عبدالجبار الرفاعي
3.77K subscribers
618 photos
51 videos
270 files
1.09K links
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضۚ
Download Telegram
تأملات_في_القراءة_الإنسانية_للدين_مجتهد_شبستري.pdf
7.8 MB
تأملات في القراءة الإنسانية للدين- محمد مجتهد شبستري
عبدالجبار الرفاعي
الدين_والنزعة_الإنسانية.pdf
‏صدرت هذا اليوم الطبعة ‏الإلكترونية الخامسة لكتاب: "الدين والنزعة الإنسانية"، تأليف: عبدالجبار الرفاعي، عن مؤسسة هنداوي في القاهرة، وهي طبعة مدققة ومنقحة. يمكن تحميل الكتاب من هذا الرابط:
https://downloads.hindawi.org/books/74738615.pdf
عبدالجبار الرفاعي
غلاف_الدين_والظمأ_الأنطولوجي_طبعة_شرق_أفريقيا.pdf
‏الطبعة السادسة لكتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي"، خاصة بشرق افريقيا، تصدر في جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان.
عبدالجبار الرفاعي
‏الطبعة السادسة لكتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي"، خاصة بشرق افريقيا، تصدر في جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان.
‏نشرت عن كتاب: (الدين والظمأ الأنطولوجي) حتى اليوم أكثر من 250 مقالة، وترجم إلى عدة لغات.
‏تلقيت مكالمة في 31-3-2025، من طبيبة تخبرني عن مثقف يعيش في أوروبا، قالت: أخبرني عن اثنين من الأشخاص من معارفه في أوروبا، أعلنا أنهما قررا السفر للقيام بعمليات انتحارية، يقول: فملئنا نحن الأصدقاء بالذعر، وبذلنا معهم مختلف وسائل الإقناع، فلم ينفع معهم اي شيء، أخيرا طلبنا منهما قبل عمليات الانتحار، قراءة كتاب: (الدين والظمأ الأنطولوجي). الغريب كان أثر كلمات هذا الكتاب كالسحر، فبعد قراءتهما له، قررا الخلاص من هذا القرار الكابوسي، بعد اكتشافهما إيمان المحبة والتراحم والسلام وتذوقه، بعد قراءة هذا الكتاب.
من أين تشتقُّ الكراهيَةُ مفاهيمَها؟ عبدالجبار الرفاعي
١
الحنينُ للماضي
ربما لا توجد مجتمعاتٌ بشريَّة مولعة بهاجس التراث كالمجتمعات الإسلاميَّة، فهي تعيش حنينًا إلى الماضي لا حدودَ له، وتخلع عليه ما يحلو لها من المعاني والصور المثالية، وتتعاطى معه باعتبارِه نَاجِزًا ومكتملًا ومطلقًا وفريدًا، وتحشد كلَّ أحلامِها وأمانيها وتطلُّعاتها في استرداده كما هو، بنحوٍ أمسى معه ذلك التراث قَيْدًا يكبِّلُ حاضرَها ويلغي مستقبلَها؛ ذلك أنَّها تسعى لأن يصير زمانُها زمانًا تَكراريًّا، لا ينتهي إلا من حيثُ بَدَأَ، ولا يبدأ إلَّا من حيث انتهى. وأفضى حنينُها وتمجيدُها لتراثها مصدرًا لطائفةٍ من الالتباساتِ والخلطِ في الرُّؤية، بشكلٍ يتعذَّر فيه التمييزُ بين الدِّين بوصفه تساميًا للرُّوح وتجسيدًا للقِيَمِ النَّبيلة، والتُّراث بوصفه إنتاجًا بشريًّا، يرتبط عضويًّا بمختلِف الظروف والعوامل الثَّقافيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المتغيِّرة، مثلما تعذَّر التمييزُ بين الواقعة التاريخيَّة والشخص التاريخيِّ، والواقعة الرمزية والشخص الرمزي، الذي صاغه المُتخيَّلُ الدينيُّ، وكرَّسَهُ في الذاكرة الجمعيَّة، واعتبره متعاليًا على الأرض، ومتجاوزًا لمعطياتِ الواقع. وكأنَّ حركة التاريخ لم تكن تحوُّلًا من النَّقص إلى الكمال، ومن الحَسَن إلى الأَحْسَن، وإنَّما تُخْتَزَلُ بتمامِها في رؤى ومواقف السلف، الذين توقف التاريخُ عندهم، حتى أصبحت أيَّةُ محاولة لمساءلة التَّاريخ، ونزع القناع عن التُّراث تُنْعَتُ بالعدوان على أمجاد الأمَّة وماضيها المُشرق، ويجري التشهيرُ بكلِّ باحثٍ يعمِد إلى الكشف عن عمليَّات حذف وإقصاءِ الحوادثِ والوقائع والمُعتقداتِ التي لا تنسجم مع الأيديولوجيا التبجيليَّة المهيمنة، أو يسعى للإعلان عن المُهَمَّش والمسكوتِ عنه، وفضح السَّائد والمُتَغَلِّب في التُّراث.

وتشتد سطوةُ التراثِ عبر حضورِ فكر الأمواتِ ومقولاتِهم، بل يغدو الأمواتُ هم مصدر الإلهامِ للكثير من المعاني في حياتنا، وتُعْلِي مجتمعاتُنا من مقاماتهم عندما تنصبهم حُكَّامًا على الأحياء، وتعود إليهم في ما تواجهه من تحديات، وتستعير آراءَهم في أكثر القضايا والمستجدَّات.

إنَّنا نعيش تحت وطأة التُّراث، خاصَّة فيما يسود مجتمعاتِنا من نزعات تعصب وكراهية ونفي للآخر، وسنبقى قابعين في هذا السِّجن، ولا نستطيع الإفلات منه، ما لم ندرك أنَّ التراث يتمثَّل في مجموعة معانٍ، وأنَّ هناك شروطًا لغويَّة وثقافيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة لإنتاج كلِّ معنى، ومن الضروري تحليلُ تلك الشروط، ورصد صيرورتها التاريخية والأنساق التي تحركت فيها، ودراسة السياقات الاجتماعية للمعرفة، والأُطُر السوسيولوجيَّة والأنثروبولوجيَّة والسيميائيَّة والسيكولوجيَّة لتشكُّل الخطابات المتنوعة المنبثقة من هذه المعاني. وكما يقول الأبُ بولس نويا: «إنَّ التراث هو بمثابةِ الأب، ونحن نعلم منذ فرويد أنَّ الابن لا يستطيع أنْ يكتسب حريته ويحقِّق شخصيَّته إلا إذا قتل أباه. على الإنسان العربيِّ أن يُمِيتَ تراث الماضي في صورةِ الأب، لكي يستعيدَه في صورةِ الابن.»٢
ويحسب أنصار التُّراث أنَّ الانتماء للإسلام لا ينفك عن الاستسلام للتراث واستدعائه بكافة عناصره في حاضرنا، غير أنَّ الإيمان والمعتقد لا يرتكز على التراث، والرُّكون إلى فهم السلف. الإيمان والانتماء للإسلام يعني بناءَ صِلَة حيويَّة فعَّالة مع الله في العصر الذي يعيش فيه الإنسانُ، تستقي هذه الصلةُ مادَّتها من فهمِ الشخص للوحي، وتجرِبته الرُّوحية الخاصَّة، ولا تستقيها من التراث.

التراث بمعنى مجموعة الممارسات الدينية والعقائد والمفاهيمِ السَّائدة في حقبةٍ مُعَيَّنَة من حياة المسلمين، هو مفهوم ثقافيٌّ أنثروبولوجي، لذا فالمجال مفتوح أمام المُتَأَلِّهين المسلمين في كلِّ زمانٍ لنقد ذلك التراث وتفكيكِه، إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلَّمات والمسَبَّقات والميول، ومقدِّمات فهم الكتاب والسنة، والتطلعات الدينية الموروثة من عصور سالفة.
ولكي تبقى جذوةُ الإيمان متَّقدة في الأرواح ينبغي أنْ يَتجاوز الإيمانُ ما تراكَمَ من شُروح وتأويلات عبر التاريخ، ويكون إيمانًا نقديًّا، فالإيمان النقديُّ هو الذي يُتيح لصاحبِه مواكبةَ إيقاع الحياة، والإصغاء إلى الواقع، وما يضجُّ به العالمُ من استفهامات لا حدودَ لها،٣ وهو الذي يكسر النرجسيَّة الدينيَّة، والمنطق العقائدي الأحاديَّ. الإيمان النقدي كفيل بتجاوز احتكار مفهوم النجاة والمشروعية الحصرية، فليس هناك أحد يمتلك الإيمان الحقَّ، ويمنح لنفسه أو غيره النجاة، بينما يهلك الآخرون الذين لا يتطابق نمطُ اعتقادهم مع معتقده. ومقتضى ذلك التخلُّص من أساليب التعبئة الأيديولوجية، وترك استخدام كلِّ الكلمات والمصطلحات الدينية المشبعة بهجاءِ الآخر، المتوارثة من صراعات الطوائف والفرق، والحروب بين أتباع الأديان في العصور الوسطى.
٢
اللغةُ والأحكام المسَبَّقة
اللغة ليست بريئة، اللغة مشحونة بأحكام مسَبَّقة، وبحسب جاك دريدا: «إنَّ اللغة ليست أداة نستعملها، بل هي المادَّة التي نحن مصنوعون منها.»٤ ويشدد بيير بورديو على أن «الكلمات تصنع الأشياءَ إلى حدٍّ كبير، وأنَّ تغيير الكلمات، وتغيير التمثيلات، بوجه أعم التمثيلات التصويرية … هو بالفعل طريقة لتغيير الأشياء. والسياسة جوهريًّا هي مسألةُ كلمات.»٥
لقد صارت الكلمات والعبارات في أحاديثنا وكتاباتنا بمثابةِ أدواتِ قتال نتراشق بها، وتعمل على بثِّ التَّشَنُّج، وإشاعة التوتُّر، حيال أيَّة قضيَّة نتحدث عنها، وأمسى الإصغاءُ للآخر، وتفهُّم ما يرمي إليه مستحيلًا، إثر عُنْفِ اللُّغة، وقسوة مداليل الألفاظ المتداولة بين المتخاطبين وصخبها، حتى صارَ المجالُ التداوليُّ للُّغة المُستعملة في حياتنا أحد أبرز منابع الكراهية، وتزوير صورة الآخر.

إنَّ تطهيرَ اللغة من الكلمات والمصطلحات القَدْحية المشبَّعة بالتشهير بالآخر ضرورةٌ يفرضها عنفُ الواقع، الذي يضجُّ بالاحتراب والصراع الديني والطائفي، وينبغي أنْ تتَّسع عمليةُ تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم، ويجري تأهيلٌ لغويٌّ للمربِّين والمعلِّمين والمدرسين، مضافًا إلى الصحافيين والإعلاميين، ويعمِد إلى تثقيفهم وتنبيههم إلى خطورة تداوُل الكلمات والأساليب التعبيريَّة ذات الحمولة السلبيَّة، وما يمكن أنْ ينجم عنها من تشويهٍ لصورة الشركاء معنا في الإنسانية، فضلًا عن شركائنا في المواطنة.

ويستمدُّ معجمُ هذه اللغة مادَّتَه ومفرداتِه من الرؤية الصِّراطية وميراثها الكلاميِّ والفقهي المُمْتَدِّ في جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، ولا سيَّما في تمثُّلاته السلفية المناهضة للعقل، والتي دوَّنته في فضاءٍ سجاليٍّ يضجُّ بالخصومات. ويتوكَّأ هذا النوعُ من الميراث على تفسيرٍ فظٍّ ساذج للنَّصِّ، معبأ بسلسلة من الإسقاطات والتحريفات، ويرفض أيَّة محاولة تسعى لتأويل النصِّ، واستكناه أبعادِه الرمزيَّة، والنظر إليه باعتبارِه نصًّا مكتنزًا بالإشارة والكناية والمجاز والإيحاء والتَّلميح وضرب الأمثال، ومنبعًا لتأويلات وقراءات متنوعة، تنبثق من الأفق المعرفيِّ للقارئ، وأفق انتظاره ورؤيته للعالَم، والفضاء الثقافي ونمط المعطيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة في عصره.

٣
الصِّيَغُ الجاهزة في التَّفسير
إنَّ التفسيرَ الذي يفترضُ وجودَ فهمٍ واحد للنصِّ، هو الفهمُ الذي قالتْ به الجماعةُ الأولى من المسلمين. وكأنَّ النصَّ لا يحتملُ أيَّ تأويل أو تفسير يخرج على الصيغ التَّبسيطيَّة الجاهزة، ويُعْلِنُ عن رؤيةٍ مغايرة لها. مواقف وفهم السلف تمثِّل المشروعيَّة، أمَّا المواقف والتأويلات اللاحقة فإنَّها مشروعة بوصفها معبِّرة عن رؤيةِ السَّلَف ومستنسِخة لها، وهي هرطقة وبدعة حينما تجتهد في بلورةِ رؤيةٍ مختلفة، تغور إلى اللامرئي في النصِّ، وتتحرَّر من الأصول والترسيمات الصارمة والمغلقة للتعاطِي مع النَّصِّ. منذ أن دَوَّن الشافعيُّ هذه الأصول، وتكرَّسَتْ بمرور الزَّمان، وصارتْ ترسيماتٍ أبديَّةً، وصيغًا جاهزة تحتكر فهم النص، وتُسْبِغُ الشرعيَّة على كل تفسيرٍ مشتَّقٍّ منها، وترفض الاجتهاد الذي ينزع إلى التفكيرِ خارج مداراتها، وصوغ مفاهيم لا ترتدُّ إليها، كما نلاحظ في الميراث الغزير للعارفين والفلاسفة، الذين حرصوا على استلهام العناصر الرُّوحية والإنسانية والجمالية والعقلانية، وأدركوا أنَّ النصَّ القرآنيَّ إشاريُّ المقاصد، غزير المعاني، رمزيُّ البنية. وتخطَّوا القراءةَ الاختزاليَّة التبسيطيَّة، وما أفضتْ إليه من إفقارٍ للنص، وإظهارِه بصورةٍ عاريةٍ من كلِّ مضمون مكثَّف، غنيٍّ بالمداليل والمعاني المكتنزة.
عادةً ما تشيع القراءةُ السلفيَّةُ التبسيطيَّةُ للنصِّ في حالةِ الانحطاط والتَّراجع الحضاريِّ، بينما يزدهرُ التأويلُ العرفانيُّ والفلسفيُّ للنصِّ في حالة النهوض الحضاري، وقد ألمح إلى ذلك الشيخ مصطفى عبد الرازق بقوله: «يُلَاحَظُ أنَّ الرأيَ السائد بين المسلمين في أمر الوحي يميل في الركود النظريِّ إلى مذاهب المتكلمين، ويتأثر برأي الفلاسفة في عصور النُّهوض.»٦
تسودُ القراءةُ التبسيطيَّة للنصِّ اليومَ أدبياتِ الجماعات الدينية، ويتشكَّل في ضوئِها وعيُ قطاعاتٍ عريضةٍ من المنخرطين في هذه الجماعات، ويجري تجنيدُهم في معارك تستنزف طاقاتِ مجتمعاتِنا وتُهدر إمكاناتِها. تصرُّ هذه القراءةُ على القطيعةِ مع الميراثِ الإنسانيِّ في تاريخِنا، وتحارب بضراوةٍ التفكيرَ الفلسفيَّ، وتعتبر ذلك التراثَ غريبًا عن الإسلام، أمَّا التجارِب الرُّوحية الملهمة للعارفين، وما أنجزوه من آثار متنوعة المضامين، عميقة المعاني، فإنها تُصَنَّف شطحات وهرطقات أجنبية على الإسلام. الجماعاتُ الأصوليَّةُ تنشد تديُّنًا شكليًّا، يفتقر إلى استيعابِ المضمون التنزيهيِّ المفعَّم بالمعنى للتديُّن، وتستفزُّه التأملاتُ العميقة التي تُقَارِب النصَّ بفكرٍ عميقٍ ووعيٍ يُضِيءُ المضامينَ الكامِنَة الخفيَّة فيه.

٤
بواعثُ الكراهية
يفتقر التديُّن الأصوليُّ إلى التعاطي المتفائل المفعَّم بالأمل مع الحياة، والانفتاح على العالم، واستبصار ما يحفل به من ثراء وجمال وتنوُّع. يعجز هذا التديُّن السلبيُّ عن إدراك أنَّ الله وهب الحياةَ للإنسان، فصارتْ مناطَ الاستخلاف والأمانة، وبالتالي المسئوليَّة، وارتكزتْ عليها وانبثقتْ منها كلُّ مكاسب البشرية وإبداعاتها وتعبيراتها.

تحرص الأديانُ على احترام الحياة، وربما تقديسها، وتتطلع الرسالاتُ السماويةُ إلى تطهير الحياة من القلق، وبثِّ الطمأنينة والسكينة في رُوع الإنسان، عبر ترسيخ النَّزعة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية، وتكريس المضمون المعنويِّ للعالَم، والكشف عن مظاهر الانسجام بين الإنسان وما حوله، وتحريره من الاغتراب الكونيِّ، ومن كلِّ ما من شأنه أن يسلخه وينفيه من هذا الوجود. غير أنَّ الحياة تغدو لعنةً، وأية محاولة للتشبُّث بها، والسعي لعمارتها، والتنعُّم بطيباتها، تصبح منافيةً للفهم السلفي للدين؛ ذلك الفهم الذي يتمحور خطابُه حول هجاءِ الحياة، وتمجيدِ الموت، ولعنِ المباهج، وأسبابِ الفرح والغبطة والمسرَّة، بل ومسخ الذوق الفنيِّ، وتجاهل الأبعاد الجمالية في الكون، والإعراضِ عن الجسد ونسيان متطلباته الغريزية، وما يحيط به من فضاء حسيٍّ، وما يجسِّده من جمال، والتعاملِ معه باعتباره عدوًّا، لا سبيلَ إلى التديُّن الحقِّ إلا بتجاوز رغباته وحاجاته، وأنَّ الاحتشام والعفة لا تحقُّق لهما إلا بالتخلُّص من المشاعر الحسِّية، ورفض الحب، واعتباره تهتُّكًا وابتذالًا، وأنَّ النجاة في اليوم الآخر ترتبط بالفرار من حبِّ الحياة وكلِّ شيء ينتمي إليها؛ ما يؤدِّي إلى انطفاء الذوق الفني، والعجز عن تذوق الجمال، والإفادة منه كلغة مشتركة في الحياة، ووسيلة رائعة للتواصل بين الشعوب، وقناة عابرة للتاريخ والثقافات.

ان التعامل مع الحياة بهذا المنطق، هو مصدر الشعور بالإحباط والفشل، وهو الذي يقود إلى العنف، والرغبة في تدمير الحياة، وتحطيم كل شيء ينتمي إليها. حين تهيمن ثقافةُ الموت على وجدان الإنسان، تنطفئُ جذوةُ الحياة في نفسِه، ويفتقد القدرةَ على المساهمة في البناء، ولا يتقن أيةَ حرفة سوى تقديس الحزن، وصناعة الحقد والبغضاء، فتندثر طاقاتُه، وتتعطَّل قابلياته، وتتبدَّد إمكاناتُه ومواهبُه بأسرِها.

وليس هناك دربٌ يقودُنا إلى الحياة، ويعيد قطاعاتٍ واسعة من الشباب إلى العالم الذي افتقدهم، سوى إشاعة فهم عقلانيٍّ جريء للدين يخترقُ الأدبيَّاتِ الجنائزيَّةَ في تراثِنا، التي تكثِّف حضورها في الخطاب السلفي اليوم، كما يخترق ما راكمتْه تجرِبةُ الاجتماع الإسلاميِّ من إكراهات ومظالم وصراعات مختلفة، عملت على تبلوُر مفهومات وفتاوى مشبعة بتلوينات تلك التجرِبة ومشبعة بإكراهاتها.
لقد بَاتَت الحاجةُ ملحَّة إلى دراسة وتحليل منابع اللاتسامح، وبواعث العُنف والكراهية في مجتمعاتنا، والاعتراف بأنَّ الكثير مِنْهَا يكمُن في الفهم الحرفيِّ المغلق للنصوصِ الدينية، والجهود الحثيثة للسلفيَّة في تعميم هذا الفهم وتعزيزه عبر خطاباتها المتنوعة. من الضروري عدم التوقُّف عند دراسة مضمون الخطاب، وإنما يجب تحليلُ خطاب الجماعات الأصوليَّة، ودراسة الآليات الخطابية التي تُنتج العنف، وتمتدح العداوة؛ ذلك أنَّ اللغة ليستْ أداةً محايدة في بيان المعاني، بل اللُّغة في حَراكها التواصلي والاجتماعي، كما تجسِّدها النصوصُ، هي فضاءٌ من الفضاءاتِ الاجتماعيَّة يخضع لحركيَّة خاصة، ينبغي أنْ تُحَلَّلَ من داخلها.٧ وعلى حد تعبير نيتشه، فإنَّ «كلَّ كلمة هي حُكم مسَبَّق.»
يطغى في خطاب تلك الجماعات تبجيلُ العنف، والإعلاء من قيمته، والتَّشديد على أثره الحاسِم في الدَّعوة، وتصرُّ على أنَّه السبيل الوحيد للخلاصِ من الظُّلم والاضطهاد في الدنيا، والفوز بالفردوس في يوم القيامة، بينما تتجاهل الأساليبَ اللاعنفيةَ في دعوات الأنبياء، كذلك تهمل بِعَمْدٍ أَبْرَزَ حَرَكَتَيْ لاعنفٍ في القرن العشرين؛ وهما المقاومة السلمية الواسعة في الهند بقيادة المهاتما غاندي، مضافًا إلى المقاومة السلميَّة في جنوب أفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا، وما تحقَّق في المسعى السلميِّ لهما من مكاسب مهمَّة، وما قطفتاه من ثمار في تحرير الهند وجنوب أفريقيا.

إنَّ مراجعةً عاجلةً للأدبيَّاتِ السلفيَّة، تُرِينَا بوضوحٍ كيف أنَّ هذه الأدبيَّات بقدر ما تتحدَّث عن مناهضةِ الآخَر، وانحصارِ أسلوبِ التَّعاطي معه في القتل والإبادة، فإنَّها تَتَكَتَّم على مساحةٍ شاسعة في النصِّ، تتحدث عن الرأفة والرفق والعفو والغفران والرحمة، حتى يُخَيَّل لمن يستمع إلى منابر هذه الجماعات، أو يقرأ بياناتِها، أنَّها تتحدث عن دين خاصٍّ تنحته، وتعيد تشكيلَه في إطار وعيِها ومسمَّياتها ومسَبَّقاتها الذهنية، ولا عَلاقة له بالنص المؤسِّس. إنَّه دين مشبع بالإكراهات، ينفي الرُّوح التطهُّريَّة للدين، ويمسخُ ما يختزنه من معانٍ سامية، ويفرِّغه من محتواه الرُّوحي والأخلاقي والعقلانيِّ، ويحيلُه إلَى مجموعةٍ من المقولاتِ والشِّعاراتِ المُغْلَقة، التي تستنزف الطاقة الحيويَّة الإبداعيَّة لرسالة الدين، وتُفقره، وتمسخه، وتستبدله بمفهوماتٍ وأفكار مقطوعةِ الجذور عن رُوح الدِّين وجوهره، وتصيِّره عِبْئًا ينوءُ النَّاسُ بحِملِه، ويعطِّل ديناميَّة التطوُّر في الاجتماع البشري، ويستدعي القِيَم الرديئةَ للبداوة فيبعثها من جديد، ويتبنَّاها ويدافع عنها، ويُسقط عليها قناعًا إسلاميًّا، بوصفها تمثِّل الهُويَّة والأصالة، بينما هي في الحقيقة ليستْ إلا تمثُّلات وتعبيرات وتقاليد بيئةٍ محلِّيَّة صحراوية قاسية غليظة، رفضها القرآنُ ونَعَتَهَا بتسميَات قَدْحِيَّة، وجعلها النقيض لرُوح الدين ومقاصده الأخلاقيَّة، وأهدافه الإنسانيَّة.٨
٥
غِيَابُ الموقف النَّقدي
ينظر السلفيُّون للإسلام باعتباره شيئًا مطلقًا ولا نهائيًّا في التَّاريخ، من دون أن يتنبهوا إلى أنَّ الإسلامَ دينٌ مثل بقيَّة الأَدْيَان، تتنوَّع تمثُّلاته وتجلِّيات حضوره في الواقع. والدين بمعنى الظاهرة الأنثروبولوجيَّة التاريخية، كما أنَّه يُساهم في تشكيل التاريخ، كذلك يتشكل طبقًا للتاريخ، ويتَّخذ في صيرورته شكلَ الزمانِ والمكان الذي يتحقَّق فيه. ومثلما يهدفُ الدينُ إلى بناء وتغيير الإنسان، فإنَّ الإنسانَ أيضًا يبني مفهوماتِه الخاصَّة عن الدين، ويعمل على صوغ تصوُّره عن الدِّين في فضاءِ رؤيتِه للعالم وأنماط حياته المختلفة. ومن الوَهم النظرُ إلى الإسلام والمسلمين كأَمْرَيْنِ قارَّيْنِ ساكِنَيْنِ، لا يتحوَّلان ولا يتبدَّلان، يؤثِّران في كلِّ شيء ولا يتأثَّران على مَرِّ الزَّمان. الإسلام والمسلمون يخضعان للمشروطيَّة التاريخية، والعواملِ الزمانيَّة والمكانيَّة المتغيِّرة. لذلك كانت الإلهيَّاتُ المتوارثةُ لدى المسلمين مشتقَّة من طبيعةِ حياتِهم، وشَكْل النِّظام السياسيِّ الحاكم في دولهم، والنظام المعرفي المهيمن على تفكيرهم.

ترتكزُ الإلهياتُ الموروثةُ على بنيةٍ تستبعد الآخرَ، وتكرِّس مركزيَّة مطلقة، تجد مثالَها الأرضي في الخليفة أو السلطان، وحكومته الشمولية المستبدة. إنَّ حقلًا عريضًا من هذه الإلهيَّات لا محلَّ فيه للحرية الدينيَّة، أو إفساح المجال لصاحب الدِّين المختلف، ومساواته بسواه من الرعايا على أساس مفهوم المواطنة.
يتمدَّد مفهومُ الإله في هذه الإلهيات ليغطِّي كافَّةَ المجالات الدنيوية، وهو ما يصطلح عليه بعض المفكرين الغربيين «إله الحدِّ الأقصى». ويذهب فريق من المفكرين ومؤرِّخي العقائد في الغرب إلى أنَّ ظهور «إله الحدِّ الأقصى» في القرون الوسطى أدَّى إلى خروج الإلهِ تدريجيًّا من ساحة الحياة. والمقصود بهذا التصوُّر للإله، هو أنَّه الإله غير الملتزم بأيَّة موازين أخلاقيَّة، أو منطقيَّة، أو عقليَّة، أو فلسفيَّة، والمتمتِّع بحرية مطلقة، حتى قيل إنَّ بوسعه ارتكاب المُحالات العقلية والمنطقية، أي إنَّ «إلهَ الحدِّ الأقصى» فتحَ الباب على مصراعَيْه لإلغاء الإله الرُّوحي والأخلاقي.

وبغية تجاوز الإلهيات الاستبعادية، لا بدَّ من تحرير صورة الإله مما تراكم عليْها عبر الزمان من رؤية السَّلف للعالم، وما تعرضَتْ إليه حياتُهم من كراهية وإكراهات.

بوسعنا اليوم الاستعانة بمعطيات العلوم والمعارف الحديثة، والتفكير بواسطة كلِّ ما هو متاح في عصرنا، للتحدُّث عن الإله، فكما أتاحت لنا هذه المعطيات معرفةَ الإنسان، واكتشاف الكثير من الأبعاد المجهولة في شخصيته الفردية والاجتماعية، من خلال الاستعانة بعلم النفس والأنثروبولوجيا والاجتماع واللسانيات والسيميائيَّات وغيرها، يمكن أن تمنحنا هذه العلومُ أدواتٍ ومناهجَ جديدة لدراسة الدين كظاهرة أبديَّة في الاجتماع البشري، والتعرف على مساراته عبر التاريخ، وبالتالي اكتشاف ما هو مرتبط بالمعطيات الظرفيَّة والثابتة منه، وكذلك التعرف على ما يتعلَّق بصورة الإله وأنماط تشكُّلها عبر التاريخ، وصلة هذه الصورة بالملابسات والظروف المتنوعة.

وتظلُّ المُعطيات الرَّاهنة للعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والعلوم البحتة، من أهمِّ مكاسب العصر، وكلُّ ما أنجزه الغرب من تقدم ورفاهية إنما هو ثمرةٌ لامتلاكه العلم الحديث، ومثابرته المتواصلة على تنميته وتطويره، بينما يقبع في نفق التخلف من يفتقد العلم، ويبقى على هامش حركة التاريخ مستهلكًا لما ينجزه غيرُه.

ولا سبيلَ إلى تجديد الفكر الديني، وتجاوز الإلهيات التقليدية، إلا بتوظيف المُعطيات الرَّاهنة للعلوم والمعارف البشرية في دراسة التراث الديني، والتوغُّل في مداراته، وغربلة مكوناته، وتفكيك عناصره، والحذر من الانخراطِ في رؤيته. أمَّا غياب الموقف النقدي من التراث، وشيوع الوفاء التاريخي، وطغيان الحالة التبجيليَّة، لكلِّ ما يمُتُّ إلى المَاضي، وعدم القدرة على إدراك العَاهَات، والتشوُّهات، والثَّغرات، والانتكاسات، والإكراهات، في الموروث، فقد نجم عنه انسدادُ الآفاق النَّقديَّة، وإحضار الماضي كما هو، وسطوته على الوعي، وإعاقته للتفكير، والعجز عن مواكبة متغيِّرات الحياة.٩ أي إنه «ليس من الصعب فقط استدعاء نَموذجٍ أنتجتْه سجالاتُ العصور الوسطى، وفرضُه وتعميمه على الحاضر، إنما المستحيل تطبيق فَهْمٍ مختزَل وهامشيٍّ للإسلام، أنتجته العصورُ المتأخرة، فَهْمٍ يقوم على التمايُز المذهبي، والتعارُض الطائفيِّ، والانغلاق على الذات، وتبجيل السلطة، وتسويغ طاعتها، والتكفير، ونبذ الاجتهاد، وتجهيل الناس بحقيقة أحوالهم الاجتماعية. كلُّ هذا ضِمن نمط من الحياة والتفاعل، والمصالح، والعَلاقات الاجتماعية، التي تكاد تختلف كليًّا عما كان شائعًا إبَّان تلك الحقبة، التي يُفترض أنَّ النموذج المطلوب ظهر فيها.»١٠
تنبعثُ من حين لآخر في مجتمعاتنا أصواتٌ تدعو إلى تعزيز الهُوية والخصوصيَّة والأصالة والقوميَّة، وترتعد خوفًا من ذوبان الهُوية واضمحلالها، وكافَّة هذه الأصوات تتَّفق على جعل الآخر مصدرًا لكلِّ المشكلات والآثام. وكأنَّ الهُوية مُعْطًى جوهريٌّ ثابت ونهائي، وأنَّها خالدة ومستمرة، لا تتغير ولا يطرأ عليها أيُّ تحوُّل. وتساهم هذه المزاعمُ في تضليلِ الرأي العام، وتجييش قطاعات عريضة من النَّاشئة في معارك موهومة مع الآخر. ولم يتنبه هؤلاء إلى أنَّ الهُوية الساكنة ليست موجودةً إلا في أحلامهم، وأنَّ الهُوية ليست فيما يثبت بل فيما يتغير. الهُوية معنًى لا صورة له، أو هي، بشكل أدقَّ، معنًى في صورة متحركة دائمًا، وأنَّها ليستْ مجرد الوَعْي، إنما هي أيضًا اللاوعي، ليست المُعْلَن وحده، وإنَّما هي كذلك المكبوت، ليست المتحقِّق وحده، وإنما هي كذلك المشروع، الأخذ في التحقُّق أو الفشل، وليست المتواصل وحده، بل المتقطِّع كذلك.١١
إن هواجس الهُوية تحجب رؤيةَ الآخر، وتكرس الانغلاق على الذات، وتفضي إلى افتعال صورةٍ زائفة للذات والآخر، لا توجد إلا في المخيِّلة. يحلل إدغار موران ما ينجم عن ذلك بقوله: «تؤدي نزعةُ التمركز حول الذات إلى الكذب على الذات، وبالتالي إلى خداعها، وهذا شيء ناجم عن اللجوء إلى التبرير الذاتي، وإلى تزكية الذات، والميل نحو جعل الغير مصدر كل الشرور، سواء أكان هذا الغير عبارة عن غريب أو قريب لنا … إن عدم فهم الذات هو مصدر هام جدًّا لعدم فهم الغير، فنحن نخفي عن ذواتنا عيوبَنا ونقاط ضعفنا؛ الشيء الذي يجعلنا غير متسامحين مع عيوب ونقاط ضعف الغير … تؤدِّي نزعةُ التمركز حول العِرق، ونزعة التمركز حول المجتمع، إلى أنواع مختلفة من كُره الأجانب، ومن النزعات العنصرية، والتي يمكن أن تصل إلى حدود نزع صفة الإنسان عن الأجنبي.»١٢
٦
الإسلامُ بمفهومه القرآنيِّ
تتغلَّب في مجتمعاتنا نزعاتُ التعصُّب والتشهير الدائم بالآخر، وكأننا في عالم لا يعيش فيه معنا سوى الأعداء، وكأنَّ المجتمعات الوحيدة التي تعرَّضت للاستعمار هي نحن، فكلُّ أمراضنا ومشكلاتنا وعاهاتنا نعلِّقها على هذا المِشجَب، ونغذِّي باستمرارٍ رُوح الانتقام والكراهية للآخر، في صحفنا وقنواتنا الفضائية ووسائل إعلامنا المختلفة. وبالرغم من أنَّ الاستعمار شمل في القرون الماضية معظمَ الكرة الأرضية، وتوطَّن في أكثر بلاد العالم عشرات السنين، لكنْ تحررتْ هذه البلادُ، وتجاوزت ماضيَها، والتحق العديدُ منها بالغرب، بل تقدَّم بعضُها عليه صناعيًّا واقتصاديًّا، وما زلنا في رِهانات الهُوية والخصوصية والأصالة.

طالما لجأ السلفيُّون إلى تفسير قمعيٍّ للنص القرآني، واستندوا إلى هذا التفسير كمرجعيةٍ تبرر رغبتَهم في الانتقام من الآخر، وتسوِّغ لهم كراهية كلِّ من لا يتعبَّد بفقههم، ولا يدين بمذهبهم، وربما حكموا عليه بالخروج من الملَّة والكفر، وبالتالي الموت، وقد احتكروا مفهومَهم الخاصَّ للإسلام ومنه تَوَالَدَ مفهومُهم للمسلم الذي لا ينطبق إلا على من هو سلفي، مع أنَّ كلمة «مسلم» بالمفهوم القرآني تعني القبول العفويَّ، والطوعيَّ، والمتلهِّف، بل وحتى العاشق، لكلِّ ما تأمر به إرادة الله، وتعلِّمنا إياه. إنها لا تعني إطلاقًا الاستسلام لسلطة حتميَّة، أو الخضوع المؤدِّي للإكراهات والقيود. وإنما هي تلك الاندفاعة العفويَّة، اندفاعة الشُّكر، والعرفان بالجميل تجاه إله رحيم، يدعو الإنسان إلى تقليده، والسير على هداه. وإنَّ كلمةَ «إسلام» في القرآن ليس لها ذلك المعنى العقائدي واللاهوتي والثقافي الذي كان قد فرض نفسه على مدار تاريخ الإمبراطوريَّتَيْن الأُمويَّة والعباسيَّة. إنَّ الإسلامَ بمفهومه الإمبراطوري هو المعبَّأ بمداليل سلبيَّة، بينما الإسلام بمفهومه القرآنيِّ يعني الدين الأوَّلي والشعيرة النقيَّة، والطاعة العاشقة والكلِّيَّة لله.١٣
أمَّا من يحسب أنه مفوَّض بانتهاك كرامة الإنسان، وإلزامه بمعتقد معين، أو حرمانه من حقِّ الحياة، باعتباره يمتلك الحقيقةَ، وهو الوصيُّ على الآخرين، فانه يحتكرُ رحمةَ الله ويُنَصِّب نفسَه ناطقًا باسمه في الأرض. وهو لا يدري أنَّ حقَّ الحياة من الحقوق المصونة المحترمة لكافة البشر، بقطع النظر عن أجناسهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وأنَّ عدم الإيمان أو الكفر وحده لا يصلح أنْ يكون موضوعًا للحُكم بالاعتداء على شخصٍ أو قتله، وأنَّ الأصل هو براءةُ الكلِّ من العقوبة الدنيويَّة، وإثبات أيَّة عقوبة بحاجة إلى دليل. ذلك أنَّ المعتقدَ أمر داخليٌّ باطنيٌّ، وليس أمرًا جوارحيًّا خارجيًّا، وأنَّ تحقُّقَه وحصولَه ليس باختيار الإنسان؛ بمعنى أنَّ العالَم الجَوَّاني الداخليَّ لا يمكن فرضُه بالقسر، ما يمكن القسرُ والإكراهُ عليه هو الفعلُ الخارجيُّ، أمَّا الإيمان والاعتقاد فهو حالة داخليَّة خارج مجال القسر والإكراه.
يقول العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسير آية: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ١٤ أنَّ الآية في مقام بيانِ «نفي الدين الإجباريِّ، لما أنَّ الدين، وهو سلسلة من المعارف العلميَّة التي تتبعها أخرى عمليَّة، يجمعها أنَّها اعتقاداتٌ، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنَّ الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهريَّة، والأفعال والحركات البدنيَّة الماديَّة، وأمَّا الاعتقادُ القلبيُّ فله عِلَل وأسباب أخرى قلبيَّة، من سِنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المُحَال أن يُنتج الجهلُ علمًا، أو تُوَلِّد المقدِّماتُ غيرُ العلميَّة تصديقًا علميًّا، فقوله: «لا إكراه في الدين» إنْ كانَ قضيَّة إخباريَّة حاكيةً عن حالِ التكوين، أنتج حُكْمًا دينيًّا بنفي الإكراه على الدِّين والاعتقاد، وإنْ كان حُكْمًا إنشائيًّا تشريعيًّا، كما يشهد ما عقَّبه تعالى من قوله: «قد تبين الرُّشدُ من الغَيِّ» كان نهيًا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهًا، وهو نهيٌ متَّكٍ على حقيقة تكوينية، وهي التي مرَّ بيانُها. إنَّ الإكراه إنَّما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنيَّة من دون الاعتقادات القلبية … وبعبارةٍ أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقيٍّ ينعقد في ذهنِ الإنسان ليس عملًا اختياريًّا للإنسان حتى يتعلَّق به منعٌ أو تجويزٌ أو استعبادٌ أو تحرير، وإنَّما الذي يقبل الحظرَ والإباحةَ هو الالتزام بما تستوحيه العقيدةُ من الأعمالِ، كالدَّعوة إلى العقيدة …»١٥ ويصفُ القرآنُ الإيمانَ بأنَّه رُشد وحقٌّ، وأنَّ ما سواه زَيغ وغَيٌّ، والرُّشد هو الأمر الواضح الجليُّ، الذي لا يجبَر عليه الإنسانُ، ويبدو أنَّ الآية تقرر حقيقةً عامة شاملة لكلِّ إنسانٍ، ومع كلِّ معتقد، فإنه لا يمكن فرضُه، مثلما لا يمكن خلعُه وسلخُه منه. أي «انطلاقًا من الإطلاق الذي تفيده الآيةُ، لم يقصر القرآن الكريم حريَّةَ العقيدة وعدم الإكراه على الدين الإسلامي، بل أعلن عن انتفاء كل أشكال الضغط والإكراه موضوعيًّا عن كافَّة الأديان والعقائد والأفكار، وذلك بالنظر لإلغاء خصوصيَّة المورد، أي إنَّ مثل هذه الحرية المتصلة طبيعيًّا وذاتيًّا بماهية البشر، مما لا يمكن وضعه ولا رفعه.»١٦
وهذا يعني أن المعتقَد ما لم ينبثق الإيمانُ به من قناعة وجدانية، وإرادة قلبية، لا يمكن أنْ يُلامس شغاف القلب. وكلُّ الأنظمة الشمولية، التي تفرض نسقًا أيديولوجيًّا مغلقًا على مواطنيها، إنما تعمل على تفشِّي ظاهرة النفاق، وهي تحسب أنها دمجت كافَّة المواطنين في النسق الاعتقادي الذي اختارتْه لهم؛ ذلك أن المعتقد ليس بمثابة الثوب الذي يُلبس ويُخلع بسهولة. وفي مثل هذه البلاد تَشِيع عادةً عقيدةٌ ظاهرة، وهي ما تريده السلطة، بينما يخفي الأفرادُ معتقداتِهم، التي باتَتْ واحدةً من مكونات هُويتهم الباطنيَّة.
وفي آيات أخرى يتحدث القرآن أيضًا عن هذه المسألة، ويجليها بوضوح، كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.١٧ هنا إشارة إلى المشيئة الإلهية التكوينيَّة الحتمية، التي بموجِبها يمكن أن يجعل اللهُ جميع سكان الأرض مؤمنين بالقسر، ولكنَّ اللهَ أنكر ذلك مستفهمًا بأنَّ مثل هذه الحالة لا تليقُ بالإنسان، وكما أنَّه سبحانه لم يلجأ لذلك، فهو ينبِّه النبيَّ ألا يحزن أو يقلق، عندما لا يؤمن بعضُ الناس، لأنَّ المورد خارج إطار الإكراه، وأنَّ الإيمان موكول للإنسان، فبوسعه اختيار ما ترسو عليه قناعاتُه، وما يرتضيه قلبُه، وما يستسيغه عقلُه.
في مجموعةِ آياتٍ يتحدَّثُ القرآنُ عن حرية كلِّ فرد في اختيار السبيل الذي ينشده في الدنيا، كما في قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا.١٨ تقرِّر الآية بصراحة أن الإيمان والكفر يرتبطان باختيار الإنسان وإرادته، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولا تشير إلى عقاب أو توبيخ أو تحقير وإهانة دنيوية، بل تقتصر على الإشارة إلى الاستحقاق الأخرويِّ للظالمين المعاندين. وهكذا الآية: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ،١٩ والآية: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ،٢٠ والآية: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ،٢١ والآية: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.٢٢
وبالرغم من أنَّ القرآن لا يساوي بين الهدى والضلال، لكنه يمنح الإنسان حرية في الاختيار، ولا يُلزمه بأحدهما خاصة، لأنَّ المعاد يترتب على هذه الحرية، وليست هناك مسئولية وحساب مع سلب الاختيار في الدنيا. وفي طائفة غيرها من الآيات يحدِّد القرآن نمطَ دعوة الرسولِ الآخرين إلى الدين، فيصفه بأنه «مذكِّر، ومبشِّر، ومنذِر، وشاهد، وسراج منير، ورحمة للعالمين، وما عليه إلا البلاغ، وليس بمسيطر، وليس بجبار …».
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ.٢٣
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ.٢٤
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا .٢٥
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ.٢٦
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ.٢٧
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٢٨
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.٢٩
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٣٠
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.٣١
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.٣٢
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.٣٣
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.٣٤
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.٣٥
إذن وظيفة النبيِّ تتلخَّص في التذكير بالبيِّنات والهدى، وإبلاغ الحق، والشهادة، والتبشير بالنعيم، والإنذار بالخسران، في حالة الجحود والعناد، وأنه سراج يضيء الطريق، ورحمة للعالمين. وبموازاة ذلك ينبهه الله إلى أنه ليس له سلطان في إكراه الناس على الإيمان، فهو «ليس بمسيطر، ولا جبار، وإنما رحمة للعالمين». فإذا كان النبي وهو صاحب الرسالة، لم يفوَّض في إجبار الناس وإكراههم، فكيف يُفَوَّضُ غيرُه بذلك؟! وإن كان ذلك ليس من وظائفِ النبي، فكيف يُسوَّغ لمن يدَّعون أنَّهم من أتباعه سلبُ حرية الناس ومصادرةُ حقِّهم في اختيار المعتقَد؟!٣٦
١ ندوة التحولات المجتمعية وجدلية الثقافة والقيم، قطر، ٢٢–٢٥ يناير ٢٠٠٧م.
٢ أدونيس: «الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب»، بيروت، دار الساقي، ط٨، ٢٠٠٢م، ج١، ص٤٦.
٣ محمد مجتهد شبستري: ايمان وآزادي، طهران، طرح نو، ط٤، ١٣٨٢ش، ص١٠٤–١٠٦.
٤ جان جاك لوسركل: عنف اللغة، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠٥م، ص١٥.
٥ بيير بورديو: «بعبارة أخرى، محاولات باتجاه سوسيولوجيا انعكاسية»، ترجمة: أحمد حسان، القاهرة، ميريت للنشر، ٢٠٠٢م، ص٩٧.
٦ مصطفى عبد الرازق: الدين والوحي والإسلام، القاهرة، ١٩٤٥م، ص٨٠.
٧ محمد الحداد: حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، بيروت، دار الطليعة، ص٥.
٨ عبد الجبار الرفاعي: مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، ط١، ٢٠٠٥م، ص٩٨-٩٩.
٩ عبد الجبار الرفاعي: مصدر سابق، ص١٣٤-١٣٥.
١٠ عبد الله إبراهيم: «المركزية الإسلامية، صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى»، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط١، ٢٠٠١م، ص١٧.
١١ أدونيس: مصدر سابق، ج١، ص٢٦-٢٧.
١٢ إدغار موران: «تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل»، ترجمة: عزيز لزرق ومنير الحجوجي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط١، ٢٠٠٢م، ص٩٠-٩١.
١٣ محمد أركون: «من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟» ترجمة وتعليق: هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط٢، ١٩٩٥م، ص٨٣، ١٣٢.
١٤ البقرة: ٢٥٦.
١٥ محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي، ج٢: ص٣٤٧، ج٤: ص١٢٠.
١٦ مهدي حائري يزدي: الإسلام وميثاق حقوق الإنسان، حولية «مكتب تشيع»، ١٩٦٢م، ٤، ص٦٧-٧٦.
١٧ يونس: ٩٩.
١٨ الكهف: ٢٩.
١٩ يونس: ١٠٨.
٢٠ الزمر: ٤١.
٢١ الأنعام: ١٠٤.
٢٢ الروم: ٤٤.
٢٣ الغاشية: ٢١-٢٢.
٢٤ ق: ٤٥.
٢٥ الفرقان: ٥٦–٥٨.
٢٦ الرعد: ٤٠.
٢٧ المائدة: ٩٩.
٢٨ الإسراء: ١٠٥.
٢٩ الأنبياء: ١٠٧.
٣٠ الأحزاب: ٤٥.
٣١ سبأ: ٢٨.
٣٢ فاطر: ٢٤.
٣٣ الشورى: ٤٨.
٣٤ الفتح: ٨.
٣٥ الأنعام: ١٠٧.
٣٦ عبد الجبار الرفاعي: مصدر سابق، ص١٠٠–١٠٣.

https://www.hindawi.org/books/74738615/10/
المَرْجِعِيَّاتُ الكلاميَّة وأثرُها في الاستنباطِ الفقهيِّ١ عبدالجبار الرفاعي
١
المرجعية الكلامية لأصول الفقه
تغلغلتِ الرؤيةُ العقائديَّةُ في مختلِف العلومِ الإسلاميَّة، وظلَّت المفاهيمُ العقائديَّةُ التي تبلورَت في مقولات المتكلمين فيما بعد، أحد أبرز مرجعيات ومسلَّمات المفسِّرين والأصوليين والفقهاء في صوغ آرائهم، واستند الكثير من الاختلافات في اجتهاداتهم إلى تنوع مواقفهم الاعتقادية ومقولاتهم الكلامية. وتخطَّى أثرُ المقولات الكلامية هذه المجالات، وامتدَّ ليحسم اختيارات اللغويين لمعاني الألفاظ في مدوَّناتهم أحيانًا، فقد يرجِّح أحدُ اللغويين معنًى محدَّدًا للفظ من عدَّة معانٍ متداولة له؛ حين يكون ذلك المعنى قريبًا من رؤيته الكلامية، بينما يستبعد كلَّ ما لا يقترب من شبكة آرائه العقائديَّة.

وبالرغم ممَّا نالَهُ المتكلِّمون من تبجيلٍ واحترام في القرون الأولى، خاصَّة عند الخليفةِ المأمونِ في العصر العباسي، غير أنَّ الاشتغالَ بعلم الكلام أضحى مغامرةً بعد المحنة، فانحسر نفوذُ المتكلِّمين في البلاط العباسيِّ، وانصرف الدارسون إلى الفقه، باعتبار الاختلافِ في الفتاوى والاجتهادات الفقهية، لا يفضي إلى المقاضاة، أو الخروج على «الاعتقاد القادري»، الذي جرى بموجِبه تسييج المعتقَد في إطارٍ مغلَق، لا يصحُّ تجاوزُه أو التفكير خارج مداراته.

تغلغلتْ أفكارُ التيار المناهض للكلام في وعي عامَّة المسلمين، فبدا الكثيرون منهم ينظر بارتياب إلى الفكر الكلاميِّ، بل تنامتْ هذه الحالةُ، وصارت العلومُ العقليَّةُ برمتها يُنظر إليها بتوجُّس ورِيبة، وأُشيع مناخ مُشبَع بالتهمة حول هذه العلوم، حتى اضطر ذلك بعضَ المهتَّمين بها للتمسُّك بالتقيَّة والتكتُّم على معارفه، خشية إثارة حنَق العامَّة، خاصةً وأن بعض خصوم الكلام عمَدوا إلى صوغ خطاب تحريضيٍّ ضد علم الكلام ومن يتعاطاه، وهذا ما ظهر في أسماء كتبِهم. فمثلًا كتب أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهَرَوي (٤٨١ﻫ) كتابًا بعنوان «ذم الكلام وأهله»، وكتب الغزالي (٥٠٥ﻫ) كتاب «إلجام العوام عن علم الكلام»، وكتب موفَّق الدين بن قدامة المقدسي (٦٢٠ﻫ) كتاب «تحريم النظر في كتب أهل الكلام».٢
ومع ذلك بقي علمُ الكلام حيًّا، وواصل نموه وتطوُّره، وتكرَّست أنساقه المعروفة بعد المحنة، فالنَّسق المعتزلي عُرف كبار متكلميه، ودُوِّنت أهم مصنَّفاته في الفترة اللاحقة على المحنة، وهي الفترة التي تكاملت وتبلورت فيها المنظومةُ الكلاميةُ للاعتزال على يد أبي الحسين الخياط (ت٣٠٠ﻫ/٩١٣م)، وأبي علي الجُبَّائي (ت٣٠٣ﻫ/٩١٥م)، وابنه أبي هاشم (ت ٣٢١ﻫ/٩٣٣م)، وأبي القاسم البَلْخي (ت٣١٩ﻫ/٩٣١م)، وأبي بكر بن إخشيد (ت٣٢٦ﻫ/٩٣٨م)، وأبي عبد الله البصري (ت٣٦٩ﻫ/٩٨٠م)، وأبي إسحاق بن عياش (ت٣٨٦ﻫ/٩٩٦م)، وأبي رشيد النيسابوري (ت٤٠٠ﻫ/١٠٠٩م)، والقاضي عبد الجبار بن أحمد (ت٤١٥ﻫ/١٠٢٥م)، وأبي الحسين البصري (ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٤م)، وأبي محمد الحسن بن مَتُّوَيْه (ت٤٦٩ﻫ/١٠٧٦م) … وغيرهم.

كما أنتج التشيُّع الإماميُّ أبرزَ متكلِّميه في هذه الفترة، مثل: أبي سهل النُّوبَخْتي (ت٣١١ﻫ/٩٢٤م)، والشيخ المفيد (ت٤١٣ﻫ/١٠٢٢م)، والشريف المرتضى (ت٤٣٦ﻫ/١٠٤٥م)، والشيخ الطُّوسي (ت٤٦٠ﻫ/١٠٦٧م)، والقاضي أبي الفتح محمد بن علي الكَرَاجكي (ت٤٤٩ﻫ/١٠٥٧م)، ونصير الدين الطُّوسي (ت٦٧٢ﻫ/١٢٥٢م)، والعلامة الحِلِّي (ت٧٢٦ﻫ/١٣٠٦م).

وعرَف التشيُّع الزيدي كبار متكلِّميه زمن المحنة وبعدها، مثل: القاسم بن إبراهيم الرَّسِّي (ت٢٤٦ﻫ/٨٦٠م)، والحسن بن زيد (ت٢٧٠ﻫ/٨٨٤م)، ويحيى بن الحسين الهادي إلى الحق (ت٢٩٨ﻫ/٩١١م).

أما التسنُّن فقد ظهرت فرقُه الكلامية وأبرز متكلِّميه يومذاك، كأبي الحسن الأشعري (ت٣٢٤ﻫ/٩٣٥م)، وأبي منصور الماتُرِيدي (ت٣٣٣ﻫ/٩٤٤م)، وأبي بكر الباقِلَّاني (ت٤٠٣ﻫ/١٠١٢م)، وأبي بكر بن فُورَك (ت٤٠٦ﻫ/١٠١٥م)، وأبي المعالي الجُوَيني (ت٤٧٨ﻫ/١٠٨٥م)، وفخر الدين الرازي (ت٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م)، وعضد الدين الإيجي (ت٧٥٦ﻫ/١٣٥٥م).٣
لقد توارَى المتكلِّمون عن الحضور في بلاطات السلاطين وأروقة قصور الخلفاء، واستأثر جماعة من الفقهاء والمحدِّثين بامتيازات، وحظوة عالية في تلك الأماكن، وانصرف معظمُ الدارسين لتعلُّم الفقه والاستغراق في مذاهبِه، والتعرُّف على مواطن الخلاف بين الفقهاء، وتعلُّم أساليب استدلالهم ومناهج الاستنباط المتعارَفة لديهم، ومقدماتها من العلوم، حتى أمسى الفقهُ ملاذًا آمنًا لمن يروم التفرُّغ للدراسات الشرعية.
إلا أنَّ المقولات الكلاميَّة واصلت حضورها في التفكير الفقهي، وترسَّخت بالتدريج كإطار مرجعي يوجِّه هذا التفكير، بعد استعارة أصولِ الفقه لهذه المقولات، وتشكيل قواعد استنباط الأحكام الشرعية في ضوئها. وواصلت مفاهيمُ علم الكلام نفوذَها على الدوام في التفكير الأصولي، واستمرَّت مهيمنةً على مسارات هذا التفكير وموجِّهة له، وإن كانت لا تتبدَّى بوضوح في مساحات عريضة منه، لكننا نعثر عليها مستترةً خلف أصول الفقه.

فمثلًا: نلاحظ في كتاب «الرسالة» للإمام للشافعي، وهو الكتاب الأول الذي وصلنا في أصول الفقه، والأهمُّ في صوغه لمبادئ ومنطلقات ومقولات هذا الفن، أنَّ المباحث التي بنى على أساسِها قواعدَه وترسيماته هي مرتكزات عقائديَّة، كالبحث في مفهوم الحُكْم، وتصور الله سيِّدًا ونحن عبيده، وافتراض وجود أحكام وأوامرَ ونواهٍ صادرةٍ عن الله إلى عبيده، وأن الإنسان إذا علم بأمرٍ صادرٍ عن الله تجبُ عليه طاعتُه، باعتبار اللهِ سيِّدًا والإنسان عبدًا، والسيد هو من تجب طاعتُه على العبد، أي إنَّ الدافع الذي يجعلُ الإنسانَ يطيع الأمرَ هو الإقرارُ للهِ بالسِّيادةِ، والإقرار بالسِّيَادَةِ قضيَّة كلاميَّة. فعندما يقرر الأصوليُّون قاعدةَ: «إنَّ الأمرَ يدلُّ على الوُجوب»، تبتني هذه القاعدة على حُكْمِ العقل بلزوم امتثال الأمر، إنْ كانَ صادرًا عن ذروةٍ وجِهة عليا، أي من مَولًى مثلما يصطلح القدماء، ومضمون كونِ جِهةٍ ما مَولًى هو أنَّه واجبُ الطاعة، مضمون المَولَوية وجوب الطاعة والانقياد والامتثال، فافتراض المَولَوية يعني افتراض حق الطاعة، وافتراض وجوب الامتثال، واستحقاق العقاب على المخالفة. بمعنى أنَّ مجرد علمنا بصدور الأمر عن الله بوصفه المولى تعالى يعني أنَّ هذا الأمر حُجة، والحُجيَّة هي وجوب الامتثال، فبمجرد افتراض صدور الأمر عن مولًى يعني وجوب الامتثال في رتبة سابقة، وهذه مسلَّمة اعتقاديَّة مفروضة في رتبة سابقة، تستقي منها صيغةُ الأمر الدلالةَ على الوجوب.٤
وكان أبرزُ أعلام أصول الفقه كالقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري والشريف المرتضى والشيخ الطوسي وأبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي والفخر الرازي من أشهر أعلام علم الكلام وأهم المصنِّفين فيه، بل يمكن إرجاع أسباب تميُّز أبحاثهم في علم الأصول وذيوع وصفهم بالإبداع والتجديد فيه إلى تخصُّصهم بمباحث علم الكلام وانشغالهم بمناقشاته، وتمكُّنهم من آلياته ومفاهيمه واصطلاحاته. إنَّ آراء المتكلِّمين ومنحاهم في دراسة المسائل الأصولية وإنْ تحولت لاحقًا إلى أسلوب خاصٍّ بهم عُرف ﺑ «طريقة المتكلمين». إلا أنَّ بداية حضورهم التي رافقتْ تشكيلَ علم أصول الفقه كانت تُدْرَجُ في مؤلَّفات الأصول المبكرة تحت عنوان: «قول المتكلِّمين في المسألة».٥
وفي مراجعةٍ للكتابات المتأخِّرة في الأصول عند الإماميَّة نلاحظ كثافةَ الاستناد إلى القواعدِ الكلاميَّة، واشتقاق القضايا والمفاهيم الأصوليَّة منها. فمثلًا: صارتْ مجموعةٌ من المقولات والقواعد الكلامية مرتكزاتٍ محوريَّة في بناء فرضيات وقواعد ومواقف الأصوليين، مثل: قاعدة «اللطف»، و«الحسن والقبح العقليين»، و«قبح العقاب بلا بيان»، و«حق الطاعة»، و«عدم التكليف بما لا يطاق»، و«عدم صدور القبيح عن الحكيم».٦ كما استلهم الأصوليُّون مفاهيمَهم من قواعد أخرى، مثل: «الإرادة التكوينية للواجب لا تكون منافية لاختيارية أفعال الإنسان»،٧ و«إرادة الواجب علمه بالمصلحة والنظام الأحسن»،٨ و«تخلُّف مراد الواجب عن إرادته التكوينية محالٌ لا التشريعية»،٩ و«حدوث الممكن بلا علة محالٌ»،١٠ و«صفات الواجب متغايرة مفهومًا ومتَّحدة مصداقًا»،١١ و«ما يلزم العجز والجهل في حق الواجب محال»،١٢ و«ما ينتهي إلى ما لا يكون بالاختيار فهو غير اختياري»،١٣ و«وجوب دفع الضَّرر».١٤
الإنتاج الفقهي هو الأثْرَى والأوسع من بين كافَّة أنْمَاطِ الإنتاج المعرفيِّ للمسلمين، فهو المعرفةُ التي انخرط فيها معظمُ المهتمين بالدراسات الإسلامية في العصور الأخيرة، إذ تسيَّدت على غيرِها من معارفِ الدين، وصارتْ سلطة معرفية لكلِّ من يتخصص بدراستها، بها يمتلك تفويضًا لإضفاء المشروعيَّة على أيِّ معرفةٍ أخرى أو نفيِها، وتضعه في مقامِ مَنْ يحتكر حقَّ الإذن للغير لدراسة الحقول الأخرى للمعرفة الدينية.

مضافًا إلى ما يحصل عليه المشتغلون في الفقه من امتيازات ومكاسب من الأوقاف والفرائض الماليَّة. لذلك تراجعتْ دراسةُ علوم القرآن والتفسير، واضمحلَّت دراسةُ المعقول في القرون الأخيرة، ولم يتفرَّغ التلامذةُ لدراسة المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فضلًا عن العرفان النظريِّ، واضطر المهتمُّون بهذه المعارف إلى الاختباء والتكتُّم في تعلُّمها أحيانًا، أو دراستها على هامش دراستِهم للفقه وأصولِه، في بعض الحواضر المعروفة، التي عادةً ما تغضُّ النظر عن التعاطي معها.
إثر ذلك تراكمت المدوَّنةُ الفقهيَّة واتَّسعت أفقيًّا، بعد أن تم تأليف الكثير من المتون الفقهية في كلِّ مذهب، وتوالت الشُّروح والحواشي والتعليقات على كلِّ متن، حتى تجاوزتْ أحيانًا عشرين ألف صفحة تقع في أكثر من أربعين مجلدًا. وكان الفقه يترهَّل وتستبدُّ به مشكلات مزمنة، يعيد تكوينها على الدوام، وتتكرس أدواتُه وأساليبُه المتوارثة في الاستنباط، ويكرِّر ذاتَه باستمرار، من دون أن ينفتح على فضاءاتٍ أخرى، تمنحه القدرةَ على مواكبةِ الحياة، والإصغاء لإيقاع المتغيرات الشديدة التنوع.

وعلى الرغم من أن دعواتِ إعادةِ فتح باب الاجتهاد، وإعادة بناء المدوَّنة الفقهية انطلقت منذ أكثر من قرنين، بيد أنَّ معظم هذه الدعوات تفتقر إلى تشخيص المأزق الحقيقي لانسداد الآفاق، الذي انتهى إليه الفقهُ، وما زالت تفسيراتُها تبسيطيَّة، تشدِّد على بعث أصولِ الفقه وتوظيف العناصر التقليدية في الاستدلال الفقهي. وما خلا الاتجاهَ الذي اهتمَّ بإحياء مقاصد الشريعة، لا نعثر على محاولات جادَّة لتشخيص الانسداد الفقهي، واكتشاف مديات بديلة للاجتهاد، بل إن الاتجاه المقاصدي الحديث ما انفك يكرِّر كلام الشاطبي، من دون أن يعمل على توظيف مقاصده في اجتهاد مواكب للعصر، بل عجز عن الإفلات من تقليد أعلام الفقهاء واجترار ما قالوه. ويمكن استثناء جهود الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في دروسه التي ألقاها على طلبة جامع الزيتونة، ثم نشرها في كتابه الموسوم «مقاصد الشريعة الإسلامية» عام ١٩٤٧م، بوصفها من أفضل المحاولات جِديَّة في التفكير المقاصدي الحديث، ومع ذلك فإنها تقف عند حدود التغيير الشكلي في أسلوب الممارسة التشريعية، كما أنها رهينة الأُطُر المعرفية الكلاسيكية، والقيم السائدة ضمنها.١٥
٢
لا يمكن تجديد الفقه من دون تجديد المعارف المنتجة له
إنَّ إشكالية الفقه مندرجة في إشكالية التراث بأسره، من هنا ينبغي أنْ يُعَادَ النَّظر في نسيج المعارف الموروثة المولِّدة للفقه، وتجري غربلتُها واختبارُ صلاحيَّتها، ومعرفة إمكاناتها وقدرتها على عبور سياقاتها الزمانية والمكانية، واستجابتها للوفاء بالمتطلبات التشريعية في هذا العصر. ولا يصح أنْ نستثني القواعدَ الأصوليَّة من كونِها معرفة أنتجها عقلٌ ينتمي إلى أُفُقِه التاريخيِّ الخاصِّ، وإنما يجب أن نتعامل معها في ضوء ذلك الأفق، أي أنها معرفة تاريخية، لا تتوافر على إمكانات استثنائية تتعالى بها على الواقع المنتَجة في داخله، ونمط التفكير الذي صاغها، ومشاغل العصر المنبثقة منه ومفاهيمه ورُؤاه.

لا يمكن تجديدُ الفقه ما لم نستأنفِ النَّظر في نمطِ المناهج المتوارثة في دراستنا للدين، وللظواهر والمعارف المرتبطة به، وتجليات الدين في الحياة، فبدلًا من أن يكون الدينُ هو المفسِّر الشامل للأشياء والكون والعالم، لا بدَّ أن يغدوَ ظاهرةً تخضع لما تخضع له أي ظاهرة تخضع للتفسير، من حيث إمكان فهمها، وتحليلها، واكتشاف مدياتها، ومنابع إلهامها، ومعرفة آليات اشتغالها.١٦ أي إنَّ الدين بدلًا من أن يكون مفسِّرًا لا بُدَّ أن يكون مفسَّرًا.
إنَّ الدراسات الحديثة للدين ليست بصدد بحثٍ معياريٍّ له، أو الحديث عن الصِّدق والكذب، أو الصِّحَّة والبطلان بشأنه، وإنما تُعنَى بتفسير الدين وتعبيراته الرُّوحية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، عبر تطبيق الباحث لمناهج ومعطيات العلوم الإنسانية والمعارف الراهنة، على النصوص والموروث الديني وتجلِّيات الدين في الواقع. إنَّ وصف الظواهر الدينيَّة وتفسيرها من أهم أهداف البحث في الرؤية الجديدة للدراسات الدينية. في حين نجد في الرؤية التقليدية أنَّ البحث الديني يستهدف فهمَ العالم عبر تعاليم الدين وتفسيرها، وتبريرها، والبرهنة على صدقها.١٧
وليس هدف هذه الرؤية جحود الدين، أو إنكار وظائفه الرُّوحية والمعنوية والأخلاقية والنفسية والجمالية والرمزية والاجتماعية، وإنما هدفها توظيف المكاسب الراهنة للعلوم في دراسة وتحليل ومُساءلة التجلِّيات والتعبيرات الدينية في حياةِ الفرد والمجتمع، واكتشاف منابعها وحدودها وآثارها ومعطياتها.

إنَّ تحليل طبيعة المعرفة الدينيَّة، وتشخيص مصادر تشكيلها، وكيفية تكوُّنها، والعَلاقة بينها وبين مختلِف المعارف العلمية والإنسانية، وكيف أنَّ تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يقود إلى تحولات مهمة في المعرفة الدينية، ويفضي إلى نمو وتطور التفكير الفقهي، فإنَّ فهم الدين ليس مستقلًّا عن فهمِ الطبيعة؛ بمعنى أنَّ للفهم في كل عصر هندسةً خاصة، والفهم الديني ابن عصره، وأن إضافة ضلع أو إنقاص ضلع من هندسة المعرفة البشرية المتعددة الأضلاع، يغيِّر شكلَ هذه المعرفة. ذلك أنَّ العلوم الجديدة حين تجتاح عالمَنا لا تترك معارفَنا السابقة على حالها، وإنما تتصرف في مضمونها، بحيث تسلِّحنا بمنظار بديل يعطيها صورة جديدة، إنها بمثابة عدساتٍ بديلة لمعاينة العالم واكتشافه من جديد.
إن المعرفة الدينيَّة كأي معرفةٍ أخرى، هي حصيلة جهد البشر وتأملاتهم، وهي دائمًا مزيج من الآراء الظنية واليقينية، والصواب والخطأ، ولا شك في أنَّ الوعي البشريَّ كلَّما تنامى واعتمد على مقدمات وأدوات علمية صحيحة، اتَّسعت لديه مساحة الصواب وتقلَّص الخطأ. وهذا لا يعني أنَّ الوحي الذي أتى به الأنبياءُ يكمله البشر، وإنما يعني أن فهم البشر لمضامين الوحي وكلماته يتطور تبعًا لتطور العلوم والمعارف البشرية، أي إن المقدَّس والكامل هو الوحي، أمَّا الفهم البشري له فإنه ليس كاملًا ولا مقدسًا.١٨
إن ما يفهمه البشر من الدين في مختلِف البيئات الثقافية والاجتماعية ليس كاملًا مَهْما كان. والقراءة المتأنية العميقة للميراث الفقهي والأصولي ترينا أنَّ ما تَرَاكَمَ من قواعد أصولية وفقهية وفتاوى إنما هي معطيات معرفيَّة منجزة في سياقاتٍ تاريخيَّة وثقافيَّة واجتماعية خاصَّة، ولا يمكن تجريدُها من بصمات العصر المنبثقة فيه، مثلما لا يصحُّ فصلُها عن المشروطيَّة الزمانية والمكانية والثقافية لمن أنتجها، فهي منخرطة في تاريخ أصحابها وتحمل تواقيع فهمهم وبصمة تفكيرهم، ولا يصحُّ التعاطي معها بوصفِها حقائق أو جواهر مثاليَّة تتخطَّى الواقعَ الذي وُلدتْ فيه. إنها ليست عابرةً للمحدِّدات والظروف والمحيط الذي تبلورتْ في داخله، فهي مرتهنة بالفضاء الخاصِّ ومسلَّمات الفقيه والأصولي الذي صاغها ودوَّنها؛ ذلك أنَّ «المسَبَّقات الفكرية لكلِّ فقيه، ونمط معرفته بالعالم الخارجي المحيط به، تؤثِّر في فتاواه، بحيث إن فتوى العربي تفوح منها رائحةُ العرب، وفتوى الأعجمي رائحةُ العجم، وفتوى القروي رائحة القرية، وفتوى المدني رائحة المدينة»،١٩ بحسب تعبير الشيخ مرتضى المطهري. إنَّ الفقيه والأصولي يصدران في النتائج التي يخلُصان إليها، عن النظام المعرفي السائد في عصرهما، وعن الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسَها في ذاك العصر.٢٠ فإنسان اليوم هو إنسان نظرياتِ ومتطلَّباتِ وظروفِ اليوم، وإنسان الأمس هو إنسان نظرياتِ ومتطلَّباتِ وظروفِ الأمس، وليس بوسع الإنسان أن يتجرد منها أو يفكر خارجها، بل يتأثر بها بدرجةٍ ما.
٣
الرؤية الكلامية وأثرها في الفقه
الرؤية الكلامية هي التي تحدِّد رؤيةَ الإنسان للعالم، وتصوغ موقفَه حيال إلهه، فالمواقف عند المتكلِّمين والفلاسفة والمتصوِّفة والعارفين وغيرهم حيال الألوهية ليست واحدة، وهكذا مفهومهم للإنسان ونمط عَلاقته بالله يختلف تبعًا لذلك، فهو يتشكل في فضاء رؤيتهم الكونية. فمثلًا: من يستند إلى مباني أرسطو في إثبات وجود الله، لا يستطيع أن يفهم الله في القرآن بنحوٍ لا ينسجم مع تلك المباني،٢١ وهكذا من يتوكَّأ على منظور العارفين في إثبات وجود الله وعَلاقة الإنسان به، لا يمكن أن يفهم النص بشكل مغاير لذلك المنظور. هكذا يستقي فهم النصوص وتأويلها منظوراته من الرؤية الكونيَّة، ويتحدد في فضائها، ويمدُّ علمُ الكلامِ الفقهَ وأصولَه بالرؤى والمسلَّمات، التي تشكل وجهة نظره حيال مجالات الفقه وحدوده، وإمكانات الامتداد بالأحكام الشرعية زمانيًّا، وفي مختلِف الظروف والمناسبات، أو ما يُصْطَلَحُ عليه بالإطلاق الأزمانيِّ والأحواليِّ للأحكام.
ويشدِّدُ أصولُ الفقه على أنَّ إطلاق الأحكام وشمولها لكافة العصور، ومختلِف الظروف، والحالات، مستفاد من الأدلة اللفظية الواردة في الكتاب والسنة، إذ إن عدم تقييد الأدلة وتخصيصها يدل على استيعابها وعمومها، بناءً على ما يُعرف لدى الأصوليين في هذا العصر ﺑ «قرينة الحكمة»، وهي قرينة عامة يفصح عنها حالُ المتكلم، في أنَّ كل متكلِّم في مقامِ بيانِ تمامِ مرادِه بخطابِه، فما لم يقلْه لم يُرِدْهُ، ولمَّا لم يُقَيِّدْ ما نَطَقَ به، إذن فهو لا يريد المقيَّد، وإنما مرادُه المُطلق، بمعنى أنَّ الظهورَ الحاليَّ الذي تعتمد عليه قرينةُ الحكمة مفاده هو ألا يكون هناك قَيْدٌ من القيود دخيلًا في المراد الجِديِّ للمتكلِّم إلا ويبيِّنه ويذكره في خطابه؛ ذلك أنَّ ظاهر حال المتكلِّم هو أنَّه في مقام بيانِ تمامِ مرادِه الجِدِّي بكلامه، فالمعاني التي يريدها يُفصح عنها في حديثه، بينما ما لا يقوله في حديثه لا يريده، أي إنَّ كلَّ ما يكون قيدًا في مقصوده عادةً ما يقوله في الألفاظ الصادرةِ عنه، فإن لم يقله فهو ليس قيدًا في مقصوده. وهكذا يثبت الاستيعاب والشمولُ من خلالِ نفي القَيْدِ بقرينة الحكمة، فنفي القيد يعني إثبات الطبيعة المجردة لموضوعات الأحكام، التي تكون صالحة للانطباق على أي حالة من حالاتها، أو فرد من أفرادها، في كلِّ زمان ومكان. وبتعبير أصولِ الفقه تكون موضوعاتُ الأحكام مأخوذة بنحو القضايا الحقيقية الشاملة، فمتى توافرتْ تلك الحقيقةُ في أي زمان أو أي حالة يثبت لها الحكمُ، وليست الموضوعاتُ مأخوذةً بنحو القضايا الخارجية الخاصة بزمان معيَّن، وبذلك يستدلون على أبديَّة الأحكام وعمومها لكافة الأزمان والأحوال.٢٢
لكنَّ هذا التصورَ غيرُ مكتمل؛ ذلك أنَّ ما يقرر شمول الأحكام وإطلاقها الأزماني والأحوالي أبعدُ مدًى مما تكشف عنه الأدلةُ اللفظية، فإنَّه يحيل إلى أن بنيةَ ذهنية الفقيه مشْبَعة بمجموعة مسلَّمات، تشكِّل بأسرها مسَبَّقات لاواعية، لم يلتفت إليها الفقيهُ حينما يمارس عملية الاستنباط، فهو لا يستخلص فتاواه وآراءَه من تلك النصوص المتاحة له، بل إن ضيق وسَعَة معاني ومضامين النصوص، واستيعابها أو اقتصارها على موارد محدَّدة، تنتجه عدَّةُ مقولات كلامية يعتبرها مسلَّمات، وتؤطِّر فهمه للإنسان وطبيعة عَلاقته بالله، والوحي والنبوة وختم النبوة، والأحكام الشرعية. فأبديَّة الأحكام وامتدادها تصدر عن المواقف الكلامية، وإن كانت بالنظرة الأولية تبدو أنها مستقاة من الأدلة اللفظية.

فعندما يفترض محمد إقبال مثلًا، مفهومًا معينًا عن النبوة وختمها، يقوده ذلك المفهوم إلى نتيجة مغايرة في إطلاق وأبدية الأحكام لكل العصور. ففي ومضة سريعة يوجز إقبال رؤيتَه لختم النبوة، بصيغة لا تكرِّر المفهوم المتداول في علم الكلام، قائلًا: «إنَّ النبوة في الإسلام لتبلغ كمالَها الأخير في الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مِقودٍ يُقَادُ منه. وإن الإنسانَ لكي يحصل كمالُ معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو.»٢٣ إن هذا المفهوم لختم النبوة يفترض أنَّ الحاجة للنبوة تختص بمرحلة الطفولة البشرية، قبل نضوج العقل، وتفتُّح ملكةِ النقد لديه، وهو مفهوم يرتكز على «فهم ختم النبوة أنَّها ختم من الخارج، أي إن هذا الختم يضع حدًّا نهائيًّا لضرورةِ اعتماد الإنسان على مصدرٍ في المعرفة، ومعيار في السلوك، مستمَدَّين من غير مؤهِّلاته الذاتية. إنه إيذانٌ بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبةً، إنه تدشين لمرحلة جديدة في التاريخ، لا يحتاج فيها الإنسانُ، وقد بلغ سنَّ الرُّشد، إلى من يقودُه، وإلى من يتَّكئ عليه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ. وتكون وظيفةُ نبيِّ الإسلام في هذه الحالة إرشادَ الإنسان إلى مسئوليته الجديدة، وتحميلَه تبعات اختياراته، مَثله إذن مَثل من أغلق باب بيته — الذي هو بالنسبة إليه بيت النبوة، بيت جميع الأنبياء — وختمَه من الخارج، فلم يبق سجينًا له، وساح في أرض الله الواسعة.»٢٤
تستقي رؤيةُ محمد إقبال لتطبيق الشريعة على الأجيال اللاحقة من تصوُّره هذا للوحي والخاتميَّة، فهو يحلِّل طريقةَ النبي (ص) وأسلوبه في تطبيق الأحكام على الأمَّة في عَصْر البعثة، واعتبارها مثالًا نَموذجيًّا لما يأتي، فالمقصود كما يرى ليس هو تطبيق الأحكام، وإنما ما يمكن استخلاصه من مؤشرات قيمية عامة، ورفد وتنمية المشاعر المتسامية والخبرة والتجرِبة الرُّوحية. يكتب إقبال: «إنَّ القرآن ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيسيُّ هو أنْ يبعث في نفس الإنسان أسمى مراتبِ الشُّعور بما بينه وبين الله وبينه وبينَ الكون من صلات. والطريقة التي يتَّبعها النبي، هي أن يُعَلِّمَ أمَّة معينة، ويتخذ منها نواةً لبناء شريعة عالميَّة. وهو في هذه الحالة يؤكِّد المبادئ التي تنهض عليها الحياةُ الاجتماعية للبشر جميعًا، ويطبِّقها على حالات معينة في ضوء العاداتِ المميِّزة للأمة التي هو فيها. وأحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق — كالأحكام الخاصة بعقوبات الجرائم — هي أحكام يمكن أن يُقال عنها إنها تخصُّ هذه الأمة. ولما كانت هذه الأحكام ليست مقصودةً لذاتها فلا يمكن أن تُفْرَضَ بِحَرْفِيَّتِها على الأجيال المقبلة.»٢٥
ويشدِّد محمد إقبال على التجرِبة الدينية الباطنيَّة، ويعتبرها أحد مصادر المعرفة الثلاثة، بموازاة الطبيعة والتاريخ، ويشير إلى استغناء البشريَّة في العصر الحديث عن الحاجة المباشرة إلى تعاليم الأنبياء، وكأنَّ الإنسان يستغني بالتدريج عن النبي (ص)، كما يستغني المريضُ عن الطبيب، والطفل عن حضانة الأبوين. فالإنسانية تتكامل تدريجيًّا، وتجتاز مرحلة عَقِيب أخرى، كيما تنتهي إلى مرحلة لا تحتاج معها تعاليمَ الأنبياء. ذلك أنَّ الأنبياء بشَّروا بتعاليمهم ونشروها بين الناس، وأضحت متاحةً كالماء والهواء في متناول الجميع، فانتشرتْ وترسَّخت تلك التعاليم بنحوٍ صارت معه حياةُ الإنسان مهتديةً بهَدي الأنبياء، إنها بمثابة المؤشِّرات والمنطلقات العامة، التي أنضجتِ الوعيَ، فبلغ العقلُ من خلالها مرتبةَ الرُّشد، وتحرَّرت معها إرادةُ الإنسان.٢٦
من هنا يتجلَّى أنَّ القول بأبديَّة الأحكام وشمولها لكافة العصور، يرتكز على مسلَّمات الفقيه الذهنية المضمرة، بمعنى أن المضمرات الكلاميَّة للفقيه أو أيديولوجيته ورؤيته للعالم، ونظرته للإنسان، والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي المنخرط فيه؛ كلُّ ذلك يساهم في تحديد خياراته في الفتوى، ويدعوه لتبنِّي وانتخاب أحد المواقف من دون سواه.