميتافيزيقي من خلال تحرير الدين من الأطر الأيديولوجية، وإعادته إلى دوره الأصلي كمصدر للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي. إذ يؤكد الرفاعي أن الدين، في هذا الفضاء، يصبح حياة في أفق المعنى، تتجاوز القمع والإكراه وتستجيب لحاجة الإنسان إلى الكرامة والحرية.[](https://www.hindawi.org/books/30847268/)
علم الكلام الجديد: في التأسيس الفلسفي للثالوث في كتاب *مقدمة في علم الكلام الجديد*، يضع الرفاعي إطارًا منهجيًا لتأسيس علم الكلام الجديد كمشروع فلسفي يهدف إلى إعادة بناء التفكير الديني. ينطلق هذا العلم من إدراك أن الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى – مثل معنى الوجود، وطبيعة الإله، ومصير الإنسان – لا تملك إجابات نهائية، بل تتطلب تجديدًا مستمرًا في ضوء تطور الوعي البشري. يرى الرفاعي أن الحقيقة واحدة في ذاتها، لكن معرفتها نسبية، تتعدد بتعدد زوايا النظر إليها.
www.hindawi.org
الدين والظمأ الأنطولوجي | عبد الجبار الرفاعي | مؤسسة هنداوي
يمكنك تحميل كتب ومؤلفات «عبد الجبار الرفاعي» مجانا من خلال موقعنا، بالإضافة إلى العديد من الكتب المجانية الأخرى.
عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب
د. عبد الجبار الرفاعي
يفتح النص الديني أفقا واسعا لفهم الطبيعة عبر مناهج التحقيق العلمي، إذ يمكن دراسة ما يتعلق بالطبيعة في آيات القرآن، من أرض وسماء، وشمس وقمر ونجوم، وليل ونهار، ورياح ومطر، وجبال وبحار، ونبات وحيوان ومعادن، بمناهج تكتشف القوانين الطبيعية، وتدرس من منظور علمي النظام الكوني ودقته المدهشة.كما يتيح التفسير التاريخي، المستند إلى معطيات علم الآثار والجغرافيا التاريخية لعصر النزول، فهم الحوادث والوقائع التي ذكرها القرآن في آياته، والشخصيات التاريخية، والأقوام مثل: قوم نوح وإبراهيم وموسى ولوط وعاد وثمود وقوم صالح وشعيب ويونس وغيرهم، ودراسة الأماكن، كأرض مدين وطور سيناء ومصر والمسجد الأقصى والمسجد الحرام والكعبة ومكة ويثرب وبدر وحنين وتبوك والحجاز، ليفتح أفقًا علميًا لتجديد التفسير، ويؤسس لفهم جديد للوحي. وتتيح مناهج علوم الإنسان المجتمع الحديثة فهم أحوال النفس البشرية، وما تحدثت عنه الآيات القرآنية من ضعف الإنسان وهشاشته وظمئه الأنطولوجي واغترابه الميتافيزيقي، ودراسة وتحليل عوامل نهوض الأمم وسقوطها، وأمثال ذلك فيما يخصّ الإنسان فردًا ومجتمعًا.
كل شيء تتسع له هذه الحقول يمكن دراسته في ضوء مناهج البحث العلمي وآخر معطيات العلوم والمعارف البشرية، لكن من العبث تطبيق هذه المناهج في اكتشاف الحقائق غير المادية وما هو خارج الطبيعة. عوالم الغيب حقائق تنتمي إلى ما وراء الطبيعة، لذلك لا يصح تطبيق مناهج علم النفس وعلم الاجتماع والانثربولوجيا وغيرها من العلوم الإنسانية والطبيعية وأدواتها في الكشف عنها وتحليل مضمونها ومعرفة ماهيتها. عندما تحاول نظريات هذه العلوم تفسير البعد الغيبي في الوحي، فإن أول ما تبدأ به هو نزع مضمونه الغيبي، والنظر إليه في أفق الطبيعة والمادة. أخفقت محاولات اكتشاف الغيب بمناهج العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسان في متاهات، تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار،كمن يحاول معرفة ذات الله وحقيقته وكنهه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة. الغيب لا يُدرك بالعقل التجريبي، ولا بالأدوات التي صُممت لفهم الظواهر المادية. الغيب يشعر به الإنسان بالتجربة الروحية، ويتجلى في لحظة صفائه الباطني، ويشهده الإنسان بالبصيرة، ويتذوقه بالقلب.
لا يمكن ترجمة الغيب إلى معادلات أو نظريات. إنه سرّ لا يُمسك ولا يُحاط به، ولا يُفهم إلا بعد تجليه على روح الإنسان وقلبه، حين تصفو بصيرته، وتستعد لتلقي إشراقات النور الإلهي. محاولة اختزال الغيب إلى موضوع للبحث العلمي بالمعنى التجريبي تنتزع منه محتواه الميتافيزيقي، وتختزل حضوره في الأرقام والحسابات والمعادلات. الغيب في حقيقته ليس شيئًا يُمتلك، بل معنى يُعاش، وحقيقة يشعر بها الإنسان الذي يؤمن به. الغيب يشهد تجلياته الإنسان في الطبيعة، فينبعث من تجلياته نور يضيء روح الإنسان ويبث السكينة في باطنه. ما لم ندرك أن الغيب لا يُعرف إلا بقدر ما ينكشف لمن يتأهل لمشاهدته، سنظل نبحث عنه في الموضع الخطأ، بأدوات لا توصل الإنسان إليه، ولن يبصر منه إلا ظلالًا باهتة لا تُضيء للإنسان الطريق إليه.
التعرف على الغيب في القرآن إنما يكون من خلال ما تتحدث به آياته، وهكذا في الكتب السماوية التي تتحدث عن الغيب. في الحياة الروحية تنكشف تجليات الغيب في حياة الإنسان وتنعكس تمثلاته، الأفق الذي يتجلى فيه الغيب، بوصفه منبعًا لإرواء الظمأ الأنطولوجي، لا يتحقق في العالم الحسي الذي تحكمه قوانين الطبيعة. لا يخضع الغيب في اكتشاف حقيقته ومعرفة كيفيته للعلم ومناهج البحث العلمي، وإن كانت العلوم هي الأداة الأساسية في التعرف على تأثير الغيب في الإنسان فردًا ومجتمعًا والواقع الذي يعيش فيه، ودراسة تمثلاته في الحياة الفردية والمجتمعية. حضور الغيب لا يُقاس بأجهزة قياس حسية، ولا يبرهن عليه بالبراهين التجريبية، بل يُعاش بالتجربة الروحية، ويُذاق بالتأمل، ويُشهد بالبصيرة. الغيب في حياة الإنسان لا يعبر عن ذاته بلغة الأرقام، بل بلغة المعنى. حين يتحدث الكتاب الكريم عن الغيب، فإنه لا يقدم تقريرًا وصفيًا، بل يوقظ شعورًا، ويبث تذوقًا، ويعيد تشكيل صلة الإنسان بالحقّ، ويهبه أفقًا يتجاوز المحسوس، وينقله من ظواهر الأشياء المادية إلى عمق معانى الوجود والحياة.
د. عبد الجبار الرفاعي
يفتح النص الديني أفقا واسعا لفهم الطبيعة عبر مناهج التحقيق العلمي، إذ يمكن دراسة ما يتعلق بالطبيعة في آيات القرآن، من أرض وسماء، وشمس وقمر ونجوم، وليل ونهار، ورياح ومطر، وجبال وبحار، ونبات وحيوان ومعادن، بمناهج تكتشف القوانين الطبيعية، وتدرس من منظور علمي النظام الكوني ودقته المدهشة.كما يتيح التفسير التاريخي، المستند إلى معطيات علم الآثار والجغرافيا التاريخية لعصر النزول، فهم الحوادث والوقائع التي ذكرها القرآن في آياته، والشخصيات التاريخية، والأقوام مثل: قوم نوح وإبراهيم وموسى ولوط وعاد وثمود وقوم صالح وشعيب ويونس وغيرهم، ودراسة الأماكن، كأرض مدين وطور سيناء ومصر والمسجد الأقصى والمسجد الحرام والكعبة ومكة ويثرب وبدر وحنين وتبوك والحجاز، ليفتح أفقًا علميًا لتجديد التفسير، ويؤسس لفهم جديد للوحي. وتتيح مناهج علوم الإنسان المجتمع الحديثة فهم أحوال النفس البشرية، وما تحدثت عنه الآيات القرآنية من ضعف الإنسان وهشاشته وظمئه الأنطولوجي واغترابه الميتافيزيقي، ودراسة وتحليل عوامل نهوض الأمم وسقوطها، وأمثال ذلك فيما يخصّ الإنسان فردًا ومجتمعًا.
كل شيء تتسع له هذه الحقول يمكن دراسته في ضوء مناهج البحث العلمي وآخر معطيات العلوم والمعارف البشرية، لكن من العبث تطبيق هذه المناهج في اكتشاف الحقائق غير المادية وما هو خارج الطبيعة. عوالم الغيب حقائق تنتمي إلى ما وراء الطبيعة، لذلك لا يصح تطبيق مناهج علم النفس وعلم الاجتماع والانثربولوجيا وغيرها من العلوم الإنسانية والطبيعية وأدواتها في الكشف عنها وتحليل مضمونها ومعرفة ماهيتها. عندما تحاول نظريات هذه العلوم تفسير البعد الغيبي في الوحي، فإن أول ما تبدأ به هو نزع مضمونه الغيبي، والنظر إليه في أفق الطبيعة والمادة. أخفقت محاولات اكتشاف الغيب بمناهج العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسان في متاهات، تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار،كمن يحاول معرفة ذات الله وحقيقته وكنهه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة. الغيب لا يُدرك بالعقل التجريبي، ولا بالأدوات التي صُممت لفهم الظواهر المادية. الغيب يشعر به الإنسان بالتجربة الروحية، ويتجلى في لحظة صفائه الباطني، ويشهده الإنسان بالبصيرة، ويتذوقه بالقلب.
لا يمكن ترجمة الغيب إلى معادلات أو نظريات. إنه سرّ لا يُمسك ولا يُحاط به، ولا يُفهم إلا بعد تجليه على روح الإنسان وقلبه، حين تصفو بصيرته، وتستعد لتلقي إشراقات النور الإلهي. محاولة اختزال الغيب إلى موضوع للبحث العلمي بالمعنى التجريبي تنتزع منه محتواه الميتافيزيقي، وتختزل حضوره في الأرقام والحسابات والمعادلات. الغيب في حقيقته ليس شيئًا يُمتلك، بل معنى يُعاش، وحقيقة يشعر بها الإنسان الذي يؤمن به. الغيب يشهد تجلياته الإنسان في الطبيعة، فينبعث من تجلياته نور يضيء روح الإنسان ويبث السكينة في باطنه. ما لم ندرك أن الغيب لا يُعرف إلا بقدر ما ينكشف لمن يتأهل لمشاهدته، سنظل نبحث عنه في الموضع الخطأ، بأدوات لا توصل الإنسان إليه، ولن يبصر منه إلا ظلالًا باهتة لا تُضيء للإنسان الطريق إليه.
التعرف على الغيب في القرآن إنما يكون من خلال ما تتحدث به آياته، وهكذا في الكتب السماوية التي تتحدث عن الغيب. في الحياة الروحية تنكشف تجليات الغيب في حياة الإنسان وتنعكس تمثلاته، الأفق الذي يتجلى فيه الغيب، بوصفه منبعًا لإرواء الظمأ الأنطولوجي، لا يتحقق في العالم الحسي الذي تحكمه قوانين الطبيعة. لا يخضع الغيب في اكتشاف حقيقته ومعرفة كيفيته للعلم ومناهج البحث العلمي، وإن كانت العلوم هي الأداة الأساسية في التعرف على تأثير الغيب في الإنسان فردًا ومجتمعًا والواقع الذي يعيش فيه، ودراسة تمثلاته في الحياة الفردية والمجتمعية. حضور الغيب لا يُقاس بأجهزة قياس حسية، ولا يبرهن عليه بالبراهين التجريبية، بل يُعاش بالتجربة الروحية، ويُذاق بالتأمل، ويُشهد بالبصيرة. الغيب في حياة الإنسان لا يعبر عن ذاته بلغة الأرقام، بل بلغة المعنى. حين يتحدث الكتاب الكريم عن الغيب، فإنه لا يقدم تقريرًا وصفيًا، بل يوقظ شعورًا، ويبث تذوقًا، ويعيد تشكيل صلة الإنسان بالحقّ، ويهبه أفقًا يتجاوز المحسوس، وينقله من ظواهر الأشياء المادية إلى عمق معانى الوجود والحياة.
لغة الدين المختصة بالغيب ضرب من الترجمة لإشارات الغيب ورموزه، ومحاولة لرسم صورة عنه في لغة الإنسان، وتجلٍّ لكلمة الله بكلمات خلقه. الترجمة لا تطابق الأصل، ولا تعكس صورته كما هي، ولا تكشف كل ملامحه، إنها تومئ إليه، وتعكس شيئًا من ملامحه. يظل فهم الغيب في الكتاب الكريم نسبيًا، المفسّر الذي يمتلك أدوات التفسير لآيات الغيب لا يكون تفسيره لها نهائيًا، لأنه يخضع في تفسيره لمشروطيات الذات، وأحكامها المسبقة، وأفق انتظارها، والزمان، والمكان، والواقع، والعوامل والمعطيات المختلفة التي تؤثر في حياته بوصفه فردًا، وفي حياته بضمن المجتمع الذي ينتمي إليها، وليس بوسعه الإفلات النهائي من تأثير هذه العوامل المتنوعة على فهمه، مهما حاول أن يكون محايدًا. لا يمكن الحديث عن تفسير نهائي أبدي لنصوص الكتب المقدسة، ولا عن قراءة أخيرة لمعاني الغيب، بل نحن بإزاء معانٍ تتجدد بتجدد أدوات القراءة وشروط التلقي، وتنبسط كلما اتسعت الرؤية، وتنقبض حيث يضيق أفق الرؤية.كل فهم نوع من التأويل، وكل تأويل اجتهاد بشري في الإصغاء لما يبوح به النص من دلالات في حالات معينة، وظرف بعينه. هذا التأويل ليس نهائيًا في تفسير الغيب، إنه ليس سوى صورة من صور التلقي المحدود.
لغة الغيب عندما تشرح وتصف تنشد أن ترسم أفقًا للشهود. هذه اللغة رؤيوية، تسعى للقبض على معنى لا محسوس، ولا تاريخي، ولا زماني، ولا مكاني، ولا مرئي، ولا محدود، وإيداعه في قالب محسوس ومرئي وضيق ومحدود. لغة الغيب تتعدد مراتبها، وتنشد تلبية مستويات متنوعة من الفهم، ومراعاة درجات مختلفة للتذوق. هذه اللغة يتخطى نداؤها العقل، إنها نداء يتجه لإيقاد طاقات الروح، وإيقاظ الضمير، وإحياء القلب، وشحذ المشاعر، وإثارة الأحاسيس، وتغذية الروح. إنها لغة لا تشرح بقدر ما تلمّح، ولا تكتفي بإبلاغ المعنى، بل تفتح أفقًا للتأمل في المعنى، تنتقل من ظاهر الحرف إلى دلالاته المحتجبة، فيتحسسها الإنسان في شعوره قبل أن تبلغ عقله. لا تُفسَّر هذه اللغة تفسيرًا واحدًا، بل تتعدد تأويلاتها بتعدد اشراقاتها على القلوب، وتتنوع أنوارها بتنوع البصائر، وتتكشف أسرارها بحسب استعداد المتلقي وقدرته على التذوق. لما كان الغيب لا يتسع له العقل، فإن اللغة التي تحكي عنه تتعدد فيها طبقات المعنى، لذلك تتوسل بالمجاز والاشارة والرمز والإيحاء،كي تستنطق ما لا يُقال بالكلمات، وتوقظ ما خفي، وتفتح أفق الشهود لما لا يُرى.
حين تصير الكلمة مرآةً للغيب، تغدو العبارة طريقًا إلى المعنى، لا قيدًا عليه، وتتحول اللغة من أداة إخبار إلى وسيلة حضور. هذه اللغة لا تنتجها قوالب الجدل الكلامي، ولا تختزل في حدود مقولة اعتقادية، ولا تقف عند ظاهر اللفظ، بل تفيض من عمق التجربة الروحية، وتنبعث من الحاجة الأنطولوجية للإنسان إلى المعنى والسلام والسكينة والطمأنينة والمحبة والرحمة الإلهية. حين ينطق بها القلب، يتدفق من الكلمة دفء، وتنبعث من العبارة حياة، ويشع من النص نور يهدي الإنسان إلى الله، لا بالخوف بل بالشوق، لا بالرهبة بل بالمحبة، لا بالإكراه بل بالوجد.
اللغة التي تتحدث عن الغيب لا تعلّم فقط، بل تُلهم؛ لا تُقنع فقط، بل تُضيء، لا تشرح فقط، بل توقظ شيئًا خفيًا في باطن الإنسان.كل فهم للغيب تأويل، وكل تأويل للغيب هو سفر إلى ما لا يراه الإنسان ولا يدركه بحواسه الظاهرة، لا يُرشد إليه إلا القلب المستعد، والروح والبصيرة المتأهبة لاستقبال النداء الذي لا يسمع بالأذن، بل يدرك في لحظة انكشاف عميق. في هذه اللحظة، تنكشف الكلمة لا بوصفها علامة صوتية، بل ككائن ينبض بالمعنى، وتتحول العبارة إلى قناة للفيض، وتكون الآية مرآة لما وراء الظاهر. هنا لا يعود النص مجرد بنية لغوية، بل يُصبح نداءً روحيًا يشرق بنداء الغيب، ويعود إليه، ويتوسل بالقلب ليفهم، وبالذوق ليُذاق، وبالبصيرة ليُرى. في هذا الأفق، يتبدى الغيب لا كغربة، بل كحنين دائم إلى الحقّ، وسفر لا ينتهي في طلب المعنى، وانتظار مستمر لإشراق الكلمة في ليل الحيرة.
بهذه المناسبة أود الإشارة إلى أنه تأتيني بين حين وآخر أسئلة من قراء مختلفين، يتساءلون عن: التفسير الذي يمكن أن يعتمد عليه الإنسان في فهم القرآن الكريم، ويثق برؤيته ثقة مطلقة؟ وغالبًا ما أكرّر الجواب ذاته، مؤكدًا أن الكتاب الكريم لا يختص به المفسرون دون غيرهم، ولا يمنح أحدًا امتياز احتكار معناه، لأنه نزل لكل الناس، في كل زمان، ولكل من يتلقاه بقلبه وروحه وعقله، من دون تمييز أو وصاية لفرد أو جماعة. لهذا وجه القرآن خطابه لعامة الناس من دون تخصيصه بفئة معينة، فورد بصيغة "يا أيها الناس" عشرين مرة، و"هدى للناس" ثلاث مرات، و"ذكرى للناس" ثلاث مرات أيضًا، و"بيان للناس" مرتين، و"بلاغ للناس" مرتين كذلك.
لغة الغيب عندما تشرح وتصف تنشد أن ترسم أفقًا للشهود. هذه اللغة رؤيوية، تسعى للقبض على معنى لا محسوس، ولا تاريخي، ولا زماني، ولا مكاني، ولا مرئي، ولا محدود، وإيداعه في قالب محسوس ومرئي وضيق ومحدود. لغة الغيب تتعدد مراتبها، وتنشد تلبية مستويات متنوعة من الفهم، ومراعاة درجات مختلفة للتذوق. هذه اللغة يتخطى نداؤها العقل، إنها نداء يتجه لإيقاد طاقات الروح، وإيقاظ الضمير، وإحياء القلب، وشحذ المشاعر، وإثارة الأحاسيس، وتغذية الروح. إنها لغة لا تشرح بقدر ما تلمّح، ولا تكتفي بإبلاغ المعنى، بل تفتح أفقًا للتأمل في المعنى، تنتقل من ظاهر الحرف إلى دلالاته المحتجبة، فيتحسسها الإنسان في شعوره قبل أن تبلغ عقله. لا تُفسَّر هذه اللغة تفسيرًا واحدًا، بل تتعدد تأويلاتها بتعدد اشراقاتها على القلوب، وتتنوع أنوارها بتنوع البصائر، وتتكشف أسرارها بحسب استعداد المتلقي وقدرته على التذوق. لما كان الغيب لا يتسع له العقل، فإن اللغة التي تحكي عنه تتعدد فيها طبقات المعنى، لذلك تتوسل بالمجاز والاشارة والرمز والإيحاء،كي تستنطق ما لا يُقال بالكلمات، وتوقظ ما خفي، وتفتح أفق الشهود لما لا يُرى.
حين تصير الكلمة مرآةً للغيب، تغدو العبارة طريقًا إلى المعنى، لا قيدًا عليه، وتتحول اللغة من أداة إخبار إلى وسيلة حضور. هذه اللغة لا تنتجها قوالب الجدل الكلامي، ولا تختزل في حدود مقولة اعتقادية، ولا تقف عند ظاهر اللفظ، بل تفيض من عمق التجربة الروحية، وتنبعث من الحاجة الأنطولوجية للإنسان إلى المعنى والسلام والسكينة والطمأنينة والمحبة والرحمة الإلهية. حين ينطق بها القلب، يتدفق من الكلمة دفء، وتنبعث من العبارة حياة، ويشع من النص نور يهدي الإنسان إلى الله، لا بالخوف بل بالشوق، لا بالرهبة بل بالمحبة، لا بالإكراه بل بالوجد.
اللغة التي تتحدث عن الغيب لا تعلّم فقط، بل تُلهم؛ لا تُقنع فقط، بل تُضيء، لا تشرح فقط، بل توقظ شيئًا خفيًا في باطن الإنسان.كل فهم للغيب تأويل، وكل تأويل للغيب هو سفر إلى ما لا يراه الإنسان ولا يدركه بحواسه الظاهرة، لا يُرشد إليه إلا القلب المستعد، والروح والبصيرة المتأهبة لاستقبال النداء الذي لا يسمع بالأذن، بل يدرك في لحظة انكشاف عميق. في هذه اللحظة، تنكشف الكلمة لا بوصفها علامة صوتية، بل ككائن ينبض بالمعنى، وتتحول العبارة إلى قناة للفيض، وتكون الآية مرآة لما وراء الظاهر. هنا لا يعود النص مجرد بنية لغوية، بل يُصبح نداءً روحيًا يشرق بنداء الغيب، ويعود إليه، ويتوسل بالقلب ليفهم، وبالذوق ليُذاق، وبالبصيرة ليُرى. في هذا الأفق، يتبدى الغيب لا كغربة، بل كحنين دائم إلى الحقّ، وسفر لا ينتهي في طلب المعنى، وانتظار مستمر لإشراق الكلمة في ليل الحيرة.
بهذه المناسبة أود الإشارة إلى أنه تأتيني بين حين وآخر أسئلة من قراء مختلفين، يتساءلون عن: التفسير الذي يمكن أن يعتمد عليه الإنسان في فهم القرآن الكريم، ويثق برؤيته ثقة مطلقة؟ وغالبًا ما أكرّر الجواب ذاته، مؤكدًا أن الكتاب الكريم لا يختص به المفسرون دون غيرهم، ولا يمنح أحدًا امتياز احتكار معناه، لأنه نزل لكل الناس، في كل زمان، ولكل من يتلقاه بقلبه وروحه وعقله، من دون تمييز أو وصاية لفرد أو جماعة. لهذا وجه القرآن خطابه لعامة الناس من دون تخصيصه بفئة معينة، فورد بصيغة "يا أيها الناس" عشرين مرة، و"هدى للناس" ثلاث مرات، و"ذكرى للناس" ثلاث مرات أيضًا، و"بيان للناس" مرتين، و"بلاغ للناس" مرتين كذلك.
لما كانت لغة الغيب في القرآن رمزية، انفتح المعنى فيها على تعدد التأويل، وصار كل إنسان يستوحي من رموزها ما يلهمه روحيًا، وما يضيء بصيرته، ويغذي شعوره بصلته بالله. وحين يشكّل القرآن منبعًا أساسيًا للحياة الروحية، وتتفتح هذه الحياة في آفاق ما تلهمه للتجربة الروحية من معانٍ، وما تستلهمه من اللغة الحاكية عن الغيب، تتضح كيفية هذه التجربة بوصفها تجربة شخصية لا ينوب فيها أحد عن أحد، ولا يقدر إنسان أن يهبها لغيره، ولا أن يؤديها نيابة عنه. لذلك يغدو من الطبيعي أن يبني الإنسان صلته بالقرآن بنفسه، ويتلقى نداء الله كما ينكشف له، وينصت لصوته بوصفه نورًا ينبثق في داخله، لا كما يُملى عليه من خارج ذاته، ولا كما يتلقاه من وصيّ على الفهم.
التجربة الروحية تنبع في داخل الإنسان، وتتخلق بحسب تذوق قلبه، وبصيرة روحه، واستعداد وعيه، وما يتسع له وعاء وجوده. لا تنشأ هذه التجربة خارج الذات، ولا تهبها قراءة التفسير جاهزة، ولا يكتمل معناها بتكرار قراءة تفاسير آيات الغيب. يبني الإنسان صلته بالله بنفسه، في سياق آيات الغيب في كتابه بوصفها خطابًا شخصيًا موجهًا إليه، ويصغي لصوت الله كما يتردد صداه في أعماقه، ويتعرف عليه بقلبه، ويتذوق بهجة حضوره في روحه.
القرآن ليس كتابًا خاصًا بالمفسرين، ولا يحتكر معناه أحد، لأنه نزل لكل إنسان، ولكل من ينصت لصوت الله فيه. إذا استعصى عليك فهم بعض مفرداته، يمكنك الرجوع إلى معاجم اللغة لاستيضاح معناها، من دون أن تبتعد عن نداء الله في القرآن، أو تستسلم لفهم المفسّر، كما لو كان هو المتلقى الوحيد لكلمات الله. الرجوع إلى التفسير في كل آية، واستعارة معنى جاهز من خارج التجربة الروحية، يضعف صلتك المباشرة بالقرآن، ويحوّل اللقاء بالله إلى وعي مستعار لا ينبع من ذاتك. التفاسير اجتهادات بشرية متنوعة ومتباينة، تتعدد بتعدد ثقافات المفسرين، ومذاهبهم، وعصورهم، وآفاقهم المعرفية، وكيفيات انتظاراتهم من معاني الآيات.
لا يعني هذا الكلام دعوة إلى إهمال ما أنجزه المفسرون من جهود كبيرة، أو تجاهل الإفادة منها، إنما أنشد هنا التنبيه إلى أن الحياة الروحية لا تنبع من وصاية أحد، ولا يهبها أحد لغيره، ولا يكتمل معناها إلا إذا أنشأ الإنسان صلته المباشرة بالله، وتلقّى كتابه كما لو كان نازلًا عليه.
https://alsabaah.iq/118252-.html
التجربة الروحية تنبع في داخل الإنسان، وتتخلق بحسب تذوق قلبه، وبصيرة روحه، واستعداد وعيه، وما يتسع له وعاء وجوده. لا تنشأ هذه التجربة خارج الذات، ولا تهبها قراءة التفسير جاهزة، ولا يكتمل معناها بتكرار قراءة تفاسير آيات الغيب. يبني الإنسان صلته بالله بنفسه، في سياق آيات الغيب في كتابه بوصفها خطابًا شخصيًا موجهًا إليه، ويصغي لصوت الله كما يتردد صداه في أعماقه، ويتعرف عليه بقلبه، ويتذوق بهجة حضوره في روحه.
القرآن ليس كتابًا خاصًا بالمفسرين، ولا يحتكر معناه أحد، لأنه نزل لكل إنسان، ولكل من ينصت لصوت الله فيه. إذا استعصى عليك فهم بعض مفرداته، يمكنك الرجوع إلى معاجم اللغة لاستيضاح معناها، من دون أن تبتعد عن نداء الله في القرآن، أو تستسلم لفهم المفسّر، كما لو كان هو المتلقى الوحيد لكلمات الله. الرجوع إلى التفسير في كل آية، واستعارة معنى جاهز من خارج التجربة الروحية، يضعف صلتك المباشرة بالقرآن، ويحوّل اللقاء بالله إلى وعي مستعار لا ينبع من ذاتك. التفاسير اجتهادات بشرية متنوعة ومتباينة، تتعدد بتعدد ثقافات المفسرين، ومذاهبهم، وعصورهم، وآفاقهم المعرفية، وكيفيات انتظاراتهم من معاني الآيات.
لا يعني هذا الكلام دعوة إلى إهمال ما أنجزه المفسرون من جهود كبيرة، أو تجاهل الإفادة منها، إنما أنشد هنا التنبيه إلى أن الحياة الروحية لا تنبع من وصاية أحد، ولا يهبها أحد لغيره، ولا يكتمل معناها إلا إذا أنشأ الإنسان صلته المباشرة بالله، وتلقّى كتابه كما لو كان نازلًا عليه.
https://alsabaah.iq/118252-.html
جريدة الصباح
عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب » جريدة الصباح
د. عبد الجبار الرفاعي يفتح النص الديني أفقا واسعا لفهم الطبيعة عبر مناهج التحقيق العلمي، إذ يمكن دراسة ما يتعلق بالطبيعة في آيات القرآن، من أرض وسماء، وشمس وقمر ونجوم، وليل ونهار، ورياح ومطر، وجبال وبحار، ونبات وحيوان ومعادن، بمناهج تكتشف القوانين الطبيعية،…